آباء الكنيسة: الباعة في الهيكل في تفسير يوحنّا عند أوريجان.

 

آباء الكنيسة:

الباعة في الهيكل في تفسير يوحنّا عند أوريجان

بعد إيراد النصّ الإنجيليّ، يتوقَّف الشارح عند مقابلة مع الأناجيل الإزائيَّة ثمَّ يصل إلى التفسير الروحيّ. وبعد ذلك يعود إلى الدراسة الأدبيَّة.

1- النصوص

بدأ أوريجان فأورد المقاطع الموازية:

XX

119 ينبغي أن نلاحظ أنَّ يوحنّا يورد الطريقة التي بها تعامل يسوع مع بائعي البقر والغنم والحمام التي وجد في الهيكل، وكأنَّها عمل εργον يسوع الثاني. أمّا الإنجيليّون الآخرون فردُّوا الشيء عينه في نهاية إنجيلهم وقت سرِّ الحاش والآلام.

120 ومتَّى هكذا: »حين وصل إلى أورشليم، تحرَّكت المدينةُ كلُّها وقالت: من هو هذا الرجل؟ فأجاب الجمع: هذا هو النبيّ يسوع الناصريّ، من الجليل. ودخل يسوع إلى الهيكل وطرد جميع الذين يبيعون ويشترون في الهيكل. وقلب موائد الصيارفة ومقاعد بائعي الحمام وقال لهم: كُتب: بيتي يُدعى بيتَ صلاة وأنتم جعلتموه مغارة لصوص« (مت 21: 10-23).

121 ومرقس: »وجاؤوا إلى أورشليم... مغارة لصوص« (مر 11: 15-17).

122 لوقا: »ولمّا اقترب من أورشليم نظر إلى المدينة... مغارة لصوص« (لو 19: 41-46).

* * *

ربط الإنجيليّون حدث طرد الباعة من الهيكل، بدخول يسوع الظافر إلى أورشليم.

XXI

123 ونلاحظ أيضًا: الوقائع التي أوردها الإزائيّون بمناسبة صعود يسوع إلى أورشليم، والذي فيه تصرَّف بهذا الشكل في الهيكل، قد رواها يوحنّا بعد أحداث أخرى كثيرة، ونسبها إلى إقامة أخرى ليسوع في أورشليم.

124 إليك كيف ينبغي أن تفهم النصّ. أوَّلاً، نصّ متّى: »ولمّا قربوا من أورشليم... في العلى« (مت 21: 1-9).

125 وبعد ذلك نجد الكلمات: »حين وصل إلى أورشليم...« (آ10)

126 ثانيًا، نصّ مرقس: »ولمّا قربوا من أورشليم... أحسَّ بالجوع« (مر 11: 1-2). وبعد أن روى مرقس سرَّ التينة الميبَّسة، واصل: »وجاؤوا إلى أورشليم...« (آ15).

127 وجاء كلام لوقا كما يلي: »ولمّا اقترب من بيت فاجي... نظر إلى المدينة وبكى عليها« (لو 19: 29-41). والباقي أوردناه.

128 أمّا يوحنّا فأورد بعد أحداث أخرى كثيرة، صعودَ الربِّ إلى أورشليم، صعودًا مختلفًا عن ذاك الذي خلالَه »صعد يسوع إلى أورشليم ووجد في الهيكل باعة البقر والغنم« (يو 12: 13-14). وإليك ما قال، بعد أن صوَّر الوليمة التي حصلت في بيت عنيا، ستَّة أيّام قبل الفصح، حيث كانت مريم تخدم ولعازر يشارك (رج يو 12: 1-8): »وفي الغد، سمعت الجموع... ابن أتان« (يو 12: 12-15).

XXII

129 مع أنّي أوردتُ مطوَّلاً نصَّ الإنجيليّين، بدا لي ذلك ضروريٌّا لكي أقدِّم اللاتوافق في الألفاظ: أعلن الإزائيّون أنَّ أحداثًا حصلت خلال إقامة واحدة للربِّ في أورشليم، يماهيها الشرّاح مع تلك التي يصوِّرها يوحنّا. وبحسب خبر يوحنّا، حصلت هذه الأحداث خلال صعودين للربِّ إلى أورشليم، ويفصل هذين الصعودين أعمالٌ كثيرة وردت آنذاك في إقامات في مواضع كثيرة.

130 أمّا أنا فأرتني أنَّ الذين يقبلون شيئًا آخر غير الخبر التاريخيّ، لا يمكن أن يبيِّنوا التوافق الحقيقيّ خلف هذا التعارض الظاهر. فإن ظنَّ أحدٌ أنَّنا لا نفهم شيئًا، فليردَّ قولنا هذا ويُفهمنا.

2- التفسير الروحيّ

أ- أورشليم

131 إذ نصلّي إلى ذلك الذي يعطي كلَّ من يطلب ويكافح بحرارة ليحاول أن يجد، قارعًا الباب، لكي تُفتح لنا أسرار الكتاب المقدَّس (رج مت 7: 7-8)، بفضل مفاتيح المعرفة، نعرض بالطريقة عينها وبالقوَّة التي تُمنَح لنا، ما يدفعنا إلى القبول بتوافق هذه الأخبار.

نقرأ أوَّلاً نصَّ يوحنّا بدءًا من: »وصعد يسوع إلى أورشليم« (يو 2: 13). فكما كلَّم الربُّ نفسه في إنجيل متّى، أورشليم هي »مدينة الملك العظيم« (مت 5: 35). هي لا تقع في عمق الوادي ولا في الأسفل، بل هي مبنيَّة على جبل عالٍ (مز 125: 2). »تحيط بها الجبال من كلِّ جانب«. »بفضل تماسكها تشكِّل وحدة تامَّة«. »إلى هناك صعدت قبائل الربِّ شهادة لإسرائيل« (آ3).

132 ويُعطى أيضًا اسمُ »أورشليم« إلى مدينة لا يصعد إليها أحد ولا يدخل. في الحقيقة، كلُّ نفس تمتلك رفعةً طبيعيَّة وحدقَ نظر تستطيع أن تُدرك المعقولات، هي من هذه المدينة. ولكن قد يحصل لساكن أورشليم أن يكون في حالة الخطيئة كما يمكن أن يخطأ أولئك الذين يمتلكون أفضل الاستعدادات الطبيعيَّة. فإذا لم يتوبوا بسرعة بعد أن يخطأوا، يخسرون طبيعتهم الصالحة ويأتون ليقيموا في إحدى المدن الغريبة عن يهودا، بل يتسجَّلون فيها.

133 إذًا، بعد أن أعان يسوع أهل قانا في الجليل، صعد إلى أورشليم ليُتمَّ الكتب المقدَّسة في أورشليم. فوجد في الهيكل الذي يُدعى أيضًا »بيت أبي المخلِّص« أي الكنيسة، حيث يَجعل أناسٌ من بيت الآب بيت تجارة، إذ يعلنون تعليم الكنيسة الخلاصيّ.

ب- التجّار

134 إنَّ يسوع يجد دومًا أناسًا في الهيكل. فمتى لا يكون فيه، جالسين في ما تسمّى »الكنيسة التي هي بيت الله الحيّ، عمود الحقّ وعماده« (1تم 3: 15) صيارفةٌ يحتاجون إلى ضربات سوط من حبال صنعه يسوع، وعاملون في الدراهم ينبغي أن يُبعثَر مالهم وتُقلَب موائدهم؟ (يو 2: 15).

135 ومتى لا يكون أناس يتاجرون بالبقر التي ينبغي أن يحتفظوا بها للممرّات بحيث لا ينظرون إلى الوراء فيصبحون غير أهل لمكوت الله؟ (لو 9: 62). ومتى لا يكون أناس يفضِّلون »مامون الظلم« (لو 16: 9: مال الظلم الذي يعطينا »الأمان«) على خراف تقدِّم لهم لباسًا يتزيَّنون به؟

136 هناك دومًا أناسٌ عديدون يحتقرون الطهارة والاستقامة التي لا مزيج فيها ولا مرارة ولا علقم. فيتراخون ويتركون العناية بمن يُدعَون في الاستعارة »الحمام« (الأبرياء والودعاء) من أجل ربح بسيط.

137 إذًا، حين وجد الربِّ جالسين في الهيكل، أي في بيت أبيه، باعةَ البقر والغنم والحمام، والصيارفة، فهو يطردهم ويطرد معهم الغنم والبقر التي يبيعون، بسوطٍ صنعه بحبال، ويرمي على الأرض فضَّتهم، لأنَّها لا تستحقُّ أن تُحفَظ بعد أن بيَّنت بطلانها. وقلبَ في النفوس موائد البخلاء، وقال أيضًا لبائعي الحمام: »خذوا هذا من هنا« بحيث لا يكون بعدُ تجارة في هيكل الله (يو 2: 16).

ج- إلغاء الذبائح في الهيكل

XXIV

138 من خلال العمل الذي أوردنا، أجرى يسوع، في نظري، آية ذات معنى عميق جدٌّا، بحيث نستطيع أن نرى فيها رمزًا لألغاء عبادة يحتفل بها الكهنة في الهيكل، بواسطة ذبائح ملموسة، ولاستحالة ممارسة الشريعة، أقلَّه كما أرادها اليهود الجسديون σωματικοι   

139 فبعد أن طرد يسوع البقر والغنم وأمر بأن يأخذوا الحمام من هنا، لن يعودوا إلى ذبح البقر والغنم والحمام بحسب عوائد اليهود.

140 أنظر. إذا كان بالإمكان أن تُرذَل الفضَّة لأنَّها تنتمي إلى الشرائع الجسديّة ولا تحمل ختمَ صورة الله، لأنَّ التشريع الذي اعتُبر مقدَّسًا، حسب الحرف الذي يقتل (2كو 3: 6)، يجب أن يُلغى ويُرذَل ساعة يأتي يسوع ويستعمل السوط في الشعب: وظيفته (= يهوذا) تنتقل حينئذٍ إلى الذين يؤمنون من الأمم، الذي يؤمنون بالله (أع 15: 19) في المسيح، ويُؤخذ ملكوت الله من اليهود ويُعطى لشعب يعطي ثمرًا (مت 21: 43).

141 يمكن أن يكون للنفس العاقلة، وبفضل هذا العقل الفطريّ، مسكنٌ أسمى من الجسد، بحيث تكون في طبعها هيكلاً إليه يصعد يسوع بتواضع من كفرناحوم التي هي في أسفل الجبل. وقبل أن يعاقبها يسوع، يجد فيها تحرُّكات أرضيَّة، جاهلة، مكروهة، وخيرات مزعومة ليست بخيرات. فبفضل الكلام الذي تتداخل فيه تعاليم خاصَّة بالإقناع والردّ، يطردُها يسوع لئلاّ يكون بيتُ أبيه بيت تجارة، ويحمل أيضًا من أجل خلاصه وخلاص الكثيرين، عبادة الله التي نحتفل بها بحسب الشرائع السماويَّة الروحيَّة.

142 فالبقر يرمز إلى التحرُّكات الأرضيَّة، لأنَّه يشتغل بالأرض. والخروف يرمز إلى حركات بليدة تافهة، لأنَّه مستعبَد أكثر من حيوانات أخرى كثيرة غير عاقلة. والحمامة ترمز إلى البيِّنات الفارغة والمتقلقلة، والفضَّة ترمز إلى خيرات مزعومة.

3- الدراسة الأدبيَّة

أ- الخبر

XXV

143 إن تشكَّك أحدٌ بتفسيرنا، لأنَّ الحيوانات التي تحدَّث عنها الخبر هي طاهرة، ينبغي أن نجيبه أنَّه بدون ذلك، لا يُعقَل أن يكون النصُّ مدوَّنًا بالطريقة التي فيها حصلت الأحداث. قيل إنّهم أدخلوا إلى هيكل الله قطيعًا من الحيوانات النجسة للقيام ببيع حيوانات غريبة عن الذبيحة، ولكن هذا مستحيل.

144 لهذا لجأ الإنجيليّ إلى عادة التجّار الذين يأتون بهذه الحيوانات إلى سور الهيكل الخارجيّ، خلال الأعياد اليهوديَّة، وهو، في رأيي، لجأ إلى واقع حقيقيّ.

ب- معجزة تدخُّل يسوع

145 ولكن إن اهتمَّ أحدٌ بتفحُّص أكثر دقَّة، يتساءل إذا كانت الشهرة التي نعم بها يسوع في هذه الحياة، ساعة حسبوه ابن النجّار (مت 13: 55؛ مر 6: 3)، تتيح له بأن يتجرَّأ بحيث يتصرَّف هكذا: أن يطرد جمهورًا من التجّار صعدوا إلى العيد لكي يبيعوا لشعب كثير جدٌّا حملانًا، ليذبح واحدٌ منهم في البيت لكلِّ أسرة، والناس كانوا ربوات. ولكي يبيعوا بقرًا يقدَّمون للأغنياء الذين نذروا بأن يقدِّموا مثل هذه الذبائح. ولكي يبيعوا حمامًا يشتريها الكثيرون ليأكلوا طعام العيد. كيف استطاع يسوع أن يفعل كما فعل دون أن يتَّهمه الصيارفة بالوقاحة، حين يرونه يرمي فضَّتهم على الأرض ويقلب موائدهم؟ (يو 2: 14-15).

146 ومن يرى نفسه مضروبًا، ومطرودًا بواسطة سوط حبال بيد من اعتبروه كلا شيء، ولا يهاجمه ويصرخ في وجهه ويثأر منه في الحال، ومعه جمهورٌ كبير من الناس أحسّوا بالإهانة، فاستعدُّوا لأن يساعدوه؟

147 نتخيَّل ابن الله وهو يأخذ الحبال ويجدل سوطًا ليطرد من الهيكل الباعة! أما يكون ذلك وقاحة وجرأة، بل يعارض كلَّ نظام؟

148 وإلى ذلك الذي يرغب في الاحتفاظ بالخبر التاريخيّ، لا يبقى سوى ملجأ واحد لكي يدافع عن النصّ: قدرة يسوع الإلهيَّة التي تستطيع حين تريد، أن تطفئ غضب الأعداء، وتنتصر على الآلاف بنعمة إلهيَّة، وتبدِّد ضجيج الأفكار. »الربُّ يبدِّد مقاصد الأمم، ويُبطل تفكُّرات الشعوب. أمّا قصدُ الربِّ فيبقى إلى الأبد« (مز 33: 10-11). فالأحداث المرويَّة في هذا النصّ، إن حصلت حقٌّا، فهي تكشف إجراء معجزة لا تقلُّ صغرًا عن أعماله المدهشة التي تدعو الشهود إلى الإيمان بالألوهيَّة المتجلِّية.

149 نستطيع أن نؤكِّد أنَّ هذه المعجزة أعظم من المعجزة التي جرت في قانا الجليل، حين تحوُّلِ الماء خمرًا: هناك تبدَّلت مادَّة جامدة. وهنا خضعت مشيئة آلافٍ من البشر.

150 ومع ذلك، يجب أن نلاحظ بحسب ما قيل، أنَّ أمَّ يسوع كانت حاضرة في الأعراس، وأنَّ تلاميذه دُعوا إلى العرس. إلى كفرناحوم نزل مع أمِّه وإخوته وتلاميذه. وبالنسبة للصعود إلى أورشليم، ما صعد إلاّ يسوعُ وحده.

151 ثمَّ نعرف بعد ذلك حضورَ التلاميذ، لأنَّهم تذكَّروا النصّ: »غيرة بيتك أكلتني« (يو 2: 17). وقد يكون يسوع أقام في كلِّ واحد منهم لكي يصعد إلى أورشليم، لهذا لم يقُل بصريح العبارة: »صعد يسوع إلى أورشليم مع تلاميذه«، كما سبق وقيل: »ونزل إلى كفرناحوم هو وأمُّه وإخوته وتلاميذه« (يو 2: 12).

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM