صموئيل، تكلَّم يا رب.

 

صموئيل، تكلَّم يا رب

تلك هي ذروة الصلاة التي وصل إليها صموئيل، ونراه في رسمة خاصّة، طفلاً راكعًا أمام الربّ ينتظر منه كلامه. اعتاد أن يكون قرب تابوت العهد، ذاك الصندوق الذهبيّ الذي يحمل وصايا الله وجرّة المنّ وعصا هارون، والذي يدلّ على حضور الله. كان نائمًا. والربّ أتى إليه، أيقظه. استيقظ. مضى إلى الكاهن. صوت الله لا يمكن أن يضيع وسط أصوات البشر. ولا ينبغي أن تسيطر أصوات البشر فينا بحيث لا نعود نسمع صوت الله، ولا نميِّزه بين سائر الأصوات، ولاسيّما الشرّيرة منها. ركع صموئيل ركعة الحبّ. صار طفلاً ينتظر من أبيه كلَّ شيء لأنَّه يعرف أنَّه لا يملك شيئًا. وهو »العبد« أو العابد المنتظر أوامر الربّ. كعين العبد إلى يد سيِّده. هو ينتظر إشارة لكي فهم وينطلق. »هاءنذا فارسلني«.

إلى صموئيل المصلّي نتطلَّع، فنتعلَّم نحن بدورنا كيف تكون صلاتنا. وكلام الله في تاريخ البشر هو الذي يقودنا. صموئيل هو ابن الصلاة. صموئيل هو السامع. صموئيل هو الرائي.

1- صموئيل ابن الصلاة

أ- ألقانة والد صموئيل

يروي سفر صموئيل الأوّل أنّ والد صموئيل كان اسمه ألقانة: ألله اقتنى. هو قنية الله. يخصّ الله. إذًا يعيش بحسب إرادة الله. اعتاد كلَّ سنة أن يحجّ إلى الأماكن المقدَّسة، قبل أن تكون أورشليم المعبد الوحيد. والحجّ السنويّ كان مناسبة شكر لله على ما أعطى المؤمنين من خيرات طوال السنة. وسوف يحجّ العبرانيّون فيما بعد ثلاث مرّات. في الأولى، يشكرون الله على عطيّة الشعير. ذاك هو عيد الفطير. يتركون الحياة القديمة بفسادها وينطلقون في حياة جديدة. في هذا المجال، نتذكَّر بولس الرسول: »تطهَّروا من الخميرة القديمة لتصيروا عجينًا جديًا، لأنَّكم فطير لا خمير فيه. فحَملُ فصحنا ذُبح« (1كور 5: 7).

ويمضي العبرانيّ إلى المعبد في عيد الأسابيع، أو سبعة أسابيع بعد الفصح. هناك يشكر الله على عطيّته، ولا يمضي فارغ اليدين. نحن لا نذهب ضيوفًا لدى الناس دون أن نأخذ هديّة في أيدينا. قال سفر التثنية: »ثلاث مرّات في السنة يحضر جميع الذكور (مع عيالهم) أمام الربّ إلهكم في الموضع الذي يختاره، في عيد الفطير، في عيد الحصاد (أو الأسابيع) وفي عيد المظالّ. لا يحضرون أمام الربّ بلا شيء معهم، بل يحمل كلُّ واحد عطيَّته على حسب بركة الربّ إلهه له« (تث 16: 16-17). كان عيد الفطير شكرًا لله على الشعير. وعيد الحصاد يكون شكرًا لله على الحنطة. وهي تنضج للحصاد في شهر أيّار، في مناطق فلسطين والأردنّ الحارّة. وهذا العيد الذي دُعيَ العنصرة هو الاجتماع المفرح الذي فيه يتذكَّر المؤمنون وصايا الله كما أعطيَت على سيناء. اسمها في الأصل: الكلمات العشر. يأتي الحجّاج ويسمعونها، وبالتالي يسمعون صوت الله يناديهم من جديد: يا شعبي، السماوات تسمع، الأرض تصغي. وأنت؟ فقد نكون مثل الذين كلَّمهم أشعيا النبيّ: لا يعرفون أو لا يريدون أن يعرفوا. لا يفهمون أو لا يريدون أن يفهموا (أش 1: 3).

والعيد الثالث هو عيد المظالّ. كانوا يصنعون »الخيام« من أغصان الأشجار ويحرسون الغلال من السلب والنهب، ويُبعدون الثعالب »التي تتلف الكروم« (نشيد الأناشيد 2: 15)، صورة عن إتلاف شعب الله وضياعه وسط خيرات الأرض. يأتون إلى المعبد فيقدِّمون للربّ من عطاياه وبركاته ويشكرونه. أتُرى الله يأكل؟ كلاّ. أيحتاج إلى الذبائح والمحرقات؟ كلاّ. قال في مز 50: 12-14: »إن جعتُ فلا أخبركم، لي العالم وكلّ ما فيه. لا آكل لحم الثيران، ولا أشرب دم التيوس. قرّبوا الحمد لي وأوفوا العليّ نذوركم«. فحين نعطي ممّا عندنا، ندلّ أنّنا نعطي ذاتنا. وعندما نعطي للمعبد، نعطي لخدّام المعبد، كما نعطي لأخصّاء الله: الأرملة، اليتيم، الفقير، الغريب.

تَقوى ألقانة والدِ صموئيل صارت موضع مديح بالنسبة إلى طوبيت والد طوبيّا: »كان طوبيت وحده يذهب إلى أورشليم في الأعياد... يقدِّم غلَّته وأعشار غنمه... يقدِّمها على المذبح على أيدي الكهنة: يهب بني لاوي قسمًا، ويتصدَّق بالقسم الثالث للمحتاجين« (طو 1: 6-8). وكانت حنّة امرأته ترافقه. اسمها يعني حنان الله. وهو يتحنَّن في الوقت المناسب. ولكنَّه بدأ فتحنَّن من خلال تصرُّف زوجها تجاهها. كانت عاقرًا لا أولاد لها. فما معنى العيد بالنسبة إليه؟ كانت تفضِّل أن لا تأتي إلى المعبد مع »ضرتها« فمننة التي تقسو عليها، »فتغضبها وتهينها تلك التي لها الأبناء العديدون« (1صم 1: 6). وإن ذهبت حنّة إلى العيد »لا تأكل. بل تمضي وقتها في البكاء« (آ7-8). ولكنَّ زوجها كان يعزّيها: »أنا لك خيرٌ من عشرة أولاد« (آ8). وقال النصّ: »كان يحبُّها مع أنَّها عاقر« (آ5). ولكنّ الأمور تتبدَّل فتصبح العاقر أمّ بنين. علَّمها أشعيا أن تقول: »رنّمي أيّتها العاقر التي لا ولد لها، أجيدي الترنيم أيّتها التي ما عرفت أوجاع الولادة« (أش 54: 1). وحنّة سوف تبتهج بعد ولادة صموئيل، وتنشد: »العاقر ولدت سبعة، وكثيرة البنين ذبلَت« (1صم 2: 5).

ب- حنّة والدة صموئيل

عملت حنّة بكلام الإنجيل قبل الإنجيل. صلّوا ولا تملّوا. ما تعبت من الصلاة والطلب. وسمعت قول يسوع: من يسأل ينل، من يطلب يجد، من يقرع يُفتح له. فكانت كلَّ سنة مع زوجها في الهيكل. هو يشكر الله على عطاياه، وهي تودّ أن تشكر الله. ولكنَّ العطيّة الأساسيّة بالنسبة إليها هي الولد. وبما أنّ الولد ليس هنا، كانت صلاتها مرّة ورافقها البكاء. تستطيع أن تقول مع نعمى حماة راعوت: »ملأنا القدير مرارة« (را 1: 20). ومع الشعب المتألِّم: »نوح وبكاء مرّ« (إر 31: 15). تجمّعت صلاتهم في فم أمِّهم راحيل: »راحيل تبكي بنيها، وتأبى أن تتعزّى«. ولكنّ الربّ يقول: »كفّي عيونك عن البكاء، وعينيك عن ذرف الدموع« (آ16).

ألمُ حنّة يشبه ألم سارة: »الربّ منع عنّي الولادة« (تك 16: 2). ولكنَّها ما لجأت إلى الصلاة، ولا جعلت رجاءها في الربّ مثل إبراهيم الذي ترجّى حيث لا موضع للرجاء. بشَّرها الملاك: »سأرجع إليك في مثل هذا الوقت ويكون لسارة امرأتك ابن« (تك 18: 10). ماذا كانت ردة فعل سارة؟ ضحكت. وقالت: »أبعْدَما عجزتُ وشاخ زوجي، تكون لي هذه المتعة؟« (آ12). »أحقٌّا ألدُ وأنا الآن في شيخوختي؟« (آ13). وسأل الملاك إبراهيم: »لماذا ضحكت سارة؟« (آ13). شابهت في الواقع زكريّا. أمّا الربّ فقال: »أيصعب على الربِّ شيء؟« (آ14).

ماذا فعلت سارة ليكون لها ولد؟ لجأت إلى خادمتها هاجر. جعلتها زوجةً لزوجها، ووافقها إبراهيم الرأي. ونقول نحن في لغتنا اليوم: جعلت زوجها يزني. خافت على نفسها من الطلاق. هي وسيلة بشريّة لا تقودنا إلى البعيد. فالخادمة احتقرت سيِّدتها (تك 16: 5)، والشابّ ترك البيت وعاش في البراري (آ12). ما لجأت إلى الصلاة مثل حنّة. وراحيل امرأة يعقوب، كانت عاقرًا. صاحت في وجه يعقوب، بعد أن رأت أختها تلد البنين: »أعطني ولدًا وإلاّ أموت!« (تك 30: 1). أتموت من الحزن؟ أم تنتحر كما نقول في أسلوبنا الحديث. تقتل نفسها أو تحاول لتخيف زوجها؟ وفعلت راحيل كما فعلت سارة: أعطت ليعقوب جاريتها بلهة (آ14). بل لجأت راحيل إلى »اللفّاح« علّه يعطيها ولدًا. ولكنَّ أختها هي التي حبلت.

وفي النهاية، الله هو الذي يفعل. صلّت راحيل، فذكرها الله وسمع لها وأعطاها ولدًا وأيّ ولد! يوسف الذي سيكون سبب خلاص لإخوته. وحنّة صلَّت فكان لها ولد وأيّ ولد! صموئيل الذي يكون على مفصل هامّ في حياة شعبه. نقله من زمن الفوضى إلى التظيم الملكيّ مع شاول الذي فشل ثمّ مع داود الذي كان بحسب قلب الربّ.

وكيف كانت صلاة حنّة؟ انطلقت من واقعها: »أيُّها الربّ القدير، إذا نظرتَ إلى شقاء أمتك وذكرتَني وما نسيتني، بل رزقتني مولودًا، فأنا أكرِّسه لك« (1صم 1: 11). تقول له: »ممّا لك أقدِّمه لك«. عطايا الربّ تعود إلى الربّ. والإنسان لا يتعلَّق بها لئلاّ تصبح صنمًا بين يديه. هكذا يكون الأمر لدى أمَّهات لهنَّ ابن وحيد. يصبح كلَّ حياتهنَّ. أمّا حنّة، فما أرادت أن يكون هذا الابن لها فتعبده وفي النهاية تبقيه طفلاً في حضنها. والله وحده يعرف ما تكون نهاية هذا الابن.

أمّا حنّة فحدَّدت النهاية: هو من الربّ. وسيكون مكرَّسًا للربّ. صلَّت حنّة وأطالت الصلاة. هي أوَّلاً صلاة الفم والشفاه. أما هكذا هتف داود: »إفتح شفتيّ ايُّها الربّ فيجود فمي بالتهليل لك« (مز 51: 17). وقال المرتِّل في مز 63: 4-6: »خيرٌ من الحياة رحمتك. شفتاي تسبِّحان لك، ومدى حياتي أباركك. تشبعني كما من طعام شهيّ، فترنِّم شفتاي ويهلِّل فمي«. وإن كنت لا أعرف الصلاة، يضع الربّ في فمي نشيدًا جديدًا (مز 40: 4). ويترافق الفم مع القلب فيرضى الربّ عن صلاتنا (مز 19: 15).

هذا ما فعلته حنّة. راقبها عالي الكاهن: »كانت تصلّي في قلبها، وشفتاها تتحرّكان ولا تُخرجان صوتًا« (1صم 1: 13). هي صلاة القلب. يبدأ الفم والشفاه. ثمّ يصمت الإنسان. وتتواصل صلاته في قلبه لكي تصبح حميميَّة. تكون الحبيبة كخاتم على قلب حبيبها (نشيد 8: 3). والمؤمنة على قلب ربِّها. أما هكذا كان التلميذ الحبيب على صدر المعلِّم. فالقلب يكلِّم القلب. كانت حنّة قبل الوقت تلك النائمة في حضن الربّ، الصامتة، المتألِّمة، كما البنت في حضن أمِّها تُسرُّ لها بما في قلبها. أيستطيع الربُّ أن لا يتحرَّك أمام هذه الصلاة التي توخَّت قبل كلِّ شيء ابنًا يكون مكرَّسًا للربّ. فما الفائدة من بنين عديدين وأشرار؟ عندئذٍ تفضِّل المرأة أن تكون عاقرًا (سي 16: 3).

من ينظر إلى حنّة من الخارج، يحسبها مختلّة. أو أضاعت عقلها من كثرة الحزن. أو هي سكرانة، كما ظنَّها عالي. هو بعيد عن جوّ الصلاة. وسوف نراه بعيدًا عن اكتشاف حضور الله، فينتظر المرّة الثالثة لكي يفهم أنّ الله هو الذي يكلِّم صموئيل، لا أضغاث أحلام. إذا قلنا كانت سكرى، نعني أنّها كانت سكرى بالله. تشبه الرسل يوم العنصرة، وقد ظنَّهم الناس سكارى بعد أن نالوا الروح القدس. وكان جواب حنّة للكاهن عميقًا جدٌّا: »أكشف نفسي أمام الربّ« (1صم 1: 15).

لا. لا يمكن أن تكون الصلاة تكرارًا وتكرارًا وكأنّنا نريد أن نمنع الربّ من الكلام. عندئذٍ نكون مثل الوثنيّين الذين يظنّون أنَّه بكثرة صلاتهم يستجاب لهم. فالمؤمن الحقيقيّ لا يقتدي بهم. بل يضع قلبه على قلب المعلِّم، كما قلب الحبيبة على قلب حبيبها. هذا ما فعلت حنّة. وشعَّ قلبُها بالإيمان. وكأنَّها عرفت في داخلها، في لغة القلب، أنّ الله سمع لها. وانتهى الخبر: »وأكلت حنّة، بعد أن كانت رفضت أن تأكل، وزال الحزن عن وجهها« (1صم 1: 18).

2- صموئيل السامع

ماذا سيكون مثل هذا الولد؟ هي في العبريّة: شموئيل. أي اسم الله. كما نقول اليوم: اسم الله عليك. والاسم يدلّ على الشخص. وحضور الله يعني ملء البركات. دعت حنّة ابنها باسم الله ليعرف أنَّه يخلصّ الله بعد أن طُبع اسمه عليه. ماذا سيكون؟ وعن يوحنّا ابن أليصابات العاقر قال الناس في جبال يهوذا: ما عسى أن يكون هذا الطفل؟« (لو 1: 66). فيد الربّ كانت معه. كما كانت مع صموئيل وموسى، وفي النهاية مع مريم العذراء.

حين نريد أن نسمع نكون بقرب الذي يكلِّمنا. وحين أتت حنّة بابنها صموئيل إلى الهيكل، استطاع أن يهتف: »ما أحبَّ مساكنك يا ربّ الجنود. تشتاق وتذوب نفسي إلى ديار الربّ. العصفور وجد له مأوى واليمامة عشٌّا تضع فيه أفراخها. من لي بمذابحك يا ربّ الجنود، يا ملكي وإلهي. هنيئًا للمقيمين في بيتك. هم على الدوام يهلِّلون لك. هنيئًا للذين عزَّتهم بك، وبقلوبهم يتوجَّهون إليك« (مز 84: 2-6). ذاك كان نشيد صموئيل. غيره تطلَّع إلى اليمامة التي تقيم عشٌّا لفراخها في حنايا الهيكل. لا صموئيل. قيل لنا في 1صم 3: 1: »كان صموئيل يخدم الربّ«. وهل من خدمة أرفع من هذه الخدمة. يستطيع أن يقول مع المزمور: »إنّ يومًا في جوارك خير من ألف. فاخترت الوقوف في عتبة بيت إلهي على السكن في خيام الأشرار« (آ11). قبل صموئيل أن يقف عند العتبة. فالإنسان لا يستحقّ أن يدخل إن لم يدعُه العظيم إلى الدخول. لهذا قال الكهنة للآتين إلى الهيكل: »من يحقّ له أن يكون في جوار مسكنك؟ من يحقُّ له أن يسكن جبلك المقدَّس؟«. وجاء الجواب: السالك بالنزاهة. الصادق بأقواله المتكلِّم بالحقّ في قلبه. الذي لسانه بعيدٌ عن الدجل ويداه بعيدتان عن الإساءة (مز 15: 1-3).

يحقّ لصموئيل لا أن يقف فقط عند عتبة بيت الربّ. بل أن يدخل. ويقيم. وتكون له علاقة حميمة مع الله الذي فتح له قلبه وكشف له مشروعه في شأن عالي. نهارًا وليلاً صموئيل هو هنا. وحين سمع الصوت خاف أن يكون مصباح بيت الله منطفئًا، لا. قال الكتاب: »كان مصباح الله ما زال مضيئًا«. وهو يدلّ على حضور الله في معبده ووسط شعبه.

صوتٌ سُمع في المعبد. صوت ينادي صموئيل. سمع. ولكنَّه بقي على المستوى البشريّ. مضى إلى عالي مرّة ومرّتين وثلاثة. لماذا؟ لأنّ الشعب والكهنة كانوا في حال من الضياع، بحيث ظنّوا أنّ الله ما عاد يتكلَّم. كلمات البشر تكفي! لا، هي لا تكفي. فلو كفت، لكان ابنا عالي عادا عن غيِّهما. قال عالي: ''لماذا تعملان هذه الأعمال؟ وما هذا الخبر القبيح الذي أسمعه عنكما من جميع هذا الشعب؟ لا يا ابنيّ. هذه السمعة غير حسنة. أنتما تدفعان شعب الربّ إلى المعصية (1صم 2: 23-24). وماذا كانت النتيجة؟ »لم يسمعا لكلام أبيهما«. هو في الواقع كلام بشريّ، لا سيف ذو حدّين كما يجب أن يكون كلام الربّ.

ما عرف صموئيل في البدء كلمة الربّ لأنّها كانت نادرة (1صم 3: 1). هي ما غابت كلّيٌّا. لهذا وجب البحث عليها بالفتيل والسراج. حملها مرّة رجل الله إلى عالي: »هذا ما يقول الربّ« (1صم 2: 27). ولكنّ عالي لم ينتفع بما قال الربّ، ولا هو أوصل الكلمة إلى ابنيه لكي يبدّلا سلوكهما.

لهذا أجبر الربّ أن ينادي »الصبيّ« ثلاث مرّات. فصموئيل صبيّ. هذا يعني أن لا خبرة له بعدُ مع الربّ. مثل إرميا مثلاً. ولكنَّ الله هو الذي يعطي الخبرة ويمرّس من يدعوه في الرسالة التي يهيِّئها له. أجل، حين يدعو الربُّ واحدًا من الناس يخلقه من جديد. اعتبر إرميا أنّه صبيّ. لا تقل أنا صبيّ. أنا أرسلك وأعطيك القوّة فتواجه الرافضين. أجعلك عمودًا من حديد وسورًا من نحاس (إر 1: 18). وتهرَّب موسى. »لا يصدِّقونني«. بل يصدّقونك. ثمّ قال: »أنا بطيء النطق وثقيل اللسان«. فقال له الربّ: »ومن الذي خلق للإنسان فمًا؟« (خر 4: 10-11). وتابع الربّ: »وأنا أعينك على الكلام، وأعلِّمك ما تقول« (آ12).

والربّ أعان صموئيل. أوَّلاً ليسمع. ثمّ ليتكلَّم ولا يخاف من قول الحقيقة لعالي الكاهن. علَّمه معلِّمه فتعلَّم. قال: »تكلَّم يا ربّ، لأنَّ عبدك سامع« (1صم 3: 9، 10). في صمت الله حيث لا ضجّة ولا كلام. والله اعتاد أن يكلِّم أحبّاءه في الليل. يكفي أن نذكر في حياة صموئيل ما يبيِّن المناخ الذي فيه يحدِّثنا الله. الشعب يطالب بالملك. وصموئيل يرفض. لا ملك سوى الله في شعبه. وفي الغد قال الربّ لصموئيل: »اسمع لهم وأقم عليهم ملكًا« (1صم 8: 22). وما حدث لصموئيل حدث لناتان النبيّ مع داود. أراد الملك أن يبني هيكلاً للربّ. أسرع ناتان وأجاب: »إذهب وافعل كلَّ ما في بالك، لأنّ الربّ معك« (2صم 7: 3). ويتابع النصّ: »ولكنّ الربّ قال لناتان في تلك الليلة: إذهب وقلْ لعبدي داود: هذا ما يقول الربّ« (آ4-5).

كلَّم الربّ صموئيل. سمع كلام الربّ. »لم يهمل شيئًا من جميع ما كلَّمه به« (1صم 3: 19). كأنِّي به في يده خبزٌ. لا يدع كسرة تسقط على الأرض. فهو يهتمّ بها اهتمامًا خاصٌّا. هي كنز بين يديه، فكيف يفرِّط به. وهذا السماع بدا واضحًا لدى الشعب. علموا »أنَّ الربّ اختار صموئيل نبيٌّا« (آ20). أي دخل في سرِّ الله. حمل كلام الله إلى الشعب بعد أن سمعه. هو لا يتكلَّم من عنده، بل ما يقوله يسمعه. وعاد الرجاء إلى قلب الشعب. ما عادوا يستطيعون أن يقولوا: »لا نرى علامة، ولم يبقَ نبيّ. ولا عندنا من يعرف إلى متى« (مز 74: 9).

صموئيل هو النبيّ. طرَقَ الربّ بابه. سمع صوته. قام ففتح له. تعشّى معه الربّ وهو مع الربّ. ما أصمَّ أذنيه. ما كان مثل الشعب الذي سمع وما فهم، الذي نظر وما رأى، الذي قسّى قلبه، ثقَّل أذنيه، أغمض عينيه، »لئلاّ يبصر بعينيه ويسمع بأذنيه ويفهم بقلبه ويرجع إليّ فيُشفى« (أش 6: 10)، بل قال صموئيل بفم المرتِّل: »أذنين مفتوحتين وهبتني، فقلت: ها أنا آتٍ« (مز 40: 8). وما اهتمام صموئيل؟ أن يعمل ما يرضي الله. فمسرَّته في شريعة الربّ (آ9). كما نقول نحن في الصلاة الربّيّة: »لتكن مشيئتك على الأرض كما في السماء«.

3- صموئيل الرائي

في الصلاة نسمع الله، فهو يريد أن يكلِّمنا. أن يفتح لنا قلبه بعد أن نكون فتحنا له قلبنا. ذاك كان وضع تلميذي عمّاوس. بدأا ففتحا قلبيهما، وأخبرا الغريب الذي يرافقهما بالحزن الذي يحيط بجماعة التلاميذ. وسمع الربّ مع أنَّهما أخبراه عمّا يعرفه، عمّا عاشه. وبعد ذلك، كلّمهما. قرأ معهما الكتب المقدَّسة. فسمعا، بل اشتعل قلباهما وهو يحدِّثهما في الطريق. واستعدَّا إلى أبعد من السماع، استعدّا أن يرياه. وفي الواقع، »لمّا جلسوا للطعام« أخذ يسوع خبزًا وبارك وكسره وناولهما. فانفتحت عيونهما وعرفاه. ولكنَّه توارى عن أنظارهما« (لو 24: 30-31). هي رؤية خاصّة ملأتهما بالفرح. في بداية الطريق »عميت أعينهما عن معرفته« (آ16). بل قالا له: »هل أنت وحدك غريب في أورشليم؟« (آ18). مع أنَّه القريب القريب. الذي يرافق كلَّ واحد في مسيرته. يرانا كما يقول مز 139: إن قعدنا أو قمنا. إن سافرنا أو أقمنا في مكان ما، هو يحيط بنا كما الأمّ تحيط بطفلها: بنظرها، بيديها، بكلِّ اهتمامها. إن صرخ سمعت. إن سقط رأت.

هو يرانا ويريدنا أن نراه. لا بالعين البشريّة مع أنَّ الكثيرين، خلال حياته على الأرض، رأوه بعيونهم، سمعوه بآذانهم، لمسوه بأيديهم (1يو1: 1). يريدنا أن نراه بعين الإيمان، فنهتف مع توما: »ربّي وإلهي« ومع مريم بعد أن ناداها: »رابّوني، يا معلِّم«. وهو يقول: »اعتلنتُ للذين لم يطلبوني«.

هذا الكلام ينطبق على صموئيل، الوضع خطير. إذا كانت كلمة الربّ نادرة، فالرؤى كانت قليلة (1صم 3: 1)، إن لم نقل معدومة. وصورة العمى هذه نجدها على وجه الشيخ العجوز، على وجه الكاهن عالي: »ابتدأت عيناه تضعفان، فلم يقدر أن يبصر« (آ2). فلو أبصر لكان دلَّ صموئيل سريعًا على الربّ الحاضر في معبده. ولو أبصر، لكان رأى الشرَّ الذي يفعله ولداه. هو سمع فقط ما يقوله الشعب (1صم 2: 23). ولكن لو رأى ابنيه يسبقان الله في أخذ حصَّتهما من الذبيحة! (آ15). لو رأى ابنيه »ينامان مع النساء اللواتي يخدمن عند باب خيمة الاجتماع« (آ22).

في مثل هذا الجوّ ما استطاع عالي أن يرى. أمّا صموئيل فرأى الربّ، وكان سرّ بينه وبين الربّ. لهذا، حين قام في الصباح، »خاف أن يكشف الرؤية إلى عالي« (1صم 3: 15). ويُنهي الكتاب الخبر: »وعاد الربّ يتراءى في شيلو، لأنَّه تجلّى لصموئيل هناك وكلّمه«. في الأصل، صيغة المجهول: يُرى. أي يسمح للنبيّ أن يراه. يمنحه نعمة بأن يراه. ثمّ تجلّى. أي جلا. كشف عن نفسه. وسفر الجليان في الأدب البيبليّ القديم، هو سفر الرؤيا.

أجل، لا يكفي السماع في الصلاة. لا بدّ من الرؤية. هذا ما نكتشفه في سفر أيّوب. هذا البارّ مرَّ في محنة مؤلمة. قدَّموا له البراهين اللاهوتيّة. رفضها. ما هذه المعادلة بين الخطيئة والعقاب الذي يُحسَب آتيًا من عند الربّ؟ تشوَّه وجه الربّ فما عاد المتألِّم يتعرَّف إليه. وجاء نبيّ. اسمه أليهو. قال: »روح الله هو الذي صنعني، ونسمة القدير هي التي أحيتني« (أي 33: 4). ويتابع كلامه في آ14: »الله يتكلَّم مرّة ومرّتين، ولكن أين من يلاحظ كلامه؟«

ما اقتنع أيّوب. ولكن حين رأى الله من خلال مخلوقاته، قبِلَ بما يُعرَض عليه. نقرأ في أي 38: 1: »فقال الربّ لأيّوب من العاصفة«. هناك يقيم الله. حسِبَ أيّوب أنّ الله غاب. فإذا هو حاضر. حضور الحكمة في الكون، حضور العناية بأصغر الحيوان، بحيث لا يُفلت أحد عن ناظريه. لهذا كانت الخاتمة: »سمعتُ عنك سمع الأذن. والآن رأتك عيناي« (أي 42: 5). وتراجع أيّوب عمّا سبق وقاله.

ولكن يُطرح السؤال: كيف نرى الله؟ سبق وقلنا: لا نراه بعين الجسد. بل هناك خبرة روحيّة، إيمانيّة، تجعلنا نشعر بحضوره، نفهم أنّ يده تقودنا. ووحدهم أولئك الذين »رأوا« الله عملوا شيئًا في تاريخ الكنيسة. وإلاّ، ما الذي دفع أنطونيوس لكي يترك كلَّ شيء ويمضي إلى البرّيّة؟ وهو ما كان وحده هناك، بل مع حبيبه: »أنا لحبيبي وحبيبي لي«. وكذلك نقول عن فرنسيس الأسّيزيّ. ترك ما يُرى وأخذ ما لا يُرى. ترك أباه على الأرض. تخلّى له عن ثيابه. انضمّ إلى الآب السماويّ الذي يُلبس الأزهار أجمل الألوان، ويطعم الطيور حين تزقزق.

بولس الرسول. حدّثوه عن يسوع. ما اقتنع كان في داخله صراع عنيف. كأنّي به يقول: أين أنت يا ربّ. فيردّد مع مز 10: 1: »يا ربّ، لماذا تقف بعيدًا؟ لماذا تتوارى في وقت الضيق؟«. ويطرح أكثر من سؤال: »إلى متى يا ربّ تنساني؟ إلى متى تستر وجهك عنّي (وكأنَّك لا تريد أن تراني وأن تقر بحاجتي)؟ إلى متى أحتمل الغصّة في نفسي، والحسرة في قلبي نهارًا وليلاً؟« (مز 13: 2-3).

لا. ما نسيَ الربّ بولس. بل تراءى له على طريق دمشق. وكلَّمه: »لماذا تضطهدني؟« زال كلّ شكّ وارتياب. قيل له إنّ يسوع مات على الصليب وانتهى أمره، وانتصرت الشريعة. ولكنَّ الرسل يقولون: إنَّه حيّ، تراءى لنا. رأيناه، ولماذا لا يراه بولس. وكان اللقاء الذي جعل بولس يقول: »ماذا تريد أن أفعل يا ربّ؟«.

وموسى الذي كلَّمه الربّ، فدُعي »كليم الله«، لم يكتفِ بالسماع. هو يريد أن يرى. قال له الربّ: »هذا الذي قلتُه أفعلُه، لأنّي رضيتُ عنك وعرفتك باسمك« (خر 33: 17). ماذا ينتظر موسى بعد ذلك؟ قال للربّ: »أرني مجدك!« شعّ وجهه. صار النور يخرج منه بعد أن تلقّى نور الربّ على الجبل. صار »وجهه مشعٌّا، فخافوا أن يقتربوا منه« (خر 34: 30). ذاك يكون تأثير من رأى الربّ في ظهور، أو في فعل إيمان عميق. إذا كان اتَّصل بمن هو نور العالم (يو 9: 5)، لا يمكن إلاّ أن يكون هو نورًا، بعد أن قال لنا الربّ: »أنتم نور العالم« (مت 5: 14). ولكن إن كان ما نحسبه فينا نورًا هو ظلام، فما أتعسنا وما أتعس الذين هم في البيت إن لم يُضئ نورنا قدامهم (آ16). هذا يعني أنّنا كالأنبياء الكذبة الذين ما سمعوا الله ولا رأوه.

خاتمة

تعرَّفنا إلى رجل الصلاة من خلال شخص صموئيل. هو ابن الصلاة بعد أن طلبته أمُّه من الربّ. هي سألت الربّ فأجاب سؤلها. والربّ سأل فتجاوبت مع سؤلها. يا للتبادل العجيب! ردَّت إلى الربّ ما أعطاها. وزاد فأعطاها البنين العديدين. ووالد صموئيل اتّقى الربّ وعرف الشكر في حياته، ولاسيمّا في أعياد الربّ. عن والديه أخذ صموئيل الصلاة. لا شكّ في أنَّه طلب. ولكنّنا شدَّدنا على صفتين: هو الذي سمع كلام الله. وبالتالي أطاع مهما كانت الصعوبة الكبيرة في الطاعة. مسح أوَّلاً شاول، ذاك الآتي ليبحث عن أتنه. وهو الذي رأى الربّ، فتعلَّم كيف يرى الأحداث التي أمامه. ففي لقاء مع الله في الصلاة، نكتشف إرادته ومشاريعه بالنسبة إلى كلِّ واحد منّا، وإلى الكنيسة.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM