عرش الربّ في أورشليم.

 

عرش الربّ في أورشليم

2 أخ 15: 3-4، 15-16؛ 16: 1-2

اعتاد الناس أن يتكلّموا عن تابوت العهد، الذي يرمز إلى حضور الله، ففيه جرّة المنّ التي تدلّ على عناية الله بشعبه، حين أعطاهم خبز السماء. فوصلت إلينا صلاة يسوع: يا أبانا، أعطنا خبزنا كفاف يومنا. وفيه أيضًا الوصايا العشر، الكلمات العشر: أنا الربّ إلهك... لا تقتل، لا تسرق، لا تزنِ... فوصلنا إلينا بفم يسوع: قيل: لا تقتل أمّا أنا فأقول لكم: من غضب على أخيه. قيل لكم: لا تزنِ، أمّا أنا فأقول لكم: من نظر إلى امرأة. وجُعل في تابوت العهد عصا هارون التي أفرخت فحملت ثمرًا كان كهنوت اللاويّين لخدمة الهيكل والمذبح. ولكنّ الكهنة العديدين لبثوا ناقصين ويحتاجون أن يقدّموا الذبيحة عن أنفسهم ثمّ عن الشعب. أمّا يسوع الكاهن الحقيقيّ الذي بلا عيب فبذبيحة واحدة حمل الخلاص إلى البشر. وكلمة »تابوت« (ت ب ه) في العبريّة، تعني الصندوق قبل أن تُصبح في اللغة العاديّة لفظًا خاصٌّا بالموتى. في »ت ب ه« كان نوح والذين معه، كما كان موسى عند شاطئ النيل. أمّا هنا، فتابوت العهد رافق العبرانيّين في البرّيّة وانتقل من موضع إلى موضع. سار في مقدّمة المقاتلين بانتظار أن يُقيم في شيلو. وفي النهاية نقله داود إلى أورشليم وسليمان إلى الهيكل حيث صار موطئ قدمي الله، أو عرش الله كما في سفر الأخبار الأوّل (28: 12).

ماذا يقول سفر الأخبار الأوّل عن هذا العرش؟ نقرأ ف 15:

3 وجمعَ داودُ كلَّ بني إسرائيل إلى أورشليم لأصعاد عرش (ت ب ه) الربّ إلى المكان الذي هيّأه له.

4 واستدعى أيضًا بني هارون واللاويّين.

14 فطهّر الكهنة واللاويّون أنفسهم ليُصعدوا عرش الربّ، إله إسرائيل.

15 وحمله اللاويّون بقضيب من هنا وقضيب من هناك، كما أمر الربّ على لسان موسى.

ويتواصل الخبر في ف 16:

1 وأخذوا تابوت العهد، ووضعوه وسط الخيمة التي نصبها له داود، وقدّموا محرقات وذبائح سلامة أمام الله.

2 ولمّا فرغ داود من تقديم المحرقات وذبائح السلامة، بارك الشعب باسم الربّ.

1- نظرة كتاب الأخبار

في الأصل ألّف كتابُ الأخبار بجزئيه (1 أخ + 2 أخ) كتابًا واحدًا مع سفرَي عزرا ونحميا، وقد نُسب إلى »المؤرّخ« أو »المخبّر«. وألِّف بين نهاية القرن الرابع وبداية القرن الثالث ق.م.، بعد الأعمال التي قام بها عزرا ونحميا في زمن الفرس، وقبل الحقبة المكّابيّة في أيّام أنطيوخس أبيفانيوس (167-164 ق.م.). صاحب هذه النظرة العائدة إلى تاريخ شعب الرب، الذي هو، على ما يبدو، لاويٌّ في خدمة هيكل أورشليم، استند إلى وثائق عديدة، ولا سيّما معلومات قدّمها البنتاتوكس أو الأسفار الخمسة وكتب صموئيل (1صم + 2صم) والملوك (1مل + 2 مل)، كما استند إلى نصوص رسميّة وجدها في المحفوظات، وإلى تقاليد نبويّة مستقلّة، وإلى أخبار تتنوّعُ قيمتها التاريخيّة.

وتوخّى هذا »المخبّر« أن يقدّم عملاً لاهوتيٌّا، لا مؤلَّفًا تاريخيٌّا، وإن استند إلى أمور تاريخيّة وصلت إليه من مراجعه. فالماضي ليس فقط تسلسل أحداث، بل يتضمّن درسًا ننقله إلى الجيل الحاضر. ففسَّر هذا »المؤرِّخ« الأحداث في إطار اهتمامات الأوساط التي انتمى إليها. فإذا أردنا أن نفهم ما كتبه، نعود إلى المنظار الذي فيه وضع نفسه.

لهذا، لا ندهش إن رأينا صاحب كتاب الأخبار، يختار بعضًا من الموادّ التي كانت في حوذته. فألفى بعض الأمور التي لا تدخلُ في مشروعه. مثلاً، كلّ ما يتعلّق بتاريخ مملكة الشمال (بعاصمتها السامرة) بعد أن انفصلت المملكتان على أثر موت داود. ويحصل له أن يحوّل مصادره. هنا نقابل بين 1 أخ 21 و2 صم 24 حول الإحصاء الذي قام به داود. ونبدأ فنقرأ 2 صم 24:

1 وعاد غضبُ الربّ فاشتدّ على بني إسرائيل، فأثار عليهم الملك داود.

2 قال له الربّ: »عدَّ شعب (مملكة) إسرائيل ومملكة (يهوذا)«. فقال الملك ليوآب، قائدِ جيشه: »طُف مع أعوانك في جميع أسباط إسرائيل، من دان إلى بئر سبع، وعدّوا الشعب لأعلَم كم عدده«.

من الذي حرّك داود ليقوم بالإحصاء؟ الربّ. هو السبب الأوّل في كلّ ما يحدث في العالم. وإن كان السبب المنظور هو طموح داود ليحسب الشعب شعبه هو، لا شعب الله، هم شعب داود، لا شعب الله. ولهذا أراد داود أن يعدَّهم بهدف ضبط الضرائب وجمعها. ولهذا قال يوآب للملك: »ولكن ماذا يريد سيّدي من هذا الأمر«؟ (آ 3).

إنزعج »المخبّر«: فكيف يثير الربّ داود، ثمّ يغضب عليه، فيصيب الغضب، لا الملك، بل شعب إسرائيل؟ فيتابع 2 صم 24: 10: »فأخذ ضميرُ داود يؤنّبه«. ماذا فعل »المخبّر«؟ نسب الأمر إلى الشيطان. هنا نقرأ 1أخ 21:

1 ونوى الشيطانُ الشرَّ لإسرائيل، فحضَّ داودَ على إحصاء (شعب) إسرائيل (كلّه، إسرائيل ويهوذا).

2 فقال داود ليوآب وقادة جيشه: »إذهبوا واحصوا شعب إسرائيل«.

ويتواصل الخبر متوازيًا بين كتاب الأخبار وكتاب صموئيل. هو الشيطان حرّك داود، لا الله. وهكذا تبرّر موقفُ الله الذي »أرسل الوباء«. في الأصل، كان وباء. وبما أنّ كلّ شي يعود إلى الله، فالله أرسل الوباء. والسبب: خطيئة الملك. أمّا الوباء، فأمرٌ طبيعيّ اعتادت العصور القديمة أن تعرفه. نشير هنا إلى أنّ »الشيطان« يظهر ثلاث مرّات في العهد القديم: هنا وفي سفر أيّوب (ف 1-2)، وفي زك 3: 1. هو اسم جنس، قبل أن يكون اسم علم كما هو الأمر في اللغة العربيّة مع »إبليس«. مع أل التعريف، الشيطان هو من يعارض ويخاصم ويضع العراقيل في مسيرة الإنسان إلى الله.

ويكمّل كتاب الأخبار ما قالت مراجعه، فيضيف خطبًا تستلهم كرازة اللاويّين في زمن الهيكل الثاني، الذي أعيد بناؤه سنة 515 ق.م.، ليعبِّر بها عن أفكار عزيزة على قلبه. نورد أوّلاً خطبة داود في مناسبة نيّته بأن يبني الهيكل. نقرأ 2 أخ 28:

2 فوقف داود وقال لهم:

»استعموا لي يا إخوتي وشعبي.

كان في نيّتي أن أبني هيكلاً ثابتًا لتابوت عهد الربّ ولموطئ قدس إلهنا. ولمّا جهّزت كلّ شيء للبناء،

3 قال لي الله:

لن تبني هيكلاً لاسمي، لأنّك رجل حروب وسفكتَ الكثير من الدماء.

4 ولكنّ الربّ اختارني من جميع بيت أبي، لأن أكون ملكًا على إسرائيل إلى الأبد.

5 وأنت يا ابني سليمان، فاعرف إله أبيك واعبده بقلب سليم ونفسٍ راغبة، لأنّ الربّ يفحص جميع القلوب ويتبيّن الخواطر والأفكار. إذا طلبتَه وجدته، وإن تركته تخلّى عنك إلى الأبد.

فهذا المخبّر ما أخفى نواياه: شعر باهتمام تجاه نسل داود. ففي 1 أخ، احتلّ داود موقعًا مركزيٌّا. معه بدأ حقٌّا تاريخُ شعب الله. هو ما تحدّث عن مغامراته في بلاط شاول، وعن خطاياه بعد أن اعتلى العرش في أورشليم (ما ذكر زناه مع بتشابع)، ولكنّه شدّد وأطال الكلام على دوره في الاستعدادات لبناء الهيكل وتنظيم شعائر العبادة في أورشليم.

واهتمّ كتاب الأخبار اهتمامًا خاصٌّا بمدينة الله. تحدّث عن مصيرها منذ احتلّتها جماعة يهوذا حتّى اليوم الذي فيه أعاد نحميا وعزرا بناء الجماعة اليهوديّة فيها. وصف بناء المعبد في أورشليم على يد ابن داود، والدور الذي أخذه اللاويّون في الاحتفال الليتورجيّ إكرامًا للربّ، وهو دور كسَفَ دور الكهنة.

وفي خطّ المدرسة الاشتراعيّة، رأى »المؤرّخ« مصير شعبه مرتبطًا بموقفه تجاه وصايا الله: فطاعته أو خيانتُه تنعكسُ في مصيره. وهكذا عاد إلى الماضي فاستخلص منه درسًا، ودعا معاصريه إلى تحقيق المثال التيوقراطيّ (الله يحكم بواسطة الكهنة) الذي نسبه إلى داود.

2- مضمون 1 أخ 15-16

عاد ف 15-16 إلى نقل العرش (= تابوت العهد) إلى أورشليم. تبعا خبر 2 صم 6، فتوسّعا فيه توسُّعًا له معناه. كان في 2 صم 9 آيات (2 صم 6: 12-20). فصارت 72 آية. والقسم المركزيّ في نصّ المخبّر (1 أخ 15: 25-16: 3) يتقاطع مع إشارات إلى المرجع الذي أخذ منه. نجد أنّنا نلاحظ أنّ حدث ميكال (ضحكت من داود) صار آية واحدة في كتاب الأخبار (1أخ 15: 29). فبدا موقف الملكة مخطئًا لأنّ الملك، كما يقول 1أخ 15: 27ي، لبس الأفود وثوب اللاويّين، بحيث لم يكن في رقصته ما يزعج العيون.

وتوسّع المخبّر بشكل خاصّ في بداية الرواية ونهايتها، فأضاف ربّما على النسخة الأولى بعض التفاصيل المتعلّقة بالكهنة. فأشار أوّلاً إلى أنّ داود هيّأ خيمة لاستعمال العرش (16: 1). ثمّ أوضح أنّه إن اهتمّ الملك بنقل العرش إلى أورشليم، فليس لأنّ عوبيد أدوم نال البركات بعد أن كان »التابوت« عنده (1أخ 13: 14)، بل لأنّه اتّخذ إجراءات تتماشى مع شريعة موسى، فكان اللاويّون هم الذين نقلوا العرش.

هنا نقرأ سفر التثنية، ف 10:

8 في ذلك الوقت، خصّ الربُّ سبط لاوي بحمل تابوت عهد الربّ والوقوف أمامه ليخدموا ويباركوا اسمه كما هي حالهم في هذا اليوم.

9 لذلك لم يكن للاويّين نصيبٌ وملك مع إخوتهم بني قومهم، وإنّما الربّ مصدرُ كلّ مُلك لهم، كما كلّمهم الربّ إلهُهم.

هذا يأتي في خطّ سفر العدد، ف 4:

1 وكلّم الربّ موسى وهارون وقال:

2 »تُحصيان جملة بني قهات من بني لاوي، بحسب عشائرهم وعائلاتهم

3 ... فمن هم مؤهَّلون للخدمة والعمل في خيمة الاجتماع.

ويتواصل الخبر عبر إشارات مختلفة حول الكهنة اللاويّين ومهمّاتهم قبل المسيرة وبعدها (1أخ 15: 17ي؛ 16: 4ي). فاللاويّون لا يقدّمون الذبائح، كما الكهنة في جبعون (1أخ 16: 39-40). تقوم مهمّتهم بأن ينشدوا الأناشيد لمجد الربّ. وأعطى »المؤرّخ« نموذجًا من هذه الأناشيد التي أنشدها اللاويّون خلال خدمتهم. عادوا مثلاً إلى مز 105: 1-15، فأنشدوا في 1أخ 16:

8 إحمدوا الربَّ وادعوا باسمه،

وفي الشعوب بأعماله حدِّثوا.

9 أنشدوا له ورتِّلوا،

وتأمّلوا في جميع عجائبه.

10 تباهوا باسمه القدّوس،

ولتفرح قلوبُ طالبي الربّ

11 أطلبوا الربَّ وعزَّته،

والتمسوا وجهه كلَّ حين.

12 أذكروا عجائبه التي صنع،

آياتِه وأحكامَ فيه.

إنّ ف 15-16 هما مثال يُميِّز الطريقة التي بها أعاد المخبّر قراءة مراجعه: ترك جانبًا ما لا يليق بداود، وجعل من هذا الملك المعلّم الكبير للاحتفالات في أورشليم، ونموذجًا دنيويٌّا، أكثر منه دينيٌّا، فرسم احتفالاً مهيبًا في إطار العبادة والليتورجيّا، مع عدد كبير من الأشخاص المعيّنين لمهمّات دينيّة أمام شعب إسرائيل كلّه.

3- العرش في أورشليم

»تابوت« العهد، هو صندوق، واتّخذ معنى العرش وموطئ قدم الربّ. فوقه يحضر الله على شعبه. أصله قديم جدٌّا، وهو يعود إلى حقبة البداوة، ونجد آثارًا له في العالم العربيّ مع الهودج على ظهر الجمل. وكان لهذا »العرش« وظيفتان اثنتان: هو القائد والموجّه. وهو البلاديوم (تمثال بلاس في طروادة) أو الغرض المقدّس الذي يؤمّن النصر للمقاتلين والحماية للمدينة. نقرأ في سفر العدد (10):

33 فرحلوا من جبل الربّ، مسيرة ثلاثة أيّام، وتابوت الربّ راحلٌ أمامهم ليجتازوا محلّة،

34 وسحابة الربّ عليهم نهارًا في رحيلهم من المحلّة،

35 وكان موسى عند رحيل تابوت العهد يقول:

»قم يا ربّ، فيتبدّد أعداؤك ويهرب مبغضوك من أمامك«.

36 وعند نزول التابوت يقول:

»عُدْ يا ربّ إلى الآلاف المؤلَّفة من بني إسرائيل«.

ويروي سفر يشوع (ف 3-6) كيف أنّ »التابوت« عبر الأردنّ أمام العابرين، ورافقهم حتّى احتلال أريحا. وسفر صموئيل الأوّل (ف 4-6) أنّ الفلسطيّين أخذوا تابوت العهد، فكان وبالاً عليهم، فأجبروا على التخلّي عنه، فعاد إلى مكانه.

هذا »العرش« رافق بني إسرائيل في انتقالهم من مكان إلى آخر، فأكّد لهم على حضور إلههم الناجع والمهيب. فحيث يكون العرش، هناك يكون الربّ أيضًا. هنا نقرأ ما قاله الفلسطيّون في 1صم 4:

7 »جاء الله إلى المعسكر، الويل لنا. ما حدث شيء كهذا من قبل.

8 الويل لنا، من ينقذنا من يد هذا الإله القادر الذي أنزل بمصر جميع الضربات في البرّيّة.

إنّ 1صم 4-6 و2صم 6، تكوِّن خبر »التابوت« في زمن الفلسطيّين: انتهى رواحُه ومجيئُه بأن أقام في أورشليم بمبادرة من داود. وسوف يجد مقامه النهائيّ الثابت في الهيكل الذي بناه سليمان في أورشليم. والمزمور 132 الذي ألِّف ربّما من أجل الاحتفال »بالعرش الإلهيّ«، يذكّرنا بهذه الأحداث المختلفة.

1 أذكر يا ربّ داود،

أذكر كلَّ عنائه.

2 كيف حلف الربّ،

ونذر للقدير إله يعقوب.

3 لن أدخل خيمة بيتي.

وعلى سريري لن أصعد أبدًا

4 ولن أعطيَ لعينيّ رقادًا،

ولا نومًا لأجفاني.

5 إلى أن أجد مقامًا للربّ،

مسكنًا للقدير إله يعقوب.

6 سمعنا أنّه (= تابوت العهد) في أفراته،

وجدناه في حقل يعر

7 »لندخل إلى مساكنه (= الربّ)

لنسجد لموطئ قدميه.

8 قم يا ربّ إلى ديارك،

أنت وتابوت عزّتك

9 ليلبس كهنتُك الثياب الموشّاة،

وليرنّم أتقياؤك ترنيمًا

10 من أجل داود عبدك،

لا تردُدْ وجه مسيحك.

ماذا حدث لعرش الله، لتابوت العهد، بعد أن زال من الهيكل ساعة دُمِّرت أورشليم سنة 587 ق.م.؟ ربّما قبل هذا الوقت؟ لا نعرف.

حين جاء داود بالتابوت إلى صهيون، قام بعمل دينيّ وسياسيّ معًا. لا شكّ في أنّه دلّ على إقراره بجميل إلهه الذي كان أمينًا له فسانده خلال السنوات الصعبة. كما أنّه اتّخذ قرارًا جمع فيه جمعًا دقيقًا رمز إسرائيل القديم (بلاديوم) مع الملكيّة الداوديّة.

سبق لداود فتصرَّف بنظرة سياسيّة كبيرة حين جعل عاصمتَه مدينة لا ترتبط بقبائل الجنوب ولا بقبائل الشمال، بل ترتبط به ارتباطًا مباشرًا. أورشليم هي مدينته الخاصّة، وإليها نقل »العرش« رمزَ حضور الربّ في وسط شعبه. هكذا أرضى عشائر الشمال فأكمل سياسته التي أتاحت له أن يضع يده على الحياة الدينيّة في إسرائيل. بعد الآن، إن أراد الشعب المختار أن يقترب من الله، عليه أن يأتي إلى أورشليم.

هذا العمل الذي قام به في نهاية القرن الحادي عشر تقريبًا، يحمل إلى المدينة اليبّوسيّة القديمة (كان اسمُها في الأصل يبّوس) نتائج كثيرة. صارت أورشليم المدينة المقدّسة بامتياز وأنشدت المزامير صهيون، المصونة، على أنّها الموضع الذي اختاره الله. نقرأ مز 46:

2 الله حماية لنا وعزّة،

ونصير عظيم في الضيق.

3 فلا نخاف وإن تزحزحت الأرض

ومالت الجبالُ إلى قلب البحار.

5 جداول النهر تفرِّح مدينة الله،

مساكن العليّ المقدّسة

6 الله في داخلها فلن تتزعزع

ينصرها ما طلع الصبح.

وفي المزمور 48 نقرأ:

2 الربّ عظيم وله التهليل

في مدينة إلهنا، في جبله المقدّس

3 الجميل الارتفاع وبهجة كلّ الأرض

في أقصى الشمال جبل صهيون،

مدينة الملك العظيم

4 في قلاعها أظهر الله

أنّه الحصن الحصين.

والمزمور 87 يتحدّث عن أورشليم يتلّتها المقدّسة صهيون، المصونة، فيقول:

1 الربّ أسّس مدينته

على الجبل المقدّس

2 الربّ يحبّ أبواب صهيون

على جميع مساكن يعقوب

3 بالأمجاد، يا مدينة الله،

يحدَّث عنك ويُقال.

وحدّد سفر التثنية أنّ العبادة للربّ لا يمكن أن تتمّ بشكل شرعيّ إلاّ في وسطها. وحين يتشتّت اليهود في حوض البحر المتوسّط، سوف يرون فيها أمَّهم الروحيّة. والأنبياء أعلنوا مجدها المقبل فيأتي إليها الوثنيّون جماعات، لا ليحاربوها، بل ليعبدوا فيها الإله الواحد. نقرأ أوّلاً أش 2:

2 يكون في الأيّام الآتية

أنّ جبل بيت الربّ

يثبت على رأس الجبال

ويرتفع فوق التلال.

إليه تتوافد جميع الأمم

3 ويسير شعوب كثيرون:

»لنصعد إلى جبل الربّ«.

وينشد أش 60 مجد أورشليم المستعاد، ولكن لا مجد الأرض:

1 قومي استنيري فنورك جاء،

ومجد الربّ أشرق عليك

2 ها هو الظلام يغطّي الأرض

والسواد الكثيف يشمل الأمم.

أمّا عليك فيشرق الربّ

وفوقك يتراءى مجده

3 فتسير الأمم في نورك

والملوك في ضياء إشراقك.

وقدّم زك 14 لوحة تنقلب فيها الأمور بالنسبة إلى أورشليم:

16 ويكون كلّ الباقين من كلّ الأمم

الآتين على أورشليم،

يصعدون سنة بعد سنة،

فيسجدون للربّ ملك الأكوان

ويعيّدون عيد المظال.

وما فعله داود ستكون نتيجتُه البعيدة، أنّ يسوع صعد إلى أورشليم، وكان فيها موتُه على الصليب بحيث يُعلَن الإنجيل منها إلى العالم. تلك هي مدينة الله وكلّ العابدين للإله الواحد يرون أنّ مصير البشريّة مرتبط بها. فهي مدينة السلام وتدعو الجميع إلى سلام أنشده الملائكة في ميلاد يسوع.

4- في سفر الأخبار (ف 15-16)

إخترنا في البداية، مع الليتورجيّا، ثلاثة مقاطع قصيرة.

* الأوّل (15: 3-4) يُشدّد على أنّ نقل »العرش« (تابوت العهد) كان نتيجة قرار الملك. العمل عمله، فرتّب أدقّ التفاصيل. وهو يذكّرنا أيضًا أنّ قرار الملك يعني بشكل مباشر مجمل شعبه: فالعرش غرض مقدّس لبني إسرائيل، وهو يكفل حضور الرّب بجانبهم. ويُذكَر الكهنة، كما يُذكر اللاويّون الذين لعبوا دورًا رئيسيٌّا في مسيرة العرش وبعد إقامته في أورشليم.

* المقطع الثاني (15: 14-15) يحدّد بأنّ اللاويّين يحملون »التابوت« على أكتافهم، بحسب ما تقول الشريعة. وقامت وظيفتُهم الثانية بمرافقة داود ومعاونيه خلال المسيرة بالأناشيد والآلات الموسيقيّة. ويرى كتاب الأخبار أنّ مهمّة اللاويّين الأساسيّة تقوم في هذه الأعمال، التي يمارسونها بشكل نهائيّ في أورشليم. ومجيء العرش إلى مدينة داود يتمّ وسط شعب يعيش الفرح: فالصرخات الواسعة تشهد على بهجة جميع الذين شاركوا في مثل هذا التطواف.

* والمقطع الأخير (16: 1-2) يروي كيف أقام العرش في أورشليم في خيمة هيّأها داود. وقدّموا لله المحرقات وذبائح السلامة. وفعل داود كما يفعل الكهنة، فبارك الشعب (1مل 8: 54ي). وهكذا بيّن »المؤرّخ« أهميّة هذا اليوم. فنقل العرش كان عيدًا وجد صداه في احتفال اعتادت عليه المدينة سنة بعد سنة.

الخاتمة

إنّ الخبر الذي قرأنا في 1أخ 15-16 يتيح لنا أن نرى بعض العناصر الخاصّة في شعائر العبادة في أورشليم، في القرنين 4-3 ق.م. خدمة الله هذه سنجدها في المجمع ومن هناك ننتقل إلى الكنيسة ولا سيّما في الشرق: أناشيد وصلوات، أكثر منه ذبائح، حتّى سقوط أورشليم بيد تيطس الرومانيّ سنة 70 ب.م. جوهرُ هذا العيد رفعُ المدائح للربّ.

وقال 1أخ 16: 4 إنّ اللاويّين أقيموا »ليخدموا الربّ. ليذكروه. ليمدحوه«. ثلاثة أفعال تُبرز خدمة التمجيد التي يقوم بها اللاويّون، والتي لا تزال الكنيسة تقوم بها في الكنيسة، ولا سيّما في جماعات الصلاة. وهذه الأفعال الثلاثة تشير إلى ثلاث وجهات في عبادة الله. أوّلاً، »نذكر« الربّ، أي نذكر مآثره ومواعيده، كما نذكر متطلّباته ونتقبّلها على أنّها واقع من الحاضر لا من الماضي. ثانيًا، المديح لا ينفصل عن اعتراف الإيمان وفعل الشكر، وهكذا يشهد الشعب لإيمانه تجاه العالم ويعبّر عن عرفانه بجميل خالقه ومخلّصه. والفعل الثالث (يحمدون الربّ) يعيد إلى أذهاننا مزامير التهليل (مز 135، 136، 149، 150) التي يُنشد فيها الشعب اتّكاله على الربّ وأفراحه.

في هذه الآيات التي روت لنا انتقال العرش (= تابوت العهد) إلى أورشليم، نكتشف العبادة اللائقة بإله إبراهيم وموسى: عبادة هي عيد يشعّ فيه الفرح لأنّ الربّ مع أحبّائه. ونحن الذين نعرف يسوع إلهنا معنا، كيف يكون عيدنا، كيف يكون احتفالنا؟!

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM