أليشع والشونميّة.

 

أليشع والشونميّة

2مل 4: 8-17

كتاب الملوك بجزئيه (1مل + 2مل) لا يتحدّث فقط عن الملوك. بل يتوقّف عند الأنبياء، ولا سيّما إيليّا وأليشع. لا شكّ في أنّه بدأ فكلّمنا عن سليمان الذي رافقه ناتان النبيّ حين اعتلى العرش، ثمّ عن الملوك في مملكة الجنوب، مملكة يهوذا، بعاصمتها أورشليم، وفي مملكة الشمال، مملكة إسرائيل، التي عاصمتها الأخيرة السامرة. وجاء حكمُ الكاتب على هؤلاء الملوك، ولا سيّما ملوك إسرائيل، قاسيًا جدٌّا. كلّهم ساروا في خطى يربعام الذي خطئ ودفع شعبه إلى الخطيئة: صنع عجلين على حدودي مملكته الشماليّة والجنوبيّة، في دان وبيت إيل. ولم تكن خطيئة آخاب أقلّ من خطيئة يربعام. غاب الملك عن واجباته بالنسبة إلى العهد ووصايا الشريعة. فحلّ النبيّ مكانه. ولكن لا جيش للنبيّ لكي يُظهر سلطته، فكيف يسمعون له؟ المعجزات التي يجريها تدلّ على أنّ قوّة الله تعمل فيه. ذاك كان وضع أليشع مع الشونميّة. ونقرأ 2مل 4: 8-17:

8 وفي أحد الأيّام، عبر أليشع إلى شونم، وكان هناك امرأة غنيّة، فدعته ليأكل وألحّت. وكلّما مرّ بشونم كان يميل إلى بيتها ليأكل.

9 فقالت لزوجها:

»علمتُ أنّ هذا الذي يمرّ بنا هو رجل الله القدّوس.

10 فلنبنِ له علّيّة صغيرة، ونضع له فيها سريرًا ومائدة وكرسيٌّا وقنديلاً حتّى يرتاح فيها حين يجيئنا«.

11 فجاء أليشع في أحد الأيّام إلى هناك، ومال إلى العلّيّة ليرتاح فيها،

12 وقال لخادمه جيحزي:

»أدع لي هذه الشونميّة«. فدعاها، فحضرت أمامه.

13 فقال لخادمه:

»قل لها:

أنتِ تكلّفتِ من أجلنا هذه الكلفة كلَّها،

فماذا تريدين أن أعمل لك؟

هل من حاجة أكلِّم فيها الملك أو قائد الجيش؟

فأجابت:

»أنا بين أهلي فلا أحتاج شيئًا«.

14 وحين سأل خادمه ثانية ماذا يعمل لها، أجابه:

»لا ولد لها، وزوجها شيخ«.

15 فقال: »أدعها«. فوقفت بالباب.

16 فقال لها أليشع:

»في مثل هذا اليوم من السنة المقبلة، يكون بين ذراعيك ابن لك«.

فقالت: »لا يا سيّدي، يا رجل الله، لا تكذب عليّ«.

17 وبعد ذلك، حبلت المرأة، وولدت ابنًا في مثل ذلك الوقت من السنة المقبلة كما قال لها أليشع.

1- أعمال أليشع ومآثره

أ- مدخل

يتألّف خبر أعمال أليشع (2مل 2-9؛ 13: 14-20) من مقدّمة هي في الوقت عينه خاتمة خبر إيليّا (2: 1-18)، من سلسلتين من الأخبار المتعلّقة برسالة أليشع النبويّة، ومن خاتمة تورد مأثرته الأخيرة وموته (13: 14-20). تقدّم لنا السلسلة الأولى (2: 19-6: 7) نشاط النبيّ أليشع وسط أشخاص لا تُذكر أسماؤهم في الشعب. والسلسلة الثانية (6: 8ي) تَبرز مشاركتُه في الأحداث السياسيّة في عصره، أي في النصف الثاني من القرن التاسع ق.م.

ونبدأ فنوضح أنّ هذه النصوص التي انطبعت بالطابع الأدبيّ، تتفلّت من النقد التاريخيّ. لا شكّ في أنّ أليشع تدخّل في السياسة الوطنيّة والدوليّة. وقد نستطيع أن نعيد تكوين الإطار الذي تدخّل فيه، أقلّه في خطوطه الكبرى. ولكن مقابل هذا، نمتنع عن التحقّق من تاريخيّة جميع الأعمال التي نُسبت إليه.

ب- أليشع وسط الشعب

السلسلة الأولى من النصوص، تشكّل في الخبر الحاليّ، تأليفًا متماسكًا بعض الشيء: رفقته لإيليّا الذي رُفع إلى السماء (2: 1-25)، ثمّ معجزتان. في الأولى، حلّى المياه في أريحا، كما فعل موسى في مارة (2: 19-22). في الثانية، عاقب صبيانًا هزئوا من »قرعته« (آ23-24). في 4: 1-44، نكتشف ما فعل أليشع لتلك الأرملة التي كثرت الديون عليها، وكاد المرابي يأخذ لها ابنيها عبدين. أعطاها الزيت فباعته ووفت دينها (آ1-7). وبعد ذلك خبر المرأة الشونميّة التي نالت ولدًا. ولكنّه مات من ضربة شمس، فأقامه أليشع. وفي نهاية هذا الفصل، حوّل الطبيخ المميت إلى طعام لذيذ (آ38-41)، وكثّر أرغفة الشعير، فأكل الناس وفضل عنهم (آ42-44)، فبدت معجزته هذه مقدّمة لمعجزة يسوع في تكثير الأرغفة كما رواها يو 6: 1ي. وأخيرًا في 2مل 6: 1-7، نرى كيف عامت الفأس بحديدها من أجل شخص أضاعها في الماء. ويبدو ما رُوي هنا، رُويَ في أكثر من موضع قبل أن يجمعه كاتب أغفل اسمه، ولكنّه اهتمّ بأخبار الأنبياء.

نحن نرى أليشع، تلميذ إيليّا وخلفه (2: 1-14) يتلقّى الإكرام من بني الأنبياء في أريحا (2: 15-19) قبل أن يعمل من أجل الفقراء في شعبه. بنو الأنبياء هم جماعة منظّمة، وهناك رجال وعوا مسؤوليّاتهم، ونساء سعيدات أو تعيسات... في مثل هذا الوسط مارس أليشع رسالته.

ج- أليشع في تاريخ عصره

وتكوّنت السلسلة الثانية من النصوص من أخبار كانت منعزلة ومختلفة، فدخلت الآن في »أعمال« ملوك إسرائيل. فأليشع رافق جيوش إسرائيل ويهوذا وأدوم، في حملة على موآب، وأعلن لهم أمرين: سينزل المطر مدرارًا »تشربون أنتم وماشيتكم وبهائمكم« (3: 17). والثاني، ينتصرون على العدوّ. حوالي سنة 845 ق.م.: »سيسلّم الربّ الموآبيّين إلى أيديكم« (آ18). وحين جاءه قائد جيش آرام، أعطاه دواء لا عاديٌّا: يغتسل سبع مرّات في الأردنّ فيطهر (ف 5). ثمّ كشف النبيّ مشاريع الآراميّين الحربيّة، بحيث لا تكون حرب مع مملكة إسرائيل. قال: »إيّاك أن تعبر إلى هذا الموضع، لأنّ الآراميّين يكمنون فيه« (6: 9). وأنبأ النبيّ أيضًا أنّ جيوش آرام تتراجع وتتخلّى عن محاصرة السامرة. كما لعب دورًا في تمرّد على الملك في دمشق، حوالي سنة 842 (8: 7-15)، وفي تمرّد على ملك إسرائيل (حوالي سنة 841 ق.م.). وأخيرًا في فعلة نبويّة قريبة من السحر، وعد يوآش ملك إسرائيل، بانتصارات مقبلة على الآراميّين، حوالي سنة 800 ق.م. (13: 14-19). عمل النبيّ مرارًا بواسطة أشخاص يرسلهم، فلعب دورًا هامٌّا في أمور مملكة السامرة، كما في خارج المملكة، ولا سيّما في آرام بعاصمتها دمشق.

هما سلسلتان. ونحن لا نأخذ الواحدة ونترك الأخرى، فلا غنى عن شهادة كلّ منهما لإبراز وجه أليشع، الحاضر في كلّ مظاهر حياة شعبه، الغائب في الوقت عينه. سلسلتان مستقلّتان في الأصل. فجمعهما الكاتب الاشتراعيّ وجعلهما في سفر الملوك الثاني.

2- شخصيّة أليشع

أ- نبيّ جوّال

لا منزل ثابتًا لأليشع. يذكر 4: 8-11 أكثر من زيارة إلى شونم، تلك القرية الجليليّة التي تبعد قرابة 80 كلم إلى الشمال من أورشليم. »كلّما مرّ في شونم كان يمرّ في بيت الشونميّة لكي يأكل خبزًا« (آ8). يبدو أنّه امتلك بيتًا في السامرة، كما نقرأ في 6: 32: »وكان أليشع جالسًا في بيته والشيوخ معه«. فإلى بيته (5: 9) جاء نعمان السوريّ. ولكنّنا نجده أيضًا في الجلجال (41: 38)، في أريحا (2: 15-18) حيث حلّى المياه لأهلها، في منطقة الأردنّ (6: 1-7)، في بيت إيل (2: 23)، في الكرمل (2: 25؛ 4: 25)، في دوتان (6: 13)، في دمشق (8: 7)، وفي مدن لم يُذكر اسمُها. شابه صموئيل (1صم 7: 16، وكان يذهب كلّ سنة يطوف...) وإيليّا (1مل 17-19؛ 21) فجال في البلاد بلا انقطاع. وإذ تأكّدوا مرّة بأنّهم يجدونه في موضع محدّد (4: 25؛ 6: 13، 31)، إلاّ أنّه لا يقيم في مكان واحد بشكل نهائيّ: هو يبقى حاضرًا، فيتجاوب مع نداء الله، أو حدسه واستنتاجاته، بحيث لا موضع له على الأرض. مثله كان يسوع الذي لم يكن له موضع يُسند إليه رأسه (لو 9: 58).

ب- عائش وحده

أليشع يعيش في عزلة، وحده، ولو في وسط الناس. هو يجول البلاد ولا رفيق له. في 2: 19، 25، نراه في أريحا. ثمّ »وذهب أليشع من هناك إلى جبل الكرمل، ثمّ رجع إلى السامرة«. في 3: 13 هو تجاه ملك إسرائيل. وكذلك في 4: 1 حين جاءت إليه أرملة واحد من جماعة الأنبياء. ومرّات يرافقه خادم (4: 8-37) لم يدخل في خبرته الخاصّة (4: 25-31) ولا في طريقة حياته: هناك حاجز يفصل بين الاثنين ولا يمكن تجاوزه. لا شكّ في أنّنا نجد أليشع في رفقة الجماعات النبويّة التي كانت كثيرة في أيّامه (2: 15-18؛ 4: 38-41؛ 6: 1-7). ولكن يبقى معلّمهم فيطيعونه كلّهم بدون أي تردّد.

يأتي إليه المسؤولون في المدينة. »موقع المدينة (= أريحا) حسن كما ترى، يا سيّد لكنّ ماءها رديء ويسبّب القحط« (5: 19). بل يأتي إليه أهل العاصمة (= السامرة): »أرسل إليه الملك واحدًا من رجاله« (6: 32). ثمّ جاء الملك نفسه وقال للنبيّ: »كيف أنتظر عونًا من الربّ، وهو الذي أنزل بنا هذا الشرّ«؟ (آ33). وتحيط به جموع تحتاج إلى أن تأكل (4: 42-44). ومع ذلك، فالمسافة كبيرة بينه وبينهم، فتنحصر العلاقات بينه وبين الآخرين بأقلّ ما يمكن من الكلام. وخبر شفاء نعمان واضح كلَّ الوضوح في هذا المجال. منذ البداية حتّى النهاية، لم يخرج أليشع من بيته، وكأنّه لا يرغب الاتّصال بالبشر. هو في حوار مع ربّه كما الحبساء الذين يبتعدون عن العالم. إلاّ أنّ أليشع عرف أن يعيش في العالم وكأنّه في محبسة.

انتظر نعمان أن يخرج إليه (أليشع): »يقف أمامي وباسم الربّ إلهه يدعو، ويحرّك يده فوق موقع البرص« (5: 11). فالإنسان يحتاج أن يرى، ثمّ، هل عرف النبيّ من هو ذاك الآتي إليه؟ قائد جيش آرام! ما تحرّك أليشع، بل لم يكلّم أليشع. بل أرسل من يقول له: »إذهب إلى الأردنّ، وفي مائه اغتسلْ سبع مرّات. فيتعافى لحمك ومن برصك تطهر« (آ10). وقد يكون قيل له إنّ نعمان انصرف غاضبًا (آ11). ما تحرّك النبيّ، أو: اعتبر القائد أنّ مياه أبّانة وفرفر تساوي مياه الأردنّ (آ12). لا ردّة فعل عند أليشع. وبعد الشفاء، عرض نعمان الهدايا. الجواب بسيط: »لا أقبل شيئًا« (آ16). وسأل القائد السوريّ سؤالاً: ماذا يفعل وهو المجبَر أن يرافق سيّده في عباداته. اكتفى النبيّ: »إذهب بسلام« (آ19). هو بعيد عن الناس، بعيد عن العظماء، ولا يهمّه غنى العالم كلّه. هو وحده. في عالم غير عالم البشر. رفيقه الله وهذا يكفيه.

ج- نبيّ لا يساوم

انفصل أليشع عن البشر بحاجز غير منظور. فجيش الملائكة يحميه من معاديه. فتح الربّ عيني جيحزي الذي خاف من جيش ملك السامرة الآتي للقبض على أليشع. حينئذ رأى »فإذا الجبل مملوء خيلاً ومركبات نار حول أليشع« (6: 17). النار تدلّ على حضور الله وهو سيضرب بالعمى (آ18) الآتين على نبيّه الراكع في صلاته. وما حماه الربّ فقط في تلك اللحظة. فكأنّي بذاك الجيش السماويّ يرافقه في حلّه وترحاله. هنا نتذكّر يسوع خلال تجاربه. ما إن تركه إبليس حتّى »جاء بعض الملائكة يخدمونه« (مت 4: 11). هم حاضرون معه طوال حياته، وظهروا فقط في النهاية. فنحن لا نشعر بوجود الله في وقت المحنة، بل بعد أن تنتهي. وكان يمكن أن تكون الملائكة حول يسوع لو أراد أن ينجو من الموت. قال لبطرس: »أتظنّ أنّي لا أقدر أن أطلب إلى أبي، فيرسل لي في الحال اثني عشر جيشًا من الملائكة«؟ (مت 26: 53).

هذا المرتبط بالله، أراد من الآتين إليه أن يكون ارتباطهم مثل ارتباطه. طلب ثقة تامّة، طاعة لا تردّد فيها. خاف ملك إسرائيل، مزّق ثيابه حين جاءه نعمان من قِبَل ملك آرام. فأعطى أليشع أمره: »ليحضر الرجل إليّ« (5: 8). ولمّا وصل نعمان: »إذهب واغتسل« (آ10). تردّد القائد الآراميّ، ولكنّه في النهاية أطاع »فتعافى لحمه وصار كلحم طفل وطهر« (آ14). في حصار السامرة، شكّ مرافق الملك بكلام النبيّ: »سترى بعينيك، ولكنّك لا تأكل« (7: 2). وقبل موت النبيّ، أمر الملك أن يرمي السهام. فرمى ثمّ توقّف. غضب عليه رجل الله (13: 19).

رجل الله مخيف في لاشفقته المقدّسة. لا يريد لأحد أن يهزأ منه (2: 23-25) مثل هؤلاء الصبيان. قد تكون عن طريق المصادفة أن تكون دبَّة ثكلى أتت وافترست هؤلاء الصبيان. ولكنّ النصّ ربط ما حصل لهم وصلاة أليشع. كما هو لا يريد لأحد أن يخدعه، كما فعل جيحزي (5: 25-27) حين طلب هديّة من نعمان. وهنا أيضًا كانت ردّة الفعل قاسية: »يعلق برص نعمان بك وبنسلك إلى الأبد«. فخرج جيحزي من عنده أبرص كالثلج. ولكنّنا سنجد »خادم أليشع« في 6: 15.

وهكذا بدا هوشع وكأنّه فوق البشر. حضوره يسحق الآخرين. ومع ذلك، فهو يستعدّ دومًا لكي يعين الذين يأتون إليه وينادون هذه القوّة السرّيّة التي فيه. وهو لا يتردّد في تلبية حاجاتهم. فما يريده هو أن يحيا الناس حياة عاديّة. فتكون المياه التي يشربونها صالحة (2: 19-22)، وكذلك الطعام (4: 38-41). ويشبع الذين هم حوله (4: 42-44) ويُشفى القائد الآراميّ (5: 8). وتستطيع أرملة أن تحتفظ بولديها اللذين جاؤوا يأخذونهما منها (4: 1-6)، وتُحمى من كلّ خطر المرأة التي استضافته في بيتها وبنتْ له علّيّة خاصّة به (4: 12-13). رغب هذا النبيّ أن لا يضيّع واحدٌ من بني الأنبياء فأسَه فيردّها إلى صاحبها (6: 1-6). وبكى أمام الضحايا التي سبّبها انقلاب كان هو السبب فيه (8: 11-12).

أليشع هذا النبيّ العائش وحده، الواضع مسافة بينه وبين الناس، المخيف والمهيب، هو في الواقع صديق الناس فيقاسمهم همومهم ويفهم حزن أمّ جاءت إليه واستحت أن تقول كلَّ ما في قلبها. قال لخادمه: »دعها لأنّ نفسها حزينة« (4: 27). فأرسل خادمه، ثمّ مضى هو إلى ابنها الميت فأقامه: »خذي ابنك« (آ36).

د- نبيّ الله الحيّ

انفصل أليشع عن الناس فعاش في وحدة مع الله. فهو باسم »يهوه إله إيليّا« يبدأ رسالته (2: 14) ويقوم بكلّ أعماله. »هذا ما قال الربّ »طهّرت هذه المياه« (آ21). وباسم الربّ فعل ما فعل مع الصبيان (آ24). وفي 3: 16: »هذا ما قال الربّ« وأتى المطر. وأمام جوع الجماعة »قال أليشع: أعطوا القوم ليأكلوا، لأنّ الربّ قال: يأكلون ويفضل عنهم« (4: 43). وإلى أهل السامرة الجائعين: »اسمعوا كلام الربّ« (7: 1). وحين مُسح ياهو: »قال الربّ: مسحتك ملكًا على إسرائيل« (9: 3).

ويعلن النبيّ مرارًا أنّه »واقف أمام الربّ« وقفة الخادم الذي يستعدّ دومًا لتنفيذ ما يطلبه منه إلهه، على مثال ما قال المزمور: »كما أنّ عيون العبيد إلى أيدي مواليهم، هكذا عيوننا إليك يا ربّ«. وهو لا يخدمه بطريق عابرة، بل بشكل دائم. قال أمام ملك إسرائيل: »حيّ هو الربّ القدير الذي أعبد« (3: 14). وقال العبارة عينها حين قدّم له القائد الآراميّ الهدايا لقاء الشفاء (5: 16). وهو في حوار دائم مع الربّ، كما الصديق مع صديقه. نقرأ مثلاً في 4: 33: »فأغلق الباب وصلّى إلى الربّ«. أجل، دخل مخدعه وصلّى إلى أبيه سرٌّا. وصلّى أيضًا حين رأى أنّ خادمه لا يرى ما يراه هو. قال: »أفتح عينيه ليرى« (6: 17). كما صلّى حين وصول الأعداء إليه (آ20). وأعلن أيضًا أنّ الله يُريه ما لا يراه الآخرون، يريه البعيد في الزمان وفي المكان. »أراني الربّ أنّه سيموت« (8: 10). وفي آ13: »الربّ أراني إيّاك ملكًا على آرام«. إلاّ إذا خبّأها الله كما فعل حين جاءت المرأة الشونميّة إلى أليشع بعد أن مات ابنها. »الربّ كتم الأمر عنّي« (4: 27).

نال أليشع معرفة علويّة لا يمكن أن تفسَّر بمقاييس البشر. مضى جيحزي يطلب هدية من نعمان، فسأله النبيّ: »أين كنت«؟ وأضاف: »كنتُ في الروح هناك حين نزل الرجل من مركبته لاستقبالك« (5: 25-26). كما عرف أين يسكن الآراميّون (6: 9). وفي إيمانه رأى حوله »جيش الله« الآتي ليحميه »خيلاً ومركبات نار« (6: 15-17). والربّ يدلّه مرّات على وسائل بشريّة مميّزة بها يساعد الناس الذين حوله: الملح للماء (2: 30)، الطحين للطبيخ (4: 41). مياه الأردنّ للقائد الآراميّ (5: 10) القوس والسهام (13: 15-19). نشير هنا إلى أنّ هذه الموادّ استعملت في عالم السحر لدى شعوب العالم كلّه. ولكنّ الكاتب الملهم يشدّد هنا أنّ الله يستعملها لكي يجري المعجزات.

في قلب الاضطهاد، ساعة بدا وكأنّ كلّ شيء ضاع، شعر النبيّ بحماية الربّ. عرف أنّ الملك أرسل من يقتله: »أرأيتم كيف أرسل ذلك المجرمُ رجلاً ليقطع رأسي« (6: 32)؟ أمام هذا الواقع، بدّل الملك لهجته، ولكنّه بيّن أنّ محاولة قتل أليشع هي محاولة »قتل الربّ« الذي »أنزل بنا هذا الشرّ« (آ33)، هذه المجاعة. سبق الملك وقال: »كيف أنتظر عونًا من الربّ«. فبما أنّ العون لا يصل، فما الفائدة من اللجوء إلى الربّ، وبالتالي إلى نبيّه. ولكنّ الله يحمي مدينته من المجاعة كما يحمي بنيه: »غدًا في مثل هذه الساعة« (7: 1). ترون الدقيق والشعير في باب السامرة. والحماية الكبرى التي يؤمّنها الربّ لأليشع، لا تراها عين بشريّة. بل وحدها عين الإيمان. النبيّ يرى. وخادمه سوف يرى حين تنفتح لا عينا الجسد بل عينا الروح. من خاف الربّ هو صديق الربّ، كما قالت الأرملة عن زوجها (4: 1). وأعلن نعمان بعد شفائه: »الآن علمتُ أنّ لا إله في الأرض كلّها إلاّ في إسرائيل« (5: 15). لا لأنّ فيها ملكًا يُشبه سائر الملوك ويرى في نداء »المريض« تهديدًا بالحرب، بل لأنّ فيها نبيٌّا مثل أليشع، فيها »رجل الله«.

وهكذا بدا أليشع امتدادًا لحضور الله الحيّ، ممثّله على الأرض، الذراع المنظورة لله غير المنظور. لهذا لا نعجب إن هو تسامح مع القائد الآراميّ الذي يرافق سيّده الملك في شعائر العبادة (5: 18-19). ما تجرّأ وسمح له من سجود أمام أمون إله آرام، لا يجسر أحدٌ أن يقوله. فهو يقوله باسم الربّ، كما يفعل ما يفعل باسم الربّ. وهذا الالتصاق بالله، جعله يبتعد عن الناس. فهو قبل كلّ شيء »رجل الله« ومن هذا المنطلق يمكن أن يكون »رجل الناس«. هذا الرجل سوف يلتقي بالشونميّة، وإن لم يلتقِ بها حقٌّا. وها نحن نقرأ خبر هذا »اللقاء« متوقّفين عند كلّ آية من آيات النصّ الذي نقرأ (4: 8-17).

3- قراءة النصّ الكتابيّ

أ- وفي أحد الأيّام (آ8)

»شونم«. هي اليوم سولم. في سفح جبل حرمون، شماليّ يزرعيل. كانت في القرن الخامس عشر ق.م.، عاصمة مملكة كنعانيّة. دُمِّرت في القرن الرابع عشر ق.م. وأعيد بناؤها فحافظت على تقاليدها الحضاريّة القديمة. وسوف نرى هذه التقاليد في تصرّفات المرأة التي استقبلت أليشع.

»امرأة غنيّة«. حرفيٌّا: كبيرة. هذا يعني أنّ لها تأثيرًا في حياة الجماعة (1صم 5: 2؛ أي 1: 3). نستطيع أن ندعوها »المرأة القديرة« حسب أم 31: 10. نراها تهتمّ بأملاك زوجها، كما سوف تطالب الملك فيردّ لها »جميع ما يخصّها وكلّ غلال حقلها« (8: 6). هي غنيّة وحرّة في تصرّفاتها. كما تبدو متمتّعة ببعض الثقافة. بادرت ودعت أليشع إلى مائدتها (4: 8) وبنت له علّيّة بحيث ينعزل للصلاة على سطح بيتها (آ9-10). وحين مات ابنها بادرت أيضًا ومضت إلى النبيّ وهي عالمة ماذا سوف تعمل لتخبر النبيّ بما حصل (آ21-28). أمّا زوجها فيبدو في الظلّ. هي قرّرت أن تبني علّيّة. هي قرّرت أن تمضي إلى أليشع. وزوجها وافق هذه المرأة، هي ربّة البيت، على مثال نساء كثيراتٌ في مملكة إسرائيل، في زمن أليشع.

لماذا استقبلت هذه المرأة أليشع إلى مائدتها؟ هي لا تحتاج شيئًا، ولا تطلب من النبيّ نعمة مع أنّه عرض عليها أن يكلّم من أجلها »الملك وقائد جيشه« (آ13). هي تفعل ما يفعله الأغنياء من إطعام الفقراء، ولا سيّما رجل الله. على مثال الآتي من بعل شليشة ومعه »عشرون رغيفًا من بواكيره من الشعير وسنبل طريّ« (4: 42). إنّها صورة مسبقة عن نساء الإنجيل اللواتي يساعدن يسوع وتلاميذه في حاجاتهم، كما قال لو 8: 1-3. وصورة عن مرتا ومريم اللتين استقبلتا يسوع (لو 10: 38-42).

اعتاد النبيّ أن يمرّ هناك. صار بيتُ هذه المرأة محطّة يتوقّف فيها خلال تجواله. فبنت له علّيّة، ممّا يدلّ على أنّها كانت غنيّة، والحقل الذي مرض فيه طفلها يعمل فيه الحصّادون، ممّا يدلّ على وساعته.

ب- فقالت لزوجها (آ9-10)

»هذا رجل الله«. أعرف أنّ رجل الله هو قدّيس. يمرّ بنا في شكل منتظم، يزورنا. هو »قدّيس« بسبب علاقته بالله. هو خارج الحياة العاديّة فيصبح جزءًا من الله. فلا يمكن أن يسكن معها ومع زوجها في بيتهما. هناك مسافة بعيدة. ولهذا ما تجرّأت أن تستقبله في غرفة عاديّة، بل في غرفة جديدة لن تجسر على الدخول إليها. فحين دعاها النبيّ، يقول النصّ إنّها »وقفت بالباب« (آ15).

سألت المرأة زوجها. ولكنّ الكاتب لا يذكر الجواب ولا كيف تمّت الأعمال. بل مضى مباشرة إلى جوهر الخبر: رجل الله والمرأة وجهًا لوجه. كان بإمكانها أن تقول ما قالته أرملة صرفت صيدا: »ما لي ولك يا رجل الله، جئتني لتذكّرني بذنوبي وتميت ابني« (1مل 17-18). هذا ما لا نقرأه هنا، ولكن نفهمه من قولها: هو رجل قدّيس. هو رجل الله القدّوس.

ج- فجاء أليشع (آ11-14)

قبِلَ النبيّ ما عرضته عليه المرأة (آ11) وأتى إلى الغرفة التي أُعدّت له. وهكذا يبقى بعيدًا عن الحياة العاديّة. ودعا النبيّ المرأة. هو قدير لدى الملك وقائد جيشه. فيتدخّل لدى مواطن تظلمه الإدارة أو أحد الأقوياء. فالنبيّ مستعدّ أن يقدّم العون إن كانت هناك حاجة. ثمّ هو يدلّ على عرفان جميل تجاه التي »تكلّفت هذه الكلفة كلّها« (آ13). والمرأة كبيرة. وهي لا تطلب شيئًا تجاه ما فعلت. وهي غنيّة ومحترمة، بحيث تجد الحماية داخل عشيرتها: »أنا بين أهلي ولا أحتاج شيئًا«. وأخيرًا، نلاحظ أنّ لا علاقة مباشرة بين رجل الله والمرأة. فالحوار يتمّ بواسطة خادمه.

»ماذا يعمل لها«؟ فالنبيّ لا يعرف كلّ شيء. فيبدو أنّه لا يهتمّ بالأمور الشخصيّة المتعلّقة بالذين حوله. فهو يرى بقدر ما يعطيه الله أن يرى (آ27). ما أراد أن يهتمّ بالأمور الدنيويّة، ولكنّه رغب أن يجازي هذه المرأة لما تفعله من أجله.

أما جيحزي فهو قريب من الناس. لاحظ حالاً أنّ المرأة لا ولد لها. يا ليت لها ولد »يفرح به أبوه وأمّه وتبتهج تلك التي ولدته« (أم 23: 25). هذا يعني أنّ مضيفة النبيّ كانت تعيسة من هذه الناحية، مثل حنّة أمّ صموئيل التي كانت »حزينة النفس« (1صم 1: 15)، ومثل راحيل زوجة يعقوب التي تكاد تموت من الحزن (تك 30: 1). ما أرادت المرأة أن تزعج النبيّ بمسائلها الشخصيّة، فدلّت على نفس كبيرة. قالت إنّها لا تحتاج. لا شكّ لا تحتاج المال. ولكنّها تحتاج أكثر بكثير من المال.

د- فقال: ادعها (آ15-17)

وقفت المرأة بالباب. ما دخلت. خافت أن تقترب من رجل الله. من هذا القدّيس الذي قد يوبّخها على خطيئتها. قال لها: في مثل هذا اليوم. ظنّت المرأة أنّ في الأمر خدعة وتمنّيًا بعيد المنال. »لا تكذب عليّ« (آ16). ردّة الفعل عندها شبيهة بما كان عند سارة زوجة إبراهيم (تك 18: 11-15). شكٌّ وتردّد في الخارج. ولكن، فرح عميم في الداخل، لا سيّما وأنّ الرجل الذي يعدها قريب من الله القدّوس. وهكذا دلّت المرأة أنّ جيحزي اكتشف حزنها العميق، فانتظرت بفارغ الصبر أن يتمّ هذا الوعد. وفي الواقع تمّ: »وبعد ذلك حبلت المرأة« (آ17).

الخاتمة

ماذا نستخلص من هذا النصّ؟ بجانب النبيّ الذي يبدو هنا مهيبًا في اعتزاله عن البشر، ويكشف عن اهتمامه بالذين يكرمونه، يلفت انتباهنا أشخاص عاديّون ثلاثة: جيحزي، المرأة، زوجها. الزوج رافق امرأته في ما فعلت. وجيحزي دلّ على معرفته بهموم الناس وآلامهم. فهو يعيش »في هذا العالم« ويعرف ما يحسّ به أهل هذا العالم. أمّا أليشع فيبدو في عالم آخر.

تميّزت المرأة باستقلاليّتها المادّيّة، بروح المبادرة، بدقّة تحفّظها ورصانتها. هي تراعي ما هو مقدّس، ورجل الله القدّوس، الذي يشعّ بقداسة القريب من الله، رجل الله. وهي في سخائها، تعرف كيف تتصرّف: أكرمت النبيّ ولكنّها امّحت، فما استسلمت إلى دهشة فارغة أمام »رجل الله« ولا هي عرضت عليه همومها. شابهت مرتا التي أحسّت نفسها مسؤولة عن راحة يسوع في بيتها، وآمنت بقدرته على إحياء الموتى. ووقفة هذه الشونميّة أمام ممثّل »عالم آخر« المليئة بالاحترام، تشبه وقفة أمّ يسوع أمام الملاك الذي يبشّرها بالحبل الإلهيّ.

الشونميّة امرأة كبيرة، قديرة، غنيّة، مثقّفة، وقد تكون طالت بها السنون. ومع ذلك، اهتمّ الله بها. هو لا يُعنى فقط بالمساكين والجياع، بل يهتمّ بأغنياء على مستوى المال، وفقراء على مستوى آخر. فالجميع هم أبناؤه، شرط أن يفتحوا قلبهم له، وفي النهاية يتتلمذون له كما فعلت مريم حين جلست عند قدمي المعلّم فدلّت على أنّها اختارت النصيب الأفضل.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM