سفر دانيال

سفر دانيال
ان الحقبة القائمة التي تميزت بها مملكة يهوذا، كان بامكانها أن تجلب اليأس الى القلوب الأكثر اطمئنانا لو لم تكن كلمة رسل الله النبوية مفعمة بالتسبيح والتعزية. ان الله كشف عن قصده الالهي بأنه سيحقق بشعبه مواعيده التي ذكرها في اسفار موسى: سيحققها في اورشليم بواسطة ارميا، وعلى ضفاف نهر خابور على يد حزقيال، وفي بلاط بابل بلسان دانيال. ان ما وعد به للذين يستمرون على امانته سيحققه بكل تأكيد، لان كلمة الله هي حية وباقية الى الابد" (1 بط 1: 23).
انطلاقا من هذه المقولة نحصر كلامنا بموضوع بقراءة مسيحية لسفر دانيال"، بشقيه الاخبارى والنبوي او الرؤيوي، فنتكلم على:
1- الكاتب والكتاب.
2- المواضيع اللاهوتية
3- قراءة مسيحية:
أ) دانيال رجل الله
ب) دانيال رجل دولة.
1- الكاتب والكتاب:
ان اسم دانيال يعني ان الرب يدين. والكتاب الذي نُسب اليه، يعطينا معلومات وافرة عن حياته. ولد في فلسطين من أبوين شريفين وملوكيين كما يقول المؤرخ يوسيفوس. نُقل الى بابل في ربيع عمره، بواسطة الملك نبوكد نصّر في بداية الأسر اليهودي، وهناك تعلّم اللغة والعلوم الكلدانية، مع رفاقه الشبان الثلاثة وبعدها إنصرف إلى خدمة الملك. كان دانيال ذكياً، وبفضل ذكائه، لاقى حظوة في عيني الملك، وبالاخص عندما فَسّر له بعون الهي حلمين كبيرين. فرقاه الملك واصبح من كبار المملكة. وكان من خلال اعماله، يُظهر محبته للرب وتفوقّه على باقي الالهة الكذبة، فشُبه دوره في بلاط الملك الكلداني، بالدور الذي لعبه يوسف في بلاط الفرعون في مصر.
وبالرغم من كل الصعوبات التي رافقته والتحدّيات التي امتحنته، ظل دانيال مؤمناً بربه واميناً لشرائعه، وكان نموذجاً للمسيح الذي قَبل الالام بفرح، حبا بربه.
يقع كتاب دانيال في اربعة عشر فصلا، بعضها كتب في العبرانية، وبعضها الاخر في الارامية او في اليونانية.
يقسم عمله قسمين:
* الاول وهو تاريخي: (1: 1- 6: 28)، وفيه يعرض المؤلف الاحداث الرئيسية لحياة دانيال تحت حكم:
. نبوكد نصر (فصل 1- 4).
. بلطشّصر (الفصل 5).
. داريوس (الفصل 6).
يحتوي هذا القسم التاريخي على ست قصص، وتُعتبر الاولى منها مقدمة مقدمة لكل سفر.
*الثاني وهو نبوي (7: 1- 12: 13)، وفيه يُعلن الكاتب عبر اربع رؤى نبوية، عن مصير الامبراطوريات الوثنية الاربع، بالنسبة الى بعضها البعض، وبالنسبة الى علاقتها مع شعب الله.
أما الفصلان الأخيران 13 و14، فيُعتبران من الأسفار القانونية الثانية.
2- المواضيع اللاهوتية: نلخصها باربعة.
أ) ملكوت الله: الله هو سيد التاريخ وملك الكون، وفلكه ثابت وقوي في الحاضر والمستقبل، بوجه الممالك الوثنية. الله هو، في نظر دانيال، ملك السماء (4: 34) وإله الالهة (2: 47؛ 11: 36) ورب الملوك. له سلطان ان يعزل الملوك ويقيمهم (2: 12)، لأنه اصل ومرجع كل سلطة زمنية على الارض. إنه رئيس الجيش (8: 11)، والرب الوحيد المجيد في المسكونة (3: 45). هذا ما أنشده فتيان يهوذا على خطى عزريا. بعد هذه الصفات التي يعطيها للرب، يعلن دانيال بان ملكوت الله:
* حاضر: في الكون بطريقة دائمة ومستمرة، وبالاخص في قلب المؤمنين الذين يعيشون في اوساط وثنية. كما أنه حاضر في قلب الجماعات الوثنية، وقادر أن يعزل الملوك ويقيمهم ويهب الحكمة للحكماء، والمعرفة للفهماء (2: 12). فعلى نبوكد نصّر أن يُعيد المجد لله، وعلى بلطشّصر ألاَّ يتكبّر على رب السماء، لأن الكلمة الاولى والاخيرة ترجع لله وحده، و "سلطانه إلى جيل فجيل" (4: 33).
* آت: في نهاية الازمنة، ويكون مُلكه نهائياً، فيخدمه جميع السلاطين ويطيعونه (7: 27). لأن جيع المسالك زائلة، وملكوت الله ثابت الى الابد. إنه ملكوت ازلي، لا يزول ولا يتعداه الزمن (7: 14). يأتي فجأة ويزيل المسالك المزيفة.
ب) ابن الانسان: ظهرت فكرة ابن الانسان في الفصل السابع، حيث نشهد رؤية الحيوانات الاربع وابن الانسان. وفكرة ابن الانسان تعني، كما في حزقيال، انتماء إلى الجنس البشري، وتفوقاً على الممالك الأربع، لأن مصدر ابن الانسان، هو علوي، اي من الله، وله السيادة والمجد والعزة. وهذا يعني أن صورة ابن الانسان، هي بمثابة بشارة بمُلْك آت، وامبراطورية يُعترف بها في كل الشعوب والامم.
وردت عبارة "ابن الانسان" في الاناجيل الاربعة، وسفر الاعمال وسفر الرؤيا. وهذا يدل على انها عبارة قديمة، وقد استعملها المسيح لقبا لنفسه: "جاء ابن الانسان يأكل ويشرب فقالوا: هوذا رجل اكول سكير صديق للعشارين والخاطئين" (متى 11: 19). بالنسبة الى يسوع ان عبارة "ابن الانسان" تعني الانسان المنظور الذى عايش الناس واتخذ طريق الفقر والاتضاع، ورضي ان يُقال فيه كلام تجديف (متى 12: 32؛ لو 12: 10) لانه ما جاء ليُهلك العالم بل ليخلّصه. وتعني "ابن الانسان" ايضا الاله "الآتي على سحاب السماء والجالس عن يمين القدرة" (متى 26: 64). اما في انجيل يوحنا، فان وجه ابن الانسان، يأخذ طابعاً ممجَّداً. فالملائكة تدل على حضور الله فيه (يو 1: 51) لانه سيصعد الى حيث كان من قبل (يو 6: 62). لكن قبل صعوده، سيعطي حياته للعالم (يو 6: 5) وئقدم جسده ودمه، لكي تكون فينا الحياة (يو 6: 53).
أما في سفر الرؤيا، فان يوحنا، يلتقي مع دانيال (8: 18) فيصف ابن الانسان "وقد ارتدى ثوباً طويلاً وتنطقّ بزنار من ذهب. وكان شعر رأسه ابيض كالصوف. "فلما رأيته وقعت عند تدميه كالميت" (راجع رؤيا 1: 13- 18).
في هاتين الصورتين لابن الانسان، نرى المسيح في هيئة الملك الديان، المستعد دوما لمارسة القضاء في اليوم الاخير.
جـ) القيامة: يعتبر دانيال في ف 12 ان نهاية التاريخ تتم في توطيد ملكوت الله. وهذا الحكم يأتي من الله عندما يراه مناسباً وفي الفقرتين 2 و3، تظهر للمرة الاولى فكرة قيامة الاجساد حيث يقول "كثيرون من الراقدين في تراب الارض يستيقظون، بعضهم للحياة الابدية، وبعضهم للعار والرذل الابدي" (12: 2). ويُطلب من دانيال ان يطوي السفر لان رسالته يجب ان تبقى سّرية حتى النهاية.
اننا امام قيامة حقيقية للأخيار الأمناء على شريعة الرب، وللأشرار الخائنين لعهده. وتتضمن هذه القيامة دينونة أمام الديان العادل، وتدخل في اطار الشهادة والاستشهاد، فيقيم الرب شهداءه ويقدم لهم الحياة الأبدية، ثم يثأر لهم ويرذل مضطهديهم.
ولئن تطرَّق دانيال إلى فكرة القيامة، التي تبلورت بوضوح في سفر المكابيين الثاني (7: 22- 23) بإعادة الحياة الى الجسد بعد الموت، فإنه لم يتطرّق إلى خلود النفس.
د) الملائكة: عرف اليهود بعد الجلاء خلائق روحية تقف وسطاً بين الله والانسان، هي الملائكة، التي تخضع للاله الواحد السامي. وكانت هذه الصورة قد ظهرت في أسفار موسى والانبياء، وأعطت صورة للإله الجالس على عرشه تحيط به كائنات سماوية هم عبَّاده ورسله (1 مل 22: 19؛ اشعيا 6: 6). أما دانيال فقد قال بهذا المعنى إن الله "تخدمه الوف الوف وتقف بين يديه ربوات ربوات" (7: 10).
3- قراءة مسيحية لسفر دانيال:
ان قراءتنا المسيحية لهذا السفر ترتكز على موضوعين:
أ) دانيال رجل الله
ب) دانيال رجل دولة.
أ) دانيال وجل الله
من بين ابناء اسرائيل المنفيين في بابل، وُجد رجال تحدّوا الأَسْرَ ونتائجه، فتخطّوا المذلات وتعدّوا الصعوبات، باكين على ارضهم وباقين في ايمانهم يكرمون الههم بالأمانة ويكرهون البديل بالاهانة. انهم ابناء يهوذا، دانيال ورفاقه الثلاثة حننيا ميشائيل وعزاريا. فالرب الذي سمح بان تتبدل اجواؤهم، طَلب اليهم ان يظلوا على امانتهم مهما كبرت الصعوبات، وكثرت الاغراءات، لتزهر مقاومتهم ايمانا وثباتا وتظهر بالوقت عينه عناية الرب ورعايته، مدركين انه "بدونه لا يمكنهم ان يصنعوا شيئا" (يو 15: 15).
فهؤلاء الشبان الذين فُرضت عليهم الاقامة، وعُرضت عليهم المآدب السخيّة، رفضوا التنجس بفذاء الاوثان واكتفوا بكلام الرب، "لان طعامهم ان يعملوا ارادة من ارسلهم" (يو 4: 34). بهذه الوسيلة حفظوا نقاوة وجوههم واحتفظوا بوجه الرب الذي زادهم نضارة وحيوية، وفاقت حكمتهم عشرة اضعاف حكمة السحرة والمجوس الموجودين على أرض المملكة. وفيما كان الرب يفعل في دانيال ورفاقه "الارادة والعمل على حسب مرضاته" (فيليبي 3: 13)، كانوا هم بالمقابل يعملون على نيل خلاصهم. وهكذا يظهر المبدأ الإلهي للمشاركة بين الخالق والخليقة الذي يوصل الى النتيجة المبتغاة. فما يصنعه البشر مجرداً عن الروح الالهية- مهما بدا باهرا في عيون الناس- مصيره الفشل. "عبثا يتعب البناؤون ان لم يبن الرب البيت" (مز 127: 22). اذ لا يمكننا ان نبني، من دون الله، عالماً خلقَه هو.
فهؤلاء الشبان الاربعة ظلوا بقوة الروح القدس صامدين بايمانهم، ثابتين في امانتهم، واثقين من محبتهم، مجاهرين بالههم، محققين نصراً رائعاً في بيئة تطغو عليها روح الوثن والفساد. فعلى كل مسيحي- والشباب منهم بصورة خاصة- يريد المحافظة على هويته المسيحية، ان يكون "دانيالا" جديدا يشهد للحب ويستشهد به ويستشهد من اجله، وبالاخص في مجتمع تستهويه المادة وتستميله الايديولوجيات المعاصرة، وفي كنائس تتحكم بها الانقسامات، وفي قلوب شبيبة رافضة تعتبر اللذة قاعدة والمادة كاية بحد ذاتها، والعدم نهاية ومصيراً، ولا تقيم وزناً لقيم الروح والاخلاق: "الكلام الذي خاطبتكم به هو روح وحياة" (يو 6: 36).
وهكذا فان الرب يرغب في إن تُرسم الحقائق التي اعلن عنها دانيال ورفاقه الشبان على لوحة جميع قلوب المسيحيين في العالم، لأن حياتهم كانت برهاناً ساطعاً لكل من يضع ثقته بالرب ويستودع روحه بين يديه (لو 33: 46). فالامانة التي تحلى بها دانيال واظهرت قدرة الرب وسلطانه، جعلته يدخل في اعماق الملك عبر حلم "ازعجه" (2: 3)، واربك تفسيرات المنجمين الكاذبة. فدخل دانيال في صلاة مع ربه فاستجابه الرب "في رؤية ليل" (2: 19). كل ذلك ليُظهر الربُ عبرَ الناطقين باسمه أنه "واهب الحكمة والعلم وكاشف الاعماق والخفايا وعالم ما في الظلمة" (2: 21- 23)، وان القوة الزمنية الفاعلة على الارض خاضعة للعناية الالهية ومرتهنة لها، والملِك الذي يجهل سلطان الرب ويتجاهل قدرته ينبذه الرب ويقيم ملكا اخر افضل منه، الى ان يأتي وقت يتوطّد فيه الملك الجديد والملك العتيد، ليبني ملكوته المسيحاني على انقاض الامبراطورية الوثنية.
فالرب يعطي قوته لمن يتكل عليه، ويمنح حكمته لمن يستغيث به: "اسألوا تعطوا اطلبوا تجدوا اقرعوا يفتح لكم" (متى 7: 7). فالذين يكرمون الرب يكرمهم، والذين يقبلونه يقبلهم. وهكذا فليعلم حكام الارض من زمنيين وروحيين ان سلطتهم "اعطيت من فوق" ومسؤولياتهم مرتبطة بقدرة الله "الذي نطَّقهم وهم لا يعرفونه" (اشعيا 45: 5). فالكلمة الاخيرة هي لله، وما على الملوك الا ان يقولوا مع نبوكد نصر: "ما أعظم معجزات الله العلي، وما أقوى عجائبه، ملكوته ملكوت ابدي، وسلطانه الى جيل فجيل".
والتحذير الذي ناله نبوكدنصر هو امثولة لهم. "لذلك ايها الملك لتحسن مشورتي لديك وافتدِ خطاياك بالصدقة وآثامك بالرحمة للبائسين عسى ان تطول أيامك الهادئة" (4: 24). فمن ادرك هذه الامور وعمل بموجبها واعترف بسيادة الرب على مقدرات الارض وسكانها، يفهم فلسفة التاريخ أو بالأحرى لاهوت التاريخ على طريقة القديسة اغوسطينوس. كلمة الرب وحدها تظهر لنا بأن قوة الامم لا تكمن بالانجازات والانتصارات فحسب، بل بالامانة التي تربط الخليقة بالخالق "ومن كان امينا على القليل يكون امينا على الكثير ويدخل فرح سيده". (متى 25: 21). وبعدما اعترف الملك نبوكدنصر "بإله الآلهة" لم ينقطع قلبه عن التعلق بالأطماع البشرية والدنيوية، فتخلّى عن خوف الاله الحقيقي وأعاد اليه عبادة الاوثان "كحبة الحنطة التي وقعت بين الشوك فنبت الشوك وخنقها" (لو 8: 13)، كحال الكثيرين من مسيحيّي الامس واليوم الذين ما ان يتطلعوا الى مُثُل عليا، حتى نراهم يتدحرجون الى اسفل، نتيجة اهتماماتهم بامور الارض التي تتغلب فيهم على امور السماء. زالت فكرة السجود للاله كاشف الخفايا والاسرار وواهب النور، وحلت مكانها فكرة السجود للاله الدجال الذي لم "تجث له كل ركبة ولم يعترف به كل لسان" (روم 14: 11) في المملكة، بحضور دانيال ورفاقه الذين رفضوا الاعتراف بآلهة المملكة الوثنية، فاستحقوا العقاب في اتون النار. لكن الرب تدخل في حياتهم "فكانوا يتمشون في وسط اللهيب مسبحين الله ومباركين الرب" (3: 24)، "ولم تسقط شعرة واحدة من رؤوسهم" (لو 21: 18).
وبتخليصه عبيده المؤمنين، يُظهر الرب عطفَه نحو المقهورين ويكافئهم، ويجازي المتسلطين ويخزيهم. فالشبان الاربعة بالتزامهم وامانتهم اعلنوا لسكان المملكة حرية معتقدهم وهوية الههم الذي يحق له وحده السجود والتعظيم. "للرب الهك تسجد واياه وحده تعبده" (لو 4: 8). "واذا اجتزت في المياه فاني معك، او في الانهار فلا تغمرك، واذا سلكت في النار فلا تكتوي ولا يلفحك اللهيب" (اشعيا 43: 2).
واليوم، اين نحن من حقوق الانسان وحفظ كرامته وقدسية حريته؟ كم من بلد صغير احتُلت ارضه ووطن ضعيف انتُهكت كرامته، وشعب منقسم سُلبت حقوقه. كم من صحافي قُتل لاجل قلمه، ومقاوم لاجل تحرير ارضه، ومناضل لاجل قضيته، ورجل دين لاجل ايمانه، وسياسي من اجل انتمائه.
لكن كما في ايام دانيال وحننيا وميشائيل وعزاريا، فان الرب سيعمل بقوة في نهاية الازمنة، لصالح الذين يعملون لنشر الحق واحلال العدالة. وكل الذين يساندون قضية هؤلاء الشهود الاربعة، عليهم ان يحذوا حذوهم ويسيروا في طريقهم، لينشروا راية المسيح الدائمة والدامية، ويزرعوها في قلوب المشككين والظالمين، فلا يهتمون لوعد او يخافون من وعيد "فطوبى لكم اذا شتموكم واضطهدوكم وافتروا عليكم كل كذب من اجلي، افرحوا وابتهجوا: ان أجركم في السماوات عظيم، فهكذا اضطهدوا الانبياء من قبلكم" (متى 5: 12).
بعد التحذير الاول الذي كان بمثابة مهلة للتوبة والارتداد، لم يدم تأثير الملك طويلاً بل أراد أن يزيد على عظمة اسمه مجداً وعمراناً حتى عُرف "بملك الملوك". لكن الرب تدخّل مجدداً في حياته وولج إلى أعماقه من باب حلم ثان أشد قسوة ورهبة: انه حلم "الشجرة في وسط الارض" (4: 7). فبعد عجز العارفين الكذبة، التجأ الملك المتكبر نبوكدنصر الى الملك القادر (أي الله) عبر رسوله دانيال الذي نقل إليه تفسير التحذير الثاني، القاضي باقتلاعه عن عرش المملكة وحطه الى مستوى الحيوان، وكأنه حقق ما قاله المعلم: "ايها الجاهل في هذه الليلة تؤخذ منك نفسك، والذي اعددته لمن سيكون" (لو 12: 20)؟ فعاد الملك عن غيّه، وسلم ذاته الى ملك الملوك وسيد السادة، مدركاً ان عظمة الخليقة هي جزء من عظمة الخالق التي تكمن في الصلاح وخوف الله، فاتى اعلان نبوكدنصر كالآتي: "فالآن انا نبوكدنصر أسبِّح وأرفع وأعظِّم ملك السماء الذي جميع اعماله حق وسبله عدل ومن سلك بالكبرياء فهو قادر على خفضه" (4: 34).
وبعد التفسير الثاني يقرأ دانيال لبلطشصر كلمات سرية تعني ان الفُرسَ سيحتلون بابل. وكما أُلقي الفتيان الثلاثة في النار، وكذلك ألقي دانيال في جبّ الاسود ولكنه لم يُصَب بأذى، فالله القوي يتغلَّب على قوى الشر فلا يسمح لها ان تمسّ عبيده. "فاخرج دانيال من الجب ولم يوجد فيه اذى لانه آمن بالهه" (6: 23).
2- دانيال رجل دولة
ان انقاذ دانيال هذا يعلمنا بان على ابناء الله ان يستقروا في إيمانهم ويستمروا في أمانتهم في وقت الشقاء كما لو كانوا عائشين في ايام الرخاء. ان دانيال في جبّ الاسود هو نفسه الذي كان يضطّلع بمهام رئيس الوزراء وبمهام نبيّ العلي في آن. ان الانسان الذي يتكل على الله لا يتبدل في ساعات الشدة كا في أيام النجاح، حيث النور الالهي والعطايا البشرية تُفاض عليه. ان من شأن الايمان أن يرى غير المنظور ويتملك الحقائق الابدية.
ان السماء هي قريبة جداً من الذين يتأملون فيها ويتألمون في سبيلها. فالمسيح يوحد بين مصالحه ومصالح تلاميذه المؤمنين، انه يتألم بشخص قديسيه، ومن يمسهم فقد "مسّ حدقة عينه" (زكريا: 2: 8). ان القدرة الحاضرة لانقاذ الانسان من الخطر الطبيعي، او من الضيق الادبي، حاضرة ايضاً لانقاذه من شرور أكبر. إنها تسمح لخادم الله بأن يحتفظ بكماله في كل الظروف وينتصر بنعمة الله.
ان مسلك دانيال كرجل دولة في مملكتي بابل والفرس يوضح هذا الواقع، وهو أن أي رجل في موقف مشابه، ليس هو بالضرورة متآمرا او وصوليا، بل رجل يتقبل باستمرار ايحاءات الهية. ان دانيال الوزير الاول لاكبر مملكة في العالم هو في الوقت عينه نبي العلي وبالتالي ملهم منه. ورغم ذلك فهو ليس انسانا كاملا، انه رجل من طبيعتنا. ولكن الكاتب الملهم يصفه لنا بانه رجل "بغير لوم"، حتى ان الدّ اعدائه لم يتمكنوا من ان يقولوا عليه شيئا بالنسبة الى المهام الموكلة اليه. ان مثله يبرهن لرجال السياسة كيف يجب عليهم ان يتصرفوا عندما يكونون في موقع المسؤولية، وبالاخص اذا كانوا مسؤولين مسيحيين.
ان الانقياد لما يطلبه الله يفيض على صاحبه بالكثير من البركات المادية والروحية. ان دانيال كان في الوقت عينه اميناً لالهه ومحتفظا بشخصيته كاملة. وَجد "نعمة"، وهو فتى، أمام رئيس الخصيان الذي كان يعتني به، وقد حافظ على هذه الصفات باستمرار. وهكذا ترقى بسرعة الى منصب رئيس الوزراء لمملكة بابل. اثبت الكثير من الحكمة والجدارة في الحكم، فتصرف بفطنة ولباقة. وكانت امانته للمبادئ كبيرة الى حد أن أعداءه اضطروا الى الاعتراف بانهم لم يجدوا فيه ادنى عيب.
ان دانيال الذي كرمه اهل الارض كرجل دولة بيده اسرار ممالك تسيطر على العالم، كرّمه اله السماء ايضاً، فجعله سفيره واوحى اليه ناسرار المستقبل. هذه النبوءات العجيبة التي نراها في ف 7- 12 من سفره، لم يفهمها دانيال كفاية، ولكن قبل أن ينهي مهمته قَبِل الضمانة بأنه "في الزمن الأخير" يعني عندما يصل تاريخ العالم إلى نهايته، سيقف في سبيل ميراثه.
لم يُعطَ لدانيال ان يفهم كل ما أوحاه الله اليه "لأن الأقوال مغلقة ومختومة إلى وقت الانقضاء" (12: 9). ويقول الرب أيضاً "انت اذهب إلى الانقضاء وستستريح وتقوم في قرعتك إلى انقضاء الأيام" (12: 13). وهكذا قيل له. ولذلك بمقدار ما تقترب من نهاية الأشياء، تتطلب منا نبوءات دانيال انتباهاً خاصاً ويقظة مستمرة وتكلِّمنا عن العصر الذي نعيش فيه بالذات. هذه النبوءات يمكننا أن نقرِّبها من نبوءات يوحنا في سفر الرؤيا. ولكن قيل لدانيال: "وفي ذلك الزمان يقوم ميكائيلالرئيس العظيم القائم لبني ضعبك ويكون ضيق لم يكن منذ كانت أمة إلى ذلك الزمان. وفي ذلك الزمان ينجو شعبك ... وكثيرون من الراقدين في تراب الأرض يستيقظون بعضهم للحياة الأبدية وبعضهم للعار والرذل الأبدي" (12: 1- 3). ويوحنا أيضاً يقول: "طوبى لمن يقرأ وللذين يسمعون كلمات هذه النبوءة ويحفظون ما هو مكتوب فيها لان الزمان قريب" (رؤ 1: 3).
ان عظمة الامم وانحطاطها كما يصفها دانيال وصاحب الرؤيا تعلمنا كم هو باطل مجد هذا العالم. ان بابل في اوج عظمتها وسطوتها كان من شأنها ان تستمر الى الابد، ولكن اين هي الان؟ "ليفتخر الاخ المتواضع بعلوه، والغني بتواضعه فانه يزول كزهر العشب" (يعقوب 1: 9- 10). وكذلك جميع الممالك التي تبعتها، لقد زالت كلها وانقرضت. وهكذا يذهب كل ما ليس اساسه الله.
ان دراسة هادئة لتحقيق تصميم الله على تاريخ الامم والنبوءات حول الاحداث المقبلة، تساعدنا على أن نضع الاشياء المنظورة وغير المنظورة في قيمتها الواقعية، وأن نتعلم ما هي الغاية الحقيقية للحياة. وهكذا عندما نتأمل في الاحداث على ضوء الابدية، يصبح باستطاعتنا ان نعيش كدانيال ورفاقه في سبيل ما هو حق وشريف ودائم. وعندما نتعلم هنا على الارض بأن نسير بموجب مبادئ ملكوت الهنا ومخلصنا- الملكوت الذي يدوم الى الابد- حينئذ نكون مستعدين لأن ندخل معه في مجده يوم ظهوره "وتكونون حيث اكون انا" (يو 17: 24).
الاب يونان عبيد
مرسل لبناني

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM