صلاة سليمان من أجل الغرباء.

 

صلاة سليمان من أجل الغرباء

1مل 8: 41-43

الغريب هو البعيد عن وطنه، الذي ليس من القوم الذين يُقيم بينهم. وإذا كان العربيّ يعيش في الشرق، فالغريب هو في الغرب، حيث تغيب الشمس. غاب عن وطنه ومضى. وبدا كأنّ لا حقوق له في الوطن الذي يقيم فيه. لذلك صار الغريب »العدوّ«، ويجب أن لا نتركه ينمو لئلاّ يهدّد البلاد. هكذا تصرّف مثلاً فرعون. »نُحكم القبضة عليهم« (خر 2: 9). وفي الشرع الموسويّ، نأخذ ربى من الغريب، لا من أهل البيت العشيرة. واللحم المنجَّس الذي لا يأكله المؤمن، يقدر أن يعطيه للغريب. الذي يشبه »الكلب« العائش خارج البيت. وسيتّخذ نحميا وعزرا تشريعًا يطرد كلّ امرأة غريبة في الشعب مع أولادها، ليبقى النسل نقيٌّا. ومع ذلك، نقرأ هنا صلاة سليمان من أجل الغرباء عن الشعب. فماذا تقول هذه الصلاة؟

41 »وكذلك الغريب الذي لا ينتمي إلى إسرائيل شعبك، إذا جاء من أرض بعيدة من أجل اسمك،

42 لأنّ الناس يسمعون باسمك العظيم ويدك القديرة وذراعك الممدودة، وإذا جاء وصلّى في هذا البيت،

43 فاسمع من السماء، من مقامك، واعمل بجميع ما يلتمس منك هذا الغريب، ليعرف جميعُ أمم الأرض اسمك ويخافوك مثل إسرائيل شعبك، ويعلموا أنّ اسمك على هذا البيت الذي بنيتُه لك.

1- سياق النصّ

أ- العيد في أورشليم

يتضمّن الفصل الثامن من سفر الملوك الأوّل خمسة أقسام تتمحور كلّها حول عيد التدشين الذي يعيشه الشعب حول ملكه. في الأوّل (آ1-13) تمّ نقلُ تابوت العهد إو عرش الله.

1 ثمّ دعا الملك سليمان شيوخ إسرائيل وجميع رؤساء الأسباط وزعماء عشائر بني إسرائيل، إلى أورشليم، ليحملوا تابوت عهد الربّ من صهيون، مدينة داود.

كان في خيمة صنعها له داود، وتمنّى أن يبني بيتًا، هيكلاً، يكون فيه عرش الله. ولكنّ يدي داود تلطّختا بالدماء. فتسلّم سليمان بناء الهيكل الذي يتقدّس بحضور »التابوت« حيث جرّة المنّ (عناية الله) والوصايا أو الكلمات العشر (كلام الله) وعصا هرون (أو الكهنوت لخدمة الله). ويتابع النصّ في ف 8:

6 وأدخلَ الكهنةُ تابوت عهد الربّ إلى مكانه، في محراب الهيكل، في قدس الأقداس، تحت أجنحة الكروبيم.

10 ولما خرج الكهنة من المكان المقدّس، ملأ السحابُ بيت الربّ،

11 فلم يقدر الكهنة أن يؤدّوا الخدمة، لأنّ مجد الربّ ملأ بيت الربّ.

12 ثمّ قال سليمان:

»في السحاب يسكن الربّ،

وها أنا يا ربّ بنيتُ بيتًا،

بنيت مسكنًا لك إلى الأبد«.

الربّ هو بعيد. هو في السحاب علامة حضوره. ولكنّ هذا السحاب حلّ في الهيكل فدلّ على أنّ الله حاضر في هذا البيت، وإن كان الله لا يُحبَس في موضع معيَّن مثل الأصنام. ما يدلّ على حضوره هو »التابوت« أو العرش الذي يغطّيه الكروبيم بأجنحتهم.

في القسم الثاني (آ14-21)، وجّه الملك خطبة إلى الشعب، فربط شخصه بشخص داود أبيه الذي كان في نيّته أن يبني بيتًا للربّ (آ17). فقبل الربّ نيّة داود وقال له:

19 »لكن، لا أنت تبنيه،

بل ابنك الذي يخرج من صلبك«.

وتابع سليمان كلامه:

20 وتمّم الربّ كلامه، وقمتُ أنا مكان أبي... وبنيت البيت لاسم الربّ...

21 وأعددتُ مكانًا لتابوت العهد الذي قطعه مع آبائنا حين أخرجهم من مصر.

ربط سليمان هذا البناء بالخلاص الذي أتمّه الربّ لشعبه حين أخرجه من أرض مصر. وهكذا انتقل جبل سيناء إلى تلّة صهيون، أقدس مكان في أورشليم، والتابوت من خيمة الاجتماع إلى الهيكل الذي هو »البيت« مع ال التعريف، لأنّ لا بيت سواه لشعب الله. وبدت المؤسّسة الملكيّة التي انطلقت مع داود، في خطّ جماعة البرّيّة بقيامة موسى.

وجاء القسم الثالث طويلاً (آ22-61)، فتضمّن صلاة سليمان (آ22-53) ومباركة للشعب (آ 54-61). وفي النهاية، قُدّمت الذبائح الكثيرة من أجل تدشين الهيكل (آ62-66). فنقرأ في آ65:

وأقام سليمان في ذلك اليوم عيدًا، ومعه بنو إسرائيل كلّهم، أمام الربّ إلهنا، دام سبعة أيّام. وتوافد بنو إسرائيل جماعات كبيرة من لبو حماة شمالاً، حتّى وادي مصر في الجنوب.

حين دوّن ف 8 من سفر الملوك الأوّل، كان شعب يهوذا وإسرائيل، قد توزّعوا خارج أرض فلسطين. لهذا، وجب على جميع المؤمنين، أينما كانوا، أن يحجّوا إلى أورشليم ويأتوا للقاء الربّ الحاضر في هيكله وفي قلب أرضه على ما قال المزمور الثامن والأربعون:

2 ما أحبّ مساكنك، يا ربّ الأكوان!

تذوب نفسي شوقًا إلى ديار الربّ.

5 هنيئًا للمقيمين في بيتك،

فهم على الدوام يهلّلون لك.

وأنشد المرنّم من عمق المنفى، والحواجز كثيرة بينه وبين أورشليم، كما في مز 42:

2 كما يشتاق الأيّل إلى مجاري المياه،

كذلك تشتاق نفسي إليك يا الله.

3 إلى الإله الحيّ عطشتْ نفسي،

فمتى أجيء وأرى وجه الله.

أراه في الهيكل. هو يراني. ويسمح لي أن أراه وألتقي به. لهذا اعتاد الحجّاج أن ينشدوا مز 122:

1 فرحتُ بالقائلين لي:

إلى بيت الربّ نذهب.

2 تقف أقدامنا هناك،

في أبوابك يا أورشليم.

ب- صلاة سليمان

بعد دخول الهيكل وخطبة سليمان التي عرضت على الشعب الظروف التي دفعت الملك ليقوم بهذا العمل، بما فيه من تحفّظ لدى فئة كبيرة في الشعب الذين يفضّلون »الخيمة« المتنقّلة على »بيت من الأرز« ثابت (2صم 7: 6-7). بعد ذلك، كانت صلاة توزّعت في أكثر من جهة. بدأ سليمان وصلّى من أجل نفسه، فيتذكّر الربّ وعده لداود، بحيث لا يخلو العرش من نسل الملك العظيم (8: 22-29):

25 والآن أيّها الربّ إله إسرائيل، إحفظ لعبدك داود أبي عهدك له:

لا ينقطع (يا داود) من نسلك رجلٌ يجلس على عرش إسرائيل، إذا لزم بنوك الطريق القويم كما سلكتَ أنت أمامي.

26 والآن، يا إله إسرائيل، ليتحقّق القول الذي وعدتَ به عبدَك داود أبي.

ثمّ صلّى داود من أجل الشعب، شعب يهوذا وشعب إسرائيل، اللذين اجتمعا في شخصه، كما اجتمعا في شخص داود، قبل أن يتفرّقا في مملكتين. مملكة الشمال، مملكة إسرائيل عاصمتها الأخيرة السامرة. ومملكة الجنوب، مملكة يهوذا، بعاصمتها أورشليم. وموضوع الطلب: أن يستجيب الربّ الشعب في جميع الظروف، ولا سيّما في وقت الضياع الذي عرفه خلال المنفى البابليّ (آ30-40). صلّى سليمان، قال:

30 واستجب إلى تضرّع عبدك وبني إسرائيل شعبك، الذين يصلّون شاخصين إلى هذا الموضع، واسمع أنتَ من مقامك في السماء، وإذا سمعتَ فاغفرْ.

وتتوزّع صلاة سليمان بحسب الحاجات:

31 وإذا أتّهم أحدٌ بالإساءة إلى آخر، وجيء به إلى مذبحك...

33 وإذا انهزم بنو إسرائيل...

35 وإذا حبستَ من السماء عنهم المطر...

37 وإذا حدث في الأرض جوع أو وباء...

39 فاسمع من السماء، من مقامك واغفرْ.

وبعد صلاة من أجل الغرباء (آ41-43) يعود سليمان ويتوسّل من أجل شعبه: في الحرب والجلاء. إذا صرخوا من عمق المنفى نادمين على خطاياهم (آ44-53):

46 وإذا خطئوا إليك...

48 وأقبلوا إليك بكلّ قلوبهم ونفوسهم، وصلّوا إليك جهة أرضهم التي أعطيتَها لآبائهم، والمدينة التي اخترتَها. والبيت الذي بنيته لاسمك،

49 فاسمع من السماء، من مكان سكناك، صلاتهم وتضرُّعهم، واستجب لهم،

50 واغفر لهم جميع إساءاتهم إليك، وارحمهم أمام الذين سبوهم فيرحموهم

51 فهم شعبك وميراثك...

وقبل أن نعود إلى الصلاة من أجل الغرباء، نتطلّع إلى سليمان وهو يبارك شعبه (آ54-61). ركع ويداه مرفوعتان إلى السماء (آ54). ثمّ وقف وبارك الحاضرين بصوت عال، فقال:

56 تبارك الربّ الذي وهب الراحة لشعبه...

57 ليكن الربّ معنا كما كان مع آبائنا...

58 وليمِلْ بقلوبنا إليه لنسلك جميع طرقه ونعمل بوصاياه...

ج- وكذلك الغريب (8: 41-43)

في قلب هذه الصلاة الواسعة، التي ردّدها المؤمنون بلا شكّ، خلال السبي البابليّ، في أرض غريبة، جاءت صلاة سليمان من أجل الغرباء عن الشعب. فهم أيضًا يرفعون أيديهم على مثال الملاّحين الذين رافقوا يونان الهارب إلى ترشيش. وهم أيضًا يعرفون أن يتوبوا عن خطاياهم على مثال أهل نينوى. كما يقدرون أن ينتموا إلى شعب الله، ولو كانوا من الموآبيّين المنبوذين. يكفي أن يقولوا ما قالت راعوت لحماتها نعمة التي طلبت منها أن ترجع إلى شعبها (را 1: 15). فأجابت راعوت (آ16-17):

16 »لا تلحّي عليّ أن أتركك وأفارقك.

أينما ذهبتِ أذهب.

وأينما أقمتِ أقيم.

شعبك يكون شعبي

وإلهك يكون إلهي.

17 حيث تموتين أموت،

وهناك أُدفَن.

جاءت آ41-43 مدرجة بين كتلتين. الأولى، صلاة من أجل الشعب انتهت في آ40. والثانية، تنطلق في آ44 فتستعيد الصلاة من أجل الشعب وتختمها. طُبعت صلاة سليمان كلّها بالطابع الاشتراعيّ مع التشديد على أورشليم المدينة المقدّسة، وعلى سلالة داود التي بنَت الهيكل، وعلى الأرض التي تُعلن »إذا حفظ البنون وصايا الله«. أمّا آ41-43، فجاءت بعد المنفى، ساعة تشتّت الشعب وسط الشعوب، فما عاد »قريبًا« من أورشليم، بل »بعيدًا« مع »البعيدين« كما قال أشعيا (57: 19):

سلام سلام للبعيدين،

سلام سلام للقريبين.

للفئتين السلام الذي يتضمّن البركة وكلّ عطايا الله المادّيّة والروحيّة. هذا يعني أنّنا في خطّ الشموليّة التي لا تحصر الخلاص في شعب واحد. فبيت الله بيت صلاة لجميع الشعوب (أش 56: 7). وكان أشعيا قد قال في آ6-7:

6 والغرباء الذين ينتمون إليّ،

أنا الربّ،

ليخدموني ويُحبّوا اسمي.

ويكونوا لي عبادًا

ويحافظوا على السبت فلا يدنّسوه،

ويتمسّكوا بعهدي،

7 أجيء بهم إلى جبل قدسي

ليفرحوا في بيت صلاتي

وتكون محرقاتُهم وذبائحُهم

مقبولة على مذبحي.

كيف بدت آ41-43؟ هي مقطع يقدر أن يكون مستقلاً عمّا قبله وعمّا بعده. في آ41، نجد حرف الجر »ال«: وأيضًا إلى »الغريب« (ن ك ر ي). ذاك الذي لا يعرفه أحد. يتنكّرون له. يصبح نكرة فلا يُحسَب مع أهل البلد. إلى الغريب يتطلّع الربّ. يوجّه نظره فيختلف عن أبناء شعبه الذين يتجاهلون الذين ليسوا من »دينهم« ولا يؤمنون إيمانهم. أمّا الفعل، فيأتي في آ43: »أنت تسمعُ«. وبين »الغريب« والفعل، ترد عبارات تبدأ مع اسم الموصول: »الذي ليس من شعبك«، أو مع الشرطيّة: »إذا جاء«. »إذا جاء وصلّى«. وعبارة تفسيريّة: »لأنّ الناس يسمعون باسمك العظيم«. وفي آ43 نعرف غاية الصلاة، البعيدة عن حاجة الشعب وحاجة بني إسرائيل. هي ترفعنا إلى الله: لكي يعرفوك. لكي يخافوك. ليعلموا أنّ اسمك (أنّك أنت هنا، حاضر) على هذا البيت. كلّ هذا يجعلنا في الأسلوب الاشتراعيّ.

2- قراءة النصّ

أ- الغريب

نبدأ فنحدّد معنى لفظ »الغريب«. تستعمل التوراة في الوقت عينه لفظين يختلف مدلول الواحد عن الآخر. »ج ر«، »ن ك ر ي«. نقرأ تث 14: 21 حيث نجد اللفظين: »لا تأكلون كلّ حيوان فاطس. للغريب (ل. ج ر) الذي في أبوابك تعطيه فيأكله، أو بعهُ للأجنبيّ (ل. ن ك ر ي) لأنّ شعبٌ مقدّسٌ أنت للربّ إلهك«.

»ج ر«. ذاك الآتي من مكان آخر. المهاجر. قد يكون الرمز »جار« عليه، فطلب أن يُجار، طلب العون ممّن يُجيره، فيعطيه الأمان والعهد. حينئذٍ يسكن في جوار من أمّنه واستجار به ولجأ إليه. إذًا، »ج ر« هو الرجل الذي لا ينتمي إلى نسل إبراهيم، فجاء يقيم بين بني إسرائيل، فيطلب اللجوء إذا كان خطر الانتقام يهدّده. واللجوء يكون موقّتًا، كما وضعُ بني إسرائيل في مصر. قال الربّ: »لا تظلم الغريب ولا تضايقه، فأنتم كنتم غرباء في أرض مصر« (خر 22: 20). فالغريب لا معين له. فهو يشبه اليتيم والأرملة (آ21). وقد تكون الهجرة نهائيّة، كما نقرأ في 1أخ 22: 2: »وأمر داود أن يجمع الغرباء (يقيمون وسط الشعب وليسوا من الشعب) الذين في أرض إسرائيل، للعمل في بناء بيت الله«. ويقول أشعيا (14: 1) بالنسبة إلى العودة من السبي: »الربّ سيرحم بيت إسرائيل، ويعود فيختارهم شعبًا له. يريحهم في أرضهم، فيأتيهم الغريب وينضمّ إليهم«.

كانت شرائع ليتورجيّة أو اجتماعيّة بالنسبة إلى الغريب. نقرأ عد 15: 14-16:

14 وإذا تغرّب وتهجّر، ي ج ي ر. معكم غريب (ج ر) أو الذي (ا ش ر) في وسطكم لأجيالكم، وصنع نارًا، رائحة راحةٍ للربّ، كما تصنعون (أنتم) هكذا يصنع (هو).

15 في الجماعة، فريضة واحدة لكم وللغريب الذي تغرب، فريضة أبديّة لأجيالكم، كما لكم، كما للغريب (ك. ج ر) تكون لكم أمام الربّ.

16 شريعة واحدة، وحكم واحد يكون لكم وللغريب الذي تغرّب معكم.

وتجاه »ج ر«، هناك »ن ك ر ي«. ليس من الشعب العبرانيّ، ودمه يختلف عن دمهم. نقرأ تث 17: 15: »لا تقيموا رجلاً (ملكًا) يتنكّر لكم«. لا علاقة له معكم إطلاقًا. وقد تحدّث الكاتب الاشتراعيّ عن نساء سليمان: غريبات. بل »نكرات«. ويجب عدم الاختلاط بهنّ (1مل 11: 1-2). فالإسرائيليّ يستطيع أن يطلب من »ن ك ر ي« الربى على المال الذي يقرضه، لا من أخيه (تث 23: 20: لا تقرضوا إخوتكم بربى). ونقرأ في تث 14: 21 عن الحيوان الفاطس الذي يُعطى »للغريب«. إنّ »ن ك ر ي« هو من يأتي من أرض غريبة، في ظرفٍ من الظروف، يأتي من أرض بعيدة (تث 29: 21). أو إن هو بقي في أرض إسرائيل، لا ينوي أن يقيم بشكل نهائيّ. ذاك وضع الجنود المرتزقة مع الكرتيّين والفلتيّين الذين كوّنوا حرس داود الشخصيّ بقيادة إتاي الحثّي (2صم 15: 18-19). له قال الملك داود: »أنت »ن ك ر ي« وأيضًا »ج ل ه«: خرجتَ من بلدك. فالأفضل أن تعود.

ما الذي يجعل »ن ك ر ي« يتّصل ببني إسرائيل؟ حكمة سليمان المشهورة أتت بملكة شبأ (1مل 5: 14؛ 10: 1-3). وهناك العلاقات التجاريّة والدبلوماسيّة. مثلاً مع حيرام الذي قدّم لسليمان المواد لبناء القصر الملكيّ ثمّ الهيكل. بالإضافة إلى ذلك، لجأ سليمان إلى عمّال أجانب من أجل الصناعات المتطوّرة التي لا يعرف بها شعبه، كالبناء بالحجر المقصّب، وشغل المعادن: أحيرام الآتي من صور »وهو صانع نحاس« (1مل 7: 13). ونستطيع القول إنّ نساء سليمان الآتيات من مصر وموآب وعمّون وأدوم وصيدون وحثّ، هنّ سفيرات بلدانهنّ. في 2مل 20: 2، نعرف أنّ ملك بابل كان له »سفير«، رسل، بعثوا إليه برسائل ورأوا خزائنه النفيسة والأسلحة. والحروب جلبت الأسرى والسبايا (2مل 5: 2: سبيّة في بلاط دمشق). جاء »الغرباء« إلى فلسطين، كما أنّ أهل فلسطين صاروا »غرباء«. مثلاً طوبيت، الرجل البارّ والمستقيم، كان بين أهل الجلاء الذي قام به الملك الأشوريّ تغلث فلاسّر (734 ق.م.). وحزقيال، ودانيال وآخرون غيرهم.

ب- اسم الله العظيم

قد يكون حصل »للغريب« أن يسمع من يحدّثه عن الربّ، وقبل كلّ شيء عن »اسمه العظيم«. هذا الاسم يُعرَف، يشتهر. والاسم هو الجوهر. اسم الربّ هو الربّ ذاته. وقد يكون الغريب سمع »بيده القديرة وذراعة الممدودة«. تصل قدرته إلى البعيد. هذه العبارة جاءت من سفر التثنية فأشارت إلى تدخّل الله حين خلّص شعبه من عبوديّة المصريّين. والأمثلة عديدة.

4: 34: هل أقدم إلهٌ غيري على أن يتّخذ له أمَّة من بين أمّة أخرى، بمحن ومعجزات وعجائب وحروب، ويد قديرة وذراع مرفوعة، ومخاوف عظيمة، مثلما فعل لكم الربُّ إلهكم في مصر أمام عيونكم؟

5: 25: واذكر أنّك كنت عبدًا في أرض مصر، فأخرجك الربّ إلهك من هناك، بيد قديرة وذراع ممدودة. وهو لذلك أمرك بأن تحفظ السبت.

7: 19: واذكر المعجزات والعجائب واليد القديرة التي بها أخرجك الربّ إلهك.

11: 2: وعلموا يا بني إسرائيل أنّي أكلّمكم أنتم، لا بنيكم، الذين لم يعلموا ولم يروا تأديب الربّ إلهكم وعظمته القديرة وذراعه المرفوعة.

26: 8: أخرجنا (الرب) من مصر بيد قديرة وذراع ممدودة ورعب شديد ومعجزات وعجائب.

ذكرنا هذه النصوص التي بدت لازمةً تتكرّر على لسان الكاتب الاشتراعيّ. فالذراع واليد ترتبطان بالعجائب والمعجزات. وهذا ما يسبّب الرعب والخوف للذين يرونهم. أوّلاً، الشعب العبرانيّ نفسه، ثمّ سائر الشعوب. فلا بدّ أن يكون وصل صدى أعمال الله إلى خارج فلسطين. نذكر مع إيليّا ما صنع لأرملة صرفت صيدا (الصرفند اليوم). ومع أليشع شفاء نعمان السوريّ من برصه.

وحين أطلقت مريم نشيد البحر (خر 25)، قالت:

21 أنشدوا للربّ جلَّ جلاله،

الخيلُ وفرسانها رماهم في البحر.

وتابعت، مصوّرةً الرعب الذي حلّ بالأمم المجاورة:

14 الشعوب سمعت واضطربت

وانقطع حيل سكّان فلسطين

15 زعماء أدوم انبهروا،

جبابرة موآب أخذتهم الرعدة،

وماجَ سكّانُ كنعان.

16 الرعب والويل نزلا بهم،

وبعظمة ذراعِك صمتوا كالحجارة.

عرف بهذا الحدث الفلسطيّون المقيمون على الساحل في غزّة، وجثّ وعسقلان وأشدود وعقرون كما في 1صم 4: 8. قالوا: »الويل لنا: من ينقذنا من هذا الإله القادر، الذي أنزل بمصر جميع الضربات«. وقبلهم الكنعانيّون في أريحا قالوا: »نحن سمعنا كيف جفّف الربّ مياه البحر أمامكم عند خروجكم من مصر، وكيف أهلكتم سيحون وعوجًا ملكَي الأموريّين في عبر الأردن«. هؤلاء كلّهم حاولوا أن يعارضوا الربّ. أمّا راحاب الزانية، فدخلت في شعب الربّ وكان لها الخلاص.

وكان سليمان متأكّدًا، في المستقبل، أنّ الغرباء سيسمعون من يكلّمهم عن الربّ. حتّى بنو كوش (النوبة، السودان والحبشة) أنفسهم. قال أش 18:

3 يا جميع سكّان العالم وقاطني الأرض.

إذا رُفعت الراية على الجبال فانظروا،

وإذا نُفخ في البوق فاسمعوا

7 في ذلك الزمان،

تقدَّم عطايا للربّ القدير،

ويحملها الشعبُ الطوال الجرد،

الأمّة القويّة الجبّارة الخطى

التي تقطع الأنهارُ أرضها

(تقدِّم) إلى اسم الربّ القدير

في جبل صهيون.

ونقرأ في الخطّ عينه مز 68 الذي يتحدّث عن مسيرة الله الظافرة:

29 أظهرْ يا الله عزّتك،

وأيِّد يا الله ما عملتَ لنا.

30 من هيكلك في أورشليم،

حيث الملوك يقدّمون لك الهدايا.

31 انتهر البقرة الوحشيّة (وحش القصب وأرض مصر)

والثيران والعجول بين الشعوب (رمز القوّة الغاشمة)

شتِّتْ شعوبًا يُسرّون بالحروب،

فيتذلّلون لك ويقدّمون الجزية.

32 يأتيك يا الله أشرافُ مصر،

وتُسرع كوش بهداياها إليك

33 أنشدوا لله يا ممالك الأرض،

رتّلوا للربّ كلّ الترتيل.

ويرى النبيّ أشعيا (2: 2-3) في البعيد الشعوب الغريبة الآتية إلى أورشليم:

يكون في الأيّام الآتية

أنّ جبل بيت الربّ

يثبتُ في رأس الجبال

ويرتفع فوق التلال

إليه تتوافد جميع الأمم.

3 ويسير شعوب كثيرون

يقولون: »لنصعد إلى جبل الربّ«.

وقال مي 4: 1-2 الكلام عينه. فبعد منفى بابل، تعلّق »بنو الغرباء« بالربّ لكي يخدموه ويحبّوا اسمه. فوعدهم الربّ بأن يأخذهم إلى بيته، بيت الصلاة. وهناك حالة نموذجيّة لا تُذكر في الكتاب المقدّس، بل في »العاديات البيبليّة« (11/8: 5) التي دوّنها يوسيفُس: جاء الإسكندر الكبير وقدّم الإكرام للربّ في هيكل أورشليم. وفي الحقبة اليونانيّة الرومانيّة كثر الغرباء (بروسيلتيوس) الذين اهتدوا إلى الربّ، فصاروا من خائفيه أو دخلوا في شعبه.

يأتي الغريب (ن ك ر ي) إلى أورشليم ليصلّي في الهيكل. أمّا بنو إسرائيل فلا يحقّ لهم أن يدخلوا معبدًا آخر غير الذي في أورشليم. احتاج الوثنيّون إلى عبادة أكثر من إله لكي يأمنوا شرّهم. أمّا اليهوديّ، فيعرف الوصيّة: الربّ وحده تعبد، له وحده تسجد.

ج- اسمك على الهيكل

العبارة الأخيرة تدلّ على عيد التدشين: الهيكل الذي بنيتَه هو المكان الذي فيه يُدعى اسمك. هو مكان مكرّس لك، يخصّك. فمن وضع اسمه على موضع، دلّ على أنّه يملك هذا الموضع. حين كان يوآب قائد الجيش يحاصر ربّة بني عمّون، وكادت المدينة أن تسقط، أرسل يقول إلى داود: »فاجمع الآن بقيّة الجيش، واهجم على المدينة وخذها أنت حتّى لا آخذها أنا، فتُدعى باسمي« (2صم 12: 28).

نحسّ كأنّنا أمام طقس دينيّ، يلفظ الإنسان خلاله وبصوت عالٍ اسمه على مدينة أو شخص أو شيء، فيضع يده عليه. هذا ما نقول عن »عرش الله، تابوت العهد«. سار رجال إسرائيل »ليأخذوا من هناك تابوت العهد الذي يحمل اسم الربّ القدير الجالس على الكروبيم« (2صم 6: 2). وقال الربّ عن أورشليم: »ها أنا بدأتُ أنزل الشرّ بهذه المدينة التي دُعيَتْ باسمي« (إر 25: 29). هي لي. هي تخصّني. وكذلك »البيت« دُعيَ باسم الربّ (إر 7: 10). هو للربّ الذي يطرح السؤال على شعبه: »فهذا البيت الذي دُعيَ باسمي، هل صار مغارة للصوص«؟ فسلطة الربّ خاصّة، فريدة، لا يعطيها لأحد. هو وحده السيّد. وحضوره حقيقيّ وإن كان سرّيٌّا. مرّات تماهى »عرش الربّ« مع الربّ كما نقرأ في عد 10: 35-36:

35 وكان موسى عند رحيل تابوت العهد يقول:

»قمْ يا ربّ فيتبدّد معادوك ويهرب مبغضوك من أمامك«.

36 وعند نزول التابوت، يقول موسى:

»عدْ يا ربّ إلى الآلاف المؤلّفة من بني إسرائيل«.

يوجّه موسى كلامه إلى »التابوت«، فيبدو كأنّه يحدّث الله نفسه. ونقول الشيء عينه عن الهيكل، الذي ارتبط باسم الربّ، وإن بناه بشرٌ هو سليمان الملك، هذا المكان يخصّ الربّ الذي يُقيم فيه. وإن وجب على جميع الشعوب أن يعترفوا بذلك، فلأنّ اسمه عليهم، كما قال عا 9: 12: »أرض أدوم وجميع الأمم الذين دُعيَ اسمي عليهم«. وعاد يعقوب أخو الربّ إلى كلام عاموس، في »مجمع أورشليم« ليتحدّث عن دخول الوثنيّين إلى الجماعة المسيحيّة الفتيّة. فقال: »هذا ما يقول الربّ« (أع 15: 19).

د- الوثنيّون موضوع الصلاة

حين رفع سليمان صلاته إلى الربّ من أجل »الغريب« قال: »إسمع من السماء حيث تقيم (آ43). لقد اعتقد بنو إسرائيل دومًا أنّ الصلاة تصعد إلى عرش الربّ. قال 2صم 22: 7:

دعوتُ الربّ في ضيقي،

وإليه صرختُ

من هيكله (في السماء) سمع صوتي

وبلغ صراخي أذنيه.

وصلّى أشوربانيبال إلى إله أشور، فجاءه الجواب:

سمعتُ صوتك سماعًا

من عُلى الباب العظيم في السماء

وفي الحال تجلّيتُ لك.

وما الذي، في نظر سليمان، يدعو الربّ كي يستجيب صلاة الغريب؟ »كي يعرف كلّ شعوب الأرض اسمك، ويخافوك كما يخافك شعبك إسرائيل« (آ43). هذا ما يجعلنا أيضًا في خطّ تثنية الاشتراع (28: 10): »يرى جميع شعوب الأرض أنّكم تسمّيتم باسم الربّ فيخافونكم«. هو سبب روحيّ، رفيع، اهتداء الشعوب إلى الربّ بحيث يدينون بديانته. فمن عرف »اسم« الربّ اعترف أنّه هو، أنّه الإله الوحيد، أنّه وحده يمنح الخلاص. »والمخافة« في الكتاب تقابل التديّن والتقوى، كما نقرأ في سفر التثنية:

4: 10: يوم وقفتُم أمام الربّ في حوريب، حين قال لي الربّ:

»إجمع لي الشعب حتّى أسمعَهم كلامي ليتعلّموا مخافتي طول الأيّام التي يحيونها على وجه الأرض، ويعلّمونها بنيهم«.

5: 39: »يا ليت لهم دائمًا قلبًا كهذا، فيخافوني ويعملوا بوصاياي طول الأيّام، لينالوا خيرًا هم وبنوهم إلى الأبد«.

6: 24: أمرَنا الربُّ بأن نعمل بجميع هذه السنن، ونخافه وهو إلهنا، لنلقى خيرًا كلّ الأيّام، ونحيا كما في يومنا هذا.

ترتبط المخافة بحفظ الوصايا والفرائض. هي بعيدة عن الرعدة التي تبني حاجزًا بيننا وبين الله، بحيث نرهب تدخّلاته الغاضبة وعقابه. وإذا نحن أردنا الحياة، نفهم أنّ المخافة تقود إليها. والتعبير عن المخافة لا يكون بالعاطفة فقط، ولا بالقول والكلام، بل بالعمل بحسب مشيئة الربّ.

غير أنّ هذه الشموليّة لا تُخرج الشعب من ذاته وتطلقه إلى الآخرين، بل تجعل الشعوب تتوجّه إلى مركز واحد هو أورشليم والهيكل. فلا بدَّ من أن ننفتح على آفاق واسعة حيث المدينة ومعبدها لن يكونا العاصمة التي يُفرَض على البشر أن يأتوا إليها إذا أردوا اللقاء بالربّ، كما قال ملا 1: 11:

من مشرق الشمس إلى مغربها،

اسمي عظيمٌ في الأمم.

وفي كلّ مكان،

يُحرَق لاسمي البخور،

وتقرَّب تقدمة طاهرة،

لأنّ اسمي عظيم في الأمم.

أنا ربّ الأكوان.

وقال أشعيا (45: 20-24) حول اهتداء الأمم:

20 إجتمعوا وتعالوا،

تقدّموا جميعًا،

أيّها الناجون من الأمم.

ما أجهلهم! يحملون تمثالاً من خشب،

ويصلّون إلى إله لا يخلّص.

21 أخبروهم وأعلنوا لهم

فيتشاوروا فيما بينهم:

من أسمع من قديم بما جرى؟

من أنبأ به من ذلك الزمان؟

أما هو أنا الربّ؟

لا إله آخر غيري،

لا إله عادل ومخلّص سواي.

22 تعالوا إليّ تخلُصوا،

يا جميع شعوب الأرض.

23 بذاتي أقسمتُ صادقًا،

من فمي يخرج الصدق،

وكلمةٌ منه لا ترجع:

تنحني لي كلُّ ركبة،

وبي يحلف كلّ لسان:

24 »بالربّ وحده العدل والقوّة،

وإليه يجيء خاضعين،

جميع الذين يتشدّدون به«.

ولكنّنا صرنا هنا على مستوى عالٍ جدٌّا، حيث لا إشارة إلى سيطرة إسرائيل على »الغرباء«، كما في أش 60: 5-7:

5 ثروة البحار تُنقَل إليك

وغنى الشعوب إليك يعود

6 وقوافل الجمال تملأ أرضك،

ومن مديان وعيفة بواكيرها،

والذين من سبأ يجيئون كلّهم

حاملين الذهب والبخور

ومبشِّرين بأمجاد الربّ.

7 وغنمُ قيدار كلّها تُجمَع إليك

وكباش نابوت توضَع في خدمتك

فتصعدينها مقبولة على مذبح الربّ،

وبها يزداد بهاء هيكله.

كلّهم يتوجّهون إلى أورشليم، ويقدّمون الهدايا، بل الجزية والضريبة. أمّا صلاة سليمان من أجل الغرباء فتدلّ على مثال قرأناه في أش 56: 1-8:

3 لا يقل الغريب الذي ينتمي إلى الربّ:

يفصلني الربّ عن شعبه...

5 أُعطيهم في بيتي

وفي داخل أسوار مدينتي

جاهًا واسمًا أبديٌّا

لا ينقطع ذكره.

والمثال اللافت هو مز 87 حيث البشريّة كلّها وُلدت في أورشليم. فلا فضل لشعب على شعب:

4 أَذكر مصر وبابل

بين الذين يعترفون بي

وأعدّ بين الذين وُلدوا في أورشليم

شعوب فلسطية وصور وكوش.

5 وعن صهيون سيقال:

كلّ الأمم وُلدوا فيها

6 الربّ يدوّن في كتاب الشعوب:

أولئك ولدوا هناك.

7 يرقصون وينشدون قائلين:

في صهيون (التلّة المقدّسة) ينبوع بركاتنا.

الخاتمة

الغرباء كانوا كثيرين في الشرق القديم. بل هم أكثر اليوم. فالمهجّرون كثيرون بسبب أعمال العنف والحرب. والمهاجرون كثيرون طلبًا للعمل ولقمة العيش. وقد نهاجر نحن ونعيش في »منفى«، فنصبح بدورنا غرباء على مثال ما كان المؤمنون بالله في مصر أوّلاً، ثمّ في بابل. نعرف أوّلاً أنّ المؤمن لا مدينة له ثابتة، وكلّ أرض غريبة هي مدينته. يكفي أن نعرف أنّ يسوع »تغرّب« عن سمائه ليعيش على أرضنا. يبقى الإيمان هو الأساس، وإن لبث المؤمن يتطلّع إلى يوم يعود فيه إلى أرضه وبين الذين يحبّهم. ونعرف ثانيًا أنّ يسوع جعل نفسه ذاك الغريب الذي نقدّم له المأوى والطعام والشراب (مت 25: 35)، بحيث ما نفعل للغريب نعمله له. وأفهمنا الرسول أنّ لا غريب ولا قريب. لا بعيد ولا قريب. لا حاجز يفصل بينهما. فالمسيح الذي هو سلامنا هدم الحاجز، هدم العداوة وكوّن من جميع الشعوب شعبًا واحدًا (أف 2: 13-15)، البعيدون وصلت إليهم البشرى. والقريبون أيضًا بحيث نصل جميعًا إلى الآب في الروح الواحد (آ18).

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM