الربّ يتجلّى لسليمان على جبل جبعون.

 

الربّ يتجلّى لسليمان على جبل جبعون

1مل 3: 4-14

تحدّث المؤرّخون عن سليمان وكان حكمهم قاسيًا عليه. لا شكّ في أنّه ساس البلاد وأدارها، وأكثر من الأبنية، وأهمّها القصر الملكيّ وبيت الله. وحافظ قدر المستطاع خلال حياته على المملكة كما ورثها من أبيه، وإن ضاعت حالاً بعد موته. ولكنّه وصل إلى المُلك فوق الجثث وأوّلها أدونيّا أخوه. كما دمَّر شعبه من أجل مجد خارجيّ. فهذا الملك الصغير أراد أن يضاهي الفرعون بالعظمة وبكثرة الموظّفين، لذلك أرهق الشعب بالضرائب. وأعادهم إلى ما كانوا في مصر من العبوديّة، كما استعبد شعوبًا مجاورة لأجل مشاريعه العمرانيّة والحربيّة والتوسّعيّة، فشل بعضها مثل الملاحة في خليج العقبة ومرفأ عصيون جابر، حيث غرقت السفن التي أعدّها.

ولكنّ الأجيال اللاحقة نسيت كلَّ هذا وتطلّعت إلى حكمته التي كانت محطّ إعجاب معاصريه. واحتفظت بأمثلة مختلفة تدلّ على بعد نظر هذا الملك، على معرفته الموسوعيّة، على قدرته في تقديم الأجوبة. ونسبت إليه الأمثال والأناشيد ومنها الجامعة ونشيد الأناشيد. وهذه الحكمة جاءته من الله. وذلك في ظهور خاصّ على جبل جبعون، دشَّن ملكَه وأعطاه الزخم الذي يحتاج إليه. ونقرأ 1مل 3: 4-14:

4 وذهب سليمان إلى جبعون ليقدّم الذبائح هناك، لأنّ فيها أعظم المذابح، وعلى ذلك المذبح أصعد ألف محرقة.

5 وفي جبعون تجلّى الربّ لسليمان في الحلم ليلاً، وقال له:

»إسأل ما تريد«.

6 فقال سليمان:

»أنت صنعتَ إلى عبدك داود أبي لطفًا عظيمًا، لأنّه سلك أمامك بأمانة وصدق واستقامة قلب معك، وثابرتَ على اللطف العظيم هذا فرزقته ابنًا يجلس على عرشه، كما هو اليوم.

7 والآن، أيّها الربّ إلهي، أنت ملّكتني مكان داود أبي وأنا صغير (ن ع ر. صبيّ)

لا خبرة لي في الحكم.

8 وها أنا وسط شعبك الذي اخترتَه، وهو شعبٌ كثير لا يُحصى ولا يُعدّ لكثرته،

9 فامنحني أنا عبدك، قلبًا سامعًا لأحكم شعبك وأتبيّن الخير من الشرّ، لأن من يقدر أن يحكم شعبك العظيم هذا«.

10 فحسن في عينيّ السيّد طلب سليمان، لأنّه سأل (فقط) هذا الأمر.

11 فقال الله له:

»لأنّك سألتَ الأمر هذا، وما سألت لك أيّامًا كثيرة، ولا سألت لك غنى، ولا سألت نفس معاديك، فسألت لك أن تتبيّن الحقّ وتسمع،

12 ها أنا صنعتُ كطلبك، ها أنا أعطي لك قلبًا حكيمًا راجحًا، فلا يكون مثلك أحد قبلك، وبعد لا يقوم مثلك.

13 وأيضًا، ما لم تسأل أعطي لك: أيضًا الغنى، أيضًا المجد، حيث لا يكون مثلك إنسان في الملوك، كلَّ أيّامك.

14 وإذا سرتَ في طرقي، وحفظتَ حقوقي ووصاياي، كما سار داود أبوك، فأنا أطيل أيّامك«.

بدأ الكلام في آ3 على سليمان »الذي أحبّ الربّ وتبع فرائض داود أبيه«. ولكنّه قدّم ذبائحه على »المرتفعات« (رؤوس التلال) التي كانت مركز عبادة للبعل. ما هذه البداية؟ لذلك، لا بدّ من تبرير موقف سليمان الذي فعل كما فعل الشعب: »لأنّه لم يكن هيكل لاسم الربّ إلى تلك الأيّام« (آ2). وهذا يعني أيضًا الضرورة الملحّة لبناء الهيكل، لئلاّ يواصل المؤمنون الصلاة على المرتفعات.

قدّم »ألف محرقة«. هي طريقة في الخبر تبيّن أنّ الذبائح المقدّمة كانت كثيرة جدٌّا، فما أحصاها أحد. وما عمله سليمان من فعل تقوى، كان يُعمَل في المعابد، وما زال، حيث المؤمن يقضي ليله في المعبد، وينتظر نورًا من الإله أو من صاحب المعبد الذي لجأ إليه. أمّا »الحلم«، فطريقة بلاغيّة بها يصل »إلهام« إلى الإنسان من قبل الله. في ذلك الوقت، يصل الكلام العلويّ إلى قلب الإنسان.

1- سياق الخبر وحدود النصّ

المقطع الذي نقرأ (3: 4-14) جزء في ف 3-11 نقرأ ما يتعلّق بسليمان بعد وصوله إلى المُلك (ف 1-2) وإزاحة من يمكن أن يزاحمه، فنتعرّف إلى شخصه وإلى أعماله. هو العظيم والقدير، وصاحب الأبنية الضخمة. هو الغنيّ الذي جابت شهرته الآفاق فوصلت إلى جنوب الجزيرة العربيّة. كلّ هذا كان الوجه الخارجيّ. أمّا الوجه الداخليّ فيذكر في ف 11: ضعفه، الصعوبات التي واجهته، كثرة النساء مع آلهتهنّ. وفي النهاية، موته وما ترك وراءه من مشاكل ما استطاع خلفه الملك رحبعام أن يحلّها، فانقسمت المملكة، أو عادت إلى ما كانت عليه من انقسام في أيّام شاول.

كاتب اشتراعيّ عاد إلى وثائق متنوّعة فكمّلها وأعاد تدوينها، ليقدّم رسمة سريعة عن خلف داود. فداود كان بحسب الخبر الكتابيّ، ملكًا تقيٌّا وأمينًا. وتبعه سليمان، ولكنّه ما عتّم أن حاد عن طريق أبيه، فكانت خياناته السبب لتحميل شعبه سلسلة من الكوارث: انقسام بين إسرائيل ويهوذا، بين الشمال والجنوب، سنة 926. نهاية مملكة السامرة (إسرائيل) سنة 722. سقوط أورشليم (عاصمة يهوذا) سنة 587. ففي هذا التاريخ، كان حكمُ سليمان ذروةً، كما كان بداية انحطاط جعل شعب موسى قريبًا من الانقراض، لولا رحمة من عند الله.

كان سليمان ذروة في تاريخ الشعب العبرانيّ. فأعجب به معاصروه. ويروي 1مل 10 مجيء ملكة سبأ، في الجنوب العربيّ:

1 وسمعت ملكة سبأ بسليمان المقرّب من الربّ، فجاءت إليه تمتحنه بأسئلة صعبة.

2 فدخلت أورشليم في موكب عظيم، ومعها جمال محمّلة أطيابًا وذهبًا كثيرًا وحجارة كريمة، والتقت سليمان وسألته ما كان في خاطرها.

3 فأجاب على جميع أسئلتها. ولم يترك أصعبها بدون جواب.

4 ورأت ملكة سبأ حكمة سليمان، القصر الذي بناه،

5 وطعام موائده، ومجلس حاشيته، ونظام خدّامه وهندامهم، وسقاته، ومحرقاته التي كان يقدّمها في هيكل الربّ، فأصابها الذهول.

نشير هنا إلى أن عرابية عرفت دورًا كبيرًا للمرأة. لنا أوّلاً صورة هاجر التي ربطها الكتاب بإبراهيم، والتي تمثّلت في مدينة هاجر. ثمّ زبيبة، ملكة قيدار وعرابية (حوالي 738)، وشمشي ملكة عرابية (733) وغيرهنّ كما نقرأ في النصوص الأشوريّة. وتحدّث التقليد عن بُعد نظر سليمان، وسرعته في الحكم، كما نقرأ في 1مل 3: 16-28:

16 جاءت إليه زانيتان ووقفتا أمامه:

17 فقالت إحداهما:

»آه، يا سيّدي! أقيمُ مع هذه المرأة في بيت واحد، فولدتُ أنا في البيت.

18 وبعد يومين، ولدت هذه المرأة أيضًا. وكنّا معًا ولا أحد في البيت غيرنا.

19 فمات ابن هذه المرأة، لأنّها نامت عليه.

20 فلما قامت نصف الليل، أخذتْ ابني من جانبي، وأنا نائمة، واستبدلته بابنها الميت.

21 وقمتُ في الصباح لأرضع ابني فوجدته ميتًا. وعندما تفرّستُ فيه، رأيتُ أنّه لم يكن ابني«.

22 فقالت الثانية:

»لا، بل الحيّ ابني، والميت ابنك«.

23 فأجابتها:

»لا، بل الميت ابنك، وابني الحيّ«.

هكذا تجادلتا أمام الملك.

24 ثمّ قال الملك:

»هاتوا سيفًا«.

فأعطوه.

25 فقال:

»اشطروا الصبيّ الحيّ شطرين، وأعطوا كلَّ واحدة شطرًا،

26 فقالت والدة الحيّ متلهّفة على ابنها:

»آه، يا سيّدي! أعطوها الصبيّ الحيّ ولا تقتلوه«.

فقالت الثانية:

»بل لا يكون لي ولا لك. اشطروه«.

27 فقال الملك:

»أعطوا الصبيّ الحيّ لتلك المرأة، لأنّها أمّه، ولا تقتلوه«.

28 فسمع جميع بني إسرائيل بالحكم الذي حكم به الملك، فهابوه لأنّهم عرفوا أنّ الله منحه الحكمة ليحكم بالعدل.

هكذا يكون الملك المثاليّ، كما قال مز 72: »علّم أحكامك للملك، وعدلك لابن الملك«. ونطرح السؤال: هل حافظ سليمان على روح العدالة هذه؟ فالظلم الذي مارسه فيما بعد، ولاسيّما تجاه الفقراء والمساكين، يكفي لكي نشكّ في أن يكون سليمان لبث سالكًا في طريق الربّ، حافظًا فرائضه ورسومه (آ14).

وظهرت حكمته في الأجوبة التي قدّمها على أسئلة ملكة سبأ. وبشكل خاصّ في معرفته الشاملة، كما في 1مل 5: 9-14:

9 وأعطى الله سليمان حكمة وفهمًا خارقين...

10 ففاقت حكمته حكماء المشرق وحكماء مصر.

12 وقال ثلاثة آلاف مثل...

13 وتكلّم في الشجر، من الأرز الذي في لبنان، إلى الزوفى التي تنبتُ في الحائط، وتكلّم في البهائم والطير والزحّافات والسمك.

14 وكانوا يقصدونه من جميع الشعوب لسماع حكمته.

كان عصر سليمان عصر ازدهار كبير، على جميع المستويات، فنظّم الأطر الإداريّة وأرسل الموظّفين فتكوّنوا في مصر. فجاء روح جديد، على مستوى الدين والعقل، فحرّك الطبقات الحاكمة، وأدب جديد كانت ثماره مؤلّفات تاريخيّة ارتبطت ببلوغ داود إلى العرش، ثمّ سليمان. وتكوّنت لوحة يهويّة واسعة حول التاريخ المقدّس، بدأ مع ما حصل في جنّة عدن، وتواصل مع الدخول إلى أرض كنعان وكلّ هذه الحكمة (والمعرفة) ارتبطت بسليمان.

ب- حدود النصّ وبنيته

تكوّن 1مل 3 في الأصل، من خبرين مستقلّين: آ1-15. ثمّ آ16-28. أمّا حدث حكم سليمان (آ16ي) الذي سبق وأوردناه، فهو موضوع شعبيّ نجده في أكثر من حضارة، وهو يدلّ بطريقة ملموسة على الحكمة التي نالها سليمان من الربّ، ومارسها الملك بأفضل ما يكون.

أمّا المقطع الثاني الذي ندرس (آ1-15)، فيتضمّن توطئة، حاشية تاريخيّة لا ترتبط بالسياق ارتباطًا مباشرًا: »وصاهر سليمان فرعون ملك مصر وتزوّج ابنته، وجاء بها إلى مدينة داود إلى أن أكمل بناء قصره وهيكل الربّ وسور أورشليم المحيط بها«.

وجاءت آ2-3 بشكل معترضة، في خطّ الروح الاشتراعيّة، فبيّنت لماذا لم يقدّم سليمان ذبائحه في أورشليم. أمّا الخبر فيبدأ حقٌّا في آ4، مع إشارة إلى المكان الذي فيه حصل مشهد حلم سليمان، في جبعون، أي الجيب الذي يبعد 9كلم إلى الشمال الغربيّ من أورشليم، والذي ذُكر في أسفار يشوع وصموئيل. ورأى بعض الشرّاح أنّ الملك مضى إلى جبعون (أي: المكان المرتفع) وهو يأمل أن ينال وحيًا من الله.

ويتواصل الخبر في آ5، فيشير إلى تجلّي الربّ الذي سأل سليمان ماذا يريد. هذا السؤال حرّك جوابًا طويلاً لدى سليمان (آ6-9)، فبيّن في أسلوب اشتراعيّ لطفَ الله تجاه داود، والوضع الصعب الذي وجّه فيه نفسه الملكُ الذي خلفَه. فتمنّى أن ينال من الربّ إمكانيّة تمييز ما هو خير وما هو شرّ. وهو تمييز لا يقرّه الإنسان، بل الله وحده. سُرَّ الله بموقف الملك، فوعده بأن يستجيب صلاته، كما وعده بأن يُغدق عليه كلَّ خير (آ10-14).

وينتهي الحدث حين يفيق الملك من نومه ويعود إلى أورشليم، حيث قدّم الذبائح إكرامًا للربّ، ودعا رعاياه إلى وليمة كبيرة. وإذ واصل الكاتب كلامه مع حكم سليمان، دلّ على أنّ جواب الله على طلب الملك، كان ناجعًا. ففي قضيّة غامضة، برهن الملك على مستوى خارق في التعرّف إلى القضيّة والحكم فيها بطريقة جعلت البلاد تمتلئ من هيبة الملك.

2- شرح النصّ

أ- تجلّى الربّ في الحلم (آ5)

إنّ حلم سليمان عنصر معروف في التقليد البيبليّ، كما في تقليد الشرق القديم. فالإله اعتاد أن ينقل إلى البشر، وخصوصًا الملك، مخطّطه عبر الأحلام. فالحلم لا يُعتبَر تصوّرات وتوهّمات لا قيمة لها. فهو حقيقيّ حقيقة الرؤية. فيتيح لله أن يكشف حضوره وخطّته. وما يدلّ على ذلك، ما حصل ليعقوب في بيت إيل (تك 28: 11-17):

11 فوصل يعقوب عند غياب الشمس إلى موضعٍ رأى أن يبيت فيه. فأخذ حجرًا من حجارة الموضع، ووضعه تحت رأسه ونام هناك.

12 فحلم أنّه رأى سلّمًا منصوبة على الأرض، رأسها إلى السماء، وملائكة الله تصعد وتنزل عليها.

13 وكان الله واقفًا على السلّم، يقول:

»أنا الربّ إله إبراهيم أبيك وإله اسحق! الأرض التي أنت نائمٌ عليها أهبُها لك ولنسك...

15 وها أنا معك، أحفظك أينما اتّجهت...«

16 فأفاق يعقوب من نومه، وقال:

»الربُّ في هذا الموضع ولا علم لي«.

17 فخاف وقال:

»ما أرهب هذا الموضع! ما هذا إلاّ بيت الله وباب السماء«.

ونستطيع أن نقرأ أحلام يوسف في تك 37: »رأيتُ كأنّنا نحزم حزمًا في الحقل، فوقفت حزمتي بغتة وانتصبت. ثمّ أحاطت بها حزَمُكم وسجدت لها« (آ7) ثمّ قال يوسف: »رأيت حلمًا آخر، كأنّ الشمس ساجدة لي، والقمر وأحد عشر كوكبًا« (آ9). هكذا قدّم الكاتب الملهم الهدف الذي سيصل إليه يوسف في النهاية: يكون السيّد على إخوته. هذا ما ولّد الحسد. »أمّا أبوه فحفظ هذا الكلام في قلبه« (آ11). رأى فيه إرادة الله التي لا بدّ أن تتحقّق في ساعتها.

وعُرف الحلم في أوغاريت، في بلاد الرافدين، في مصر. وهو يعني الملك بشكل خاصّ. فهناك مدوّنة أبي الهول في الجيزة (قرب القاهرة) التي قدّمت نصٌّا موازيًا لما نقرأ في 1مل 3: فالملك الذي سيكون تحوتمس الرابع (القرن 15 ق.م.) نام في ظلّ أبي الهول، فجاء الإله وأنبأه أنّه يرث العرش. استيقظ الأمير الشابّ، ورجع مسرعًا إلى القصر، حيث قدّم الذبائح. إنها طريقة تبرّر وصول الإنسان إلى السلطة، فتبيّن أنّ الربّ بارك أعماله، ولو كانت قتل مزاحميه. فحين يربط الملك مصيره بتجلّي الله، يهابه الشعب لأنّه يشعر أنّه إن عارض الملك عارض الله.

وتضمّنت آ5 (إسأل) موضوعًا نجده في المزامير الملكيّة. هو موضوع صلاة الملك، والاستجابة التي ينالها. قال مز 2: 8:

إسأل فأعطيك ميراث الأمم،

وأقاصي الأرض ملكًا لك.

وصلّى الشعب من أجل مليكه، في مز 21، فقالوا:

2 يا ربّ، تعزِّز الملك فيفرح،

تخلّصه فيتبتهج ابتهاجًا.

3 أعطيتَه منية قلبه،

وما رفضتَ طلبة شفتيه

4 بادرتَه بفيض من البركات.

وبتاجٍ من ذهب على رأسه.

5 سألك الحياة فأعطيته

عمرًا يدوم طول الأيّام.

وتنطلق صلاة من أجل الملك في مز 20:

2 يُعينك الربّ يوم الضيق،

يرفعك اسمُ إله يعقوب

3 يرسل لك من مقدسه نصرًا،

ويشدّد ساعدك من صهيون

5 يعطيك الربّ رغبات قلبك

ويتمّم كلَّ مقاصدك.

6 لنرنّم فرحًا بخلاصك،

ونرفع الراية، باسم إلهنا

فالربّ يتمّم كلَّ سؤلٍ لك.

ب- جواب سليمان (آ6-9)

في أسلوب اشتراعيّ، بدأ الملك فذكر مسيرة أبيه والموضع الذي أوصله الله إليه: بركات نالها. وأمانة عاشها (آ6). ثمّ أعلن هويّته: صغير، لا خبرة له (آ7). وأمامه مسؤوليّة كبيرة: شعب كبير لا يُحصى (آ8). فهو يحتاج إلى العون والمساعدة (آ9). أجل، لا خبرة له ليحكم هذا الشعب العظيم. وهذا الشعب ليس شعبه، بل شعب الملك. »شعبك« أنت. هذا الشعب لا يخصّ الملك، والويل له إن هو أخطأ في هذا المجال. فالضربات أحاطت بداود حين أراد أن يُحصي الشعب (2صم 24). وهذا الشعب اختاره الله له. فليس هو مُلك أحد. قال تث 32: 10-12:

10 لقيهم في أرض برّيّة،

وفي متاهة مهجورة بعيدة،

11 وكالنسر الذي يغار على عشّه،

وعلى فراخه يرفّ،

فيفرش جناحيه ليأخذهم

ويحملهم على ريشه.

12 اقتادهم الربّ بمفرده،

من دون إله غريب.

13 أقامهم على مشارف الأرض،

وأطعمهم من غلال الحقول.

أرضعهم عسلاً من الصخر،

وزيتًا من حجر الصوّان.

من اهتمّ بشعبه هذا الاهتمام، يحافظ عليهم، ولا يسمح لأحد أن يستعبدهم. لهذا كان حُكم الكتاب قاسيًا على من يسيء إلى الشعب، فقال زك 2: 12: »من مسَّكم مسَ حدقة عيني«. ولهذا، طلب سليمان من الله لكي يعينه على إتمام المهمّة الملقاة على عاتقه: »امنحني قلبًا سامعًا. وإلاّ، كيف أقدر أن أقضي في شعبك، أن أعلن حكمك فيه«؟

ففي نظر الكتاب، القلب ليس قبل كلّ شيء مركز العواطف، بل المعرفة. إنّه أعمق ما في الإنسان: والتفكير والنشاط العقليّ يجتمعان فيه. والقلب يلعب دورًا هامٌّا في التقليد الحكميّ، في مصر كما في فلسطين. فالإنسان العاقل هو صاحب القلب، والبليد لا قلب له. والإنسان يتعلّم بقلبه، لأنّ الحكمة موضوع علم. إذًا، القلب هو العضو الأوّل الذي به يتلقّى الملك وصايا الله، يفهمها، ينفّذها. وسليمان طلب من الربّ قلبًا مستعدٌّا للسماع والطاعة، لكي يقضي بحسب مشيئة الله.

وأجاب الله. لن يعطي فقط الحكمة، بل المال أيضًا والمجد (آ13). أمّا آ14 فجاءت في الخطّ الاشتراعيّ: هناك شرط، وهذا مع أنّ الله قبل سؤل الملك وقدَّم له ما لم يطلب: السلوك في وصايا الله. نتذكّر هنا أنّ المزامير الملكيّة شدّدت على الحياة الطويلة (21: 5)، على غلبة الأعداء (2: 8-9)، على القوّة (110: 2)، على المجد. أمّا ابن داود، فاعتبر أنّ جوهر ما يمكن أن يطلب هو أن يتعلّم كيف يحكم شعب الربّ.

قال مز 2: 9:

ترعاهم بعصا من حديد

وتحطّمهم كإناء من خزف.

ومز 21: 5:

سألك الحياة فأعطيته؟

عمرًا بطول مدى الأيّام

6 خلّصته فعظُم مجده،

وجلالاً وبهاء ألقيتَ عليه.

ومز 110: 2:

صولجان عزّك يرسله الربّ من صهيون:

»تسلّطْ وسط أعدائك«.

ج- وافق الربّ (آ10-14)

بدا هذا الخبر للوهلة الأولى، وكأنّ الموضوع الرئيسيّ هو مجازاة التواضع. لهذا، تحدّث شرّاح على هذه الصفة عند الملك الشابّ، وعن الاعتدال الذي برهن عنه، ومجّدوا رفعته الروحيّة. وأخذ الله بعين الاعتبار كلَّ هذا، بحسب القول المأثور: من ارتفع اتّضع.

هذا التفسير الأخلاقانيّ يتجاهل أمورًا عديدة في هذا المقطع. فهو يُغفل صفة الملك، والوضع الذي هو فيه، والسوابق الأدبيّة لما في 1مل 3. هذه الصفحة من الكتاب المقدّس، تجعل أمامنا خلافة داود. ولكنّ خليفة داود لم يعيّنه الربّ بشكل مباشر على عرش إسرائيل، كما كان الأمر بالنسبة إلى شاول وداود. فسليمان صار ملكًا، لا بفضل موهبة (كاريسما) خاصّة، بل باسم مبدأ الخلافة، جاءت سلطته من أبيه الذي سمّاه وعيّنه، وما استطاع أن يفرض نفسه إلاّ بعد مؤامرات كثر فيها الموتى (1مل 1-2). مع سليمان، صارت الملكيّة في إسرائيل مؤسّسة، لا حدثًا جديدًا يتدخّل فيه الله بواسطة من يرسله.

وهكذا نقص ابنَ داود تكريسٌ إلهيّ. نقصه »ظهورٌ« يبرِّر ما حصل في عيون الشعب. وجاء حلم جبعون يتجاوب مع هذا الاهتمام: تجلّى الربّ لسليمان، وأكّدت كلماتُه اختيار والده. فإله إسرائل لا يكتفي بأن يقبل ابن داود، بل يقدّم له الموهبة التي سأل، ويجعله في خطّ القوّاد الكبار الذين نالوا موهبة خاصّة من الله. بهذا، تأمّنت شرعيّة الملكيّة لدى سليمان.

وقرّب بعضهم وبحقّ، هذا المقطع من »الخبر الملكيّ« الآتي من مصر، الذي يُقيم وضع الملك تجاه إلهه وتجاه شعبه. وجاءت وظيفة 1مل 3 مشابهة، وقد تكون استندت إلى نموذج من النمط المصريّ. وهذا لا يدهشنا، لأنّنا نعرف تأثير مصر على مملكة إسرائيل في زمن سليمان.

د- سليمان شاهد لحكم الله

الحكمة التي طلبها سليمان هي عمليّة قبل كلّ شيء. فهي تعني الوظيفة التي سيقوم بها الملك على رأس إسرائيل. وفي منظار ذاك الزمان، ملكَ وقضى هما شيء واحد. فمن له السلطان أن يقضي ويُصدر الحكم، فهو يجعل الحقّ ينتصر ويُتيح للشعب أن يعيش حرّيّته في التضامن داخل الجماعة.

بعد هذا نفهم أن يكون سليمان، منذ بداية عهده، وعى مسؤوليّاته تجاه الله الذي »يمتلك« شعبه (هو شعبك، كما قال سليمان)، فتمنّى قلبًا سامعًا، قلبًا مدركًا، قلبًا يميّز الخير والشرّ، ليستطيع الملك أن يسوس شعب الله. فأعطاه الله التمييز لكي يحكم، حين أعطاه قلبًا حكيمًا، فاهمًا.

هي هنا موهبة حقيقيّة، تقابل الشجاعة عند شاول وداود. فسليمان يرتبط اسمه بالسلام، لا بالحرب على مثال أبيه الذي تلطّخت يداه بالدماء. نال سليمان الموهبة التي سأل، نال الحكمة التي تمكّنه من تتميم مهمّته. منحه الله قلبًا يسمع، فيستطيع أن يستمع قبل أن يحكم في قضيّة من القضايا. فهو ليس ذاك الذكيّ الذي يحلّ أصعب الألغاز وأكثرها تعقيدًا، بل ذاك الذي يعلّمه الله كيف يمارس العدالة. فصار سليمان »سامع عدالة الله«. وإذ يتّصل بتلك العدالة يتعلّم أن يكون خاضعًا لرسالته، لا ذاك الذي يستعمل رسالته من أجل رغباته ومنفعته الشخصيّة. تلك كانت نيّته في البداية. لا في النهاية، ولا سيّما حين جعل الجميع عبيدًا له، ووجّه غنى المملكة إلى قصره، وأكثر من النساء الغريبات اللواتي وجب عليه أن يبني لهنّ القصور. في البداية، لم يكن سليمان فقط ذاك المتواضع الذي ينتظر من الربّ أن يعوّض النقص في خبرته. بل هو ذاك الطائع لرسالته.

هذه الصفحة من كتاب الملوك جُعلت هنا لتعطي صفة شرعيّة لخليفة داود على عرش إسرائيل. وهي تكشف لنا في الوقت عينه ما ينتظر شعب الله من الملك: أن يكون الشاهد الأمين لحكم الله وقضائه. فلا ندهش بأن نرى ذكرًا متواصلاً للقداسة حين يكون الحديث عن الملك. فيها يرتبط وجودُ شعب الله. وكانت صلاة مز 72 التي ذكرناها: علّم يا ربّ الملك عدالتك.

لاحظ الحكماء مرّات عديدة أنّ الرجس الرجس عند الملوك، هو أن يفعلوا الشرّ، لأنّ عرشهم يقوم على العدالة (أم 16: 12). وقال أم 25: 5:

أزِلِ الشرّير من أمام الملك،

فيثبت بالعدل عرشه.

وأعلن إرميا أنّ سليل دود يكون اسمه »يهوه صدقنا« عدالتنا (23: 5-6):

5 ستأتي أيّام، يقول الربّ،

أقيمُ من نسل داود ملكًا صالحًا

يملك ويكون حكيمًا،

ويُجري الحقّ والعدل في الأرض.

6 في أيّامه يخلَّص يهوذا

وإسرائل يسكن في أمان

ويكون اسمه: الربّ صدقنا.

ويقدّم أش 11: 1ي كلامًا مسيحانيٌّا، حول داود الجديد الذي يحلّ عليه روح الربّ، روح الحكمة والفهم، فيتيح له أن لا يحكم بحسب ما ترى عيناه وتسمع أذناه، بل:

4 يقضي للفقراء بالعدل

وينصف الظالمين بكلام كالعصا

ويميت الأشرار بنفخة من شفتيه.

5 يكون العدل حزامًا لوسطه،

والحقّ مئزرًا حول خصره،

6 فيسكن الذئب مع الحمل،

والنمر يبيت بجانب الجدي.

الخاتمة

وانتظر شعبُ إسرائيل، شأنه شأن سائر الشعوب في فينيقية ومصر وبلاد الرافدين، ذاك الملك العادل الذي يتوافق حكمه مع مشيئة الله. تاق طوال تاريخه أن يرى ابن داود صاحب قلب سامع، يميِّز بين الخير والشرّ، ويقضي للمساكين ويخلّص المساكين. هل نجد مثل هذا الملك على الأرض؟ مستحيل. وحُكمُ كتاب الملوك، أبرز خطايا داود وسليمان، وسائر ملوك إسرائيل ويهوذا. وحده يسوعَ يمكن أن يكون هذا الملك، الذي لم يضحِّ برجاله من أجل حياته، بل بذل حياته. لا فقط من أجل شعبه، بل من أجل البشر كلّهم »ليجمع شمل أبناء الله«. هذا هو الملك الذي رفض القوّة والبطش. رفض التعامل بالسيف، لأنّ من يأخذ بالسيف، بالسيف يؤخذ. أمّا رسالته فلكي يشهد للحقّ، على ما قال لبيلاطس في محاكمته »ومن كان من الحقّ سمع صوته«. أمّا حكمته فتختلف كلّ الاختلاف عن حكمة سليمان الذي ساس البلاد، وشيّد البناء. حكمة سليمان لبثت على مستوى البشر، وفي النهاية وصلت إلى الحائط المسدود، فتركت الدمار والانقسام وراءها. حكمة سليمان حكمة الأقوياء والأغنياء. مثل هذه الحكمة يُزيلها الله بعد أن صارت جهالة (1كور 1: 19). وحده المسيح هو »قدرة الله وحكمته«، وقد تجلّت عظمته على الصليب. لهذا رفعه الله وأعطاه اسمًا يفوق كلّ الأسماء، لكي تجثو باسم يسوع كلُّ ركبة في السماء وعلى الأرض ويشهد كلُّ لسان أنّ يسوع المسيح هو الربّ تمجيدًا لله الآب (فل 2: 9-10).

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM