بيت داود وبيت الله.

 

بيت داود وبيت الله

2صم 7: 1-17

نصّ نبوءة ناتان يقدّم للمسيحيّين الذين ينتظرون مجيء المسيح، تعليمًا هامّا، سلالة داود الذي يكون له الله أبًا (آ12، 14)، فنصل إلى المسيح الذي أعلنه الآب ابنه الحبيب في العماد. وما قاله الملاك لمريم في بشارتها عن العظيم الذي يُدعى ابن الله ويتسلّم عرش أبيه داود (لو 1: 32-35) نجد هنا صداه البعيد. فالرجاء المسيحانيّ ينطلق من هذا النصّ فيمرّ مثلاً في مز 89:

4 عاهدتُ الذي اخترتُه،

حلفتُ لداود عبدي:

5 إلى الأبد أثبّت نسلك،

وإلى جيل فجيل أبني عرشك

20 يوم كلّمتَ تقيّك في رؤيا،

قلت له: نَصْرتُك إيّها الجبّار.

اخترتُك ورفعتك من الشعب.

21 وجدتُ داود عبدي

وبزيتي المقدّس مسحته.

كما يمرّ هذا الرجاء في سفر الأخبار الأوّل (ف 17) الذي دوِّن في نهاية القرن الرابع أو بداية القرن الثالث ق.م. جاء بعد الأحداث بسبعة قرون من الزمن. أمر الربّ نبيّه ناتان ليقول لعبده داود:

7 أنا اخترتك من الحظيرة،

من وراء الغنم،

لتكون رئيسًا على شعبي.

8 كنتُ معك حيثما سرتَ،

وأبدتُ جميع أعدائك من أمامك

وأقمتُ لك اسمًا عظيمًا

كالعظماء في الأرض.

14 يكون نسلك وملكك

ثابتَين على الدوام أمام وجهي

وعرشك يكون راسخًا إلى الأبد.

وجاء كلام بولس الرسول في أنطاكية بسيدية عظة مسيحيّة في المجمع (أع 13: 22ي):

22 ثمّ عزل الربّ شاول وأقام داود ملكًا عليهم وشهد له بقوله: وجدتُ داود بن يسّى رجلاً يرتضيه قلبي، وسيعمل كلَّ ما أريد.

23 وأخرج الله من نسل داود، حسب الوعد، يسوع مخلّصًا لشعب إسرائيل

36 لكنّ داود، بعدما عمل بمشيئة الله في أيّامه، رقد ودُفن بجوار آبائه، فرأى الفساد في الموت).

37 وأمّا الذي أقامه الله، فما رأى الفساد.

وتواصل التأمّل في هذا النصّ الأساسيّ في كتاب صموئيل، فأورده يوستينُس، ابن نابلس في فلسطين (القرن الثاني) في حواره مع تريفون اليهوديّ (118: 2). وتبعه ترتليانس، ابن قرطاجة (القرن الثالث)، وإكلمنضُس الإسكندرانيّ وأمبروسيوس أسقف ميلانو بإيطالية، وأوغسطينس في مدينة الله (17: 8). ونكتفي بذكر يوستينس، بعد أن أورد عددًا من النبوءة، قال: »وناتان أيضًا حين تكلّم عنه (= عن يسوع)، أعطى داود هذا التنبيه: أكون له أبًا ويكون لي ابنًا. لا أمنعُ عنه رحمتي كما منعتُها عن آبائه. وأقيمه في بيتي وفي مملكته إلى الأبد«.

1- النصّ الكتابيّ (2صم 17: 1-17)

استعمل بولس هذا النصّ ليكلّم اليهود عن المسيح. واستعمله الآباء ليدلّوا على أنّ هذا القول يعني، في معناه الكامل، المسيح يسوع، مؤسّس الكنيسة. وها نحن نقرأ:

1 ولمّا سكن الملك في قصره، وأراحه الربّ من جميع معاديه،

2 قال الملك لناتان النبيّ:

»أنظر، أنا مقيمٌ في بيت من أرز، وتابوت العهد مقيمٌ في خيمة«.

3 فأجاب ناتان الملك:

»إذهب وافعل كلّ ما في بالك، لأنّ الربّ معك«.

بيت الأرز هو ذاك الذي بناه حيرام، ملك صور (5: 11)، الذي سيبني الهيكل أيضًا في أورشليم. والخيمة كانت من شعر الماعز، كما في خيام البدو. أمّا مثالها البعيد فخيمة اللقاء في البرّيّة. هناك كان يلتقي موسى بالربّ. لبثت تلك الخيمة حاضرة حتّى بنى سليمان الهيكل. عندئذٍ نُقل »تابوت العهد« أو »عرش الله« إلى الهيكل. جاء جواب ناتان سريعًا، لأنّه عرف أنّ الله مع داود، وبالتالي هو لا يمكن أن يخطئ. ولكنّه أخطأ في هذه الحال، لأنّه تطلّع إلى المعابد المصنوعة للآلهة الوثنيّة: الصنمُ يُقيم في هيكله. ولكنّ الله لا تحدّه السماوات ولا سماوات السماوات. تسرّع ناتان. ويا ليته سأل الله قبل أن يعطي جوابًا لداود. وقد يكون في كلامه بعض الدبلوماسيّة. بدأ فوافق الملك، ثمّ عارضه مقدّمًا له كلام الربّ. ويتواصل 2صم 7:

4 ولكنّ الربّ قال لناتان في تلك الليلة:

5 »إذهبْ وقل لعبدي داود:

هذا ما يقول الربّ:

أأنت تبني لي بيتًا لسكناي؟

6 ما سكنتُ بيتًا من يوم أخرجتُ بني إسرائيل من مصر حتّى الآن، بل في خيمة كنت أنتقل معهم على الدوام.

7 وفي كلِّ ارتحالي مع جميع بني إسرائيل، لم أسأل أحدًا من رؤسائهم، الذين أمرتهم أن يرعوا بني إسرائيل شعبي:

لماذا لم تُقم لي بيتًا من الأرز؟«

في الليل اعتاد الربّ أن يكلّم أصفياءه. كذا فعل مع صموئيل إذ ناداه ثلاث مرّات باسمه. وهنا كلّم ناتان. فما بقي على ناتان سوى أن يحمل كلمة الله إلى داود. نلاحظ أنّ الأنبياء رفضوا ما يُسمّى »المؤسّسة«. لماذا هذا الهيكل الثابت؟ هو يجعل الشعب لا يميّز بين يهوه وسائر الآلهة: كلّ واحد له هيكله. ونحن لا ننسى أنّ سليمان الملك أرضى جميع الآلهة، وأرضى يهوه معهم. »بنى معبدًا لكوش إله موآب. وبنى لمولك إله بني عمّون« (1مل 11: 7). وما نسي أحدًا من الآلهة إرضاء لنسائه، بدءًا بابنة فرعون، لإحراق البخور وتقديم الذبائح. بهذه الطريقة، لا يفضَّل الربّ على آلهة جمعهم سليمان كما في »مجمّع الآلهة« (بانتيون) في الشرق وفي الغرب.

إذا كان الأمر هكذا، فالربّ يفضّل أن يبقى في »خيمته«. يرافق شعبه حيث يمضي، ويتوقّف معه حين يتوقّف (عد 9: 15ي). نشير إلى أنّ هذه الخيمة كانت خارج المخيّم كما قال خر 33: 7، لأنّ قداسة الله لا تحتمل وجوده مع شعب من الخطأة »قساة الرقاب« (آ5). مرّت هذه الخيمة في شيلو (مز 78: 60)، وفي جبعون (2أخ 1: 3، 6) قبل أن تصل إلى أورشليم (1مل 8: 4). بساطة البرّيّة ترافق الله، لا بزخ المدينة والهيكل من الأرز.

ولماذا هذا الرفض؟ لأنّ كتاب صموئيل جاء في نسخته الأخيرة، في زمن المنفى مع تدمير أورشليم وإحراق الهيكل. ماذا نفعَهُم الهيكل؟ في هذا الإطار نتساءل مع سليمان: »ولكن هل تسكن يا الله حقٌّا على الأرض! حتّى السماوات وسماوات السماوات لا تتّسع لك، فكيف هذا الهيكل الذي بنيتُه لك؟« (1مل 8: 27). أيُراد لله أن »يقيم«، أن يجلس مثل ملك على عرشه، أو إله على قاعدته؟ بعد أن »أقام« (سكن، آ1) الملك في قصره، أراد الله أن يقيم بجانبه. وفي أيّ حال، حين بنى سليمان الهيكل، سبق فبنى قصره وما أنهاه قبل 13 سنة (1مل 7: 1). فكان الهيكل عن يمين القصر رمزًا إلى الحماية التي يقدّمها.

في هذا الخطّ، كان هجوم إسطفانس على الهيكل، في خطّ النبيّ إرميا الذي رفض لشعبه أن يتعلّق بالهيكل وكأنّه حِرزٌ يحميه (إر 7: 1ي). قال إسطفانس لمحاكميه (أع 7: 48-49):

48 لكنّ الله العليّ

لا يسكن بيوتًا صنعتها الأيدي،

كما قال النبيّ

49 يقول الربّ: »السماء عرشي،

والأرض موطئ قدميّ.

أيَّ بيت تبنون لي،

بل أين مكان راحتي؟«

لا حاجة للهيكل. ولا حاجة للمؤسّسة الملكيّة كما قال صموئيل. ولكنّهم أرادوا أن يكون لهم ملك كسائر الشعوب. إذًا، سيتصرّف ملكهم كما يفعل سائر الملوك: »يأخذ بنيكم ويجنّدهم لخيله ومركباته...« (1صم 8: 11). رفض شيوخ الشعب أن يسمعوا لصموئيل (آ19). وسليمان سيجد من يبرّر له عمله في بناء الهيكل. تجلّى له الربّ وقال له: »سمعتُ صلاتك وتضرّعك إليّ، وقدّستُ هذا الهيكل الذي بنيتَه، وجعلتُ فيه اسمي إلى الأبد، وعليه تكون عيناي وقلبي كلّ الأيّام« (1مل 9: 3).

حاولت قبيلة أفرائيم أن تبني في شيلو، ولكنّ النهاية كانت تعيسة. وتابع الربّ كلامًا يحمله ناتان إلى داود (2صم 7):

8 فقلْ لعبدي داود:

هذا ما يقول الربّ القدير:

أنا أخذتُك من الحظيرة، من وراء الغنم، لتكون رئيسًا على شعبي إسرائيل.

9 وكنتُ معك حيثما سرتُ، وأبدتُ جميع أعدائك، وسأقيم لك اسمًا عظيمًا كأسماء العظماء في الأرض

10 وسأجعل مكانًا لشعبي بني إسرائيل، وفيه أغرسه، فيثبتُ في مكانه فلا يتزعزع من بعد، ولا يعود بنو الشرّ يضطهدونه كما كانوا من قبل

11 يومَ أقمتُ قضاةً عليه. وسأريحك من جميع أعدائك.

الله يختار الضعفاء. واختار داود، راعي الغنم الذي لا يُرتجى منه الكثير. أمّا إخوته فمضوا إلى الحرب. هناك ألياب، الطويل القامة مثل شاول. قدّمه صموئيل، فقال الربّ: »لا تلتفت إلى منظره، وطول قامته. فأنا رفضتُه لأنّ الربّ لا ينظر كما ينظر الإنسان. فالإنسان ينظر إلى المظهر، وأمّا الربّ فينظر إلى القلب« (1صم 16: 6-7). ومرّ أبيناداب ثمّ شمّة... ومرّ السبعة. فقال صموئيل ليسّى: »لم يختر الربّ واحدًا من هؤلاء« (آ10). ودعوا داود »الصغير وهو يرعى الغنم« (آ11). ولمّا جاء »أخذ صموئيل قرن الزيت ومسحه ملكًا بين إخوته«. أجل، »اختار الله ما يحتقره العالم ويزدريه ويظنّه لا شيء، ليزيل ما يظنّه العالم شيئًا، حتّى لا يفتخر بشر أمام الله« (1كور 1: 28-29). وهكذا اختار داود الذي ما اعتاد على الحرب، ولا على السلاح. أراد أخوه أن يطرده من ساحة المعركة (1صم 17: 28). ولمّا ألبسه شاول ثيابه، وجعل على رأسه خوذة من نحاس... لم يقدر أن يمشي (آ38-39). ومع ذلك، هذا مَن اختاره الربّ. فهل يعرف حدوده؟

داود نال اسمًا كاسم الملوك العظام. والشعب غُرس في أرضه، فلن يكون ذاك المرتحل من موضع إلى موضع طلبًا للماء وللعشب. له مُلكه. له عاصمته. وقريبًا سيكون له هيكله. ذاك كان الوضع في زمن داود. وذاك ما تمنّاه المنفيّون بعد الذهاب إلى المنفى. متى يكون لنا داود آخر. وذلك بعد أن يئسوا من الذين يحكمونهم اليوم؟

وأخبر الربّ داودَ أنّ ملكُه يدوم، من خلال سلالته. وأوّلهم سليمان، شرط أن يعيشوا بحسب وصايا الله. وهكذا تابع الربّ كلامه بفم ناتان:

11ب »وأنا الربّ أخبرك أنّي سأقيم لك ذرّيّة.

12 وإذ انتهت أيّامُك، ورقدتَ مع آبائك، أقمتُ خلفًا لك من نسلك الذي يخرج من صلبك، وثبّتُّ ملكَه.

13 فهو يبني بيتًا لاسمي، وأنا أثبِّت عرشَ ملكه إلى الأبد.

14 أنا أكون له أبًا، وهو يكون لي ابنًا. وإذا فعل الشرّ أؤدّبه بعصا كالتي يستخدمها الناس، وبها يضربون.

15 وأمّا رحمتي فلا أنزعها عنه، كما نزعتُها عن شاول الذي أزلتُه من أمام وجهك،

16 بل يكون بيتُك وملكك ثابتين على الدوام وأمام وجهي، وعرشك يكون راسخًا إلى الأبد«.

17 فكلّم ناتان داود بجميع هذا الكلام وهذه الرؤيا كلّها.

وينتقل الكاتب من الأب إلى الابن، من داود إلى سليمان. وهكذا يبقى داود حيٌّا، وإن مات، في سليمان ثمّ في خلفائه. وكما كان الربّ مع داود، سيكون مع ابن داود الذي يتبنّاه الله حين يعتلي عرش المملكة. إنّما يؤدّبه كما يؤدّب الآباء أولادهم. ولكنّه ليس تأديب الانتقام، بل تأديب الرحمة. فالله لا يتراجع عمّا أعطاه لمَلكه داود، حتّى لو خان سليمان الأمانة.

هذا النصّ الذي دوِّن في شكله النهائيّ بعد المنفى، يُلقي نظرة إلى الوراء، ليقرأ تاريخ شعبه على ضوء كلام الله. فالربّ يأخذ على عاتقه حياة البشر بما فيها من شرّ ومن خير. كان داود الملك بحسب قلب الله. ولكنّه خطئ وأكثر ولا سيّما مع أوريّا القائد الحثّيّ. كما وكان ضعيفًا مع أولاده، ومع امرأته بتشابع التي سيطرت على قلبه فأوصلت ابنها سليمان إلى العرش.

هو يبني بيتًا لاسمي، أو كما قالت اليونانيّة: هو يبني لي بيتًا باسمي. في 1أخ 7: 12: هو يبني لي بيتًا. الاسم يدلّ على الشخص. نحن هنا في اللاهوت الاشتراعيّ الذي يصل بنا إلى الصلاة الربّيّة: ليقدَّس اسمك. أنت تكون قدّوسًا في العالم وفي المؤمنين. نقرأ مثلاً تث 12:

5 تعبدون الربّ إلهكم في الموضع الذي يختاره الربّ... ليُحلَّ فيه اسمه ويسكن فيه.

12 فأيّ موضع اختاره الربّ إلهكم ليحلّ فيه اسمه، يكون هو الموضع الذي تأتون إليه.

21 وإن بعُد عنكم الموضع الذي يختاره الربّ إلهكم ليُحلّ اسمه، فاذبحوا ممّا رزقكم الربّ.

وعذر الكاتب الاشتراعيّ الملك سليمان، حين قدّم ذبائح على جبل جدعون، كما في 1مل 3: 2: »وكان الشعب يقدّمون ذبائحهم على رؤوس الجبال، لأنّه لم يكن هيكل لاسم الربّ إلى تلك الأيّام«.

نلاحظ أنّ »الاسم« يرتبط في هذه النصوص بالهيكل. هذا ما نقرأه تكرارًا في 1مل 8: قال سليمان:

17 »وكان في نيّة داود أبي أن يبني هيكلاً لاسم الربّ

18 فقال له الربّ:

نويتَ في قلبك أن تبني هيكلاً لاسمي

19 لكن لا أنت تبنيه، بل ابنك الذي يخرج من صلبك، هو يبني بيتًا لاسمي«.

»صلبك« أي أحشاؤك. ولا يتوقّف الكلام عند شخص واحد هو سليمان، بل يتواصل عبر السلالة الداوديّة. ويتابع 1مل 8 الكلام عن »الاسم« في صلاة سليمان:

44 »وإذا خرج شعبك لمحاربة أعدائهم وفق مشيئتك، وصلّوا إليك جهة المدينة التي اخترتَها والهيكل الذي بنيتُه لاسمك،

45 فاسمع من السماء صلاتهم وتضرّعهم وانصرْ حقّهم.

»وفق مشيئتك«، أو في الاتّجاه الذي إليه توجّههم. في الماضي، اتّجاه »الحرب المقدّسة«. واليوم، في زمن المنفى »اتّجاه الصلاة«، أو القبلة، الجهة التي يصلّي نحوها. في التوسّل، يتطلّعون إلى البيت، وكذلك في طلب الغفران. ويتابع سليمان:

48 »وإذا أقبلوا إليك بكلّ قلوبهم ونفوسهم، وصلّوا إليك جهة (القبلة الأولى) أرضهم (هم بعيدون، في أرض المنفى) التي أعطيتَها لآبائهم والمدينة التي اخترتها والهيكل (= البيت) الذي بنيتُه لاسمك،

49 فاسمع من السماء، مكان سكناك، صلاتهم وتضرّعهم واستجب لهم«.

2- السياق التاريخيّ

أ- منعطف في التاريخ

انتهى »احتلال« كنعان، أي فلسطين في المعنى الحصريّ. ترك الشعبُ الفوضى التي عاشها في زمن القضاة حيث قيل في 21: 25:

وفي تلك الأيّام

لم يكن لبني إسرائيل،

وكان كلُّ واحد منهم يعمل على هواه.

أُبعدت جحافلُ السلب والنهب، والفلسطيّون التزموا أرضهم على شاطئ البحر في مدنهم الخمس: غزّة، جتّ، عسقلان، عقرون، أشدود (2صم 5: 17-25). جاءت ملكيّة شاول موقّتة، غير ثابتة. وما عتّم أن حلّ محلّه داود، بصفات شخصيّة أعطته قوّة. فقيل له: »قتل شاول الألوف، وداود عشرات الألوف« (1صم 18: 7). هكذا هتف له الشعب بعد الانتصار الذي ناله. وساندته القبائل وأوّلها »رجال يهوذا الذين جاؤوا ومسحوا داود ملكًا عليهم« (2صم 2: 4) بانتظار قبائل إسرائيل (أي الشمال): »نحن لحمك وعظمك« (2صم 5: 1). فمسحوه ملكًا عليهم (آ3). وكان بقربهم الأنبياء وأوّلهم صموئيل الذي مسحه ملكًا، فحلّ عليه روح الربّ (1صم 16: 13).

احتلّ داود أورشليم فجأة بفضل شجاعة الذين معه وبسالتهم (2صم 5: 6-9). وما دمَّر هذه المدينة التي كانت في الأصل حصنًا سيصير برج داود. بل اختارها عاصمة له، لأنّها لا تقع في قبيلة من القبائل، ونقل إليها تابوت العهد، عرش الله (2صم 6: 12-19).

وهكذا قُلبت صفحةٌ من تاريخ الشعب، وانتهت مسيرة الخروج التي بدأت في مصر، فأقاموا في أرض »هيّأها« الله لهم. ومنذ الآن، يستطيعون أن ينظروا بثقة إلى المستقبل. ولكن ما يكون ذاك المستقبل؟ الحروب والتوسّعات؟ جاءت بشكل عابر. طرْدُ المقيمين في الأرض لتكون الأرض »لنا وحدنا«. كلاّ، وسيجد سفر التثنية شرحًا: لا أطردهم كلّهم من أمامكم لئلاّ تقفر الأرض. فهؤلاء البدو الآتون من الصحراء لا يعرفون الكثير من الحضارة، وسوف يتعلّمون الكثير. ولكن يبقى الخطر بأن يتعلّموا العبادات الكنعانيّة فينسوا عبادة يهوه، الإله الواحد. أيكرمّون الله فيبنون له بيتًا يقيم فيه، ومعبدًا يجتمعون حوله كما فعل الكنعانيّون بالنسبة إلى بعل؟ عندئذٍ قلّدوا الذين سبقوهم، وألّفوا ديانة تلفيقيّة، ضمّت عناصر تعود إلى موسى وجبل سيناء، وعناصر من آلهة أهل البلاد.

وطرحوا سؤالاً أوّل: هل يثبت العهد الذي قُطع بين القبائل؟ هل يبقى هذا الشعب »فريدًا من نوعه، بحيث لا يحسَبُ بين الأمم«؟ (عد 23: 9). وسؤال آخر: هل تكون ملكيّة داود مثل ملكيّة شاول. وملكيّة سائر الأمم، حيث جاء كلام صموئيل قاسيًا، أو سترتبط بالله فتقدّم ملكيّة ذات طابع دينيّ يكون أساسها وصايا الله، والدفاع عن الصغير والمسكين واليتيم والأرملة؟ في منعطف التاريخ هذا، نظر داود إلى هذه المسائل، فتدخّل الله بواسطة نبيّه ناتان لكي ينير له الطريق.

ب- نبني هيكلاً للربّ (7: 1-3)

جاء هذا النصّ قريبًا من النصوص المصريّة التي تتخيّل حوارًا بين الفرعون ومستشاريه. والهدف منها، إبراز الحكمة الملكيّة. انتصر داود، فكان الملك الذي لا يجسر أحدٌ أن يجادله. كلّهم يقولون »نعم« لما يقدّمه لهم. وهكذا كان جواب ناتان في المرحلة الأولى، فما اختلف عن أفراد البلاط الملكيّ: »افعل ما في بالك«.

ما كان مشروع داود الجديد؟ رأى من الضرورة أن يبنى هيكلاً للربّ الإله. فمنذ برج بابل الشهير (تك 11: 1-9)، اهتمّ جميع الملوك بالبناء، »برجًا يصل إلى السماء« فيصبح الملك مساويًا للإله، لأنّه »صورة الإله على الأرض« كما قال ملوك مصر وملوك بابل. نقرأ ما قاله جوديا، الملك السومريّ: »يا نينجرسو (الإله). بنيتُ لك هيكلاً. وأنا أُدخلك إليه بالفرح«. وآخر ملوك بابل، نبونيد، روى أنّه سمع في الحلم مردوك، يأمره بأن يبني هيكلاً للإله سين، الإله القمر.

وإذ يبني الملوك هذه العمارات الثابتة (لا الخيمة) المتينة بحجر مقصوب، كما كان الأمر مع هيكل سليمان، يدلّون على عقيدة دينيّة قريبة من »السحر«، هذا البناء يدوم ولا تزعزعه الرياح والأمطار، ومثله المُلك الجديد. هذا ما قاله أسرحدون فكَتب على اللويحات: »ليثبتُ نسلُ كهنوتي إلى الأبد، كما أساس هيكل إيساجيل في بابل«. وكانت أيضًا أسباب سياسيّة، تدفع الملك إلى بناء الهيكل. »يدجّن« الكهنة الذين يستطيعون أن يكونوا أقوياء فيقفون في وجه الملك. ذاك كان وضع أمينوفيس الرابع، ملك مصر، فترك عبادة أمون، واتّخذ أتون القرص الشمسيّ، فابتعد عن سلطة الكهنة. بل بدّل اسمه الذي صار أخيناتون، عابد أتون الاسم الآخر لرع، القرص الشمسيّ. وفي فينيقية، قتل إيتوبعل، رئيس الكهنة، الملك، وحلّ محلّه (1مل 16: 31). وفي هذا المجال، نفهم ما فعله يربعام حين بنى معبدين على حدود المملكة الجنوبيّة (بيت إيل) والشماليّة (دان) بحيث لا يمضي الشعبُ بعد إلى أورشليم (1مل 12: 26-33). ومحاولات الملوك تركيز العبادة في أورشليم، مع ذروة في عهد يوشيّا، الذي دمَّر المعابد المحلّيّة، وجمعُ الكهنوت في العاصمة، جاءت في هذا الخطّ، وإن صُوّرت تنقيةً للعبادة في البلاد.

عارض الربّ بناء برج بابل. ورفض مشروع داود: »ما سكنتُ بيتًا« (آ4). وحين بُنيَ البيت، برّر الكاتب الملهم البناء. بدا ناتان وكأنّه يوافق. فاهتمّ آباء الكنيسة بهذه المسألة. هل تتبدّل الكلمة النبويّة بين ليلة وضحاها؟ في هذا الخطّ نذكر تيودوريتس القورشيّ، وبروكوبيوس الغزّاويّ، وتوما الأكوينيّ. قالوا: هناك اختلاف بين كلام جاء من عند الربّ، ورأي شخصيّ يستند إلى العقل وما يقوله المحيط الذين يعيشون فيه. للشعوب المجاورة معبد، لماذا لا يكون لنا معبد؟ ولكنّ الربّ بدّل النظرة. لموآب وعمّون ملك، لماذا لا يكون للقبائل ملك يوحّد القوى في وجه العدوّ الخارجيّ.

بل نصل إلى إبراهيم: الشعوب المجاورة تذبح أطفالها إكرامًا للإله، فكيف يكون أبو الآباء أقلّ سخاء منهم؟ ولكنّ كلمة الله تصحّح النظرة: أفهمَ »ملاكُ الربّ« إبراهيم أنّ قتل الأطفال ليس الطريقة التي بها ندلّ على مخافة الله. ونبّه إرميا الشعب (ف 7): أنتم تخدعون نفوسكم. لا يكون الإيمان تعلّقًا بهيكل الله وكأنّه حرز يقيكم كلّ شرّ، بل »أصلحوا طرقكم وأعمالكم، واقضوا بالعدل«. ما فعله ناتان من »خطأ وتسرّع« يفرض علينا أن ننتبه من النظرات الاجتماعيّة والإيديولوجيّات المعاصرة.

هكذا يقولون. إذًا، هكذا نفعل. قيل لكم: أحبب قريبك وأبغض عدوّك (مت 5: 43). هذا ما يقولون. إذًا، نفعل كما يقوله الناس لئلاّ نكون غرباء عن المجتمع. بل شريعة موسى قد تكون أُفرغَتْ من مضمونها. وصارت شيئًا خارجًا عنّا: قيل: لا تزنِ (آ27)، لا تقتل (آ21). أنا ما زنيت، إذًا أنا بارّ. ولكن هذا لا يكفي في نظر الله المتسامي. وكذا نقول عن القتل: من غضب على أخيه. مثلُ هذا التفكير يفرض خروجًا ممّا يُصنَع حولنا، ومقابلة أفكارنا وأقوالنا وتصرّفاتنا بما يقوله كلام الله.

ج- حرّيّة الله السامية (آ4-7)

وتوجّه القول الإلهيّ إلى داود في صيغة المخاطب المفرد: إذهب (أنت) وقلْ. دياناتان ويُشار إلى الله في صيغة الغائب المفرد. كأنّي به يتكلّم والنبيّ يردّد كلماته، يوصلها إلى الملك. فالله هو »الغائب الحاضر«. هو يغيب عن العيون البشريّة، ولكنّه حاضر في عيون المؤمنين. أمّا الضمير فهو ضمير المتكلّم المفرد. يتحدّث النبيّ عن »عبدي داود«: ساعة الملك عبدُ الله لا عبد ناتان. أجل، يأخذ الله أفواهنا ليرسل كلمته. وهذا شرف عظيم. هناك تعارض بين مشاريع الإنسان ومخطّط الله. والكلّ يدور حول لفظ »بيت« في معنيين اثنين. أنتَ تبني لي بيتًا، أي هيكلاً. والله يبني لك بيتًا، أي ذرّيّة وسلالة تدوم بعدك.

هذا ما يُدعى »الفأل« كما عرفته الحضارة العربيّة. هو إنذار، تنبيه. يرتبط بعلامة آتية من السماء. ولنا مثلٌ أوّل عند إيليّا، الذي كلّمه الربّ فحمل الكلام إلى آخاب ملك السامرة. »هذا ما قال الربّ: في الموضع الذي لحست فيه الكلاب دمَ نابوت، تلحس الكلاب دمك أيضًا« (1مل 21: 19). ومثل آخر في فم ناتان النبيّ، بعد أن اقترف داود ما اقترف من خطيئة (2صم 12):

9 فلماذا احتقرتَ كلامي، وارتكبتَ القبيح في عيني؟ قتلتَ أوريّا الحثّيّ بالسيف، سيف بني عمّون، وأخذتَ امرأته زوجة لك.

10 والآن، جيلاً بعد جيل، لن يموت أحدٌ من نسلك إلاّ قتلاً، لأنّك فعلت ذلك.

إذًا، استبعد النبيّ مشروع داود. لسنا أمام موقف سياسيّ ملتبس يرتبط بمدينة يبّوس حيث قد يكون أبياتار كاهنًا. في أيّ حال، كان أبياتار كاهنًا. ولكنّ داود حافظ على صادوق كاهنًا. ولا أمام حُكم على كلّ معبد وكلّ شعائر عبادة. فالعهد مع داود هو امتداد للعهد مع موسى. ولا أمام تعلّق بشعائر العبادة التي عرفها البدو في البرّيّة، دون غيرها. على ما نقرأ في عا 5: 25:

هل قرّبتم ذبائح ومحرقات

مدّة أربعين سنة في البرّيّة،

يا بيت إسرائيل؟

وفي هذا المجال، نقرأ اتّهام إرميا (ف 7) لشعب أورشليم:

12 إذهبوا إلى موضعي الذي في شيلو حيث أسكنتُ اسمي أوّلاً، وانظروا ما فعلتُ به بسبب شرّ شعبي إسرائيل

13 والآن بما أنّكم عملتُم هذه الأعمال بعدما كلّمتكم ولم تسمعوا، ودعوتكم ولم تجيبوا،

14 فسأفعل بهذا البيت الذي دُعيَ باسمي وأنتم عليه متّكلون، وبهذا الموضع الذي أعطيتُه لكم ولآبائكم كما فعلتُ هناك بشيلو.

وهل هناك منعٌ لبناء الهيكل؟ إذا كانت آ13 جزءًا من القول الإلهيّ، فهذا يعني أنّ الربّ لم يرفض بناء الهيكل. فقط يدا داود تغمّستا في الدماء. المهمّ في كلّ هذا هو حرّيّة الله المتعالية، الذي لا يُريد أن يُحصَر بين أربعة جدران مثل بعل. هو يختار، يقول، يرافق، يحمي، يتولّى، يقطع عهدًا. وفي النهاية يبني لنفسه البيت الذي يرغب فيه. على المستوى الدينيّ، الله هو الذي يبادر، لا الإنسان. الله يدعو والإنسان يجيب.

د- داود يقوم مقام الربّ (آ8-10)

هنا نجد تفسير رفض الله، ونكتشف حرّيّته المطلقة حين يبادر فيعمل. وتبدأ الناحية الجوهريّة التي تعلن عهد الربّ مع داود. فالآيات 8-12 التي فيها يتكلّم في صيغة المتكلّم المفرد (أنا)، تتوجّه إلى داود، وقد بُنيت في نموذج اتّفاق عهد بين متبوع وتابع، بين إمبراطور وملك صغير. وهذا ما نجده مرارًا في النصوص الدنيويّة خلال الألف الثاني.

وما يدلّ على أنّ داود تابعٌ لله، هو ثلاثة ألقاب. »ن ج ي د« رئيس. ذاك الذي يكون في المقدّمة. من يُنجد باسم الربّ (آ8). ينطبق هذا اللقب فقط على ملوك اختارهم الله وأقامهم. وقد يرذلهم إن لم يكونوا أمناء له، كما كان الأمر بالنسبة إلى شاول. واللقب الثاني »ع ب د« الذي يعني الشخص المقرّب. هو صنعة الله. والثالث »ب ن« الابن. نجد هذين اللقبين الأخيرين في نصوص ماري وأوغاريت وتل العمارنة، للدلالة على ملك صغير يتبع ملكًا كبيرًا.

وهكذا أعطى قول ناتان للملكيّة في شعب إسرائيل، طابعًا خاصّا. فملك يهوذا لا يكون مستقلاً كلّ الاستقلال بالنسبة إلى الله. هو يسير بحسب شريعة الله. وإن أخطأ فالنبيّ هنا، وهو صوت الله. فداود نفسه جاء من يؤنّبه على خطيئته. غير أنّ الملك الداوديّ لا يمكن أن يخضع لأيّ ملك أرضيّ، كما فعل آحاز، الملك الشرّير الذي مضى يسجد لملك أشورية ويسمّي نفسه »الابن« و»العبد« نقرأ 2مل 16: 7:

وأرسل آحاز إلى تغلث فلاسر، ملك أشور، يقول:

»أنا عبدك وابنك، تعالَ وخلّصني من ملك آرام ومن ملك إسرائيل«.

الملك في يهوذا يرتبط بالله فقط. لهذا كان أشعيا قاسيًا على آحاز. أنت لا إيمان عندك بالله، فمن أين يكون لك الأمان؟ (أش 7: 9). ما لك تخاف من ملك السامرة وملك دمشق؟ قال له أشعيا: أطلب. فما أراد أن يطلب لأنّ قلبه كان قد مال إلى أشورية. رفض مياه شيلو حيث كان معبد الله، فسيكون له مياه الفرات والخضوع للملك الغريب (أش 8: 5). وحده الاتّكال على الله يحافظ على حكم الله في شعبه، فيميّز مملكة يهوذا عن سائر الممالك.

العهد مع داود شابَه ذاك الذي قُطع مع موسى (خر 19: 3-5)، وما جاء مشروطًا شأنه شأن العهد مع إبراهيم (تك 15: 7-21). فكان امتدادًا لهذين العهدين. وهكذا وجدت المؤسّسة الجديدة، المؤسّسة الملكيّة، مكانها في تدبير الخلاص الإلهيّ.

ه- مملكة ثابتة في السلام (آ11-17)

نقرأ هنا العهد مع داود، وبالتالي مع الشعب العبرانيّ الذي يجد الراحة والطمأنينة. وإذ مزج الكاتب هذين الموضوعين، بيّن أنّ مصير الشعب مرتبط بمصير داود. وهكذا أكّد أنّ شعب الله لن يعرف ثباتًا في السلام إلاّ بواسطة الملك الداوديّ الذي يجعل السلام والعدالة يملكان. هتف المرتّلون في مز 72: 1-2:

1 يحكم الملك أحكامك يا الله،

وابن الملك عدالتك

2 ليدين شعبك بالعدل،

وعبادك المساكين بالإنصاف.

وفي الخطّ عينه، تحدّث أشعيا (9: 6) عن الولد المنتظر:

سلطانُه يزداد قوّة،

ومملكته في سلام دائم،

يوطّد عرش داود،

ويثبّت أركان مملكته

على الحقّ والعدل،

من الآن وإلى الأبد.

هكذا يكون بيت داود ثابتًا. لهذا نوى أن يبني الهيكل، بيت الله، لتثبت مملكته أيضًا. وكان جواب ناتان: السلام عطيّة من الله، لا نتيجة حسابات البشر. والربّ يعطي لداود بيتًا، يعطيه سلالة تتكوّن من نسله وترث مواعيده، كما نقرأ في مز 89: 35-36:

35 لا أخلُّ بعهدي له،

ولا أغيِّر كلامي.

36 مرّة حلفتُ بقداستي،

ولا أكذب على داود.

الخاتمة

ولكنّنا أمام أكثر من انقلاب في الوضع وفي المبادرة. فبيتُ داود يكون أيضًا بيت الربّ. ففي وسط الشعب، يكون الربّ حاضرًا، لا في هيكل فقط كما عند الكنعانيّين، بل في السلالة المختارة في وسط الشعب المختار. وفي جسد المسيح، ابن داود وابن الله، يسكن الله بيننا وهو من صار بشرًا (يو 1: 14). وجسده المنبعث والحيّ في الكنيسة، هي الهيكل الحقيقيّ (يو 2: 20، 22). هو الذي انتصر على كلّ قوى الشرّ، فيملك إلى الأبد في العدالة والسلام.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM