تقديم.

 

الرابطة الكتابيّة، 2005،

سلسلة قراءة الربّيّة، 26،

الخوري بولس الفغالي

تقديم.

قراءة الأسفار المسماة »تاريخيّة« في الكتاب المقدس، تطرح علينا أكثر من سؤال. الأول، ما لنا ولتاريخ مملكتين صغيرتين، مملكة يهوذا بعاصمتها أورشليم. ومملكة اسرائيل بعاصمتها السامرة؟ فهناك ممالك أكثر أهميّة: مصر، بلاد الرافدين مع الأشوريين والبابليين. ولا ننسى الحثيين الآتين من تركيا، ثم الفرس وإليونان والرومان. كل هؤلاء لعبوا دورًا في هذا الشرق الأوسط. فلماذا التوقّف عند هؤلاء الذين دَعوا نفوسهم »شعب الله« لأنهم اعتبروا نفوسهم مرتبطين به عبر الوصايا، وعبر الشهادة للاله الواحد؟ والجواب هنا. هذا الشعب الذي أقام في بعض فلسطين، أوصل إلى المسيحيّة والاسلام مفهوم الإله الواحد، فدفع الجميع إلى ترك الأصنام والآلهة المتعددة. كما أن الكتاب الذي وصل في اللغة العبرانيّة يعبّر عن وحي الله الذي يجد كماله في يسوع المسيح، ملء الوحي الالهي.

والسؤال الثاني. لا نجد في الواقع الكثير من التاريخ، خصوصًا بعد داود وسليمان، هذين الملكين الصغيرين، اللذين ضخّمهما الإخبار الشعبيّ، بينما هما »أميران« في منطقة محدودة. وفقيرة في ما يخصّ مملكة يهوذا. هذا ما لا شكّ فيه. فالتاريخ لا يُذكر إلاّ القليل منه كخلفيّة للتعليم الدينيّ. مثلاً، لا يذكر أخاب، ملك اسرائيل، إلاّ في صراعه مع إيليا في إطار عبادة البعل، ولا شيء عن قدرته الحربيّة التي ما كنا لنعرفها لولا المراجع اللابيبليّة. وسليمان نفسه، ذاك الملك الذي أنشده التقليد اللاحق، يُروى عنه بشكل خاص بناء الهيكل وتدشينه. ويُروى خصوصًا خيانته للرب حين أكثر من النساء الآتيات من الخارج، فبنى لكل منهن معبدًا تجاه الهيكل الذي اختاره الله لسكناه. وهكذا صارت أورشليم، شأنها شأن المدن القديمة، مجمَّعًا للآلهة المتعدّدة: ملقارت، ملكوم، كموش، بعل، رع. أجل التاريخ الذي تقدّمه هذه الأسفار، هو تاريخ دينيّ. والحكم على الملوك لا ينطلق من عند البشر، بل من عند الله. هل هذا الملك فعلَ القويمَ في نـظر الله؟ مثل داود. أو خطئ وجعل شعبه يخطأ، مثل يربعام، الذي أعاد خبرة العجل الذهبي إلى البلاد، مع معبد في الحدود الشمالية وآخر في الحدود الجنوبيّة. بل هو أغلق طريق هيكل أورشليم، رمز حضور الله في شعبه، ولكنه انفتح في خلفائه على ديانة بعل الآتية من صيدا وصور، بل من مجمل العالم الكنعانيّ.

ونترك سائر الأسئلة ومنها الحروب التي لم يُذكر منها سوى القليل من أجل إيصال الكلمة النبويّة، كلمة الله. أراد الجنوب أن يحارب الشمال، أطلقت الكلمةُ النبويّة فتوقّفت الحرب، أرادت يهوذا واسرائيل أن تحاربا وتشرّدا بعض المدن. نبّه ميخا بن يملة إلى الهزيمة الآتية. ما الحاجة إلى مثل هذه الحرب؟ وفي أي حال، النبيّ أقوى من الملك. دُعيَ إيليا وأليشع »مركبة الله وفرسانه«. أجل، قوّة كل منهما تساوي قوّة جيش بكامل عتاده. فقوّة الكلمة فوق قوّة السيف. ومشروع الله هو الذي يسير مسيرته، بالرغم من محاولات البشر.

ذاك هو ضوء نلقيه على نصوص أخذت من يشوع وصموئيل في جزء أول، ومن كتب الملوك والأخبار وعزرا ونحميا، في جزء ثانٍ. المهم هو ما نكتشفه من عبرة لنا حين نتأمّل في حكم الله على »التاريخ«. ما قيمة ملك »عظيم« أكثرَ من الأبنية فأرهقَ شعبه بالضرائب؟ ما قيمة ملك استبدّ بالشعب فاستعبده؟ وما قيمة توسّعات من هنا وهناك لا تترك وراءها سوى الموت والدمار والخراب؟ من أجل هذا دوّن الكتاب المقدسّ. ونحن نقرأه بهذه الروح فنكتشف تاريخ الشعوب التي تصبّ في قمّة التاريخ مع ذاك الذي أراد أن يدخل في التاريخ، فوُلد كما يُولد سائر البشر، وعاش على الأرض ليجعل الله حاضراً في العالم. إنه يسوع المسيح.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM