تشترون البائس بالفضّة.

 

تشترون البائس بالفضّة

8: 7-4

دُعيَ النبيّ عاموس »نبيّ العدالة الاجتماعيّة«. فهو إن أتى من الجنوب إلى الشمال، لم يأتِ في الدرجة الأولى ليندّد بعبادة البعل التي سيطرت بما يرافقها من احتفال، على عبادة الإله، الذي لا صورة له ولا تمثال، ولا ممارسة الأكل والشرب والبغاء المكرّس كما قيل عن العجل الذهبيّ: »جلسوا يأكلون ويشربون، ثمّ قاموا يمرحون« (خر 32: 6). ونحن نفهم ماذا يعني هذا المرح الذي يصل بهم إلى الفجور والعربدة. هذا أشار إليه عاموس إشارة عابرة، ولكنّه ندّد أكثر ما ندّد بالممارسات التي تتمّ في حياة مدينة السامرة، التي ازداد فيها غنى الأغنياء وكثر فقر الفقراء الذين صاروا عبيدًا لملاّكين كبار ومديونين لأصحاب المال فيبيعون نفوسهم وعيالهم وفاء لدين عليهم يتكاثر بسبب الربى الفاحش الذي جعل الشريعة تكرّر أكثر من مرّة: »لا تضعوا عليه ربى« (خر 22: 25). »لا تأخذ منه ربى ولا مرابعة« (لا 25: 36). »لا تعطِ فضّتك بالربى« (آ 37). »لا تقرض أخاك بربى ربى، ربى فضّة، ربى أكل، ربى كلّ شيء يؤخذ بالربى« (تث 23: 20). تلك هي الحالة التعيسة التي تكلّم فيها عاموس فبدا قاسيًا جدٌّا. وها نحن نورد 8: 4-7:

4 اسمعوا هذا،

أيّها الذين يبغضون البائسين،

ويبيدون المساكين من الأرض.

5 القائلون:

»متى يمضي رأس الشهر

فنبيع ما يباع،

وينقضي السبت

فنفتح سوق الحنطة.

فنصغِّر القفّة ونكبّر المثقال،

ونستعين بموازين الغشّ.

6 فنقتني الفقراء بالفضّة،

والبائس نشتريه بنعلين،

ونبيعه نفاية الحنطة«.

7 بجاه يعقوب أقسم الربّ:

»لا أنسى عملاً من أعمالهم إلى الأبد«.

1- سياق النصّ

إنّ الهجوم على التجّار الغاشّين يتّخذ مكانه في اعتراض عامّ. فعاموس، راعي تقوع، الآتي من مملكة يهوذا، هاجم مملكة الشمال وأسلوب الحياة فيها. فكشف هذه الحضارة الجديدة وأبرز الفساد فيها.

ومع ذلك، هل كانت حقبة متألّقة أفضل ممّا كان في أيّام يربعام الثاني، حفيد ياهو، وما حملت إلى الشعب من سعادة ورخاء؟ فالسامرة امتلأت بالبيوت الفخمة: البيت الشتويّ بحجر مقصوب، كما كان هيكل سليمان أو قصوره (5: 10). بدأ الامتدادُ الاقتصاديّ بطيئًا، ثمّ راح في سرعة هائلة. وفي بضعة قرون من الزمن، يلاحظ الإنسان تبدّلاً كبيرًا تشهد عليه التنقيبات الأثريّة. ففي أولى عواصم مملكة الشمال، ترصة، أو تلّ الفرح، قرب نابلس (فلسطين)، بدت بيوت القرن العاشر ق.م. متساوية في المساحة وفي الترتيب. وشكّل كلُّ بيت مسكن عائلة تشبه حياتُها حياة جارتها. ولكن تبدّل كلّ شيء في القرن الثامن. فالبيوت الغنيّة بدت كبيرة، مبنيّة بناءً مميَّزًا، وقربها، تتكدّس بيوت شعبيّة تتميّز بفقرها.

هي ثورة اجتماعيّة حصلت: ففي الأيّام الأولى من انتقال العبرانيّين من البداوة إلى حياة الحضّر، كان الجميع تقريبًا ينعمون بوضع اجتماعيّ واحد. وجاء الغنى من أرض قُسمت بين العيل. وكانت كلّ عائلة تحافظ على قطعة الأرض التي نالتها، وتدافع عنها بدمها. هذا ما حصل لنابوت اليزرعيليّ الذي رفض أن يبادل كرمته أو يبيعها للملك أخاب: »لا سمح الربّ أن أعطيك ميراث آبائي« (1 مل 21: 3). غير أنّ النظم الملكيّة أخرجت طبقة من المواطنين الأغنياء. وما عاد العمل ينبوع الغنى الوحيد: ظهر التجّار فحلّ محلّ الاقتصاد اقتصادٌ يسيطر عليه المال. قال أش 2: 7:

امتلأت أرضُهم فضّة وذهبًا،

وكنوزًا لا حدّ لها.

وأورد هو 12: 9 كلامًا على فم أفرائيم، في مملكة الشمال:

كم نحن أغنياء،

وجدنا لأنفسنا ثروة.

والفلاّحون الذين امتلكوا قطعة أرض صغيرة، صاروا ضحيّة هذه التحوّلات، وليس من يدافع عنهم. فأصبحوا عمّالاً مياومين لا يملكون شيئًا سوى سواعدهم. بل استدانوا المال. ولمّا لم يستطيعوا إيفاءه، باعوا نفوسهم عبيدًا هم وعيالهم. لهذا كان التشريع بأن يحرَّر هذا »العبد«. إمّا يفتديه أخوه أو أحد أقاربه، إمّا ينتظر السنة السابعة. ولكنّ العديدين رفضوا أن يتحرّروا، لأنّ العبوديّة تؤمّن لهم أقلّه الطعام فقال خر 21: 6: »يثقب سيّده أذنه فيخدمه كلَّ حياته«.

2- اسمعوا هذا

ويبدأ الكلام عن جشع التجّار وطمعهم. هم يشبهون العظماء. أمامهم الفقير (ا ب ي و ن) والمحتاج والوضيع (ع ن و ي م) والمداس. أمامهم الذين لا حقّ لهم في العدالة، عنهم يقول سفر الأمثال 16: 19:

تواضعُ الروح مع المساكين،

ولا اقتسام الغنيمة مع المتكبّرين.

وفي آ 6، نعرف أنّهم »الأذلاّء« (د ل ي م) الذين يخضعون للقويّ ولا يجادلون. ويسألون: متى؟ هم يتنظرون الهلال أو عيد القمر الجديد، كما ينتظرون أن ينقضي السبت ليمضون باكرًا في يوم الأحد. لا وقت لهم يضيّعونه. احتفلوا بالأعياد في جوّ من الفرح بذبائح سلاميّة وبتطوافات الحجّ. ولكنّ العيد يمنعهم من متابعة الأعمال التجاريّة. يقترب يوم الراحة فينزعج هؤلاء التجّار لأنّهم أضاعوا بعض الربح. ولكن لا بأس، فهم سوف يعوّضون. وحياتهم الدينيّة الشكليّة تجعلهم مبغَضين في تصغير القفّة وتكبير المثقال، وهكذا يُكثرون الوزن الذي به يزنون الفضّة التي يدفعها الفقير. وإذ يزيد هؤلاء التجّار ثروتهم، يمنحون لنفوسهم إمكانيّة الظلم والاستغلال: يستطيعون أن يشتروا البائس.

هنا نقرأ في عا 2: 6-7 مقطعًا موازيًا لهذا المقطع:

6 وهكذا قال الربّ:

»لأجل معاصي بيت إسرائيل المتكرّرة،

حكمتُ حكمًا لا رجوع عنه.

لأنّهم يبيعون الصدّيق بالفضّة،

والبائس بنعلين اثنين.

7 ويمرّغون رؤوس الوضعاء في التراب

ويزيحون المساكين عن طريقهم،

ويدخل الرجل وأبوه على صبيّة واحدة،

فيدنّسان اسمي القدّوس.

إذا استطاع التاجر أن يشتري المسكين، فبسبب دين لم يُدفع. فشرعة العهد، شأنها شأن ما في الشرق القديم، عرفت العبوديّة داخل البلد وبين أبناء الوطن الواحد. تحدّث خر 21: 7 عن مثل هذا الأمر فقال:

إن باع رجلٌ ابنته جارية،

فلا تخرج من الخدمة خروج العبيد.

ونقرأ في سفر اللاويّين (25: 39-40) ما يلي:

39 وإذا افتقر إسرائيليّ عندك،

وباع نفسه لك،

فلا تستخدمه خدمة العبيد.

40 بل كأجير ومقيم يكون معك،

ويخدمك إلى سنة اليوبيل.

ومن أقرض مالاً مع رهن، يستطيع أن يأتي ويأخذ ابنَي أرملة كعبدين، لأنّ الوقت حان وما دفعت دينها. هكذا يكون الولدان رهينتين شخصيّتين ويكون عملهما لإعادة المال إلى من أقرض المال (2 مل 4: 1-7). مثلُ هذه العبوديّة الموقّتة تتوقّف حين يُدفَع الدين أو يُعفى الدين. قالت شرعة حمورابي إنّ الفترة لا تتجاوز الثلاث سنوات. وأعلنت شرعة العهد أنّ الدائن لا يتعامل مع المديون مثل دائن بالربى (خر 22: 24):

وإن أقرضتَ مالاً لمسكين من شعبي،

فلا تعامله كالمرابي،

ولا تفرض عليه ربى.

وفي أيّ حال، لا يمتدّ الدين أكثر من ستّ سنوات (خر 21: 2):

إذا اقتنيت عبدًا عبرانيٌّا،

فليدخل في خدمتك ستَّ سنين،

وفي السابعة يخرج حرٌّا بلا ثمن.

ولكن يبدو أنّ بني إسرائيل لم يحفظوا هذا التشريع وقد شهد عليهم إرميا (34: 8-11)

8 وكلّم الربّ إرميا بعد أن قطع الملك صدقيّا عهدًا مع شعب أورشليم على المناداة بتحرير العبيد،

9 فيطلق كلُّ واحد عبده العبرانيّ وأمته العبرانيّة، ولا يستعبد أحدٌ يهوديٌّا من بني قومه.

10 فوافق جميعُ الرؤساء وعامّةُ الشعب على هذا العهد، وأطلقوا عبيدهم أحرارًا.

11 ولكنّهم عادوا بعد ذلك، وأرجعوا العبيد والإماء، الذين أطلقوهم أحرارًا، إلى العبوديّة.

3- الإنسان بنعلين

وما ضايق عاموس بشكل خاصّ هو أنّهم يبيعون »الصدّيق« (2: 6)، البارّ، الإنسان الصالح الذي لم يفعل شرٌّا. ولكن وجب عليه أن يحمل ديون الآخرين وقد نكون هنا مرّة أخرى أمام ظلم المحاكم. نقرأ في ف 5:

7 ويل لكم! تحرّفون العدل إلى علقم،

وتلقون الحقّ إلى الأرض.

12 فأنا عالم بمعاصيكم الكبيرة،

وخطاياكم العظيمة.

تضايقون الصدّيق وتأخذون الفدية،

وتحرّفون حقّ البائسين في المحاكم.

15 أبغضوا الشرّ وأحبّوا الخير،

وأقيموا العدل في المحاكم.

لا يهاجم عاموس استعمال القانون كما يصوَّر هنا، مع أنّ قوانين شرعة العهد قد تجاوزها الزمن في حضارة يسيطر المالُ عليها.

نستطيع أن نشتري (أو: نبيع، 2: 7) المسكين »بنعلين اثنين«. فكيف يُسمَح بأن يباع إنسان »بحذاء«. نحن هنا على مستوى الحقوق المدنيّة، لندلّ على أنّنا نمتلك إنسانًا من الناس (مز 60: 10). في نصوص نوزو (في العراق) القانونيّة، يبدو النعلان ثمنًا صوريٌّا لبعض المعاملات اللاقانونيّة. وهكذا، حين تحدّث عاموس عن »نعلين اثنين«، تطلّع إلى المسكين الذي حُرم من أملاكه في ظاهر محكمة قانونيّة.

ما نقوله هو أنّ عاموس لم يرفض شريعة العبوديّة ولم يقبل بها، وهي عُرفٌ مسكونيّ، بل يحتجّ بقوّة على ما فيها من انحراف. ويتمنّى أن تكون فقط للمديونين شخصيٌّا بدين خطير. ويرفع الصوت من أجل المساكين والبؤساء، كما في الحكمة التقليديّة القديمة. نقرأ في أم 22: 22-23:

22 لا تقهر الفقير لأنّه فقير،

ولا تسحق المسكين في القضاء،

23 فالربّ يردّ التهمة عنهما،

ويسلب نفوس سالبيهما.

ونقرأ أيضًا في سفر الأمثال (31: 8-9):

8 إفتح فمك دفاعًا عن المتألّمين،

وعن حقوق جميع المهمَلين.

9 إفتح فمك واحكم بالعدل،

وانصف المسكين والبائس.

كان عاموس قاسيًا في حكمه، لأنّه استند إلى الربّ الذي قطع عهدًا مع شعبه. وفي هذا المجال نقرأ في مز 72: 12-13 ما يقوله المرنِّمُ عن الملك الذي يكون بحسب قلب الله:

12 يُنقذ البائس المستغيث،

والمسكين الذي لا نصير له.

13 يحمي الذليل والبائس،

ويخلّص نفوس الفقراء.

14 من الأذى والعنف يفتديهم

ويكون دمُهم عزيزًا عليه.

في مثل هذه الظلامات يتدخّل الله. »بجاه يعقوب« ويحلف. وجاه يعقوب أو افتخاره، هو الله. وهكذا يُقسم الله بنفسه، ممّا يدلّ على أنّه سيفعل دون محالة. ما نقرأ في آ 7: يلتقي مع تك 49: 24: »بقدرة الجبّار يعقوب (أ ب ي ر. ي ع ق ب). فالربّ هو الذي جعل يعقوب يفتخر بقدرته. هو الذي اختاره (تك 25: 23). وأعطاه ما يمتلك من مواهب. ولكنّه يعاقبه أيضًا إن لم يكن أمينًا للعهد: »لا أنسى عملاً من أعماله السيّئة« (آ 7ب).

وكان الزلزال (1: 1) كعلامة لما سوف يأتي (8: 8: ترتجف الأرض). ويصوّر النصّ يوم الربّ: هذا الوقت العظيم الذي طالما انتظروه لن يكون يوم نصر وطنيّ، بل يوم حداد، فيه يصمت كلام الله، يوم ظلام وموت.

الخاتمة

نحن لا نقرأ في هذا الكلام، حكمًا قاطعًا على الاقتصاد التجاريّ الذي يتوسّع في ذلك الزمان. كان عاموس فلاّحًا في برّيّة يهوذا، فعارض حضارة المدينة التي يكرهها. ولكنّه لم يكن ذاك المعارض العائش على هامش المجتمع مثل هؤلاء الذين كانوا حول أليشع، ولا مثل الركابيّين الذين لبثوا عائشين في البرّيّة أو على حدودها، ليعلنوا أمانتهم ليهوه كما شوّهتها سلالةُ أخاب.

ولا مشروع سياسيًا محضًا لعاموس. لقد سبق كرازتَه ثورةُ ياهو الدامية، التي ساندها الركابيّون (2 مل 10) ووافق عليها أليشع (2 مل 10: 30). وهذه الثورة أنهت قبل قرن من الزمن ديانة بعل. فشعائر العبادة الحقيقيّة إكرامًا ليهوه، ظهرت بكلّ ترفها في معبدَيْ الملك في بيت إيل ودان. والجميع، بمن فيهم التجّار والطامعون، يمارسون أعياد الهلال والسبت. غير أنّ عاموس الآتي من مملكة الجنوب لا يوهَم من هذه التحوّلات السياسيّة وأبعادها، ولا الإيديولوجيّا السياسيّة الحاضرة الموروثة عن ياهو، بل هو ينتقدها انتقادًا لاذعًا (7: 10-17: تزني امرأتك في المدينة، ويسقط بنوك وبناتك بالسيف)، فبعل لم يعد الصنم الرسميّ في المملكة، بل حلّ محلّه المال.

وقام مشروع عاموس بأن يجعل مملكة إسرائيل أمام إله العهد. »استعدّ للقاء إلهك، يا إسرائيل« (4: 12). وبأن ينتقد كلّ نظام وظرف منطلقًا فقط من رباط العهد (3: 1-2):

1 اسمعوا هذه الكلمة

التي تكلّم بها الربّ عليكم، يا بني إسرائيل،

على كلّ عشائركم الذين أصعدتُ من أرض مصر. قال:

2 »أنتم وحدكم عرفتُ

من كلّ عشائر الأديم

لهذا افتقد عليكم (أعاقبكم) كلَّ ذنوبكم«.

ما حاول عاموس أن يبدّل القوانين، بل طلب أن يكتشفوا روح هذه القوانين، كما في 5: 24:

ليجرِ العدلُ كالمياه،

والصدق كنهر لا ينقطع.

هل حلم عاموس بمجتمع لا طبقات فيه؟ هذا كلام معاصر لم يفكّر فيه. ولكنّه سعى بكلّ قواه من أجل أخوَّة ملموسة بين جميع الذين اختارهم الله، فكان فخرُهم المنتقمَ لهم. وحاول أيضًا أن يؤمّن احترام حقّ الفقير في شعب من الإخوة. وهكذا التقى بالمشروع العميق الذي في شرعة العهد. وقد تأثّر سفر التثنية بعاموس وهوشع من أجل قوانين تتكيّف والمجتمع الجديد الذي يعيش فيه الآتون من البرّيّة. ولكن عاموس لا يحلم بمجتمع لا مال فيه. ما يريده هو أن يكون الربّ كافلَ الحقّ والعدالة في العلاقات بين الإخوة، بعد أن حلّ محلّه المال الذي صار صنمًا يهدّد الجماعة كلّها بفساده. أتُرانا اليوم بعيدين عن هذا المناخ الذي عنه يقول الرسول في الرسالة إلى تيموتاوس: »أصلُ الشرور كلّها محبّة المال« (1 تم 6: 10).

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM