القديس أوغسطين في المقال الرابع من انجيل القديس يوحنّا.

 

القديس أوغسطين

في المقال الرابع من انجيل القديس يوحنّا

مرّات عديدة سمَعتْ قداستُكم وأنتم تعرفون كامل المعرفة، أنَّ يوحنّا المعمدان استحقَّ التقدير بأن يكون صديق العريس، بقدر ما هو الأكبر بين أولاد البشر، وأنَّه دلَّ على تواضعه من أجل معرفة المخلِّص. إنّه غارَ، لا على كرامته الخاصَّة، بل على كرامة العريس. وطلب، لا مجدَه الخاصّ، بل مجد ديّانه، مجد ذاك الذي سار مثل منادٍ لكي يبشِّر به. ولهذا، ساعة الأنبياء سابقوه أنبأوا فقط بأحداث متعلِّقة بالمسيح، امتاز هو بأن دلَّ عليه بإصبعه. قبل مجيئه، لم يكن المخلِّص معروفًا لدى الذين رفضوا أن يؤمنوا بالأنبياء. وهكذا جهلوه حتّى عندما عاش في وسطهم. في مجيئه الأوَّل، رأوه في حالة اتِّضاع حيث كان من الصعب أن يعرفوه، ولاسيَّما لأنَّه كان في الاتِّضاع، لهذا فالبشر الذين أعمتْهم كبرياؤهم بسبب اتِّضاعه العميق، صلبوا مخلِّصهم وبالتالي أعدُّوا فيه لأنفسهم الديّان الذي يحكم عليهم.

ولكنَّ ذاك الذي بدأ فجاء في الخفاء لأنَّه جاء متواضعًا، أما يسهل علينا أن نعرفه حين يأتي بعد ذلك، لأنَّه سيُرفَع فوقَ كلِّ شيء؟ لقد سمعتم المرتِّل يقول: »جاء الله فتجلّى للجميع. هو إلهنا ولن يصمت« (مز 50: 2-3). صمت لكي يُدان، ولن يصمت حين يبدأ بدوره أن يدين. ما كان المرتِّل قال: »جاء فتجلّى للجميع، لو لم يكن في الماضي أتى مخفيٌّا«. وكذلك ما كان قال: »لن يصمت«، لو لم يكن حفظ الصمتَ أوَّلاً. وكيف صمت؟ إسأل أشعيا: »أُرسلَ إلى الموت مثل نعجة، ومثل الحمل أمام الذي يجزُّه لبث صامتًا وما فتح فمه« (أش 53: 7). غير أنَّه »يتجلّى حين يأتي ولن يصمتَ بعدُ«. وكيف يتجلّى؟

»اللهيب يمشي أمامه وبجانبه عاصفة هوجاء« (مز 50: 3). فالعاصفة تأخذ من بيدره كلَّ القشّ الذي يُداس الآن بالأرجل. وتُحرِق النارُ كلَّ ما حملته العاصفة. اليوم المسيحُ يصمت. يصمت الديّان، ولا يصمت كالمعلِّم. فلو صمت يسوع المسيح صمتًا تامٌّا، ماذا تُفيد الأناجيل؟ ما تفيد رنَّةُ أصوات الرسل، وأناشيد المزامير، وإنباءات الأنبياء؟ في كلِّ هذا يسوع المسيح لا يصمت. اليوم يصمت لأنَّه لا ينتقم، ولكنَّه لا يصمت في ما يخصُّ تعليمنا. ويأتي يومٌ فيتجلّى فيه من أجل الانتقام. يظهر للجميع حتّى للذين لا يؤمنون به. وبانتظار ذلك، اختفى عن أعين البشر، وإن وُجد في وسطهم فوجب أن يحتقروه. فلو لم يحتقروه، لما كانوا صلبوه. ولو لم يصلبوه، لما كانوا سفكوا دمه الذي كان الثمنَ لفدائنا. وصُلب لكي يدفع عنّا هذه الفدية. واحتُقر ليصُلَب وتراءى في حال الاتِّضاع لكي يُحتقَر.

ولكن بما أنَّه ظهر في جسد مائت، مثل الظلمات في الليل، أضاء سراجًا يساعد على رؤيته. وهذا السراج كان يوحنّا الذي كلَّمتُكم عنه كثيرًا. ودرسُ الإنجيل الذي سمعناه الآن، يتضمَّن أقوال يوحنّا وأوَّلها هذا الاعتراف الهامَّ بأنَّه ليس المسيح. ذاك كان سموَّ يوحنّا بحيث حسبوه بسهولة أنَّه المسيح، وذاك كان برهان تواضعه بأنَّه كان بالإمكان أن يُحسَب المسيح، فأعلن أنَّه ليس هو. »وهذه هي شهادة يوحنّا حين أرسل إليه اليهود من أورشليم كهنة ولاويّين ليسألوه: من أنت؟« ما كانوا سألوه لو لم يكن لديهم فكرة سامية عن سموِّه، وعن سلطان يجعله يتجرَّأ فيعمِّد. »فاعترف وما أنكر«. بماذا اعترف؟ »اعترف بأنَّه ليس المسيح«؟

»فسألوه: إذًا من أنت؟ هل أنت إيليّا؟«. فقد علموا أنَّ إيليّا يسبق المسيح لدى اليهود. واسم المسيح لم يكن مجهولاً لدى أحد. ما عرفوا المسيح في ذاك الذي كان المسيح حقٌّا. ولكنَّهم لم يؤمنوا أنَّ المسيح لن يجيء. إذ أمِلوا منه أن يأتي، صُدموا بحضوره حين جاء في وسطهم: صُدموا باتِّضاعه كما بحجر. ومع أنَّ هذا الحجر كان صغيرًا، فقد قُطع من جبل بدون مساعدة يد بشريَّة. عن هذا الحجر تكلَّم النبيّ دانيال حين قال إنَّه رأى حجرًا يُقتطَع من الجبل بدون مساعدة يد بشريَّة (دا 2: 34-35). وماذا قال بعد ذلك؟ وهذا الحجرُ كبُر وصار جبلاً كبيرًا وغطّى وجه الأرض. لتلاحظْ محبَّتُكم ما أقول: حين كان المسيح أمام اليهود، كان منقطعًا من الجبل. وهذا الجبل هو مملكتُهم. غير أنَّ مملكة اليهود لم تغطِّ وجهَ الأرض. من هنا انفصل الحجر، لأنَّ من هناك خرج ربُّنا يسوع المسيح بحسب الجسد البشريّ. ولماذا بدون مساعدة بشريَّة؟ لأنَّ عذراء ولدته بدون مساعدة بشريَّة. إذًا، قُطع هذا الحجر من الجبل بدون يد بشريَّة لأنَّه وُضع أمام عيون اليهود. ولكنَّه كان بعدُ حجرًا صغيرًا. ولا عجب في ذلك، لأنَّه لم يكن بعدُ حجرًا كبيرًا وما ملأ بعدُ الكون.

ذاك ما فعله المسيح فيما بعد مع مملكته التي هي الكنيسة: فقد غطَّت وجهَ الأرض، وبما أنَّه لم تكن بعدُ أخذت كلَّ اتِّساعها، اصطدم بها اليهود كما بحجر. وهكذا تمَّ فيهم ما كُتب: »من يسقط على هذا الحجر يتحطَّم، والذين يسقط عليهم يحطِّمهم« (لو 20: 18). أوَّلاً، سقطوا على يسوع المتَّضع، فسقط عليهم من علوِّ عظمته. ولكن لكي تسحقهم يومًا عظمتُه، وجب أوَّلاً أن يسحقهم اتِّضاعُه. اصطدموا به وتحطَّموا. ما سحقهم بل حطَّمهم، وسيأتي في عظمته ويسحقهم. واليهود يُعذَرون لأنَّهم اصطدموا بهذا الحجر وهو بعدُ صغير. ولكن من هم الذين اصطدموا بالجبل نفسه؟ هم أولئك الذين سأكلِّمكم عنهم وأنتم تعرفونهم. الذين يُنكرون الكنيسة المنتشرة في المسكونة كلِّها. ما اصطدموا بالحجر الصغير، بل بالجبل عينه. وإذ كبر هذا الحجر صار جبلاً: وبما أنَّ اليهود كانوا عميانًا، لم يروا هذا الحجر. فأيُّ عمى ضربهم لكي لا يروا الجبل؟

إذًا، رأى اليهود يسوع المسيح في الاتِّضاع وما عرفوه. دلَّهم عليه سراج. فهذا الرجل الذي هو أعظم من وُلد من امرأة، قال لهم: »لستُ المسيح«. فسألوه: هل أنت إيليّا؟ فأجاب: لستُ إيليّا. لأنَّ المسيح كان سيُرسل إيليّا أمامه. ومع ذلك أجاب: لستُ أنا هو. وهكذا حرَّك صعوبة لا بدَّ من حلِّها. فنحن نخاف أن يظنَّ بعضُ المتقدِّمين في معرفة الكتب المقدَّسة، أنَّهم يرون معارضة بين أقوال يوحنّا وأقوال يسوع المسيح. حين تكلَّم المخلِّص نفسه في موضع آخر من الإنجيل، قال له تلاميذه: »إذًا كيف يقول الكتبة (أي الحاذقون في علم الشريعة) إنَّ إيليّا يأتي أوَّلاً؟« فقال الربُّ لهم: »إيليّا جاء وعاملوه كما أرادوا. وإذا شئتم أن تعرفوا فهو يوحنّا المعمدان«. أجاب ربُّنا يسوع المسيح: »جاء إيليّا. هو يوحنّا المعمدان«. غير أنَّ يوحنّا الذي سُئل اعترف بأنَّه ليس إيليّا، كما اعترف بأنَّه ليس المسيح.

وفي الواقع، وبما أنَّ اعترافه حقيقيٌّ حين أقرَّ أنَّه ليس المسيح، كذلك كان حين أقرَّ بأنَّه ليس إيليّا. كيف نوفِّق أقوال الديّان وأقوال الذي يبشِّر به؟ أيكون المنادي كاذبًا؟ لا سمح الله. فما قاله، قاله بإلهام من الديّان. إذًا، لماذا قال يوحنّا: لست إيليّا. وقال الربُّ: هو إيليّا؟ لأنَّ ربَّنا أراد بذلك أن يعلِّم في الصورة مجيئه المقبل، ويقول إنَّ يوحنّا جاء بروح إيليّا. فما كان يوحنّا بالنسبة إلى المجيء الأوَّل، سيكونه إيليّا بالنسبة إلى الثاني. وبما أنَّ هناك مجيئين للديّان، يكون هناك مرسَلان يبشِّران به: الديّان يكون هو هو، ويكون مرسَلان مختلفان. ولكن لئلاّ يكون ديّانان اثنان، وجب أن يأتي الديّان لكي يُدان. فسبقه مرسَل أوَّل دعاه إيليّا، لأنَّ إيليّا يكون في المجيء الثاني ما كان يوحنّا في المجيء الأوَّل.

ولتلاحظْ محبَّتُكم حقيقةَ ما أقول. حين حُبل بيوحنّا، أو بالأحرى حين وُلد، جعل منه الروح القدس هذه النبوءة التي ستتمُّ في يوم من الأيّام: »يسبق العليَّ بروح إيليّا وقوَّته« (لو 1: 17). إذًا، لم يكن إيليّا، بل وَجب أن »يأتي بروح إيليّا وقوَّته«. ماذا تعني العبارة »بروح إيليّا وقوَّته«؟ أي مكان إيليّا، وفي الروح القدس مثله. ولماذا مكان إيليّا؟ لأنَّ يوحنّا، في المجيء الأوَّل، أدّى الدور الذي يؤدّيه إيليّا في الثاني. وهكذا كان جواب يوحنّا صحيحًا في المعنى الحرفيّ. أمّا ربُّنا فقال في الصورة: »هو إيليّا«. أمّا يوحنّا فقال في المعنى الحرفيّ كما شرحتُ: »لست إيليّا«. فإنَّ نظرتَ من زاوية الصورة إلى رسالة السابق، يوحنّا هو إيليّا. فما هو في المجيء الأوَّل يكونه إيليّا في المجيء الثاني. ولكن إن توقَّفتَ عند خاصِّيَّة الشخص، فيوحنّا هو يوحنّا، وإيليّا هو إيليّا. لهذا تكلَّم ربُّنا في الصورة فقال صادقًا: هو إيليّا. ويوحنّا تكلَّم بحسب خاصِّيَّة الأشخاص فقال بصدق أيضًا: »لست إيليّا«. فلا يوحنّا ولا الربّ، لا السابق ولا الديّان تكلَّموا ضدَّ الحقّ، ولكن يجب أن نفهمهم جيِّدًا. فمن يفهم هذا؟

ذاك الذي اقتدى بتواضع السابق وعرف عظمة الديّان. ما من متواضع مثل هذا السابق. يا إخوتي، ما كان ليوحنّا استحقاق أكبر من استحقاقٍ كان التواضعُ له ينبوعًا في الظرف الحاضر: كان بإمكانه أن يغشَّ البشر بحيث يعتبرونه المسيح ويحسبونه كذلك (لأنَّ لطفه وتساميه كانا كبيرين). ولكنَّه أكَّد علانية فقال: »لستُ المسيح«. هل أنت إيليّا؟ لَو قال أنا هو، لكان أشار إلى مجيء المسيح الثاني، ساعة يأتي كالديّان، لا المجيء الأوَّل الذي جاء فيه ليُدان. وكأنَّه يقول لهم: إيليّا سيأتي، أجاب: »لستُ إيليّا«. ولكن نلاحظ أنَّنا أمام المسيح المتَّضع الذي كان يوحنّا سابقه، لا المسيح المرتفع في المجد الذي يسبقه إيليّا. لأنَّ هذه هي التكملة التي أعطاها ربُّنا: »يوحنّا هو إيليّا الذي سيأتي«. سبق وجاء ليكون في الصورة ما يكون إيليّا في الحقيقة. حينئذٍ إيليّا يكون إيليّا شخصيٌّا. والآن يوحنّا هو إيليّا بالشبه. في الواقع، الآن يوحنّا هو يوحنّا وبالمشابهة هو إيليّا. كلاهما كانا سابقين، وكلٌّ منهما أدّى خدمة الآخر، دون أن يخسر شخصيَّته. ولكن بالنسبة إلى هذا وذاك، فليس سوى ربٍّ واحد، سوى ديّانٍ واحد.

»سألوه... فأجاب: أنا صوتُ صارخ في البرّيَّة« (يو 1: 23).. هذا ما قاله أشعيا (أش 40: 3). هذه النبوءة تمَّت في يوحنّا المعمدان: »أنا صوت صارخٍ في البرّيَّة«. ماذا يصرخ؟ »قوِّموا طريق الربِّ، اجعلوا سبُل إلهنا مستقيمة«. برأيكم، أما هو دور المنادي أن يقول: »اخرجوا من هنا«؟ قال المنادي: اخرجوا من هنا. ويوحنّا قال: تعالوا. ذاك هو الفرق. فيوحنّا يدعو إلى المخلِّص المتواضع بحيث لا نتحمَّل شيئًا حين يأتي الديّان في عظمته... ما قال: أنا يوحنّا، أنا إيليّا، أنا نبيّ. فماذا قال؟ هذا هو اسمي: صوتُ صارخ في البرّيَّة... أنا هو النبوءة عينها.

»والذين أرسلوا إليه كانوا من عداد الفرّيسيّين«، أي من الوجهاء بين اليهود. وسألوه... بدت له جرأة أن يعمِّد. فسألوه: باسم من تفعل هذا؟ سألناك إذا كنتَ المسيح، فأجبتنا كلاّ، إذا كنتَ السابق، لأنَّنا نعرف أنَّ إيليّا يأتي قبل مجيء المسيح. فقلتَ لنا: لستُ إيليّا. فهل تكون بالصدفة شخصًا مرسَلاً قبل السابقين بمدَّة طويلة، أي نبيٌّا له السلطان أن يعمِّد؟ وما دعوتَ نفسك النبيّ. فيوحنّا لم يكن نبيٌّا، بل أعظم من نبيّ. فقد أدّى ربُّنا الشهادة له: »ماذا خرجتم تنظرون في البرّيَّة؟ أقصبة تحرِّكها الريح؟« في الحقيقة نفترض أنَّ الأمر لم يكن هكذا بالنسبة إلى يوحنّا، لأنَّه لا يشبه في شيء ما تحرِّكه الريح. فمن تحرِّكه الريح هو من يخضع من كلِّ جهة لنسمة كلِّ روح ضلال. »ماذا أتيتم تنظرون؟ أرجلاً في اللباس الناعم؟« ولكنَّ لباس يوحنّا كان خشنًا. قميصٌ مصنوع بوبر الجمال... »أنبيّ؟ بل أقول لكم هو أعظم من نبيّ«. فالأنبياء بشَّروا بالمسيح قبل مجيئه بزمان طويل، أمّا يوحنّا فدلَّ عليه حين كان على الأرض.

»إذًا، لماذا تعمِّدُ؟ أنا أعمِّد بالماء...«. إن تنازُلَ المسيح كان حاجزًا فما استطاعوا أن يروه. لهذا أُشعل السراجُ. وها هو يترك المكان، مع أنَّه كان بإمكانه أن يُحسَب ما ليس هو. »هو الذي يجيء بعدي« أي كما شرحنا: فُضِّل عليّ.... يجب أن تفهم قداستكم الآن. إذا كان يوحنّا اتَّضع حتّى قال: »لا أستحقُّ أن أحلَّ سيور نعليه«، فكم يجب أن يتواضع أولئك الذين يقولون، نحن نعمِّد، نعطي ما هو لنا. ما هو لنا مقدَّس هو! قال يوحنّا: لست أنا بل هو، هم يقولون: نحن. أقرَّ يوحنّا أنَّه لا يستحقُّ أن يحلَّ سيور نعليه. ولو أقرَّ أنَّه يستحقّ، فكم كان يبدو متواضعًا! فلو أعلن أنَّه يستحقّ فقال: هذا جاء بعدي وهو قبلي، لكان تواضع كثيرًا. ولكن أن يقرَّ بأنَّ هذه المهمَّة تتجاوز استحقاقاته، فهذا لا يفعله إلاّ إنسانٌ امتلأ حقٌّا من الروح القدس. والخادم الذي عرف هكذا سيِّده، استحقَّ أن يكون صديقه.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM