افرام السرياني في الإنجيل الرباعي.

 

افرام السرياني

في الإنجيل الرباعي

1- سرّ التجسُّد

لماذا ارتدى الربّ بشريّة (من لحم ودم)؟ لكي تتذوَّق البشريّةُ النصر، ولكي يعرف الناس مواهب الله ويفهموها. لو انتصر الله من دون البشريّة، أيَّ مديح يؤدّون له؟

وأراد الربّ أن يبيِّن في البدايات، أنّه لا حسد هناك من الإنسان (وأنّه ما سعى إلى منعه) من أن يصير الله. فالإنسان الذي فيه تواضعَ الربّ، هو أعظم من ذاك الذي أقام فيه ساعةَ المجد الأوّل لآدم. لهذا قال: أنتم آلهة (يو 82: 6).

جاء الكلمة. لبسَ البشريّة: ما لا يُدرَك (اللاهوت) يدركه ما يدرَك (الإنسان) والبشريّة ترتفع على الذين يدركونها (الشياطين) بواسطة ما لا يُدرَك.

لاقَ بالربّ أن يكون موضعَ جميع الخيرات، وفيه يلتقي البشر. أن يكون غايةَ كلِّ الأسرار التي تركض نحوه من كلِّ جهة. أن يكون كنز جميع الأمثال والرموز. يحمل كما على أجنحة جميعَ البشر فيرتاحون فيه بسلام.

ها هي حكمة الله: الإنسان الذي سقط، رفعه الإنسان. جسدُ آدم سبق أهواءه الشرّيرة. وبما أنّ هذه الأهواء كانت ملحق ضعفٍ لطبيعة متعافية، ما أخذها الربّ. متعافيةً ارتدى الطبيعة التي خسرت العافية. وهكذا ردّ لها عافيتها الأولى.

جُرحنا جرحًا بليغًا قاسيًا. فأحيَتْنا سريعًا أدويةُ المُحسن إلينا. قُيِّد الإنسان بقيود ظالمة، فما استحقَّ جراحه. ما خطئ إلى إبليس الذي ضربه، كما أنَّه ما أعطى شيئًا للمحسن الذي شفاه.

شمشون، بفكِّ حمار، قتل أناسًا كثيرين (قض 15: 15-16). والحيّة، بواسطة حوّاء، قتلت الجنس البشريّ كلَّه. فاتَّخذ ربُّنا الأسلحة عينها التي اتَّخذها الخصم، ليغلب العالم ويحرِّك الحكم عليه. نزل إلى القتال. وفي بشريّة أخذها من امرأة، قهرَ العالم. وغُلب الخصم وحُكم عليه.

في البدء كانت الكنيسة مخبَّأة، صامتة. فأعلنتها الأسرار (الرموز). وأخيرًا تجلَّت فأخذت تفسِّر الأسرار التي فسَّرتها في الماضي والتي صمتت الآن.

2- الكلمة

في البدء كان الكلمة (1: 1). كما أنّ القول يكون مع من يقوله، كذلك (الكلمة) هو رفيق ذاك الذي يلده في كلِّ عمل يكون، إمّا فيه وإمّا خارجًا عنه. قد يُوجَد القول قبل أن يُلفَظ. وزكريّا تكلَّم كتابة دون أن يحرِّك شفتيه (لو 1: 13).

والكلمة يعلن أيضًا أنّ الخفايا كُشفت بواسطته، كما أسرار القلب تُعرَف بالقول. هكذا يشهد بولس: »سرّ الله هو المسيح، الذي به كُشفت كلُّ أسرار الحكمة والعلم« (كو 1: 26-27؛ 2: 2-3).

وُلد الكلمة. كان له شكلٌ به لُفظ. قال بوضوح إنَّه ليس من ذاته. بل وُلد. إنَّه ليس الآب، بل الابن. قال: »الله ما رآه أحد. الابن الوحيد الذي في حضن الآب هو عرَّفنا به« (1: 18). وقال: »أنا خرجتُ وأتيتُ من عند الآب« (16: 28). فإن أعلنتَ أنَّه يستحيل على الذي هو أن يُولَد، تتّهم الكتاب بالكذب. قال: »كان«. وقال أيضًا: »وُلد من حضنه« (1: 18).

في البدء كان الكلمة. لا تفهمْ ذلك عن أيِّ كلام. ولا تحصْره في مجرَد صوت. فالصوت ليس في البدء. وقبل أن يصدر ليس بموجود. كما أنَّه بعد أن يصدر لن يعود أيضًا موجودًا. ليس الكلمة مجرَّد صوت، هو شبهُ أبيه. بل ليس هو صوت الآب، بل صورته. إذا شابهك ابنُك المولود منك، لماذا يلد الله صوتًا لا إلهًا؟ إذا ابنُ إليصابات الذي كان صوتًا هو إنسان، فالإله الذي دُعيَ الكلمة هو الله. دُعيَ يوحنّا صوتًا فوُجد شخصًا. هكذا الابن. دُعيَ الكلمة والله الكلمة. هو إله. إنَّه فكرُ الآب. ولكن أما كان للآب سوى فكر واحد؟ إنَّه الابن الوحيد وإن كان للآب أفكار عديدة. هو الفكر الداخليّ للآب، ومع ذلك هو عن يمينه.

في البدء كان الكلمة. الكلمة الذي نتحدَّث عنه هنا، ليس فكرة قيلت في البدء. بل هو فوق البدء. كان زمانٌ لم يُوجَد فيه القول الذي قيل في البدء. أمّا الكلمة الحقيقيّ، فما وُجد زمان كان فيه وزمان آخر لم يكن فيه. زمان لم يكن فيه موجودًا، زمان فيه صُنع (صار). كان من كلِّ زمان ومن كلِّ أزل. كما أنَّ ذاك الذي يلفظه هو من كلِّ زمان ودوام. وهذا الكلمة يشبه الذي يلفظه. إذًا، حين يقول: »في البدء كان الكلمة«، يبيِّن أنَّ تجلّيه فوق كلِّ بداية أزمنة ونهاية.

كان لدى الله (1: 1). لا، في الله. وكما كان ذاك الذي كان، كذلك هذا الكلمة كان لدى الله. في البدء كان الكلمة (1: 1). علَّمنا الإنجيليّ هنا أمرين: الطبيعة وولادة الكلمة. وشرَح: هذا الكلمة ذاته كان لدى الله. فأعلن أيضًا هنا أمرين: الكلمة ليس مثل قول الإنسان، لأنّه لدن الله، وهو جوهره.

والكلمة كان الله (1: 1). علَّم الإنجيليّ هنا ثلاثة أمور: الألوهة. الأقنوم. ولادة الكلمة. وتنبَّه الإنجيليّ ليبيِّن أنّ الله ليس أقنومًا واحدًا (بل ثلاثة أقانيم). كان في البدء لدى الله. بدأ الإنجيليّ فتكلَّم عن ولادته. ثمّ قال إنَّه لدى الله. بعدها، إنَّه الله، وفي النهاية، إنَّه كان دومًا لدى الله.

كلُّ شيء به صار (1: 2). حسب كلام الرسول: »به صنع العوالم« (عب 1: 2) وبدونه ما صار شيء واحد (1: 3). المعنى هو هو. وهذا الذي صار به هو حياة. وهذه الحياة هي نور العالم (1: 3-14). ظهوره بدَّد الضلال السابق. وهذا النور عينه أشرق في الظلمة. والظلمة لم تدركه (1: 5). وهذا يوافق قولاً آخر: »جاء إلى أخصّائه، وأخصّاؤه ما قبلوه« (1: 11).

والنور نفسه أضاء في الظلمة (1: 5). تطلَّعْ إلى الظلمة ومعارضتَها لنور البشر، وافهم كيف أنّ النور »أضاء« في الظلمة. فسِّر باحترام: أضاء. واستنتجْ أقوالاً: أضاء في الظلمة. حسب الإنجيليّ، هذه الظلمة هي الحقبة التي سبقت مجيء المسيح. وأعلن: النور أضاء في هذه الظلمة. وتحدَّث عن ذلك أيضًا مقطعٌ إنجيليّ آخر، مأخوذ من الأنبياء: »أرض زبولون ونفتالي. طريق البحر ومعبر نهر الأردنّ، جليل الأمم، الشعب الذي كان في الظلمة رأى نورًا« (أش 8: 23؛ 9: 1؛ مت 4: 15-16). قبائل مشتّتة أقامت على شاطئ البحر. حُرمَت من التأديب ومن تعليم الإيمان. لهذا دعاها الإنجيليّ: »الشعب الذي كان في الظلمة«. وتكلَّم الإنجيليّ عن هذه الظلمة عينها حين قال: إنّ ظلمة الضلال لم تدرك هذا النور، نور تعليم الكلمة الحكيم. بدأ ببداية خبر تدبير الكلمة المتجسِّد، فقال: »ذاك الذي لم تدركه الظلمة، ظهر في أيّام هيرودس، ملك اليهوديّة« (يو 1: 5؛ لو 1: 5).

بعد أن عرض كيف (بأي شكل)، حتّى (أي نقطة)، لماذا (السبب الذي لأجله) اتَّضع الكلمة، قال في موضع آخر: »الكلمة صار جسدًا وسكن بيننا« (1: 14). منذ الآن، كلُّ ما تسمعه بعد تفسير القول الأوّل حول ألوهيّة الابن، لا تفسِّرْه بعدُ عن الكلمة وحده، بل عن الكلمة الذي لبس جسدًا. فالأَخبار وحَّدت المنظار الإلهيّ والمنظار البشريّ.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM