القراءة البحثيّة في ثلاث محطات: شهادة المعمدان بين الرفض والقبول.

القراءة البحثيّة في ثلاث محطات: شهادة المعمدان بين الرفض والقبول.

نتوقّف في هذه القراءة عند ثلاث محطّات. المعمدان يشهد ليسوع (آ 6-8)، فيرفضه أخصّاؤه (آ 9-11). أما الذين قبلوه فنالوا سلطانًا به صاروا أبناء الله (آ 12-13).

1- يوحنّا المعمدان الشاهد (1: 6-8)

يُبرزُ هذا المقطع التعارض بين المعمدان ويسوع، كما بين الخليقة والخالق: العالم صار، صُنع egeneto به (= يسوع). رج آ7. وحين يعلن المطلع أنّ »به« (يوحنّا) يجب على العالم أن يؤمن (بيسوع) في آ6، فهو يعلن أنّه أتى egeneto من أجل هذه الغاية. سبق وعرفنا أنّ المطلع نشيد في ثلاثة أجزاء، إذا جعلنا خارجًا ما يتعلَّق بالمعمدان، وسواء كُتب المطلع دفعة واحدة أو لا، فمن المعقول أنّ ما يتعلَّق بالمعمدان كان حاضرًا في المطلع، منذ صار جزءًا من الإنجيل الرابع. فهذه الصُور حول المعمدان قد تكون أتت إلى سائر المطلع لتربطها ببداية خدمة يسوع التاريخيّة في 1: 19(1). فيوحنّا، شأنه شأن مرقس وبعض المقاطع في الكرازة الرسوليّة، في أع، يبدأ الخبر الإنجيليّ مع كلام عن المعمدان(2).

في مطلعٍ مع سمات كونيّة وكرستولوجيّة، تبدو أسطرٌ حول المعمدان خارج مكانها للقارئ المعاصر، مهما كانت المحاولات. لهذا يكون السؤال الذي نطرحه: هل وظيفة الموادّ حول المعمدان تخدم فقط القارئ اليوحنّاويّ، والجماعَة الأولى التي تَوجَّه إليها الإنجيل؟ ولفتت انتباهَنا نظريّتان: قابل الكاتبُ النبيَّ يوحنّا مع الربّ المتعالي، لأنَّ بعض معاصريه عظّموا شخص المعمدان بشكل لا يليق. تلك نظريّة أولى. والثانية، قد يكون الكاتب استعمل شخص المعمدان من أجل وظيفة رمزيّة واسعة (كتلك الوظيفة التي نُسبت إلى التلميذ الحبيب) وهي أهميّة الشاهد. نظريّتان مقبولتان. والأخذ بالواحدة لا ينفي الثانية.

أ- هجوم على البدعة العماديّة

قدَّم بعض الكتّاب في بداية القرن العشرين طرحًا يقول إنّ وجه المعمدان في الإنجيل الرابع، يمثِّل هجومًا يوحنّاويٌّا على تبّاع المعمدان(3). إن رايتزانشتاين وتلاميذه، مثل بولتمان، أخذوا بالقول إنّ بدعة المندائيّين نمَتْ مباشرة من حركة أسَّسها يوحنّا المعمدان. وبما أنّ المندائيّين كانوا معارضين للمسيحيّين واليهود معًا، شكّ رايتزانشتاين بأن يكون مصدرهم مسيحيٌّا أو يهوديٌّا. واعتبر أنّ مصدر تقاليدهم كان متأخِّرًا. فارتبط بالمسيحيّة على أنّها متفرِّعة من المعمدان(4). ولكن مثل هذا التطبيق لمعيار الاختلاف، لا يجد ما يبرِّره، لأكثر من سبب. أوّلاً، كانت بدعٌ عنوصيّة كثيرة، معارضة للتعليم القويم، المسيحيّ منه أو اليهوديّ. ومع ذلك، صدر عن جذور مسيحيّة أو يهوديّة قويمة. ثانيًا: إنّ التقاليد الخاصّة بالمعمدان لم تكن معارضة لليهوديّة. وإن تحوَّلت، بعد فترة من الزمن، من يوحنّا فصارت معارضة للعالم اليهوديّ، فلماذا لا تكون جذورها في حقبة متأخِّرة؟ ثالثًا، كلُّ يقين حول المعتقد المندائيّ جاء متأخِّرًا. فاعتبر كتاب يوسيفس السلافونيّ أنَّه يعود إلى العصر الوسيط. فإذا أخذنا بجذور يهوديّة أو مسيحيّة قديمة في نصوص أنتي يهوديّة وغنوصيّة أنتي أرثوذكسيّة، تعود إلى بداية القرن الثاني، فكيف نرفض رأي رايتزانشتاين حول استقلال التعليم المندائيّ المؤسَّس على طابعه الأنتي مسيحيّ. ظنّ بولتمان أنّ الإنجيل الرابعَ مسحَنَ مواد طبِّقت في الأصل على يوحنّا المعمدان، فأضاف 1: 6-8، 15 وربّما 1: 17(5). غير أنّ هذا يعني أنّه كان لتلاميذ المعمدان أفكارٌ منذ القرن الأوّل، ينقصنا البرهان عنها. ولكن ليس لنا ما يعارضها (أع 19: 3-5).

يبقى أنّ النصّ يشير إلى تعارض واضح بين يسوع والمعمدان، بحيث لا نستطيع أن نلغي موضوع الهجوم. ويساند هذا الشعورَ نصوصٌ أخرى في الإنجيل الرابع. كان المعمدان بليغًا حول تسامي يسوع في 3: 27-36 (رج 1: 15، 24-27، 29-34؛ 4: 1؛ 5: 36؛ 10: 41). بعضهم رأى في هذه النصوص علامة علاقات إيجابيّة بين جماعة يوحنّا وبدعة العماديّين. ولكن نتساءل: كيف ينظر المسيحيّون اليوحنّاويّون إلى بدعة تحمل فكرة ناقصة حول الكرستولوجيّا والسوتيريولوجيّا (14: 6)؟ ونتساءل أيضًا: لماذا قَبِل المعمدان أن يُمَّحى؟ فإن أجيب: لكي يكون شاهدًا لا لبسَ فيه للإنجيل، نقول لماذا لم يُمَّحَ التلميذ الحبيب؟ إذًا، من المعقول أن نفترض أنَّ الكاتب توقّف عند نفوذ يوحنّا تجاه الرب. وفي معارضة مع الإزائيّين، حيث خدمةُ المعمدان تُعِدّ الطريقَ لخدمة يسوع، تداخلت الخدمتان قليلاً. أمّا في الإنجيل الرابع فتداخلت الخدمتان وطال التداخل (3: 23-24)(6). قد يكون صراع مع تلاميذ يوحنّا، خلف هذا الفرق، سواء خفَّف الإزائيّون التداخل بين الرسالتين، أو أبرزها يوحنّا (وهذا أكثر معقوليّة). رج حاشية 2، Marxen، ص 39. وما هو أهمّ من ذلك، هو أنّ بانتار(7) بيّن النيّة الهجوميّة في 1: 6-8، حين قابل ما تقوله هذه الآيات مع ما يقوله المطلع عن يسوع.

من الواضح أنّ المندائيّين الأوَل، لم يكونوا بدعة اعتبرت المعمدان مؤسِّسها. ويشهد أع 19: 2 أنّ تلاميذ المعمدان في أفسس، لم يكونوا بعدُ عارفين بملء التعليم حول حركة يسوع. قد يكونون انطلقوا من فلسطين قبل قيامة يسوع، وأقاموا في منطقة جاء منها يوحنّا(8). وبرز هجومٌ على يوحنّا المعمدان في الرسائل البسودو إقليميّة (2: 17)، التي تؤكِّد تفوُّقَ يسوع على المعمدان، وتفوُّق بطرس على بولس(9). غير أنّ الإنجيل الرابع سبق قرنًا من الزمن، النصوصَ التي تتحدَّث عن مسيحانيّة المعمدان. فهل نحمِّل أع 19: 1ي حول تلاميذ يسوع أكثر ممّا تستطيع أن تحمل(10)؟

بالرغم من النظر الإيجابيّ إلى المعمدان، فامّحاؤه جزء من هجوم واسع. فطقسُ الماء الذي فيه يعمِّد، أدنى من عماد يسوع (1: 26، 33). ولكنّ هذا التعارض هو جزء من تعارض بين تطهير طقسيّ لدى اليهود وطقوس الماء من جهة، وبين تطهير يسوع من جهة ثانية. فتلاميذ المعمدان ليسوا أولئك الذين ألَّهوا معلِّمهم. ولكنَّهم قلّلوا من دور يسوع كما فعل مهتمّون آخرون بطقوس التطهير(11). مثل هذا العمل أتاح للهجوم العماديّ أن يعمل من أجل مخرج لاحق في الصراع مع سلطات المجمع.

وإن تفحُّصًا لسائر الأدب اليوحنّاويّ، ولاسيمّا الرسائل السبع في سفر الرؤيا بما فيها من وضع اجتماعيّ، يُتيح لنا أن نعيد بناء المحيط الحياتيّ Sitz im Leben في حرب، يخفَّف فيها من وضع المعمدان، مقابلةً مع وضع يسوع. فإن عكست الرسائلُ اليوحنّاويّة مرحلةً في توسُّع الجماعة، لا تَبعد كثيرًا عمّا في الإنجيل، نكون أمام بعض المواهبيّين الذين وجدوا سببًا للكلام عن كرستولوجيّا أدنى ممّا يقول الإنجيل. مثل هؤلاء الأنبياء الكذبة حاولوا مع المجمع أو (أقلّ معقوليّة) مع عبادة الإمبراطور لتجنّب المضايقات الرومانيّة، وللدخول في حياة المدينة. »يا أحبائي، لا تصدِّقوا كلَّ روح« (1يو 4: 1). ثمَّ »تجنّبوا الأوثان« (1يو 5: 21). ونذكر الأنبياء في رؤ 2: 14-20(12). أن يكونوا كَنّوا أنبياءهم باسم »بلعام«(13) أو »إيزابيل«، فهذا لا يبدو معقولاً، بل بحثوا عن وجه مكرَّم لدى المسيحيّة الأولى والجماعات اليهوديّة الواسعة. وأوحى المعمدان لهم النموذج من أجل دور عظيم: نبيّ شارك البنفماتولوجيّا عندهم وربّما احترامًا للمسيح حسب المسيحيّة التقليديّة، دون التعلُّق بالكرستولوجيّا العليا التي تأخذ بها الجماعة اليوحنّاويّة التي اعتُبر إيمانُها إهانة للمجمع.

شجّع الكاتبُ قرّاءه حين أجاب أنّ الأنبياء مثل المعمدان يعملون كشهود لدور المسيح في العالم، شأنهم شأن كلّ ممتلكي الروح القدس الحقيقيّين. إن هم اعتبروا نفوسهم تلاميذ المعمدان الذين وُجدوا في شكل بدعة في مدن آسية مثل أفسس (أع 19: 3)، إلاّ أنّ سفر الرؤيا دعاهم تلاميذ بلعام، ذاك النبيّ الشرّير، الذي قاد إسرائيل إلى ممارسة عبادة الأصنام (في 1يو 5: 21، الكرستولوجيّا التي لا تلائم شخص يسوع هي أيضًا عبادة أوثان) والفجور (الذي قد يعني البغاء المكرَّس، رؤ 2: 14، 20-21). إذا كان الأنبياء الكذبة استعملوا المعمدان على أنَّه نموذج، يكون كاتبُنا قد أجاب عليهم، حين أراهم أنَّهم جزء من العالم اليهوديّ وتطهيراته القديمة. فروح العماد الحقيقيّ الذي أعلنه المعمدان، يخصّ يسوع وتلاميذه. والمعمدان الحقيقيّ يشير إلى يسوع كعامل لله، إلى العماد الحقيقيّ بالروح، إلى يسوع الذي يعطي روح الله. وهكذا توجَّه الإنجيل إلى مُنشقّين عن المعمدان، كما توجَّه إلى المجمع. وهذا يعني في نظره أنّ إيمان المتعلِّقين بالمعمدان لم يكن أرفع من إيمان المجمع. هو لا يلائم شخص المسيح ولا يوافقه.

ب- يوحنّا المعمدان الشاهد

ما كان المعمدان النور، بل الشاهد للنور (1: 8؛ 5: 35). عمل المعمدان هنا كما في سائر الإنجيل، قبل الكلّ، أو وحده، كشاهد ليسوع (1: 31؛ 3: 28-30؛ 5: 33)(14). مثل هذه الثيمة تمتدّ في الإنجيل الرابع. ومهما تكن درجة التطبيق على المعمدان، فقد يكون الكاتب استعمل المعمدان ليبدأ ثيمة الشاهد. فالكلمة هو الحقيقة الأخيرة في تاريخ البشر، ولكنَّه يُعرَف عبر الشهود، وكان المعمدان مثلاً تاريخيٌّا منهم. إذًا عمل المعمدان في الإنجيل الرابع على أنَّه النموذج الأوّل لتلاميذ يسوع(15). وقد كتب دود(16) أنّ الإنجيليّ اعتبر يوحنّا أوَّل المعترفين بالمسيح، وهذا ما يعارض الأناجيل الإزائيّة التي تعتبره خارج »ملكوت الله«. أن تخدم صورةُ المعمدان في الإنجيل الرابع مخطَّطَ الإنجيل، لا يعني أنّ المعمدان لم يشهد تاريخيٌّا ليسوع. وأن لا يكون يوسيفس أشار إلى ذلك على أنَّه جزء من رسالة يسوع، يُدهشنا كثيرًا، لأنّ يوسيفس اعتاد أن يقدِّم الدور المسيحانيّ في نور سلبيّ. فجميع المراجع التي في أيدينا التي تُبرز وجهات من خدمة المعمدان، تُفيد نظرته. ويوسيفس أخذ من الإزائيّين صورة يوحنّا على أنَّه نبيّ الدينونة في نهاية الأزمنة (كما هو الحال عند الأسيانيّين). وجعل منه فيلسوفَ أخلاقٍ شعبيٌّا، على مثال ما في العالم اليونانيّ والرومانيّ. ومن المعقول أن تكون الأناجيل الإزائيّة أشارت إلى المعمدان على أنَّه شهد ليسوع، ولكن دون الهجوم اليوحنّاويّ. غير أنّ يوحنّا حصر المعمدان في هذا الدور، وله أسبابه. حين رأى أعضاء الجماعة اليوحنّاويّة أنّ رؤساء المجمع الذين احترموه، قد رذلوا الإيمان، استقبلوا بارتياح ما يقدِّمه شهودٌ يشهدون لحقيقة ربِّهم. وهذا الموضوع يعود عبر الإنجيل(17). »فالشاهد« يجعلنا في عالم القانون. ولكنّ اللفظ امتدَّ في استعمال عامّ موسَّع. مثلاً، اعتبر أرسطو أنَّه ينبغي أن نصدِّق الشهود القدماء، لأنَّهم لا يُفسَدون (البلاغة 1/15: 13، 17). في السبعينيّة، يدلّ اللفظ على نداء من أجل يقين موضوعيّ، كما يظهر مرارًا في صور ترتبط بالمحاكم أو النقاشات(18). تتضمَّن الشهادة الشخصيّة أوَّلاً المعرفة (على مستوى التاريخ، كما على مستوى الوحي). احتفظ يوحنّا بأمور قانونيّة، بحيث اعتُبر إنجيله سرد محاكمة(19). واستخلص Painter (يوحنّا، 90): »أراد العالمُ يسوع للمحاكمة. ولكنَّه لم يقدر أن يقدِّم شاهدًا شرعيٌّا. وشهود يسوعَ لم يكتفوا بأن يُبعدوا عنه أيَّ اتَّهام، بل جعلوا العالم تحت الحكم«. في بعض النصوص اليهوديّة، بدا الأنبياء على أنَّهم »الشهود« (أع 10: 43؛ 1بط 1: 11-12؛ رج يوب 1: 12؛ المغارة الرابعة 216.

هنا جاء المعمدان لكي يؤمن »الجميع« بواسطته. ورسالته التي صُوِّرت حدَّت من قوّة لغته. فلفظُ »الجميع« في الشهادة إلى »الجميع« يحدِّدُه السياق (3: 26؛ رج 2مك 3: 36). يسوع هو »للجميع« (1: 9؛ رج 5: 23، 28؛ 11: 48؛ 12: 19). وشهادته تصل إلى الجميع (13: 35). أُرسل المعمدانُ من قبل الله (1: 6)، فدخل موضوع المرسَل في الإنجيل، وعكَسَ أيضًا التقاليد التي تمَّت. رج ملا 3: 1؛ لو 7: 27.

طرح كارل بارت (الشاهد، ص 13-14) موضوع الوحي والشاهد للوحي. بدأ الإنجيل بشاهد، هو المعمدان (1: 6-8، 15، 19-51)، وانتهى بشاهد (19: 35؛ 21: 24). وهذا ما يبيِّن أهميّة الشاهد في الجماعة اليوحنّاويّة. كان الله لامنظورًا إلى أن كشفه يسوع (1: 18). وهو ويسوع سيبقيان لامنظورين خارج الجماعة المؤمنة التي تصوِّر يسوع في حياتها (13: 35؛ 17: 21-23؛ 1يو 4: 12).

2- عالم يرفض النور (1: 9-11)

سيطر النور على الظلمة، وقُدِّم شاهدٌ (هو يوحنا) بحيث يؤمن الشعب بالنور. ولكن حين جاء النور إليهم، رفض »العالم« ككلّ، النورَ. بل رفضه شعبُه ككلّ. أمّا الباقون الذين ارتبطوا به، فانطبعوا بطابع النور بحيث استطاعوا أن يشهدوا للنور (1: 12-14).

أ- النور الحقيقيّ ينير كلَّ إنسان (1: 9)

تجاه المعمدان (1: 8) الذي كان مجرَّد »سراج« (5: 35)، كان يسوع النورَ الحقيقيّ بالذات (1: 9). في هذا الإنجيل، الصفات التي تدلُّ على الصدق، تطبَّق على تلاميذ يسوع (1: 47؛ 8: 31؛ رج 1يو 2: 5). ولكنَّها تطبَّق مرارًا على يسوع (5: 31؛ 6: 32، 55؛ 7: 18؛ 8: 14؛ 15: 1؛ رج 7: 26؛ رؤ 3: 7) أو الآب (3: 33؛ 7: 28). في الإطار الوثنيّ مع خيارات عديدة، الدلالة على الله على أنَّه الإله »الحق« (17: 3؛ 1يو 5: 20؛ 1تس 1: 9)، تُعطي معنى خاصٌّا. وتبقى التسمية مهمّة حين يُقابَل يسوع مع خيار آخر في سياق يهوديّ. وهنا مع يوحنّا المعمدان.

طبَّق الفلاسفةُ »الاستنارة« على كشف الحقيقة الفلسفيّة (إبيكتات، الهجاء 1/4: 31)، واليهودُ على عطيّة الشريعة (وص لاوي 14: 4: أعطى الله الشريعة »لينير كلَّ إنسان«. قد ترتبط بيوحنّا. رج براون 1: 523)، والمسيحيّون الأوّلون، على تقبّل الإنجيل (أف 1: 18؛ 3: 9؛ عب 6: 4؛ 10: 32). ولكن هل أشار يوحنّا هنا إلى إمكانيّة شاملة لدى الذين قُدِّم لهم شهود أو إلى جزء من الشعب عرفوا اللوغس مع شهادة الإنجيل أو بدونها؟ مثل هذا التفسير يكون برهانًا للخلاص الشامل. ولكنَّ المسيحيّين الأوّلين ربطوا ذلك بالمسؤوليّة الشاملة (روم 1: 18-2: 15؛ يوستين، الدفاع الثاني 13). تجاه هدف شهادة يوحنّا كما في 1: 7، لم يحدِّد دورُ يسوع في 1: 9 حسَّ »كلِّ إنسان«. اختلف يسوع عن المعمدان، فكان النورَ وكان الكلمة (1: 8-9). وعبارة »كلّ إنسان« تدلّ على الجميع. قال المعلِّمون، إن كانت قدرة الشيطان محدودة، فتعليم التوراة مفتوح لكلِّ من يأتي إلى العالم.

وجوابنا على امتداد تنوير يسوع للبشريّة وطبيعة هذا التنوير، يرتبط في جزء منه مع عبارة »آتٍ إلى العالم« في نهاية آ9. فعبارة »آتٍ إلى العالم« قد تشير إلى ولادة شعب (يو 16: 21؛ 1يو 4: 9؛ خر ربا 4: 13)، أو أصل من الأصول (حك 14: 14؛ 1يو 4: 1). ولكنَّها تدخُل على زمن تاريخيّ، لا على مسيرة أدبيّة (1يو 4: 1-6).

على مستوى الغراماطيق، اسم الفاعل (مفرد، مذكَّر أو حياد) قد يعود إلى النور، أو إلى »كلِّ إنسان«. إذا طُبِّق على »كلِّ إنسان« كما قال لايتفوت(20)، شدَّد على إمكانيّة الخلاص الشامل. هنا نتذكَّر التقليد الرابّيني حيث الله يعلِّم الأطفال الشريعة وهم في الحشا (4عز 7: 21؛ لا ربا 14: 2؛ 31: 1، 6، 8. هو نور طبيعيّ في حشا الأمّ). تحدَّث يوحنّا عن المسيح الآتي إلى العالم، لا عن الآخرين. في هذا قال التقليد اليهوديّ: جعل الله نورَ الكلمة في متناول جميع الأمم، في وقت خاصّ من التاريخ، على جبل سيناء.

إذًا، ينطبق »آتيًا إلى العالم« على النور، لا على »كلِّ إنسان«. مثلُ هذه القراءة تعود إلى إطار التجسُّد. وقد طبِّق على يسوع مرارًا اسم الفاعل ercomeno". رج 1: 15، 27؛ 3: 31؛ 6: 14؛ 11: 27؛ 12: 13؛ ق 2يو 7؛ عب 10: 37؛ رؤ 1: 4. هذا مع العلم أنّ اللفظ لا ينحصر في يسوع (6: 35؛ رج 16: 21 وصورة الولادة كدخول إلى العالم elqen). وحين أرسل الآب يسوع إلى العالم (3: 17؛ 10: 36؛ 12: 47؛ 17: 18)، كان بشكل خاصّ النبيّ »الآتي إلى العالم« (6: 14) فجاء إلى العالم كالنور (3: 19؛ 12: 46؛ رج 8: 12)، ودخل إلى العالم في ولادته (18: 37).

بعد ذلك، كان النور حقٌّا »في العالم« (1: 10) في هذا السياق. وأشار بوامار (المطلع، ص 32) إلى صيغة اسم الفاعل، فراح في خطّ عدد من آباء الكنيسة الذين طبَّقوا هذه العبارة على تجلّيات الكلمة السابقة للتجسُّد. غير أنَّ صيغ الفعل عند يوحنّا ليست دقيقة دائمًا. وحيث طبّقت 1يو اسم الفاعل التامّ parfait على التجسُّد (4: 2)، استعملت 2يو اسم الفاعل الحاضر كما هو الأمر هنا (آ7). بالإضافة إلى ذلك، دخولُ النور الذي يشهد له المعمدان في هذا الإنجيل، هو المسيح المتأنِّس الذي صُوِّر شعاعُه تيوفانيا جديدة على سيناء في 1: 14-18.

قدَّم الله النور للبشريّة كلِّها في تجسُّد يسوع، وقُدِّم نورُ التوراة لجميع الأمم في سيناء، كما تقول التقاليد اليهوديّة. وكما رفضت الأممُ التوراة، كذلك رفض العالم كلمة الله الذي صار بشرًا.

ب- والعالم ما عرفَه (1: 10)

قابلَ المطلعُ بين جواب العالم وجواب أخصّاء يسوع، إسرائيل، في 1: 10-11. فالعالم الذي خُلق بيد يسوع (1: 3) لم يعرف يسوع (1: 10)، بل صار عدوٌّا له (15: 18-19). في ضوء باقي الإنجيل، تضمَّن هذا العالمُ الأممَ الذين كانوا في البداية جاهلين (4: 42)، ولكنَّهم لبثوا موضوع حبِّ المسيح في رسالته (3: 16-17؛ 4: 42؛ 6: 33، 51). قال أوغسطينُ (حول يوحنّا 2/11: 2) إنَّ يوحنّا ما عنى هنا نظام الخلق كلِّه (أش 1: 3)، بل بالأحرى البشر الذين أحبّوا العالم (1يو 2: 15-17). وأكثر من ذلك، أخصّاؤه رذلوه عمدًا (1: 11). ولفظُ »قبلوه« (1: 11؛ 14: 3) يحمل ذات المعنى لدى يوحنّا. قبول حرّ تجاه رذل حرّ (3: 32؛ 5: 43؛ 12: 48).

معرفة الربّ تعني الطاعة لطُرُقه (إر 22: 16). مقابل هذا، أولئك الذين لم يعرفوا الربّ كانوا أولئك الذين رذلوه (1صم 2: 12؛ أش 71: 3؛ إر 4: 22؛ هو 3: 4؛ لو 1: 77. في مز مل 2: 31: ما عرفوه ouk egnwsan auton). في التقليد اليوحنّاويّ، ما عرف العالمُ الآب (16: 3؛ 1يو 3: 1) ولا يسوع (16: 3) ولا الروح (14: 17)، ولا المؤمنين (1يو 3: 1) الذين ليسوا من هذا العالم (3: 3، 8؛ ق 1كور 2: 12)(21). ورفضُ العالم أن يعرف يسوع، يجد صدى له في 1: 26؛ 2: 9. والعالم سيرفض أولئك الذين ليسوا له والذين ما كانوا منه (15: 19). كان يسوع في العالم الذي صنع (1: 3)، ولكنَّ العالم والبشر تغرّبوا عن الله فما عرفوه بل لبثوا »العالم«(22).

ونظرة اليهوديّ إلى الأمم منوَّعة بشكل واسع، من إيجابيّة في الشتات، إلى أقلّ إيجابيّة لدى جماعات فلسطين(23). حين ننظر إلى عذابات شعب إسرائيل على يد الممالك الغريبة، يبدو من الطبيعيّ أن تعكس النصوص اليهوديّة عدم ثقة بالأمم، فترى فيهم مُضايقي شعب الله ومتجاوزي شرائع الله (1مك 5:1ي؛ يوب 1: 9؛ 15: 34؛ 22: 16-18، 20-22؛ 23: 24؛ 24: 25-33؛ كعب 7: 3؛ 12: 4). ودلَّت نصوص عديدة على هلاك الأمم في نهاية الأزمنة (قمران، الحرب 11: 12-13؛ 14: 7؛ 15: 1-2؛ 17: 1-2؛ لا ربا 13: 2؛ عد ربا 19: 32. دونالد، حاشية 23، ص 52-54. في بعض هذه النصوص يكون اليهودُ الأشرارُ مع الأمم). قسم ساندرس(24) النظرات حول المصير الإسكاتولوجيّ للأمم في ستّ فئات. ورأى في النصوص البيبليّة والبعبيبليّة، ولاسيّما تلك التي جاءت بعد دمار أورشليم سنة 70 ب.م، أنّ عقاب إسرائيل يتناقص، ساعة ينمو عقاب الأمم. ولكنَّ نصوصًا أخرى طلبت العون والشكر للأمم لأنَّهم طلبوا السلام وكرَّموا اسم الله (وثيقة صادوق 12: 6-8). وآمن عدد كبير من المعلِّمين أنّ الأمم الأبرار يمكن أن يخلصوا دون أن يهتدوا إلى الإيمان اليهوديّ (رسالة أرستيس 279). هذا التقليد خدم هدفًا أبولوجيٌّا، دفاعيٌّا، بعد أن طرد الفجورُ والأصناميّة، الأممَ من تحديد يهوديّ واسع »للأبرار«. وجاءت نصوص تمتدح أولئك الذين عرفوا شريعة اليهود (دونالدسون، ص 65-69). ما الذي يخلِّص الأمم؟ شريعةُ نوح التي هي قديمة، وتلتقي مع شريعة موسى بحسب اليوبيلات وفيلون. وفي بعض التقاليد يقال إنَّ الله سيهدي جميع الأمم في نهاية الأزمنة (قمران، المدائح 6: 2-14؛ الحرب 12: 14). نجد أنَّ اهتداء الأمم هو لمجد إسرائيل في النهاية (سيب 3: 710-726؛ عد ربا 1: 3؛ في مز سل 17: 30 يكون الأمم تحت نير المسيح). ومع ذلك، سعى اليهود في الشتات إلى إهداء الأمم (يوسيفس، العاديّات 20: 34-36). ومع أنَّ هؤلاء لم يكونوا مرسلين في المعنى المسيحيّ، إلاّ أنّه كان لالتزامهم تأثيرٌ واضح على عالم البحر المتوسِّط القديم.

وأضاف الأدب اليونانيّ موضوع البطل الذي نُفيَ من موطنه أو بيته، بعد أن حاول سرٌّا أن يقلب بُنى القوى الظالمة (أورست في سوفوكل في مسرحيّة إلاكترا 202-206، 234-236). وكذا نقول عن سقراط الحكيم والطبيب: تكرَّس للعالم، فقتله العالم. وتحدَّث اليونان عن آلهة لم يعترف بهم المائتون. وتحدَّثت النصوص اليهوديّة كذلك عن الملائكة(25). موضوع يوحنّا حول المسيح المخفيّ، وموضوع مرقس عن السرّ المسيحانيّ، قد يلفتان انتباهنا، كما في تقليد قمران، حول رفض المسيح (مت 8: 20؛ لو 9: 58). والتقليد الحكميّ يحدِّثنا عن رذل الحكمة على الأرض، ولاسيّما في الحلقات الجليانيّة (1أخن 42: 1-3، شناكنبورغ 1: 228). وجامعو تقاليد التوراة قالوا إنّ الله قدَّم توراته، كلمته، إلى جميع الأمم، ولكنَّ الأمم رفضوها لأنَّهم تمنّوا أن يواصلوا العيش في خطاياهم. وفي النهاية، قبلها شعبُ إسرائيل (خر ربا 17: 2؛ 30: 9؛ عد ربا 14: 10). لهذا حُكم على الأمم في »قول« على جبل حوريب، لأنَّهم أهملوا التوراة، مع أنَّهم سرقوا الكثير منها (كعب 11: 2). وبما أنّ إسرائيل تفرَّد في قبول التوراة، فوحده تحرَّر من خطيئة الطبيعة التي نُفثت في حوّاء بفعل تجامع مع الحيّة (تلمود بابل، يبموت 103ب، القرن 3). ويُدان الأمم أيضًا لأنَّهم لم يمارسوا التوراة، إلاّ إذا احتجّوا أنَّهم ما تسلّموا التوراة. يبقى أنّ الله أعطى في زمن نوح، سبعَ وصايا أساسيّة، ويُدان الأمم إن هم عصوها (خر ربا 30: 9؛ تث ربا 1: 21). ورأى بعض المهتدين الجدد والأنبياء الأتقياء في الأمم، أنّ الأمم لا عذرَ لهم (لا ربا 2: 9).

ج- أخصّاؤه ما استقبلوه (1: 11)

أعلن يوحنّا أنّ الشعب اليهوديّ ككلٍّ لم يستقبل يسوع، شأنه شأن الأمم. دلّت »أخصّاء« في بعض النصوص على القريبين (16: 32؛ 19: 27). أمّا هنا فعلى الشعب (10: 3-4، 12). في صيغة الحياد ta idia تدلّ على الأرض. وفي المذكَّر idioi على الشعب (براون 1: 10). قدَّمت هذه الآيةُ الجوابَ اللاملائم من أمّة إسرائيل ليسوع (معادٍ من قبل الرؤساء، منقسم بين الشعب). وهذا ما صار مسألةً لاهوتيّة كجزء من المسيحيّة الأولى (روم 3: 3؛ 11: 1، 11). كما قدَّم انتقالاً للكلام عن بقيّة إسرائيل والأمم الذين اهتدوا بحسب بولس، أو قبلوا البشارة كما قال يو 1: 12-13؛ رج روم 11: 7-24.

هنا تَواجه بلاغُ يوحنّا مع التقليد اليهوديّ القائل: 70 أمّة رفضوا التوراة، وتقبَّلها إسرائيل وحده. كان إسرائيل وحده أهلاً لأن يتقبَّلها، كما قالت مدرسة رابّي إسماعيل. وشدَّدت التقاليد اليهوديّة في أوقات مختلفة، على الفرق بين إسرائيل والأمم في أحداث الخروج مع وجهات أخرى. مثلاً، عمود النار أعطى النور فقط لإسرائيل. ووحيُ سيناء أرعب العالم كلّه، إلى أن كشف بلعام أنّ الله كشف نفسه لأولاده. ملائكة عديدون أحاطوا إسرائيل كما بإكليل. هم مملكة كهنة (خر 19: 6؛ 1بط 2: 9). وبعد قبولهم الأوّل، واصلوا الطاعة للتوراة، عكس الأمم المحيطة بهم. وفي تقاليد عديدة، قبِلَ الله طاعَتهم ورضيَ عنهم. حسب تقاليد متأخِّرة، كلُّ أجيال إسرائيل، بما فيها النفوس التي لم تُخلَق، كانت حاضرة على سيناء لتقبُّل الشركة في التوراة (خر ربا 28: 6). وتجاه خطايا الأمم، كانت خطايا إسرائيل مثل تحرُّكات جنين في بطن أمِّه، أي كلا شيء. لهذا لا يُحكم عليها كأنّها معاصٍ كبيرة. وقد ضخَّم المعلِّمون وسائر الكتّاب الدورَ الإسرائيليّ منذ الكلام البيبليّ عن الخلاص.

لا شكّ في أنَّ الشعب اليهوديّ أقرَّ بأنَّ آباءهم لم يحفظوا التوراة (الشريعة) دائمًا: حين تقبَّلوا الوصايا في سيناء، وفي زمن القضاة. وقال تقليد يهوديّ قديم: أراد الله أن يقتلع شعبه من العالم كلِّه (كعب 44: 6-8). وقيل في تقليد متأخِّر: ما قبلَ إسرائيلُ التوراةَ على جبل سيناء، فاستعدَّ الله لتدمير العالم كلِّه. فالمراجع اليهوديّة التي أعلنت أنّ إسرائيل قِبَل وحده التوراة، في سيناء، أقرَّت أنّ إسرائيل تجاوز التوراة واستحقَّ التأديب: أحبَّ الله إسرائيل، ولكنَّ إسرائيل أبغض الله. شارك إسرائيل البشر في الحكمة والتوراة، وشارك أيضًا في خبث العالم ومراءاته (أس ربا 1: 17).

إن الشعب الذي اختاره الله فأنشد الشريعة، قد رذل الشريعةَ البشريّة. هذا ما شكَّل موضوعًا كنسيٌّا عبر الإنجيل الرابع. هي سخرية الأحداث. الذين قبلوا التوراة رذلوا المسيح. وكان هذا الرذل أساس أزمة، لأن تقبُّل المسيح، في يوحنّا، أمرٌ جوهريّ من أجل الخلاص (1: 12). هنا نتذكّر الكلام عن قبول يسوع في 4: 45؛ 5: 43، وملئه في 1: 16، وشاهده في 3: 11، 32-33؛ 5: 34؛ وممثِّليه في 13: 20، وروحه بالإيمان به في 7: 38-39؛ 14: 17؛ 20: 22. أمّا صيغة الماضي المبهم فتتضمَّن عملاً واحدًا، حرٌّا (موريس، حاشية 8، ص 97). كما تدلُّ على جمع حقبات واسعة، فتعود إلى خطيئة إسرائيل في التجاوب مع رسالة يسوع ككلّ، مع ذروة على الصليب. في كلِّ حال، هذا ما يعود بنا إلى المسيح المتجسِّد. وفي النهاية، »أخصّاؤه« هم الذين اعتنقوا تعليمه (10: 3-4) وارتبطوا معه بعهد حقٌّا.

3- الذين استقبلوه (1: 12-13)

نقرأ هنا الأداة de (ولكن، أمّا) بعد قول عن الرذْل: رذْلُ العالم للكلمة، ورذْلُ إسرائيل (1: 10-11). وفي شكل أوَّل، مع رذل إسرائيل (1: 11). مع de، يشير يوحنّا بشكل خاصّ إلى البقيّة اليهوديّة في آ12-13 وفيها أكثر القرّاء(26). وفي نظرة أخرى »استقبال« يسوع في الإنجيل الرابع، يضمّ سرّ قدرة الله الذي أوحيَ في الضعف والخضوع لربّ الكون، دون النظر إلى ما يكلِّف ذلك. فـ»استقبال« يسوع في آ 11-12 يعني قبوله كعامل الله. رج 5: 43؛ 12: 48؛ 13: 20 (والروح في 14: 17؛ 20: 22). ومهما تضمَّن هذا من توارد أفكار (مثلاً، ارتباط مع التوراة أو مع لغة المرسلين الأوّلين، 2يو 10؛ 3 يو 10؛ ق مت 10: 40-41؛ روم 16: 2؛ غل 4: 14؛ فل 2: 29)، فاللغة تتجذَّر في السوتيريولوجيّا المسيحيّة الأولى (كو 2: 6؛ للروح، أع 2: 33؛ 8: 17؛ 10: 47؛ روم 8: 15؛ 1كور 2: 12؛ 2كور 11: 4؛ غل 3: 2-14). هي لغة الشاهد (3: 11، 32-33؛ 5: 34؛ 1يو 5: 9؛ 3يو 12) والإنجيل (غل 1: 9-12؛ رج 1كور 11: 23؛ 15: 3). هنا جعلنا فعل lambanw مع سائر الأفعال المرادفة.

أ: المؤمنون أولاد الله (1: 12)

تضمّنت رسالةُ المعمدان اقتياد إخوته إلى »الإيمان« بيسوع (1: 17) بما فيه كشف يسوع لإسرائيل (1: 31). والإيمان باسم يسوع، يمثِّل تلميحًا إلى الاسم الإلهيّ(27). »فالاسم« طريقة كلام عن الله (1أخن 6: 3)، يتضمَّن كرامته (قمران، الحرب 11: 14؛ 2با 3: 2). اسمه يُقّدس لأنَّه قدّوس، مكرَّس(28)، لا ليُسمّى أو يُحلَف به(29). بالرغم من احتجاجات يهوديّة ومسيحيّة (أقوال سكستس 28، القرن الثاني المسيحيّ)، طلب العديدون استغلال قدرة اسم الله من أجل السحر وطرد الشياطين أو الرقيّة. على الأبرار أن يثقوا بالاسم (1أخن 43: 4). والإيمان باسم يسوع يعني الثقة به على أنَّه الله(30).

في الإنجيل الرابع، جاء يسوع باسم الآب. وطلب أن يمجِّد اسمَ الآب (12: 28؛ 17: 6، 26). وتلاميذ يسوع يؤمنون باسمه (1: 12؛ 2: 23؛ 3: 18)، ينالون الحياة باسمه (2: 31)، يسألون باسمه (14: 13-14؛ 15: 16؛ 16: 23)، وينتظرون أن يتألّموا باسمه (15: 21). إذا جعلنا جانبًا 2: 23 (رج 1يو 3: 23؛ 5: 13)، فـ »الإيمان باسمه«، يظهر فقط في مقطع مفصليّ (3: 18)، في أوَّل كلام عن الإيمان بالإنجيل (1: 12) وآخر كلام (20: 31). وهكذا يمزج يوحنّا مواضيع في نقاط مفصليّة، ويشدِّد على ضرورة التعلُّق بالعامل باسم الله (3: 16-18. هو المقطع الوحيد الذي يكرِّر monogenh" الابن الوحيد، بشكل صريح، كما في المقطع. رج 1يو 4: 9).

هناك فئات قديمة أقامت على شاطئ البحر المتوسِّط، فقرأت »أولاد الله« في طرق مختلفة. عاد بولتمان إلى أهل اللغة السرّانيّة ونسب إليهم خطأ معنًى اسكاتولوجيًا يتضمّنه هذا النصّ (يوحنّا، 58. نصوص هلّنستيّة عن المجد، بالنسبة إلى تابور، وإن كان بولس ويوحنّا يعكسان اهتمامات يهوديّة حول مجد إسرائيل المقبل في الأنبياء والنصوص الإسكاتولوجيّة). وذكر الذين تأثَّروا بالفلسفة اليونانيّة والرومانيّة، فرأوا في الشعب الطيِّب تقدمة لله (سينيكا، الحوار 1/1: 5؛ ؛ إبيكتات، الهجاء 1/9: 6، عبر شركة عقليّة مع الإله 1/ 19: 9). أو تحدَّثوا عن أبوّة الله للبشريّة أو الكون المخلوق (أع 17: 27-29). فصورة الإله الساميّ على أنَّه أبو الخلق، كانت أوسع ممّا هي لدى الفلاسفة، فملأت الأدب اليونانيّ الكلاسيكيّ (هومير، الإلياذة 2: 371؛ 3: 271، 320-365؛ 16: 458؛ الأوذيسة 14: 440؛ سوفوكل، أجاكس 387). وحقبة المسيحيّة الأولى (أناشيد أورفاي 15: 7؛ 19: 1؛ يوسيفس، أبيّون 2: 241؛ فرجيل، إنياذة 1: 60؛ 2: 691). وقال فيلون: الله هو أبو البشريّة بفعل الخلق (بلبلة 170؛ موسى 2: 238؛ الدكالوغ 51: 105-107؛ الشرائع 1: 14، 22-32، 41، 96؛ 2: 6، 165؛ 3: 187-189، الفضائل 64، 77، 218؛ الأجر 24؛ المشاهدة 90). ومثله المراجع اليهوديّة المسيحيّة المهلينة (سيب 3: 726، من القرن 2ب.م.: الله genethr والد؛ 604 (الله والد لامائت ). وقال فيلون أيضًا: مالكو الحكمة هم أصدقاء الله، لا عبيده. بالتبنّي فقط يصبح مثل هؤلاء الناس أبناء الله autw mono" uio" (السكر 55-56، 62-63). وفي نصوص أخرى، عارفو الله هم أولاده، وإن كان هذا لا يؤلِّههم (دود، تفسير 60. أورد فيلون. بلبلة 145؛ ثمّ الأحلام 1: 173 عن الولادة من الله. رج Vellanickal ص 50-52). يصبح الإنسان ابن الله بوسم من الله في الفكر وفي العقل. في هذا المعنى الفلسفيّ، نقترب بعض الشيء ممّا في يوحنّا(31).

بدا الاستعمال اليوحنّاويّ قريبًا من النصوص اليهوديّة الفلسطينيّة كما في قمران (المدائح 9: 35-36 ينطبق على »بقيّة« إسرائيل لا على النسل ككلّ). وكذلك في مزامير سليمان (17: 27)، وفي نصوص أخرى كانت بمنأى عن الفلسفة الهلنستيّة (طو 13: 4؛ وص أي 33: 3: الشعب اليهوديّ ككلّ هو أولاد الله). أعلنت حكمة سليمان أنّ الأبرار (حك 2: 13، 16، 18؛ 3: 5)، وشعب إسرائيل أيضًا (حك 11: 10)، هم أبناء الله. إنّ النظرة اليهوديّة إلى أبوّة الله هي حميمة، وبالتالي بعيدة عمّا في الطقوس الهلنستيّة(32). وطبَّقت نصوصٌ قديمة لغة البنوّة بشكل خاصّ على وضع إسرائيل في الزمن الإسكاتولوجيّ (حك 5: 5؛ مز سل 17: 30: سيب 3: 702-704؛ يوب 1:28 Vellanickal, p. 25-26). إنّ هذا اللقب يخصّ إسرائيل في هويّته، ولا يُحصَر في نظرة إسكاتولوجيّة عرفها العالم اليهوديّ.

وجاءت وفرة النصوص الرابّينيّة المتأخِّرة، فوسّعت هذا التوصيف التقليديّ. فالتوراة في بعض معانيها، تجعل من الشعب أولاد الله (مشناة، أبوت 3: 15. من علَّم قريبه التوراة، كان وكأنَّه أنجبه، بابل سنهدرين 19ب)، حين يطيعونها. وأخذ المعلِّمون صوَرًا من التوراة (خر 4: 22؛ تث 32: 6؛ أش 64: 8)(33) فماهوا في عروض وفي أمثال، إسرائيل مع ابن الله (خر ربا 15: 3؛ لا ربا 10: 3؛ عد ربا 6: 70؛ تث ربا 2: 24؛ 10: 4؛ ق يوب 19: 29)، أو مع أبناء الله (خر ربا 46: 4-5؛ عد ربا 5: 3؛ 10: 2؛ تث ربا 1: 6؛ 3: 5). في نهاية القرن الثاني، شدَّد رابّي يهودا أنّ شعب إسرائيل يكون أبناء الله حين يطيع كما يطيع الأبناء. فردّ رابّي مئير: هم في أيِّ حال أبناء الله. وتواصل الجدال: إسرائيل أبناء الله حين يطيعون (تث ربا 17: 9). الله يخلق إسرائيل على أنَّه الابن الوحيد، ولكنَّه يعامله كعبد إن هو عصا الله (فسقتا ربا 27: 3؛ رج يو 8: 35).

انطلاقًا من التقاليد اليهوديّة في الإنجيل الرابع، نكتشف تعارضًا بين المطالبين بلقب »أولاد الله« (1: 11) ووارثيه الحقيقيّين، هؤلاء الذين يتبعون التوراة بحسب تعليم البشر (3: 3-6؛ 8: 35-44، أو اللحم والدم). فالمؤمنون بيسوع (في الحلقة اليوحنّاويّة، كانوا يهودًا في المعنى العامّ، أو أخذوا بالمعتقد اليهوديّ) أخذوا بالعهد المُعطى لإسرائيل كشعب، لأنّ المؤمنين بيسوع كمّلوا الدور المعطى لإسرائيل في العهد. بعد أن قال المجمع بأنّ الله أبٌ في المسيحيّة الأولى (مت 6: 9؛ لو 11: 2)، التقى يوحنّا هنا مع التقليد المسيحيّ الأوّل(34).

إنَّ تفسير يوحنّا عن نبوءة قيافا، يعود إلى الأولاد المشتّتين (11: 52، يهود الشتات أو المسيحيّون). دعا يسوع تلاميذه »أولادًا« (1يو 2: 1، 12، 13، 18، 28؛ 3: 7، 18؛ 4: 4؛ 5: 21؛ 3يو 4). هي علاقة المحبّة بين المعلِّم والتلميذ (13: 33). شعب الله هم أبناء النور (12: 36) كما في مخطوطات البحر الميت. ولكن في الإنجيل الرابع، آخرون وُلدوا من علُ ليكونوا مثل يسوع (3: 3-13). أن نصير أبناء الله، يعني أن يكون لنا الأب الذي ليسوع (20: 17).

exousia السلطان لكي نصير أولاد الله (1: 12). أبرز يو سلطان الله الذي يُتمَّ ما لا تقدر يدٌ بشريّة أن تفعله (هنا لا ننفي قيمة المجهود البشريّ). رج 5: 27؛ 10: 18؛ 17: 2؛ 19: 10-11 (سلطة من فوق). أن نصير أبناء الله يعني أن نتقبَّل الطبيعة الإلهيّة أو طابع يسوع الذي هو صورة الله الكاملة (3: 3-6). وهذا التعارض بين سلطان الله وإمكانيّة البشر واضح: الله يعطي الوالدين سلطة ولادة أولاد في العالم. ولكنَّ الروح وحده يخلق المؤمنين الحقيقيّين.

ب- لا من البشريّ (1: 13)

أن يُحبَل بالأولاد كلام معروف (هنا، آ13، إرادة البشريّ، اللحم والدم). رج مدائح 9: 14-16: لا ربا 14. وفي الأدب اليونانيّ والرومانيّ(35). إنّ التعارض بين الإرادة البشريّة والإرادة الإلهيّة (3: 8) يعكس التشديد اليوحنّاويّ على إرادة الله (4: 34؛ 5: 30، 40؛ 6: 38، 39؛ 7: 17؛ 9: 31) تجاه تمرُّد العالم، كما يعكس إرادة الله من أجل إعطاء الحياة (6: 40؛ رج 5: 21). لاحظ أحد الفلاسفة اليونان أنّ الأولاد لا يحتاجون إلى عرفان الجميل لمن حَبل بهم. فالعدد الكبير يعمل عن هوى لا عن سابق تفكير. فإرادة اللحم والدم تعكس أيضًا سياق تَعارضٍ بين أولاد وُلدوا من الله، وشعب إسرائيل (1: 11) الذين دعاهم المسيحيّون الأوّلون »بحسب البشريّ« (روم 2: 28؛ 4: 1؛ 9: 3، 5، 8؛ 1كور 10: 18؛ أف 2: 1). فالولادة اللحميّة في إسرائيل لاملائمة ونظرة الله (3: 6). مثل هذه الولادة البشريّة ليست خطأ، ولا يستطيع الإنسان أن يتجنَّبها (1: 14). ولكنَّها ليست كافية بدون ولادة بحسب الروح (3: 6؛ غل 4: 29). وبما أنَّ التعارض بين الروح واللحم (والدم) هو واضح فقط في 3: 6 و6: 3، فاللغة الثنائيَّة (فوق، تحت. نور، ظلمة) التي بها يعارض يوحنّا نشاط الله ونشاط العالم، تُبرز هذه النقطة: الانتقال من ملكوت العالم إلى ملكوت الله لا يمكن أن يتمّ إلاَّ بتدخُّل إلهيّ.

»إرادة رجل« andro". سلطةُ الرجل تقرِّر بأن يكون له ولد. في الشريعة الرومانيَّة يستطيع الآباء أن يتخلّوا عن ولد بعد ولادته بحيث لا يعترفون به (الحاشية السابقة، 64). »من دم« يعني الولادة الطبيعيّة. واستُعمل الجمع للكلام عن سفك الدماء (في الختان أو غيره). ولكنّ المعنى لا يسري هنا. تحدَّث بعضهم عن زرع الرجل ودم المرأة، أو عن مزج زرع الرجل مع زرع المرأة. تحدَّث حك 7: 2 عن الإنسان الذي صار »بشرًا« sarx بواسطة الدم en aimati، من زرع رجل ek spermato" andro" ولا من لذّة النوم hdonh" nupnw (أي التجامع بين الرجل والمرأة). أعلن يوحنّا أنَّ ما وُلد من البشريّ هو بشريّ. وما وُلد من الروح هو روح (الروح الجديد، كما في حز 36). رج يو3: 6. هو تشديد على مشيئة الله (4: 34؛ 5: 30؛ 6: 38-40؛ 7: 17؛ 9: 31) التي تتعارض مع إرادة البشر.

هذه الولادة تجعل الإنسان مشاركًا في الخليقة الجديدة كلِّها، كما دشَّنها يسوع وتلاميذه (14: 21). كيف يمكن للإنسان أن يُولَد من الله؟ هذا غير ممكن لدى البشر. ولكنَّ كلمة الله صار بشرًا (1: 14). نحن هنا أمام انتقال: الكلمة الذي كان منذ الأزل مع الله (1: 1-2)، صار بشرًا (1: 14) بحيث لا نُولَد نحن من البشريّ، بل من الله (1: 13؛ رج 3: 6).

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM