أوريجان في انجيل يوحنا.

 

أوريجان في انجيل يوحنا.

كتب هرقليون الغنوصي تفسيرًا ليوحنا، فردّ عليه أوريجان، موردًا قرابة خمسين مقطعًا من هذا المفسّر، وشارحًا الانجيل الرابع. وها نحن نورد المقطع الأول مع الأرقام 90-124.

1- في البدء كان الكلمة أو في المبدأ

90 إنّ لفظ »البدء« (أو: المبدأ: hcra) له معانٍ مختلفة، لا لليونان وحدهم. فإن درسنا هذا اللفظ، وأخذنا أمثلة من كلّ جانب، وإن أردنا، في تفحُّص مثبَّت، أن ندرك بما يرتبط في كلّ مقطع من الكتب المقدَّسة، نجد له أيضًا في كلمة الله، معاني عديدة.

91 أحدُ هذه المعاني هو الممرّ. نقول: بداية طريق ومسيرتها، كما نرى في النصّ التالي: »بدايةُ الطريق الصالحة تتميمُ البرّ« (أم 16: 7 سب(1)). وبما أنَّ الطريق الصالحة هي أطول الطرق، ينبغي أن نفهم أنَّ في البداية تقع الحياةُ العمليّةُ التي يدلُّ عليها »تتميم البرّ«. وبعد ذلك حياةُ المشاهدة حيث تصل هذه الطريق إلى غايتها، كما أظنُّ، في ما يُدعى الأبوكاتستاسيس(2) أو نهاية العالم وعودة كلّ الأشياء. لأنَّه لن يبقى حينئذٍ عدوٌ واحد، إن كانت هذه الأقوال صحيحة: »يجب أن يملك حتّى يجعل جميع أعدائه تحت قدميه. وآخر عدوٌ يُباد هو الموت« (1كور 15: 25).

92 حينئذٍ، أولئك الذين بلغوا إلى الله بواسطة الكلمة الذي هو لديه، لن يكون لهم سوى نشاط واحد: التأمُّل بالله، بحيث يصبحون كلُّهم أبناء كاملين، فيتحوَّلون (غل 4: 19) في معرفة الآب، كما الابن وحده يعرف الآن الآب.

93 فإذا جئنا نبحث بعناية في أيِّ وقت يعرف الآب أولئك الذين يكشفه لهم الابن، الذي يعرف الآب (مت 11: 27). وإذا اعتبرنا أنّ ذاك الذي يرى الآن يرى »في مرآة وفي شكل غامض« (1كور 13: 12)، وأنَّه لا يعرف بعدُ »كما يجب أن يعرف« (1كور 8: 2)، لا نغلط إن قلنا أنَّ ما من أحد يعرف الآب، سواء كان رسولاً أو نبيٌّا. فالبشر يعرفونه حين يكونون واحدًا، كما الآب والابن واحد (يو 17: 21).

94 إن ظنَّ أحدٌ أنّنا خرجنا من حديثنا فقلنا كلَّ هذا لنثبت أحد معاني »البدء«، نبيَّن له أنَّ هذا الاستطراد كان ضروريٌّا لموضوعنا ومفيدًا. إن استطعنا أن نتكلَّم عن بداية ممرّ طريق أو مسافة. وإذا كان »بدء الطريق هو تتميم البرّ« (أم 16: 7 سب)، نستطيع أن نعرف أنَّ كلَّ طريق صالحة »تبدأ في ممارسة الفضيلة«. وعلى أثر هذا البدء، المشاهدة، وكيف تكون.

95 ونستطيع أيضًا أن نتكلَّم عن بداية الخليقة. وهذا ما يظهر في تك 1: 1: في البدء خلق الله السماء والأرض. أظنّ أنَّ هذا المعنى ظاهر بوضوح أكبر في سفر أيّوب: »هو بدء خليقة (= جبل من التراب) الربّ، فكان أضحوكة الملائكة« (أي 40: 19 سب).

96 قد يفترض بعضهم أنّ بين المخلوقات في رأس العالم، ما صُنع »في البدء« هو »السماء والأرض«. ولكن ينبغي بالأحرى أن نقول، حسب الإيراد الثاني أنّ بين المخلوقات الجسميّة العديدة، أوَّل من أخذ جسمًا هو التنّين (= إبليس)، الذي سُمِّي في موضع من المواضع »الوحش الهائل« الذي سيطر عليه الربّ (أي 3: 8؛ 2بط 2: 4).

97 ساعة القدّيسون يعيشون في السعادة حياة لامادّيّة إطلاقًا ولاجسميّة، فمن نال اسم تنّين، لا يكون أوَّل من يستحقُّ بأن يُربَط بمادّة وبجسم، لأنَّه سقط وحاد عن الحياة الكاملة. لهذا تكلَّم الربُّ من قلب العاصفة والسحاب، فقال: »بدء خليقة الربّ الذي صُنع ليكون أضحوكة الملائكة« (أي 40: 19 سب).

98 ولكن يمكن أيضًا أن لا يكون التنّينُ، في شكل مطلق، بدايةَ خليقة الربّ: هناك خلائق عديدة ارتبطت بجسمٍ »وتكوَّنت لتكون أضحوكة الملائكة«. وقد يكون (التنّين) أوَّل هذه (الخلائق) فقط. ولكن هناك مخلوقات تقدر أن تمتلك جسدًا في ظروف أخرى: كنفس الشمس مرتبطة بجسم، على مثال الخليقة كلِّها التي قال فيها الرسول: »الخليقة كلُّها تئنّ وتحتمل حتّى الآن أوجاع الولادة« (روم 8: 22).

99 فقد يكون كُتب عنها: »أُخضعت الخليقةُ للباطل رغمًا عنها، بسبب ذاك الذي أخضعها. ومع ذلك بقيَ لها رجاء« (روم 8: 20). لأنَّ الأجسام وأعمال الجسم التي لا يمكن تجنُّبها... هي باطلة لكلِّ من يعيش في جسم. فمن له جسم، يُتمّ بالرغم عنه، أعمالَ جسم. لهذا أُخضعت الخليقةُ رغمًا عنها للباطل.

100 والذي يُتمّ رغمًا عنه أعمال الجسد، يفعل ما يفعل من أجل الرجاء. كأنّنا نقول: أراد بولس، مع رغبته المعاكسة، أن يعيش في الجسم البشريّ (فل 1: 23-24) من أجل الرجاء: فضَّل في ذاته أن »يموت لكي يكون مع المسيح«. ما كان عبثًا أن يريد »البقاء في الجسم البشريّ« من أجل فائدة الآخرين، من أجل نموِّه الشخصيّ في الخيرات المنتظرة، ونموّ التلاميذ الذين يخدمهم.

101 هذا يُتيح لنا أن ندرك مفهوم مبدأ الخلق، وأن نفهم كلمات الحكمة في سفر الأمثال: »الربُّ كوّنني مبدأ طرقه من أجل أعماله« (أم 8: 22). غير أنّ هذا المقطع يمكن أن يعود إلى تفسيرنا الأوّل، حول الطريق، لأنَّه قال: »الربّ كوَّنني مبدأ طرقه«.

102 لا يكون عبثًا أيضًا أن نقول إنَّ إله الكون هو، في الحقيقة »مبدأ«. وبرهاننا: الآب هو مبدأ الابن. الخالق ومبدأ الخلائق. وفي شكل مطلق، الله مبدأ الكائنات. هذا ما نبرهن عنه حين نقول: »في المبدأ كان الكلمة«، ونعتبر أنَّ الكلمة هو الابن الذي قيل إنَّه في المبدأ لأنَّه في الآب.

103 ثالثًا، المبدأ هو ما به تُصنَع الأشياء كما من مادّة قبمَوْجودة للذين يعتبرونها لامخلوقة، لا لنا نحن الذين نعتقد أنّ الله خلق الكائنات من لا شيء كما تُعلِّمنا، في سفر المكابيّين (2مو 7: 28)، أمُّ الشهداء السبعة، وفي كتاب الراعي (رؤية 1/1: 16)، ملاكُ التوبة.

104 ويُدعى أيضًا مبدأ ما يحسبه (يكون شيء) بحسب فكرة أصليّة (نموذجيّة). مثلاً، إذا كان بكرُ كلِّ خليقة هو صورة الله اللامنظور، فالآب هو مبدأه. وكذلك المسيح هو مبدأ الكائنات المخلوقة حسب صورة الله.

105 إذا كان البشر حسب الصورة، والصورة حسب الآب، »فحسب« المسيح هو الآب الذي هو المبدأ، و»حسب« البشر هو المسيح لأنَّهم صُنعوا حسب ذاك الذي هو الصورة، بل حسب الصورة. »في المبدأ كان الكلمة« يليق بهذا البرهان عينه.

106 ونستطيع أيضًا أن نتكلَّم عن مبدأ العالم، الذي بحسبه نقول إنّ الحروف هي مبدأ الكتابة. فالرسول يقول: »وجب عليكم منذ زمن بعيد أن تصيروا معلِّمين، إلاّ أنَّكم لا تزالون بحاجة إلى من يعلِّمكم المبادئ الأوَّليّة لأقوال الله« (عب 5: 12).

107 كما هو الأمر بالنسبة إلى العلم. نستطيع أن ننظر إلى العلم من وجهتين اثنتين حسب طبيعة الأشياء وحسبنا: بالطبيعة، نستطيع القول إنّ مبدأ المسيح هو الألوهة. عظمته، هي البشريّة: هكذا نعلِّم الأطفال عن يسوع المسيح ويسوع المسيح المصلوب (1كور 2: 2). إذًا، ينبغي أن نقول حسب طبيعة الأشياء: مبدأ العلم هو المسيح على أنَّه قدرة الله وحكمته (1كور 1: 34). بالنسبة إلينا »الكلمة صار بشرًا وسكن بيننا« (يو 1: 14)، لأنّنا لا نستطيع أن نقبله أوّلاً إلاّ بهذه الطريقة.

108 لهذا السبب ربّما، ليس فقط بكرَ كلِّ خليقة بل أيضًا »آدم« الذي يعني »إنسان« لأنّ بولس يقول هو آدم: »آدم الأخير، روح محيي« (1كور 15: 15).

ونستطيع أن نتكلَّم عن مبدأ عمل. وفي هذا العمل، عن الغاية التي تتبع المبدأ، ولكن بما أنّ الحكمة هي مبدأ أعمال الله، تفحَّصْ إذا كنّا لا نقدر أن نفسِّر بهذا الشكل لفظ »مبدأ«.

109 بما أنّنا وجدنا الآن معاني عديدة للفظ  ηχρα نبحث عن ذاك الذي نأخذه من أجل العبارة: »في البدء (المبدأ) كان الكلمة«. من الواضح أنّنا لسنا أمام ممرّ ولا أمام طريق ولا أمام مسيرة. ونحن بلا شكّ لسنا أمام خلق.

110 ولكن يمكن أن يكون ما »يحسبه« أي ما يُخلق، »لأنّ الله أمرَ فخُلقت« (مز 148: 5). فالمسيح هو في شكل من الأشكال، الباري، لأنّ الآب قال له: »ليكن نور« (تك 1: 3). »ليكن جلد« (تك 1: 6).

111 كمبدأ، يسوع هو الباري، وعلى أنّه الحكمة، لأنَّه يُدعى المبدأ لأنَّه حكمة. فقد قالت الحكمة عند سليمان: »الربّ كوَّنني مبدأَ طرقه من أجل أعماله« (أم 8: 22)، بحيث إنّ »الكلمة كان في المبدأ« أي في الحكمة: لأنّنا ننظر إلى الحكمة في تكوين الفكر الذي أشرف على كلِّ شيء، وفي تكوين المفاهيم، والكلمة في إبلاغ اعتبارات هذا الفكر إلى الكائنات الروحيّة.

112 فالمخلِّص، كما قلنا، هو خيرات كثيرة يميِّزها الفكر، فلا يجب أن نعجب أن تكون بعض هذه الخيرات أولى، وغيرها ثانية، وأخرى ثالثة. وحين تكلَّم يوحنّا عن الكلمة، قال: »ما صار فيه كان حياة« (يو 1: 4). إذًا، صُنعت الحياة في الكلمة. غير أنَّ الكلمة لا يختلف عن المسيح، الكلمة الإله الذي هو لدى الآب الذي به خُلق كلُّ شيء. والحياة لا تختلف عن ابن الله الذي قال: »أنا هو الطريق والحقّ والحياة« (يو 14: 6). وكما أنّ الحياة صُنعت في الكلمة، كان الكلمة في المبدأ.

113 أنظرْ إذا كنّا لا نستطيع أن نفسِّر النصّ »في المبدأ ηχρα كان الكلمة ςογολ بحسب الحشا الروحيّ: كلُّ الأشياء خُلقت بحسب الحكمة، بحسب الخطوط الموجّهة لمخطّطٍ تكون عناصرُه في الكلمة.

114 كما أنّ بيتًا أو سفينة تشيَّد أو تُبنى حسب مخطّط مهندس، ويكون مبدأ هذا البيت أو هذه السفينة (تصميم وقواعد عمل ιογολ المنفِّذ، كذلك أرى أنّ كلَّ شيء خُلق بحسب قواعد ιογολ حدَّدها الله مسبَقًا في حكمته من أجل خلائقه، لأنَّه »خلق كلَّ شيء في حكمته« (مز 104: 24).

115 وأضيفُ متجرِّئًا على القول: بعد أن أنتج الله حكمة حيّة، سلَّمها بأن تعطي، بحسب النماذج التي فيها، الجبلةَ والشكلَ، وربّما الوجودَ للكائنات وللمادّة.

116 لا يصعب علينا أن نقول بشكل لامتقن، أنّ مبدأ كلِّ شيء هو ابن الله الذي قال: »أنا البداية والنهاية. الألف والياء. الأوّل والآخر« (رؤ 22: 3). ولكن ينبغي أن نعلم أنَّه ليس مبدأ بحسب كلِّ الأسماء التي يحمل.

117 فكيف يمكن أن يكون مبدأ على أنَّه حياة، ساعة الحياةُ أُنتجت في الكلمة الذي هو مبدأها في الحقيقة؟ ومن الواضح أيضًا أنَّه لا يقدر أن يكون مبدأ على أنَّه »البكر بين الموتى« (كو 1: 18).

118 وإذا تطلّعنا بتنبُّه إلى كلِّ أسمائه، فهو مبدأ لأنَّه حكمة. وما هو مبدأ لأنَّه كلمة، لأنّ »الكلمة كان في المبدأ«. لهذا نستطيع أن نتجاسر ونقول: بين جميع الصفات الموحاة في تسميات بكر كلِّ خليقة، أقدمُها تسمية الحكمة.

119 الله هو إطلاقًا، واحدٌ وبسيط. ولكن بسبب كثرة (الخلائق)، صار مخلِّصُنا أمورًا كثيرة، لأنّ »الله أعدَّه مسبَقًا ليكون ذبيحة تكفير« (روم 3: 25). صار ربّما كلَّ ما تنتظره منه كلُّ خليقة تستطيع أن تتقبَّل النجاة.

120 لهذا صار نورَ الناس. فحين أعمتهم الرذيلةُ، احتاجوا إلى النور الذي ينير في الظلمة، فما أدركته الظلمة (يو 1: 5). فلو لم يكن الناس في الظلمة، لما كان صار نورَ الناس.

121 ونتوقَّف أيضًا في الشكل عينه على أنَّه »بكر الأموات«: فإذا افترضنا أنّ المرأة ما أُضلَّت وأنّ آدم ما سقط، وأنّ الإنسان المخلوق للاّفساد أدرك هذا اللافساد، فالمسيح ما كان نزل إلى »غبار الموت« (مز 22: 16)، وما كان مات، لأنّ الخطيئة التي وجب عليه أن يموت بسببها، لأجل حبِّه للبشر، ما كانت وُجدَت: ولو لم يفعل، لما كان »بكرَ المائتين«.

122 ونتساءل: هل كان جعل نفسه الراعي إن كان الإنسان لا يُقابَل مع »بهائم لا عقل لها، ويشبهها؟« (مز 49: 13). فإن »خلَّص الله البشر والبهائم« (مز 36: 7)، فهو يخلِّص البهائم التي يخلِّص حين يمنحهم الراعي، لأنَّهم لا يقدرون أن يتقبَّلوا مَلكًا.

123 إذًا، يليق بنا أن نجمع صفات الابن، ونتفحَّص تلك التي حصلت بعد ذلك: ما كانت وُجدت بهذا العدد الكبير لو أنّ القدّيسين لبثوا في السعادة الأولى. ربَّما لم يكن باقيًا سوى الحكمة. والكلمة أيضًا والحياة والحقّ. ولكن (غاب) أيّ اسم آخر اتَّخذَه من أجلنا.

124 طوبى لجميع الذين احتاجوا إلى ابن الله! صاروا كذلك بحيث لا يحتاجون بعد إلى طبيب يعتني بالمرضى، ولا إلى راعٍ ولا إلى فداء. بل إلى الحكمة والكلمة والبرّ، وكلّ ما يهمّ الناس الذين يستطيعون بكمالهم، أن يتقبَّلوا أفضل ما فيه. هذا ما يتعلَّق بـ »في المبدأ«.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM