القراءة اللاهوتيّة والرعائيّة: اللوغس نور الحياة.

 

القراءة اللاهوتيّة والرعائيّة: اللوغس نور الحياة

 

حين نقرأ مطلع يوحنّا، لا نحسب أنّنا أمام برنامج لاهوتيّ يقدِّم معلومات حول اللوغس (الكلمة) والله، حول اللوغُس والكوسمُس (الكون)، حول اللوغس والمؤمنين. إنّه »خبر«. إنّه حدثُ التجسُّد الذي يحدِّد الماقبل والمابعد. ويقدِّم نشاطَ الكائن، نشاط اللوغس.

في وقت من الزمن، ما اكتفى اللوغس بأن يأتي إلى العالم (1: 9)، أن يأتي إلى أخصّائه، إلى بيته (1: 11)، بل صار بشرًا. هذا يعني أنَّه لم يكن كذلك منذ البدء. من هنا التمييز بين لوغس asarko ": كلمة ما صار بعدُ بشرًا، من لحم ودم. وكلمة ensarko": كلمة في بشريّ. كلمة متجسِّد، متأنِّس. صار إنسانًا. هناك الفعل في الماضي المبهم egeneto؛ aoriste (صار) في 1: 14. تجاه الماضي المستمرّ imparfait : كان

ونبدأ بقراءة القطعة الأولى strophe

1- القطعة الأولى (1: 1-3)

تبدو آ1-2 القطعة الأولى، وبرأي عدد من الشرّاح، هي وحدة أدبيّة. هناك أوّلاً ثلاثة عناصر (ثلاثة أشطار stique). في آ1 مع فاعل هو: لوغس، وفعل واحد en (كان)، و»موضع« واحد (الله). وهناك تقدُّم ينطلق من الزمان (في البدء)، إلى المكان (لدى، عند)، إلى الكيان (كان). بعد ذلك، لا نستطيع إلاّ بصعوبة أن نغوص في فهم اللوغس. فتُوجز آ2 ما سبق، وتُبرز ذروةَ المقطع مع القول: كان لدى الله(1).

إذًا، قدّمت آ1-2 العلاقةَ المباشرة بين اللوغس والله، قبلَ خلْق الكون. ونلاحظ في إطار هذه الوحدة، أنّ الفاعل يتبدَّل في آ3: »كلّ« (شيء به كان) لا، »اللوغس« (كان الكلمة). نستخلص أنّ فكرة جديدة تبدأ هنا: يُقدَّم اللوغس، لا في علاقته مع الله، بل في علاقته مع »الكلّ«، مع كلِّ شيء، وخصوصًا مع جميع البشر.

ولكن بالرغم من هذه المعطيات، يجب أن ترتبط آ3 بالآيتين السابقتين. نعتبر آ1-3 وحدة أدبيّة، مستندين إلى معنى »في البدء« en arch . ثمّ »كلّ« panta: كلاهما يعودان إلى الخلق. فلفظ panta يستعيد في شكل آخر en arch . منذ البداية ارتبط اللوغس بالخلق. ويُضاف برهان، لا على مستوى المبنى، بل على مستوى المعنى: ما معنى (في يو) إعلان لوغس يرتبط حصرًا بالله، لا بعالمنا أيضًا. وتستند وحدة آ1-3 إلى قول بأنَّ هذه الآيات تقابل أم 8: 30-31: الحكمة هي بجانب الله. هي نعيمه كلَّ يوم. تلعب أمامه كلَّ وقت. ويُقال بعد ذلك حالاً: تلعب على الأرض، وتجد نعيمها مع بني البشر. لا شكّ في أنَّ هناك نظرة إلى كلمة الله. ولكنَّنا لا نعزله عن العلاقة مع البشر. فهذا يُبعدنا عن الكتاب ككلّ وعن إنجيل يوحنّا. يقول المطلع كيف كشف الله ذاته لنا. لهذا نعالج آ1-3 معًا.

أ- في البدء

في البدء كان الكلمة

طلب يوحنّا أصل ذاك الذي آمنت به الجماعةُ المسيحيّة، فعاد إلى ما أبعد من الآباء. أبعد من آدم. وثبَّت نفسه في بداية الكون. وهكذا نُقلنا إلى عتَبة التاريخ، حتّى أعماق الله، أعماق ذاك الذي معرفتُه تلج كلَّ شيء (مز 139). في آ1 من المطلع، لا يمكن أن يكون »البدء« ذاك الذي تتحدَّث عنه الأناجيل الإزائيّة. والذي يدلّ على بداية رسالة يسوع(2). وعبارة en arch تدلّ على مبدأ ميتافيزيقيّ(3)، ولا ترد مرارًا في الأدب الدنيويّ(4)، بل تعيدنا بشكل واضح إلى الآية الأولى في البيبليا: »في البدء خلق الله السماوات والأرض« (تك 1: 1). ولكن بدل أن نقرأ، كما في تك، الفعلَ في الماضي المبهم فندلّ على عمل الله في الماضي (الله خلق. الله قال)، نجد هنا تأكيدًا على »وجود« يسبق (أو يشرف على) هذا البدء. منذ هذا البدء »كان«. »وُجد« اللوغس: قبل بداية العالم، كان اللوغس هنا. اختلف يو عن الحكمة، فما كان بدايةَ ما ظهر في العالم (كان الأوّل وتبعه خلق آخر) وكأنَّه حلقةٌ أولى بين الله والعالم. أو الأوّل في سلسلة زمنيّة: هو في البدء. بشكل مطلَق. إذًا، لا يمكن أن يرتَّب مع الخلائق.

كيف نترجم فعل hn؟ »وُجد«. هنا نشدّد على موقف اللوغس واستمراريَّته في الوجود. ولكن، أما يكون الاهتمام بوحي وجودٍ في ذاته، سابقٍ لكلِّ شيء؟ أما يكون بالأحرى الجوهريُّ أن نشدِّد على أنّ اللوغس وُجد، بكلِّ بساطة، قبل الخلق؟ لهذا، فُضِّلت ترجمة: كان.

وهل قيل هنا عن »الوجود السابق« للوغس؟ قدَّم لنا التقليدُ الحكميّ أرضيّة متينة لاستعمال هذا اللفظ. فالنشيد في أم 8: 22ي يُستعمل أيضًا من أجل صورة الحكمة السرّيّة، »في البدء« (8: 22). أو: »منذ البدء« (8: 23). ويشدِّد على القَبْل ويُوضحه: »قبل بدايات الأرض... قبل... قبل«. إذًا، تُوصَف الحكمة بأنَّها قبمَوجودة préexistante، لأنّها وُلدت (أي خُلقت) بيد الله، »قبل« كلِّ خليقة (ام 8: 22؛ سي 24: 9). لقد بقيَ القول على المستوى الزمنيّ.

فهل نقول الشيء عينه بالنسبة إلى اللوغس؟ يجب أن يكون الجواب مفصَّلاً، دقيقًا. فكما بالنسبة إلى الحكمة، هكذا يُفهَم الوجودُ السرّيّ للوغس بالنظر إلى العالم المخلوق مع الإشارة إلى بدايته. ويُعتبَر اللوغس قبموجوداً مثل الحكمة. ولكن بخلاف الحكمة، ما قيل أبدًا إنّ اللوغس: خُلق، بل يُوضَح: كان. إذًا، وُجد قبل العالم المخلوق. ولغة القبل تبدو ضروريّة. ولكن يجب أن نفهمها بشكل »استعارة«، كما قال توما الأكوينيّ(5). فحين نتكلَّم عن القبوُجود، لا نحصر اللوغس في المقولات الزمنيّة. هذا يعني استعاريٌّا أنَّه »الله« كما نقرأ في النصّ.

ب- اللوغس والله

ما استنفدنا بعدُ مضمونَ الشطر الأوّل (آ1أ). يبقى أن ننظر إلى فاعل الجملة: اللوغس، الكلمة. سُمِّي هنا بدون أي تعيين. سوف تظهر هويّة اللوغس في الأشطار التالية (آ1ب ج-2)، في رباطه مع الله، ثمّ في رباطه مع العالم (آ3). أمّا الآن، فنكتفي بالمعنى الأساسيّ لهذا اللفظ. هو »الكلمة«: ما به يعبِّر الكائن عن نفسه. ويُقال: في البدء، ساعة فعْلِ الخلق، كان »الكلمة«. أي إبلاغ الله عن ذاته. وبدلاً من أن ننظر إلى العالم فقط كواقعٍ جعله الله في الوجود، نقاربه بسرّ الكلمة، بسرّ العلاقة الشخصيّة التي يقيمها الله مع الإنسان حين يخلقه. في هذا الإطار من الحوار، يُفهَم وجودُنا في هذا العالم.

والكلمة كان عند الله

والله كان الكلمة

كيف نتصوَّر هذا اللوغس الذي كلّمونا عن قبوُجوده؟ بدأ المطلع فحدَّد موقعه بالنسبة إلى الله. تميَّز الشطران (1ب، 1ج) على المستوى الأدبيّ، ولكنَّهما لا ينفصلان. كلاهما يُشيران إلى وضع اللوغس. حين يقرأهما المسيحيّ، يُدفَع دفعًا لأن يرى في شكل مباشر، اللوغس اليوحنّاويّ على أنَّه الأقنوم الثاني في الثالوث الأقدس. ولكن هذا لا يفرض نفسه بعدُ هنا: إن كان يو يعترف بالمساواة، فهو يأخذ بالطريقة الساميّة التي لا يمكن أن تماثل التعبير اللاهوتيّ الغربيّ، كما في مجمع نيقية والعالم اليونانيّ. فهذا التعبير ميَّز هنا، سمّى »شخصين«، »أقنومين«: الآب والابن. وفي الحال، حدَّد أنّ لهما طبيعة واحدة وحيدة. رتَّب يوحنّا قولين متعاقبين: تضمَّن الأوّل أنّه يوجد »فارق« بين اللوغس والله، والثاني أعلن أنّ اللوغس هو »الله«. وهكذا يكون اللوغس والله، في هذا النصّ اثنين وواحدًا. ونبدأ فنحدِّد مضمون هذا المقطع.

تبدو عبارة آ1ب غريبة. بخلاف الاستعمال في اللغة اليونانيّة، تبع فعل »كان« حرف pro" المبنيّ مع النصب accusatif: .pro" ton qeon. في مثل هذه الحالات، يطلب الجرّ. وهذا ما نراه عند يوحنّا في مواضع أخرى. »كانت مريم قرب القبر« (20: 11). Pro" tw mnhmhmeiw. ويكون النصب مع pro" حين يكون الفعل فعل حركة: »نأتي إليه« pro" auton. وحالاً نقرأ مع فعل لامتحرِّك حرف الجرّ pro" auton: »نقيم لديه« parv autw (14: 23).

تبرز هنا أمامنا فرضيّتان. إنّ أخذنا بفكرة الحركة مع استعمال النصب، نتحدَّث عن اللوغس على أنَّه »كائن يتَّجه نحو الآب«: هو في علاقة متواصلة معه. »ملتفتٌ« إليه. هذه القراءة توافق الاتّجاه الذي يمنحه المطلع في آ18، إلى الابن: الملتفت نحو حضن الآب. ei" ton kolpon tou patro". ولكن في هذه الآية (آ18)، ليس حرف الجرّ هو هو. ونحن هنا أمام اللوغس المتجسِّد. فإذا قلنا منذ بداية النصّ اليوحنّاويّ أنّنا أمام يسوع المسيح بالذات، فالتماثل بين العبارتين يسري. أمّا إذا كنّا في آ1ب أمام اللوغس قبل تجسُّده، فيجب بالأحرى أن نتردَّد في مماثلة العبارتين بكلِّ بساطة.

يبقى أن pro" مع النصب تجعلنا نفهم هنا فهماً أكبر عن وضع اللوغس بجانب الله، دون أن نستنتج في الوقت عينه التمييز بين الشخصين، الأقنومين. نورد مثلاً من أم 8: 30: الحكمة أوّل مولود في الخلق. قيلت para الله، أي بجانب، قرب، ولكنّ اللوغس لا يقال عنه فقط إنّه الأوَّل بين الخلائق، بل لا نجد لفظًا في المطلع يدلّ على أصل يكون قد تسلَّمه. إذًا نستطيع أن نفترض في الاستعمال الديناميكيّ لحرف الجرّ pro"، أنّ يوحنّا يعرض علاقة مع الله أكثر حميميّة وأكثر تكوينيّة من علاقة الحكمة مع خالقها.

الفرضيّة الثانية تنطلق من المعطى الغراماطيقيّ: اللغة الشائعة koiné أي لغة الكلام في زمن يو، تستعمل pro" في معنى para(6). إذًا، يكون المعنى هنا كما في 17: 5 حيث يتكلَّم يسوع »عن« المجد الذي كان لديّ عندك، لديك para قبل إنشاء العالم(7). بما أنَّ المجد هو من النظام الإلهيّ، يكون الكائن في شركة واحدة، ويلبثان متمايزان. تستند هذه الفرضيّة إلى أساس موضوعيّ. ولكن ما من مقطع عند يو يساعد على اعتبار حرفَي الجرّ في المعنى الواحد.

نستطيع أن نختار. ويمكننا أن نستفيد من الفرضيّتين حيث غنى الواحدة يضيء غنى الثانية. ولكن نقول: هناك تمايز بين اللوغس والله. وما يُقال، يُقال انطلاقًا من اللوغس لا من وجهة الله .o qeo" ولكن يو لا يقول إنّ الله قُرْبَ اللوغس. ويشدِّد مضمون الشطر أيضًا أنّ الكلمة متَّحد بالله اتِّحادًا حميمًا.

* * *

ويمضي النصّ فيقول في الحال: »والكلمة كان الله« (آ1ج). اللفظ qeo" هو هو في الشطر السابق، ولكن لا مع أل التعريف o . فاعل الفعل هو logo" لا eo"q. لا يقول النصّ: الله كان اللوغس. ثمّ نلاحظ أنّ الإنجيليّ لم يكتفِ بالإعلان أنّ اللوغس »إلهيّ« qeio"، بل احتفظ بالموصوف نفسه الذي في آ1 ب qeo". غاب أل التعريف وبقي التمايز: ليس اللوغس الله في المعنى المحفوظ للآب. هو الله يعبِّر عن نفسه، كما في آ3 المتحدِّثة عن الخلق. لهذا نستطيع أن نترجم: كان اللوغس في نطاق الله.

في الفكر البيبليّ، نلاحظ أنّ شخصًا يستطيع حقٌّا أن ينقل ما هو خاصّ به حصرًا(8). فبركة أحد الآباء هي امتداد لكيانه، لشخصه. هو ينقل شيئًا منه بشكل لا يمكن التراجع عنه (كما حصل مع إسحق حين بارك يعقوب وما استطاع أن يستعيد بركته ليمنحها لعيسو البكر، تك 27: 33). ففي التمثّل البيبليّ لله، يمكن أن تُنقَل هذه النظرة. وما يدعونا إلى ذلك قراءة حك 7: 25-26.

25 الحكمة هي نسمة الله القدير،

وفيضٌ نقيّ من مجد القدير.

26 هي انعكاس النور الأزليّ

ومرآة لا عيب فيها لنشاط الله

وصورة عن تساميه.

القرابة الوثيقة بين اللوغس والحكمة، تتيح لنا أن نفهم فهمًا أفضل كيف أنّ يوحنّا أعلن أنّ اللوغس والله هما في الوقت عينه واحد واثنان. فالعهد القديم يقدِّم صورةَ الربّ (ومثلَه) حين يضع قدميه على الأرض، دون أن تتبلبل وحدته: الحكمة، ملاك الربّ، البرّ، الحقّ. مثلاً، يظهر ملاك الربّ على موسى. ثمّ يتكلَّم الربّ. ولا نعود نذكر ملاك الربّ. ثمّ، إذا كان للحكمة بداية، فلا يسري الأمر مع اللوغس، حيث نقرأ وحدة الشخص والآخر.

كما نلاحظ في كتابات العهد الجديد الأولى، تماهيَ يسوع مع الحكمة في العهد القديم. يدعوه بولس: »حكمة الله« (1كور 24، 30). وحين يتحدَّث عن قبوُجود المسيح، يدعوه »بكر« الخليقة (كو 1: 15؛ رج أم 8: 22-31). ووصفَه صاحبُ الرسالة إلى العبرانيّين: »بهاءُ مجدِ الله وصورةُ جوهره« (عب 1: 3؛ رج حك 7: 25). في هذا الخطّ، رأى يوحنّا حقيقةَ ما عرفه العهدُ القديم صورةً: حكمة الله صارت أقنومًا.

أمّا الحكمة التي تسبق العمل الإلهيّ في خلق الكون، فقيل عنها إنّها خُلقت، أو وُلدت بيَد الله (أم 8: 22؛ سي 24: 3، 9). غير أنّ المطلع لا يستعيد هذه الفكرة، بل يأخذ مكانها: »الكلمة كان الله«. ونشير إلى أنّ النصوص الحكميّة المتأخِّرة مثل حكمة سليمان، تحدَّثت عن الله الذي يتأمَّل في الحكمة ويستغرق. وهكذا تبدو شخصًا تجاه شخص الإله (حك 7: 22ي).

إذًا تجاوز يوحنّا سابقيه، فأعلن أنّ اللوغس ليس فقط الكائن الإلهي . بل هو qeo". وينتقل النصّ من الاثنين إلى الواحد، ومن الواحد إلى الاثنين. وهذا ما يميِّز سرّ علاقة الآب والابن. ولكن ما دام اللوغس لم يتجسَّد لكي يكون »الابن«، وما دام الله لا يُدعى »الآب«، هو الواحد تغلَّب على الاثنين. فما يبدو واضحًا هو أنّ وحدة الله لا تطلب حصرها في وحدة فرد. هي تفترض علاقة ديناميكيّة، علاقة كائن يمتدّ امتدادًا. فالعلاقة وحدها هي التي تميِّز الكائن في العمق. فحين نفصل قطبَي العلاقة، نسقط في الضلال، أو نحن لا نبيِّن سوى جزء من السرّ، كما حاول يوحنّا أن يختمه في تشعُّبه: كان لدى الله. كان الله.

هذا كان في البدء عند الله

استعاد النصّ بهذا الشكل القولين الأوّلين المرتبطين في آ1، فأبرز جوهر ما يريد قوله في الوقت عينه: موقع اللوغس بالنسبة إلى بداية الكون، ووجوده عند (لدى) الله. وأعلن يوحنّا ما هو اللوغس في ذاته، ثمّ استعاد عبارة »في البدء« التي منها انطلق، وهكذا التفت من جديد نحو الخلق. كرَّر عمدًا عبارة »في البدء« ليوجِّه فكر القارئ نحو الخليقة.

فلفظُ لوغس أو كلمة، يتضمَّن في ذاته إبلاغًا إلى الخارج به يُبلغ اللهُ عن ذاته للبشر. وهكذا يُكشف لنا أنّ الله لم يكن بدون لوغس في أيِّ وقت من الأوقات. فاللوغس الذي هو دومًا مع الله، هو حوار مع البشر. إنّه تعبير عن الله يتوجَّه إلى البشر. وإذ شدَّد النصّ على أنّ اللوغس كان في هذا البدء »عند الله«، جعلَنا نستشفّ أيضًا أنّ الخليقة مدعوّة لكي تكون »عند الله«. إذا كان يوحنّا لا يعود في هذه الآية إلى المعطى الرئيسيّ لوضع اللوغس الإلهيّ، فلأنّه اهتمّ بأن يُبرز موقف اللوغس الأساسيّ تجاه الله: هذا الموقف هو النموذج لكلِّ ما يلده الكلمة. فبحسب آ12-13، أعطى اللوغس أولئك الذين تقبّلوه أن يصيروا »أبناء الله«. ومن تقبَّل اللوغس، استعدّ به أن يُوجَد مع الله.

وهكذا لا يكون البدء نقطة عمياء: في أصل الكون، يُوجَد سرّ الله الذي يُشرق بكلمته، فيكوِّن كلَّ شيء في حوار معه.

ج- اللوغس والخلق

كلّ شيء به صار، وبدونه ما صار شيء واحد

انتهى تقديم اللوغس. هو في جوهره »عند الله«. هو كلمة. يلتفت نحو خارج الله، نحو الوجه الذي يعطيه الله لذاته، نحو ما سوف يُقام في الوجود »في البدء«، نحو انطلاق الخليقة.

منذ البداية، أعلن المسيحيّون أنّ الخليقة تمّت في المسيح (1كور 8: 6):

لنا نحن إله واحد وهو الآب

والذي منه ex ou كلّ شيء ta panta

وإليه ei" auton نحن

وربّ واحد، يسوع المسيح

الذي به di jou كلّ شيء ta panta

وبه di jautou نحن.

في هذا النشيد الذي استعاده بولس (رج كو 1: 16 مع صياغة ثانية)، يظهر الاهتمامُ بتحديد دور الابن في خلق، كان الله الآبُ هو خالقه، فاعله. لهذا نلاحظ في العهد الجديد استعمالاً دقيقًا لحروف الجرّ. ek: يعود إلى الله الآب. dia تدلّ على الوساطة التي هي خاصّة بالمسيح. في المطلع نجد dia التي تعود إلى اللوغس. هنا يجب أن نفهم هذه الوساطة التي هي داخل سرّ النشاط الإلهيّ. فالكنيسة واجهت باكرًا الفكر اليهوديّ وفكر الهراطقة. فاللوغس عند فيلون الإسكندرانيّ يلعب دور »المتوسِّط«. وهذا ما يتيح له بأن يبقي الله في الروحيّ المجرَّد، المتعالي. قال: »لا يمتزج اللوغس بشيء آخر إطلاقًا. هو لاجسديّ. هو عارٍ. لا يختلف أيّ اختلاف عن الواحد الفرد« monade. وهرقليون، أوَّل مفسِّر ليوحنّا، والولنطينيّون، حصروا أيضًا دور اللوغس في دور الباري(9). هذا لا يمكن أن يكون في لاهوت العهد الجديد: فوحدةُ العمل بين الآب والابن معطيةٌ أساسيّة في الوحي. ومع ذلك، فهذا اللاهوت الأمين لأساسه اليهوديّ، يجعل الآب الينبوع الأوّل المطلق. هذا ما يدلّ عليه فعل egeneto الذي يُستعمل كصيغة المجهول لفعل صنع poiein: »كلّ شيء به صار« egeneto. يعني »الله صنع epoiei كلَّ شيء به«(10).

وجاء التوازي مع القول الأوّل: »وبدونه ما صار شيء واحد« .oude hn قويَت الفكرةُ فلا مجال لإضعافها. مثل هذه البنية نجدها في كلام يسوع حول الكرمة والأغصان (15: 5):

من يثبت فيّ en emoi

يحمل ثمرًا كثيرًا

لأنّ خارجًا عنّيcwri" emou

لا تستطيعون أن تحملوا ثمرًا.

ما من شيء جاء إلى الوجود (صار) إلاّ بحضورٍ ناشطٍ للوغس. وحسب تفسير لأوريجان: »لا شيء يقابل الـ »لاموجود« أي »توه وبوه« كما في سفر التكوين.

ما صار، صار لا شيء (توه وبوه) حين انفصل عنه (11).

ولكن مثل هذا التفسير يتجاهل المعنى الدقيق للفظين: »كلّ« panta. ثمّ »صار« egeneto. اختلف يوحنّا عن الكتّاب الذين استعملوا ta panta للدلالة على الكون(12)، فقدَّم panta من دون أل التعريف. تطلَّع إلى الكوسمُس (الكون)، إلى الكائنات في فرادتها وتاريخها. كان إيرينه قد ردّ على الغنوصيّين في زمانه، أنَّه لا يحقّ لنا أن نستبعد من عمل الخلق، العالمَ المادّيّ لنجعل فيه فقط »البنفماتيّ«(13). وكان أوغسطين على حقّ حين أعلن أنّ اللوغس خَلق كلّ شيء حتّى الذباب والبقّ. ولكن مهما كانت هذه الأقوال، فهي لا تؤدّي مضمون النصّ كلّه. ففي الإنجيل الرابع، نجد panta عادة في سياق وحيٍ وخلاص(14). هذه الملاحظة تدعونا إلى أن نحدِّد دور اللوغس في الخليقة التي هي عمله: إنّ كلمة الله يلعب دورًا في الخلق، لأنَّه إيضاح الاسم، ولأنّه ينعم بسبب ذلك، بنجاعة وفاعليّة. الكائنات تتكوَّن، في اللوغس، وهو حاضر فيها حضورًا خلاصيٌّا.

والفعل egeneto. نقول: صار. انتقل إلى الوجود من اللاوجود. صار شيءٌ حيث لم يكن شيء. وصيغة الماضي المبهم تشير إلى عمل تمّ في الماضي. إنَّه يعارض الماضي المستمر hn المستعمَل للكلام عن اللوغس في آ1: كان. وُجد. بخلاف اللوغس الذي »كان« في البدء، كلّ شيء »صار موجودًا«. وهذا ما يقابل كلام بولس الرسول: »كلّ شيء خُلق به وله«.

ولكن تبقى هذه القراءة محدودة، وكأنّ الخلق تمّ في وقت محدَّد، وانتهى عملُ الله. ترك الكونَ يسير مسيرته وكأنَّه »توه وبوه«. أي تائه، ضائع! ففي التقليد اليهوديّ، لا ينحصر عملُ الخلق في انطلاق الكون. هذا العمل حاضر اليوم، فاعل. لاشكّ في أنّ الله توقّف عن الخلق في اليوم السابع. ولكن عمل الخلق عنده يبقى فاعلاً حتّى نهاية العالم، بحيث يصبح وحيًا وخلاصًا (5: 17؛ مز 104: 30). وبيّن اللاهوتُ الكتابيّ أنّ كلمة الله الخالق حاضرة وناشطة على مدى التاريخ كلَّه عبر وحي عن قصده وسرِّه، يتكرَّر ويتنامى(15).

ويُسند هذا التفسير الالتباس في فعل ginesqVai الذي منه يأتي egeneto الذي يعني: صار. حصل، كما في رؤ 1: 19؛ 4: 1؛ 22: 6 حيث يبيِّن الملاك: »ما يحصل قريبًا«. في مسيرة التاريخ السائر إلى الخلاص النهائيّ، يحصل كلُّ حدث بواسطة اللوغس. وإذا كان الفعل في الماضي الغامض، فهو لا يدلّ فقط على الماضي، بل يجمع سلسلة الأحداث التي حصلت. إن panta لا تعني فقط الكون في ذاته، بل الخلائق في تنوُّعها.

عاد المطلع اليوحنّاويّ في مسيرة الزمن، فوصل إلى »البدء«. بلغ إلى عتبة النطاق المحفوظ لله، أي إلى مقام الألوهة بالذات. ما ذُكر الروح بعدُ. وحرفيٌّا، لا نستطيع أن نتكلَّم بعد عن الثالوث. وفي الكلام عن العلاقة بين الله واللوغس، ما لجأنا بعد إلى »الأقنوم« و»الطبيعة«. ولكنّنا اكتشفنا العلاقة بين الواحد والكثرة: منذ البدء، نعرف أنّ الله ليس فردًا منغلقًا على ذاته. هو علاقة. الله هو العلاقة القائمة في الذات. والخليقة التي جاءت من الله بيد اللوغس، تستطيع أن تكون التعبير الخارجيّ عن هذه العلاقة.

وتثَبّتت علاقةُ المطلع مع الحكمة في العهد القديم، في استمرار مع الوحي البيبليّ، أنّ الإله الواحد لا يكشف عن نفسه كفردٍ سامٍ، منعزل، في جلالته، بل على أنه كائن يشعّ مجدُه: هو يبلِّغ عن نفسه دومًا، بالحكمة، أو بذلك الذي يُتمّ صورةَ الحكمة، اللوغس، الكلمة.

لا يمدّ يوحنّا الزمن مدٌّا مصطنعًا، لا فيما قبل الخلق ولا فيما بعد الزمن. إنَّه يبلغ إلى ذلك الذي يُعطي الزمنَ معناه. إن كان كلُّ شيء يحصل بواسطة اللوغس، فهذا يعني أنّ كلَّ شيء يأخذ به معناه. فاللوغس الذي هو دومًا »لدى الله«، يُبلغ إلى جميع الكائنات خَتْمَه الخاص. فالمخلوقات كلُّها هي تعبير عن الله، لأنّ اللوغس كوَّنها كلَّها، وهو من هو »لدى الله«. ومجمل المخلوقات ليست »الإله كما يعبِّر عن نفسه«، ولكنّها تستطيع أن تكونه.

2- القطعة الثانية (1: 4-5)

ما هي علاقة اللوغس مع الكون الذي جعله يأتي إلى الوجود؟ حين أراد بولس أن يحدِّث الناس عن حضور يسوع المسيح لدى البشر، استعمل قياسًا »صورة الله« (كو 1: 15)، بحيث إنّ البشر هم أنفسهم صورة الله (تك 1: 27)، ويجب أن يُفهموا بالنظر إلى الصورة الأولى التي هي يسوع المسيح (روم 8: 29). ذاك هو أساس »النموذج« الذي أعلنه عددٌ كبير من آباء الكنيسة. ما استعاد يوحنّا هذه اللغة، بل لجأ إلى ثيمة الحياة ورمزيّة النور. وهكذا بدا وارثًا أمينًا للتقليد البيبليّ. ولكنَّه في الوقت عينه، أجاب على التعرُّف الروحيّ لدى العالم الهلّينيّ المعاصر.

4 (ما صار) فيه حياةً كان

nenogeg oh otua nE

والحياة كانت نور الناس

5 والنور في الظلمة يضيء

والظلمة ما استوعبته (ما أوقفته، ما أدركته).

ربطنا o gegonen (ما صار) بما في آ4. وبماذا نربط فيها، en autw؟ بما صار، أم باللوغس (يتضمَّنه النصّ). هل نقول: في الشيء أو فيه؟ وما هو فاعل فعل كان؟ لا »الحياة« (في ما صار كانت الحياة)، لأنّ غياب أل التعريف أمام حياة يجعل منه موصوفًا. أيكون o gegonen؟ عندها نقرأ: »ما صار فيه (في اللوغس) كان حياة«. ولكن ما هي هذه الحياة التي نُسبَت »إلى ما صار«، فما استطاعت أن تكون حياة الله ذاته؟ تطلَّع بعضُ الشرّاح إلى »الحياة الروحيّة« التي أوصلها المسيح إلى المؤمنين. غير أنّ هذه الفرضيّة تُضيف فكرة آتية من مكان آخر، ولا تتوافق مع السياق الذي يتوجَّه في منظار كونيّ.

أمام هذه الصعوبات، فضَّلنا أن يكون الفاعل (هنا كما في المطلع إجمالاً) هو اللوغس. في هذه الحال، تستعيد en autw العبارة o gegonen (في البداية)، وكأنّها تُبقي الأمر معلَّقًا. صار اللوغس مستترًا هنا كما في آ2-9، 10، 11. وبعد ذلك، يُذكَر اللوغس في آ14 فيبدو بارزًا. هذا ما يبرِّر قولنا: »ما صار فيه، حياةً كان«.

أ- اللوغس حياة

تُبرز القطعةُ الثانية (آ4-5) اللوغس، على أنه النور الذي ينتصر على الظلمة. ولكنَّ الحياة هي التي أُعلنت أوَّلاً. ثمّ جاء النور. هذه اللغة تَلفت انتباهَنا. فبعد آ3 التي أعلنت حضورَ اللوغس الناشط في كلِّ ما صار، ما وُجد، تميَّز عملُ اللوغس بعطيّة الحياة. ولكن أيّة حياة يعني؟ لا شكّ في أنَّ هناك تلميحًا إلى الوجود الذي ظهر ساعة الخلق. ولكن في أيِّ معنى هذا الوجود هو »حياة«؟ هل كواقعٍ نمتلكه حتّى الموت، أم مشاركة في حياة اللوغس الإلهيّة؟

حسب التقليد البيبليّ، الله وحده هو الحيّ، في المعنى المطلق. إنَّه الحيّ الحيّ (مز 36: 10). وكلّ ما تبقّى يتعلَّق بروحه، بنسَمته (مز 104: 28ي، تك2: 7). بدون الله، ليس هناك سوى الموت. فإذا أرادت الحياة التي حرَّكها الله أن تبقى في الإنسان، ينبغي أن تكون دومًا متعلِّقة به وهو ينبوعها. لهذا، »فالحياة« في البيبليا لا تعود فقط إلى بهاء الكائنات الأرضيّة (وغزارتها) الذي يبقى مهدَّدًا في فرادته، بل تتضمَّن أيضًا غايةً تُدرَك، وهو التفتُّح التامّ الذي يقابل مشروع الله في الإنسان. قال سفر الحكمة (1: 13-14؛ 2: 23): »خلق الله الإنسان من أجل الحياة«. لكي يحيا: فالوجود الذي نتقبَّله والذي يُدعى »حياة« بمعنى الوجود الطبيعيّ، يرمز إلى الحياة الحقيقيّة، التي يريد الله أن يمنحها للإنسان حين يكشف له عن ذاته، التي تعد بها »شجرةُ الحياة« في جنّة عدن (تك 3: 22)، التي يقدِّمها إله العهد لشعبه (تث 30: 15-16)، التي حلم بها المرتِّل: »عرِّفْني سبلَ الحياة، واملأني فرحًا بحضورك، فمِن يمينك دوام النعم« (مز 16: 11).

يُدعى الإنسان منذ هذه الحياة لكي يعيش في توافق تامّ، في شركة، مع الله ذاته. ولكنَّه ليس مُعَدٌّا لذلك في شكل بديهيّ. فتفتُّح حياته الحقيقيّ، الذي يفترض الإيمان، يرتبط بسلوك من البرّ والأمانة حسب متطلِّبات يبيِّنها الله له. فالإنسان في نظر البيبليا هو مشروع حوار: يومَ يُخلَق، يَدخل في حوار مع خالقه، وهو حوار يجعل من عهد قطعه الله مع شعبه، موقفًا شخصيٌّا. طلب الربّ من هذا الشعب الطاعة لشرائعه وفرائضه. »إذا شئتَ الحياة!« وهكذا يصلّي المؤمن لكي تبان له »طرقُ الحياة«(16).

فلفظ »حياة« الذي احتفظ به المطلع، أشارَ إلى حفظ الإنسان في الوجود، كما إلى العلاقة الحيّة، الوجوديّة، مع الله، بواسطة اللوغس. حسب آ4، اللوغس asarkoV" (ما صارَ بعدُ بشرًا) هو ينبوع »حياة« متواصل في كلِّ ما صُنع. وكما يدلّ الماضي التامّ gegonen، لسنا هنا أمام خروج الكائنات كما في آ3، بل أمام الكائنات الموجودة التي هي نحن. كوّننا الابنُ فدُعينا إلى أن نستمرّ ونسير نحو الكمال. هنا نتذكَّر قول يسوع: »فكما أنّ الآب هو في ذاته مصدر حياة، كذلك أعطى الابن أن يكون في ذاته مصدر حياة« (5: 26). أو حين قال يسوع إنَّه جاء لكي يكون للخراف »وفرة الحياة« (10: 10). أو في شكل احتفاليّ: »أنا هو الحياة« (14: 6).

ب- اللوغس نور

كيف نزيل اللبس الملازم »للحياة« التي تقبّلناها والتي ما زلنا نرجو ملأَها؟ هنا يدخل رمزُ النور الذي يأخذ الآن موضعه في النصّ: حين تتّصل الحياة بالإنسان، بعد أن أعطاها اللوغس، تصبح نورًا فتدلّ على الطريق إلى ملء الحياة.

أن يكون النورُ، في المعنى الطبيعيّ، المحيطَ الضروريّ للمحافظة على الحياة ولنموّها، فهي معطية اختباريّة تعرفها البيبليا (مز 56: 14؛ 74: 16؛ إر 4: 23). ولفظ »النور« يُشير بعض المرّات إلى الحياة كما قال أي 3: 20:

لماذا النور للتعساء،

والحياة لمن نفوسهم في مرارة؟

فرمزيّة النور، في حصر المعنى، تلعب في البيبليا دورًا على نطاق واسع، وتشير إلى استنارة لا تكون فقط عقليّة. تترافق هذه الاستعارة مع خبرة دينيّة، فتضمّ قيمًا وجوديّة من أجل الخلاص، إن لم يكن من أجل الحياة الخلقيّة.

الربّ نوري وخلاصي (مز 27: 1).

كلمتك مصباح لخطاي ونور لسبيلي (مز 119: 105).

أمّا في سفر الحكمة، فرمزيّةُ النور تُطبَّق بشكل مباشر على جوهر الله: فالحكمة نفسها هي فوق كلِّ نور مخلوق (حك 7: 29). وتُدعى »انعكاس النور الأبديّ« (آ26). اختلف الإنجيل عن 1يو التي أكَّدت أنّ الله نور (لتدلّ على أنَّ لا ظلمة فيه، 1يو 1: 5)، فما نوى بشكل مباشر أنّ يحدِّد طبيعة اللوغس. فحسب آ4، حين دخل اللوغس في علاقة مع البشر، دلّ أنَّه لهم النورُ. هناك من يقول: الحياة والنور. ونقول أيضًا: نور الحياة. اللوغس يشعّ. هكذا نفهم اتِّحاد الحياة مع النور في شكل جدِّيّ. لو لم يتكلَّم يوحنّا إلاّ عن الحياة، لكان الخطرُ بأن لا يُسمَع، فيجعلنا نظنّ أنّنا أمام الحياة التي تُعطى للبشر كخير لا يُنزَع منهم. ولو تكلَّم فقط عن النور، لكان الخطرُ بأن يُحجَب الطابعُ الوجوديّ للنور. لهذا قال مز 36: 10:

ينبوع الحياة عندك،

وبنورك نعاين النور(17).

يرى يوحنّا منذ البدء أنَّه بفضل اللوغس ينبوعِ الحياة، يرى البشرُ النورَ الذي يقودهم إلى ملء الحياة. هذه الآية الكثيفة هي صدى لعدد من التيّارات الفكريّة في القرن الأوّل المسيحيّ. لهذا، فهي تستبق قولَ الربّ يسوع (8: 12):

أنا هو نور العالم،

من يتبعني لا يمشي في الظلام

بل يكون له نور الحياة(18).

دعانا المطلع لكي نستشفّ التقليد الحكميّ الذي اغتذى منه، فقدَّم في الوقت عينه جوابًا لما يتوق إليه المتصوّفون الوثنيّون في أيَّامه. ويكون من المفيد أن نحدِّد موقع النظرة اليوحنّاويّة بالنسبة إلى العالم الغنوصيّ، حيث الخلاصُ يأتي إلى الإنسان من معرفةٍ تجعله يستعيد الشرارة الإلهيّة المخفيّة في كيانه، فتحرِّره هكذا من المادّة. الإنسان كلّه يتقبَّل الخلاص، في نظر يوحنّا الذي يحافظ على وُجهة الحوار الذي يتيح لنا وحده أن نحافظ على التمييز بين لفظَيْ العلاقة التي أراد اللوغس أن يقيمها مع خليقته(19).

ج- النور والظلمة

والنور في الظلمة يضيء

والظلمة ما استوعبته.

وانطلق الفكر. ترك الحالةَ السابقة التي دلَّت عليها صيغة الماضي المستمرّ »كان«، فأعلن واقعًا حاضرًا (يضيء الآن). وهذا الحاضر يستند بدوره إلى ماضٍ غامض (ما استوعبته). لا نعود إلى معنَيي فعل katelaben. أدرك. أوقف. في أساس كلِّ هذا، صراع بين النور والظلمة. فإذا كان النور يضيء اليوم، فهذا يعني أنّ الظلمة لم تُوقفه في مسيرته. أوُجِدَت الظلمة قبل النهار أم وُجدَت مع النور؟ وما هو هذا الحدث السابق الذي جعل الظلمة تنتصر؟

تحدَّثت آ1-3 عن اللوغس الخالق وسيِّد التاريخ، ودعَتْنا لكي نرى هنا أيضًا صدى لخبر سفر التكوين (1: 2-4):

على وجه الغمر كان ظلامًََُُُّّّ

قال الله:

»ليكن نور!« فكان نور.

ورأى الله أنّ النورَ حسن

وفصل الله بين النور والظلام.

بالنسبة إلى يوحنّا، كما إلى سفر التكوين والعالم اليهوديّ(20)، النور والظلمة هما في البداية زوجان. ولكنّ الله فصلهما بكلمته. جعل حدٌّا للظلمة. وبعد التيهان والضياع (توه وبوه)، جاء الكون المنظَّم. ومع ذلك، فالنور ما ألغى الظلمة.

هذه المساكنة بين النور والظلمة، التي تجد صداها في أدب قمران، حين يصوِّر الصراع بين أبناء النور وأبناء الظلمة، فتحَت الطريقَ أمام ثنويّة ميتافيزيقيّة نادى بها العالم الغنوصيّ: »لا بخلاص«، بل »بالمعرفة« يقتلع الإنسانُ نفسه من قوى الشرّ التي تفرض نفسها عليه، ويتعرَّف إلى وجهه الإلهيّ. في قمران، ممارسةُ الأعمال الصالحة تقود إلى ملكوت النور. ولكن يبقى بالنسبة إلى هذه الجماعة أنَّ الصراع بين الظلمة والنور يرتبط بمشيئة الله الذي نظَّم منذ الأزل، مصيرَ كلٍّ منهما، بالنظر إلى انتمائه العميق إلى ملكوت النور أو ملكوت الظلمة.

وفي البيبليا، يتصارع النورُ والظلمة. وهذا الأمر يُنسَب إلى الله: »أنا مُبدع النور وخالق الظلمة« (أش 45: 7). هي معطية أولى في الوحي: ينتصر النور على الظلمة، ولكن في نهاية الأزمنة فقط، حين يزول الليل الذي يرمز إلى الظلمة (أش 60: 19-20)، حين يتواصل النور حتّى في وقت المساء (زك 14: 7؛ رؤ 21-22). إلى ذلك الوقت، كما أنّ نور الصباح ينتصر على الليل، كذلك يسيطر النور على الظلمة ولا يُلغيها (أش 17: 14؛ 289: 7؛ 60: 20؛ مز 46: 1ي). ذاك وضعُ الإنسان على الأرض كما يعكسه المطلع، إلى أن يأتي المسيح نور العالم، وبالإيمان به يُفلت الإنسانُ من الظلمة.

هل يتبع ذلك أنَّ الظلمة سبقت النور؟ كلاّ، بلا شكّ. وإذا أردنا أن نفهم ذلك، يجب أن نعلم أنّ »العدم« (اللاشيء) الذي منه خلق الله الكون، دُعيَ ظلمة في إطار البيبليا. إذا كان النور يدلّ على طبيعة الحياة، فغياب النور هو موت. وحين خلق الله، فَعلَ في »اللاشيء«، في الظلمة. تلك هي مخاطرة الخلق: أن يأتي اللاشيء إلى الوجود. واجتاح النورُ الظلمة. ولكنّنا لا نستطيع أن نقول إنّ الظلمة تُوجَد حقٌّا بجانب النور: تبدو ظلمة حين يأتي النور. وفي ما يتعلَّق بالوضع البشريّ، كلُّ شيء يسير في اثنين يتعاكسان. وحده الله كلُّه نور، ولا ظلمة فيه. وكلُّ ما ليس الله هو ظلمة، ثم أُخرج من الظلمة وعُرض على النور.

في مطلع إنجيل يوحنّا، بدا الخلقُ اجتياحًا للنور في الظلمة، دون أن يقدر على إيقافها. لا تلميح هنا إلى »خطيئة أصليّة« (في أصل الإنسان، لا في بداية حياته على الأرض) من البشر ولا من الملائكة: في أصل وضع الإنسان، هناك النور وهناك الظلمة أيضًا. نستطيع أن نتحدَّث عن ناموس وجود الخليقة. هذا ما تحاول أن توضحه صيغة الحاضر fainei النور يضيء الآن في الظلمة. ذكَّر النصّ بالخيانات التي تحدَّث عنها الأنبياء، فانتصر الله عليها. وعكس مسبقًا أحداثًا حصلت في حياة يسوع مع انتصار الله حين أقام ابنه. كما وضع أمام القارئ خبرة المسيحيّين الذين لاحظوا العمى الكبير تجاه يسوع، ساعة واصلت جماعتُهم الأخويّة إشعاع الإيمان والمحبّة (1يو 2: 8). الظلمة هي دومًا هنا، ولكنَّها لم توقف النور ولم تستطع أن تستوعبه، تحتويه، بحيث يزول مفعولُه.

ويبقى فرقٌ بين زمن البدء والزمن الحاليّ. منذ دخلت الخطيئة إلى العالم، لم تعد الظلمة »لا شيء«، »غياب«، بل صارت قوّةً عاملة. ولكن جاء الإنجيل. فكما أنّ الله خلق النور في زمن البدء، كذلك جاء النور إلى العالم. وكما أنَّ الظلمة لم توقف النور، كذلك يسوع لم يُترَك لظلمة الموت. وبانتظار ذاك النصر، يمشي في الظلمة رافضو يسوع، في عالم لا يؤمن، فصار أعمى دون أن يدري (9: 39). هو اختار ذلك، حين »فضّل الناسُ الظلمة على النور«، ولكنّ النور ما زال يدعو إلى الإيمان، لأنَّه يكشف تصرُّف أولئك الذين يقتربُ منهم (3: 19-21؛ 12: 37-39، 40، 46؛ 1يو 1: 6-7).

الخاتمة

وهكذا برز التسلسل بين القطعتين (آ1-3 ثم آ4-5) واضحًا. فاللوغس هو ملء تعبير الله ووحيُه. هذا الإله الحيّ الحي. والحياة في الله ، هي بدون ظلال. هي ملء النور للبشر. وهو حين يقوم بعمل الخلق، يكون في صراع مع الظلمة، مع الموت. وانتصارُه لا يصل حالاً إلى إلغاء الموت والظلمة: يبقى الصراع، ولكنّ النصر أكيد. ذاك هو الإعلان العامّ الذي يكشف معنى تاريخنا البشريّ. طُرحت المعطيات، فما يكون جواب البشر؟

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM