القراءة البحثيّة: الكلمة الأزليّ.

 

القراءة البحثيّة: الكلمة الأزليّ.

بعد القراءة التحليلية، ندخل في البحث والتدقيق، فنكتشف خلفيّة النص الانجيلي وأبعادَه في المحيط الذي دوِّن فيه. توجَّه يوحنّا إلى جماعة فيها الكثير من اليهومسيحيين الذين رفضتهم جماعاتٌ يهوديّة لامسيحيّة(1)، بسبب إيمانهم بيسوع. ورؤساءُ المجمع وصلوا في تطوُّرهم إلى الرابّينيّين (المعلِّمين اليهود) في القرن الثاني: اليهوديّة ديانة التوراة. وحركة يسوع النبويّة والمسيحانيّة انفصلت عن ممارسة كلام الله، ولاسيّما على مستوى المونوتاويّة، أو عبادة الإله الواحد. صارت ديانةَ الأقانيم الثلاثة، الآب والابن والروح القدس. فأجاب يوحنّا بأنّ اتِّباع يسوع لا يشمل فقط الممارسة الحقّة للشريعة. فيسوع نفسه هو كلمة الله، وبالتالي لا يستطيع أحد أن يمارس الشريعة حقٌّا، دون أن يتبع يسوع. واللغة البيبليّة في التوراة وكلمة الله (تجذّرت في نصوص حكميّة من العهد القديم، ثمّ توسَّعت في شكل جوهريّ) قدَّمت ليوحنّا وسائل ثقافيّة مفهومة (وإن وافقت جزئيٌّا) للكلام عن ألوهيّة يسوع، عن تساميه، عن علاقته الكاملة بالآب مع الحفاظ على الوحدانيّة، كما عرفها العالم اليهوديّ.

1- الكلمة الذي في البدء (1: 1-2)

جمع يوحنّا الأسطر الثلاثة في آ1، في شكل إيقاعيّ، وهكذا تجنَّب الرتابة. جمع كلَّ لفظين معًا بحسب أداة عُرفت لدى الساميّين. اللفظة الأولى في العبارة الثانية، والثالثة تأخذ اللفظة الأخيرة من السابقة: كلمة كلمة... الله الله(2). إنّ آ1 مع آ2 تشكِّلان تعاكسًا تامٌّا، وهو ينقسم بدوره في بنيتين تعاكسيّتين صغيرتين:

أ- في البدء

ب- كان

ج- الكلمة

د- والكلمة

هـ- كان

و- مع الله

وو- والله

هـ هـ - كان

دد- الكلمة.

ج ج- ذاك

ب ب- كان

أ أ- في البدء مع الله.

بدا التعاكس كما يلي:

أ- في البدء

ب- كان

ج- الكلمة

ج ج- والكلمة

ب ب - كان

أ أ - مع الله

أ- والله

ب- كان

ج- الكلمة

ج ج- وهذا

أ أ- كان في البدء مع الله(3).

لا نستطيع القول إنّنا أمام توازٍ تامّ. ولكنّنا نقول الشيء عينه عن المزامير والنصوص الشعريّة في العالم الساميّ. بهذه البُنية المتَقنة بدأ يوحنّا مطلعَه.

أ- في البدء (1: 1أ، 2)

مع أنّ اللفظة (لوغس) هي فاعل آ1أ، ب، ج، كان ليوحنّا أسبابه ليبدأ العبارة مع »في البدء«. هي بداية الخلق(4) (كلمة الافتتاح في المطلع تشير إلى تك 1: 1)(5). هذا التلميح هو مهمّ لأنَّه يعود بنا إلى الكلام عن الخلق في يو 1: 3. فمع أنّ يوحنّا ما سعى إلى تصوير الخلق الجديد (هو يعود مرارًا إلى arch في 2: 11؛ 8: 25؛ 15: 27؛ 1يو 1: 1)(6)، فهو يعود هنا إلى بداية الخلق (8: 44؛ 9: 32؛ 17: 24). لا تلميحاتُ بعد إلى سفر التكوين(7). بل عودة صريحة إلى خلق الكون في 1: 3، ثمّ الكلام عن يوحنّا المعمدان. هذه العبارات المطلعيّة تجعل الإنجيل في مناخ يهوديّ، مع أنّ هدف يوحنّا هو الكلام عن يسوع، لا عرض سفر التكوين في أسلوب مدراشيّ(8).

أنشدت النصوصُ البيبليّة وجود الحكمة »في البدء«، كما في سفر الأمثال (8: 2): »الربّ خلقني أوَّل ما خلق... من البدء« (آ23). وفي ابن سيراخ (24: 9): »من البدء خلقني ومن الأزل«. ودُعيَت »الحكمة« البدء، وكذلك »التوراة« و»الكلمة«(9). اكتشف المعلِّمون اليهود هذا الفكر انطلاقًا من تفسير أم 8: 22. ولمّا انفتحوا على العالم اليونانيّ، صار arch المبدأ الأوّل، وشابه فهمًا فلسفيٌّا الـ »لوغس«(10). تطلَّع يوحنّا إلى أكثر من لغة الحكمة اليهوديّة التي تُذكر عادة. ولكن كان التشديد على »الحكمة« أو »الكلمة« في رباطات جديدة، أسهل لنقل هويّة يسوع بدون أيّ نقطة اتّصال (رؤ 3: 14: البدء هو لقب إلهيّ يدلّ على أصل الخليقة). وسبق لبولس فاستعمل نقطة الاتّصال هذه بما في كو 1: 15-20 مع ألفاظ مثل »صورة« »بكر«. وآخرون ألمحوا إلى أنّ يوحنّا كان صدى »للبدء« في خبر الإنجيل التقليديّ. رأى روبنسون(11) في arch لفظًا فقاهيٌّا تكتيكيٌّا في مر 1: 1. وأورد مت 4: 17؛ لو 3: 23؛ 4: 21؛ 23: 5. أمّا دان فيا(12) فاستعمل يو 1: 1 وتك 1: 1 للكلام عن صورة خلق جديد. في مر 1: 1، أشار داود إدوارد أون(13)، إلى »بدء« تك، و»بدء خاصّ في خبر يسوع«، فقال إنّ »البدء« في مر 1: 1، هو لفظ تكتيكيّ في الكتابة التاريخيّة والسيرويّة، »مؤسَّس على مدلول يقول بأنّ شرح الظاهرة التاريخيّة، يجب أن يؤسَّس على أصوله«.

وهكذا بدا واضحًا أنّ يوحنّا لمَّح إلى تك 1، وإلى لطائف نجدها في اللغة الحكميّة البعدبيبليّة (تماهت الحكمة مع البدء)، وإلى بداية خاصّة بخبر الإنجيل. وما في آ2 يستعيد ما في آ1 حول حميميّة الآب والابن في الخلق (1: 3؛ 8: 58). فمن يَرذل يسوع المتجسِّد، يرذل الله نفسه. فيسوع ما »جعل نفسه« الله (10: 33)، بل هو يشارك في مجد الآب قبل بداية العالم (17: 5).

ب- أزليّة الكلمة (1: 1-2)

مع أنّ مفهوم يوحنّا لأزليّة الكلمة يتجاوز معاصريَّته، ففلسفته تدعو القارئ ليتذكَّر الكلام عن الحكمة ويتجاوزه.

أوّلاً: الحكمة أو التوراة كخلق الله الأوّل

نصوصٌ عديدة تصوِّر خلق الحكمة في البداية، مع مشاركة الحكمة في خلق ما تبقّى من الكون. هتف سي 24: 9: »قبل العالم، قبل البداية ap’ arch" خلقني« (لا فقط بداية زمن محدَّد. رج سي 51: 20؛ يو 2: 11). وأعلن الكاتب أيضًا: »قبل كلِّ شيء خُلقت الحكمة، وفَهمُ المشورة منذ الأزل« (سي 1: 4).

وشدَّد الأدب اليهوديّ في القرن الأوّل المسيحيّ على أنَّ شريعة الله »أُعِدَّت منذ خلق العالم« (كعب 32: 7). وماهى بعض التنائيم (= الردّادين) التوراة مع الحكمة (أم 8: 22-23) في القرن الثاني، فأعلنوا أنّ التوراة كانت أوَّل خلق الله (سفري تث 37: 1، 3). وتبع الأمورائيم (القوّالون) هذا التعليم. ومع أنّ رابّينيّين أعلنوا فيما بعد أنّ الله خلق ستّة أو سبعة أشياء قبل أن يخلق العالم، اعتادوا أن يضعوا التوراة في رأس اللائحة (تك ربا 1: 28، القرن 3). في رسمة من الرسمات حيث خلق الله ستّة أشياء قبل العالم، تكوَّنت التوراةُ وعرشُ المجد قبل العالم، والتوراة قبل عرش المجد. وشاهد الله سائر الخلائق التي سبقت الوجود(14). أعلن عدد من الرابّينيّين أنّ المسيح كوِّن مع الذين كوِّنوا قبل العالم (رابّي برخيا، القرن 5، لا ربا 30: 26)، غير أنّ الاسم ظهر فيما بعد. بعضُهم جعل مثل هذا القول متأثِّرًا بالمسيحيّة. وآخرون (مكلتا فسحا 1: 54-56) رأى أنّ الشعب استعدّ للملكيّة، إلى أن اختير داود. وهكذا ردّ التيّار التنائيّ على وجود المسيح قبل الزمن. والآباء وُجدوا قبل العالم، ولكن في مخطَّط الله أو كأرواح في مخطَّط الله(15). نصوص قليلة تحدَّثت عن الآباء والمسيح (قبل الزمن) تجاه ما قيل عن الحكمة وعن التوراة. لهذا، لا نستطيع القول بأهمّيَتِها لدراسة الإنجيل الرابع.

ثانيًا: أزليّة اللوغس اليوحنّاويّ

بالنسبة إلى يوحنّا، لم تكن الكلمة فقط »قبل البدء« ap j arch" (1يو1: 1) بل »في البدء« (يو 1: 1). شدَّد عددٌ من الشرّاح على الفعل hn تجاه نصوص تعلن أنّ الحكمة (أو التوراة) خُلقت في البدء، أو قبل خلْقِ بقيّة العالم. ترك يوحنّا الكلام عن خلق يسوع، وأعلن فقط »كان«. يشير هذا الفعل إلى وجود الكلمة السابق للوجود. وفي أيِّ حال، كيف يمكن أن يكون الله بدون كلمته؟ ثمَّ خلق الله »كلّ شيء« بواسطة كلمته (1: 3، ما عدا الكلمة الذي هو فاعل معه). هكذا يبدو التعارض تامٌّا بين الكلمة وما خُلق.

وبمختصر الكلام، يشير هذا الفعل إلى وجود سابق يتعدَّى الكلام عن الحكمة أو التوراة في النصوص اليهوديّة. قد يسعى البعض إلى أن يبيِّن أنّ مثل هذا التعبير أكبر من أن يرتبط بفعل بسيط. »فالبدء« يعود فقط إلى بقيّة الخلق، حسب بعض النصوص اليهوديّة، ويحدَّد في هذا النصّ بتلميحٍ إلى خلق السماء والأرض في تك 1: 1. هذا السعي لتخفيف قوّة hn يصبح بعيدًا في التعارض بين يسوع »الذي صار بشرًا« (1: 14) »ووجوده« في البدء. بل يُلغَى حين يتماهى يسوع مع الله الآب عبر الإنجيل الرابع. قال يوحنّا: »الكلمة كان الله« (1: 1ج؛ رج آ18). وأعلن يسوع: »قبل أن يكون إبراهيم، أنا الكائن، أنا هو« (8: 58). كلّ هذا يقود إلى الإيمان بأنّ يسوع هو الربّ والإله (20: 28). إذًا يسوع اليوحنّاويّ هو أكثر من الحكمة الإلهيّة (هو تضمين بين 1: 1 و20: 28). بقيَ يسوع مميَّزًا عن الآب، وخاضعًا له، ومارس أدوارًا جُعلت للحكمة في الأدب اليهوديّ، ولكنَّه ما دخل في مقولات تقليديّة. حوّل يوحنّا كلَّ هذا، لكي يتوافق كلامُه مع الكرستولوجيّا التي يؤمن بها، وما حوَّل الكرستولوجيّا لتُقارِب المعتقدات حول الحكمة الإلهيّة.

ثالثًا: كان الكلمة مع الله (1: 1ب)

شدَّد يوحنّا وكرَّر كلامه عن حميميّة يسوع مع الآب، وتحدَّث عن وجوده مع الآب (3: 2؛ 8: 29)، كما عن وجوده مع تلاميذه (11: 54؛ 13: 33؛ 14: 9، 17، 25). كان يسوع مع الآب قبل الخلق (17: 5).

أنشدت النصوص الحكميّة، العلاقةَ الخاصّة بين الله وحكمته. كانت الحكمة حاضرة parousa مع الله حين صنع العالم (حك 9: 9). وعاشت الحكمة معه sumbiwsin (حك 8: 3). واعتُبرت الحكمة (والشريعة) فيما بعد أنّها كانت مع الله ساعة الخلق (تك ربا 1: 1). ولوغس يوحنّا يرتبط بعلاقة خاصّة مع الله. وهذا ما يشير إليه pro" (لدى، قرب) مع صيغة النصب. وتواصلت الأقوال في إنجيل يوحنّا عن العلاقة الوثيقة بين الآب والابن(16). ومع أنّ صورة الآب والابن لم تكن دومًا على مستوى الحميميّة والتناغم (لو 15: 12-13)، فهي مع هذا الإنجيل في علاقةٍ كاملة، مثاليّة (8: 29؛ 35-38). ووحدة يسوع مع الله، برزت واضحة منذ السطر الأوّل في الإنجيل(17).

أبرز أحدُ الباحثين أقوالاً يوحنّاويّة تميِّز يسوع عن الآب (14: 28)، وتكلَّم معارضًا ألوهيّة يسوع في الإنجيل(18). لكنّ الإنجيل يتساوى في الكلام عن ألوهيّة يسوع (1: 1ج؛ 8: 58؛ 20: 28) كما عن تميّزه عن الآب. تكلَّم يوحنّا عن تماهٍ في الطبيعة بين شخصين مميَّزين، وهي صورة توسَّعت فيها جماعة أثناز الاسكندراني في شكل ثابت مع جذورها(19).

ج- ألوهيّة الكلمة (1: 1ج)

وضحَ في هذا الخطّ، أنَّه إن استعمل يوحنّا صورة الحكمة كأقرب قياس مقبول لنقل الكرستولوجيّا، تبقى هذه الصورة غير ملائمة. يسوع ليس مخلوقًا مثل الحكمة (سي 1: 4؛ يو 1: 1ب)، بل هو ملء اللاهوت (1: 1ج)، مفجِّرًا المقولات التقليديّة عن الحكمة الإلهيّة(20) ونحن لا ندهش بأن تكون الأجيال المسيحيّة الأولى قد شعرت بأنَّ التشديد على ألوهيّة يسوع كان الهدفَ الأساسيّ للإنجيل الرابع(21).

لا يستعمل جميعُ الباحثين لقب qeo" في الطريقة عينها. كان لفظ نموذجيّ عن الألوهة في الديانة اليونانيّة التقليديّة. غير أنَّ هذه الآلهة كرهَها اليهودُ في القرن الأوّل، وانزعج منها المفكِّرون اليونان والرومان. بدت بدون قوّة لكي تساعد المائتين الذين أحبّوها، بل الذين ارتبطوا بها(22). أمّا الإله اليهوديّ فهو كلّيّ القدرة (رؤ 1: 8؛ رج 2مك 6: 26؛ 3مك 5: 7؛ حك 7: 25)، ولو نسب العالمُ الوثنيّ الرومانيّ في ذلك الوقت، صفة القدرة إلى رئيس الآلهة. هناك آلهة يموتون، وآخرون يتزوَّجون، أو يتجامعون مع البشر. لهذا هاجم مثلَ هذه الآلهة، العالمُ اليهوديّ والمسيحيّ، مثل يوسيفس في أبيّون (2: 244-246) وأثيناغوراس (20-22) وتيوفيل الأنطاكي (1: 9) وبسودوكليمان (15: 1-19: 3). وبرزت الأساطيرُ والميتولوجيّا التي مجَّها عددٌ من المفكِّرين اليونان والرومان، وتطلَّعوا إلى مفهوم طاهر للألوهة. نذكر مثلاً ميسونيوس روفس. وأخذ أفلاطونيّون عديدون بفكرة أرسطو عن الإله »الذي يعقل نفسه«، قبل أن يعودوا إلى المفهوم الأفلاطونيّ للمبدأ الأوّل الذي هو أعلى من العقل(23). والنظرة الرواقيّة الأولى إلى الله قاربت الحلوليّة، فماهته مع العقل الشامل، والمبدأ الناشط في الكون على مادّة منفعلة. والرواقيّون الذين عاصروا المسيحيّة، كيَّفوا مفهوم الإله الشخصيّ في ردّ على الحلوليّة الأولى(24). وهكذا استطاعوا أن يتكلَّموا عن الله على أنَّه زوش أو الطبيعة المشخَّصة. ومع أنّ الآلهة والبشر يستطيعون أن يلعبوا دورًا في كيانات مميَّزة، فكلّ الآلهة، مع عدا زوش، سينتهون في النار الأولى. وإذ اليونان كانوا مُشركين بشكل عامّ، لم تكن مشكلة لديهم بأن يصوّروا الألوهة على أنّها »الله«. مثلاً، تحدَّث سقراط عن الله qeo" محاميه epitropo". وبعضهم أيضًا امتدحوا الشعب اليهوديّ الذي رذل صوَر الآلهة لدى المصريّين (كما رفضها اليونان) وفضَّلوا الإلهيّ to qeion (سترابون، الجغرافيا، 16/2: 35).

بعضُ الكتّاب اليهود، ولاسيّما الذين تأثّروا بالفكر اليونانيّ، مثل فيلون، تحدَّثوا عن »الإله« على أنّه الألوهة السامية. ولكن حين اعتبروا موسى »إلهًا« (رج خر 7: 1)، بقيَ موسى مميَّزًا عن الإله السامي والأزليّ والمعبود(25). له وحده يُحفظ اسم الإله. بعد ذلك، كان لفيلون نصّ (خر 7: 1) أتاح له أن يكيِّف نظريّات هلّنستيّة عن بعض الأبطال في هدف دفاعيّ. وفي النهاية، من أجل ضمِّ اسم موسى إلى الألوهة، وصل الكلام إلى يوحنّا عن يسوع. بدا يسوع العامل باسم الله في الإنجيل الرابع، ولكن ليس مثل موسى كعامل رئيسيّ لدى الله. يسوع هو أعظم من موسى (1: 17). هو الكلمة بالذات (آ14). في كلام يوحنّا، ليس يسوع فقط »النبيّ الأخير«. فـ »الله« في آ1ج يعني ما عناه اللفظ في آ1أب. لا، لسنا أمام ثلاثة آلهة. فيوحنّا يُقرّ بالإله الواحد (5: 44؛ 17: 3).

لا. ليس يسوع إلهًا بين الآلهة. لقبُه فريد، ودورُه وعلاقته مع الآب، كلّ هذا ظاهر في الإنجيل(26). ولا »الإلهيّ« فيه يكون في معنى ضعيف ومميَّز عن طبيعة الله الخاصّة. مثلاً في المعنى الذي جعله فيلون لموسى(27). موسى هو الإلهيّ كما قال فيلـون (الهـرب 13)، والشـــريعــة إلهيــّة كما قال أرستيس في رسالته (3).

يجب أن لا »نعصر« البناء الضعيف لكي نعطي معنى ضعيفًا لمعنى يتميَّز عن طابع ألوهيّة الآب. وإذا كان يوحنّا ترك أل التعريف، فلكي يميِّزَ الابن عن الآب (آ6، 12، 13، 18). وهذا ما نجده أيضًا عند آباء الكنيسة الأولى. مثلاً في الرسالة إلى ديوغنيس. ولكن حين لا يكون موضع للالتباس، يجعل يوحنّا أل التعريف كما في 20: 28:

يتميَّز الابن عن الآب، ويشاركان في الألوهيّة في شكل واحد. لهذا ترجم البعض: »كان الكلمة من طبيعة الله بالذات« (حاشية 27). أو: »ما كانه الله كانه الكلمة«. للكلمة ملء اللاهوت ولكنَّه يتميَّز عن الآب.

2- الكلمة والخلق (1: 3)

لوغس يوحنّا، شأنه شأن التوراة والحكمة، هو العامل الإلهيّ في الخلق. هو دور يهيئ منذ الآن عملَه في الخلق الجديد. قبل أن ننظر التوازي بين اللوغس (الكلمة) اليوحنّاويّ والتقليد اليهوديّ عن الحكمة والتوراة، نتطلَّع إلى الخلفيّات المتنوِّعة بالنسبة إلى اللوغس الخالق.

أ- توازيات يونانيّة

رأى الباحثون أنّ يوحنّــا ردّ علـــى الغنوصيّيـــن في 1: 3. ففي معـــارضات المعتــقـــدات الغنـــوصيّة، المسيح هو وحــده وسيط الخلق. في الغنوصيّة، هنـاك صـدورات(28) من الإيّون(29) الأوّل، فتكــــوَّن العـــالمُ المــــادّيّ الشرّير(30). أمّا الخالق فهو الباري dhmiourgo"، تلك القوّة البعيدة عن الإله الخالق (إيرينيه، 1/26:21)، والتي تقع في خطّ أفلاطون. وإذا استطعنا أن نتحدَّث عن المندائيّين(31) نكون أمام فكرة تقول إنّ آدم كان الفاعل الإلهيّ في الخلق. والخلق بفضل وساطة لا ينحصر في المراجع الغنوصيّة. فالنصوص اليونانيّة تتحدَّث عن الإله السامي الذي يخلق آلهة أخرى تُعينُه في الخلق. ثمّ تعرَّفت الحلقاتُ اليهوديّة إلى فكرة الوساطة في الخلق، فظهرت عند فيلون (بلبلة 171، 179: الهرب 69. كان للخالق مساعدون، لهذا مالت الخليقة عن الخالق. فنال المساعدون اللوم، خلق العالم 75). وكانت حربٌ في الأوساط الرابّينيّة(32) وفي نصوص أخرى (رج كو 1: 16؛ 2: 18)، بالنظر إلى دور الملائكة في الخلق. ما حارب يوحنّا هذه النظرات، حول الخلق في العالم الغنوصيّ. فهو ما وافق الغنوصيّين في الكلام عن المادّة بأنَّها شرّ(33)، ولا أخذ بالموقف اليهوديّ حول طيبة الخلق (1تم 4: 4)، مع أنّه أخذ، بلا شكّ، بالموقف الثاني (1: 14)(34). يبقى بالنسبة إلى يوحنّا، أنّ يسوع هو الوسيط الوحيد للخلق في إطار دفاعيّ أوّلاً. وفهم اليونانُ حسنًا هذه الوظيفةَ الإلهيّة مع »بواسطة dia« عودة إلى الخلق.

ورأى باحثون آخرون هنا مدى للتعليم الرواقيّ(35) حول زرع spermatiko" اللوغس، أو نظرات أخرى حول ينبوع الوجود. ويمكن مقابلة كلام يوحنّا عن الخلق مع ما قاله ديموكريت: »لا شيء يأتي إلى الوجـــود من غير الموجود iahtenig sotuo ém uotke et nédem''. هذا ما قاله ديوجين (حاشية 35، 9/7: 44). ولكن يجب أن لا نعصر كثيرًا هذا الكلام، وكأنّ ما قاله يوحنّا تفرّع منه بشكل مباشر. ونلاحظ أنّ مختلف أشكال ginomai هي أفضل لغة للكلام عن أصل الخلق (فيلون، الخلق 42؛ رسالة أرستيس 16). »فكلّ ما هو موجود« (ما صار) يعود إلى الخلق. الله وحده لامخلوق.

وقال كلاينت في نشيد إلى زوش: »لا يأتي شيء إلى الوجود، غصبًا عن مشيئة الله، إلاّ الأعمال الشرّيرة«. وقال نظام الجماعة في قمران: »ما تكوَّن شيء خارجًا عن مشورته« (11: 11). قال فْريد(36): »هذا النصّ هو أقرب نصّ معروف إلى العهد الجديد«. وفي 11: 18: »كلُّ ما صار، صار عبر مشيئتك«. وفي 11: 17: »ما تكوَّن شيء من دون مشيئتك«. وفي 3: 15: »بِيَد الله صُنع كلُّ شيء«. هناك تقارب بين »كلّ شيء« ولا شيء. كما قال شناكنبورغ في تفسيره ليوحنّا. واعتبر هانغل هذا الكلام في قياس مع اللغة الفلسفيّة عند اليونان(37). مع أنّ نظرة يوحنّا كرستولوجيّة أكثر منها كوسمولوجيّة، ممّا يجعلنا خارج الهجوم على الرافضين للخلق (2بط 3: 4-6)، فكوسمولوجيّته (كما في العهد القديم) تتصارع مع فكرة الكون اللامخلوق، اللاهالك. نتذكَّر هنا أرسطو وشيشرون وأفلوطين وغيرهم(38).

وما نلاحظ في الكوسموغونيّات (نشوء الكون) اليونانيّة، هو نظرة أفلاطون إلى الخالق (الباري) الذي بنى الكون المادّيّ بحسب نموذج مثاليّ يدركه العقل. في تيماوس Timée (29أ-30)، نفهم أنّ الكون يتأصَّل في ما هو أبديّ، لا في ما صار to gegono". وتجاه هذا الفكر الأفلاطونيّ القديم، جاءت الأفلاطونيّة المتوسِّطة، المعاصرة ليوحنّا، فقرأت طبيعة الخلق قراءة حرفيّة، فقالت إنّ النفس كوّنت المادّة (موجز تكوين النفس 2). في هذا الخطّ، اعتبر الرواقيّون المعاصرون لبولس، أنّ الله هو نفس الكون (سينيكا، أسئلة طبيعيّة 2/45: 1-2). وأوجز بلوتارك أفلاطون، فأعلن أنّ الله والمادّة والمثال (جمع مُثل) تُكوِّن المبادئ الأولى: المادّة هي آخر الجواهر. والمثال (idea) هو أجمل النماذج . فالله هو أفضل العلل (حوار على المائدة 8/4: 2). وأعلن أفلوطين أنّ عالم العقل كوَّن المسكونة التي يمسكها الآن مع اللوغس (التاسوعات 3: 2). وحملت الأفلاطونيّة المتوسّطة بشكل غير مباشر، بعض الشيء إلى الإنجيل الرابع، عبر فيلون (الفيلسوف اليهوديّ): تَعاليَ اللهِ في الخلق، بحيث لا يكون نموذجًا مثل سائر النماذج. قال فيلون أيضًا حملَتْ: استَعمل الله عالم العقل كنموذج من أجل باقي العالم (الخلق 16؛ تبلبل 1710). وجد بعض الفلاسفة من الخلق إلى وجود الخالق أو كيانه، منافحة(39) تبعها بعض الكتّاب المسيحيّين (روم 1: 19-20). غير أنّ كلَّ هذا يبقى بعيدًا عن يوحنّا: ما يهمُّه ليس وجود خالق، بل تماهي هذا الخالق مع يسوع.

ب- نظرات يهوديّة إلى الخلق

انقسم أهل اليونان: هل وُجدت المادّة دومًا(40)؟ هل تكوَّنت المنظورات من المنظور (كما اعتقد أفلاطون وفيلون، الخلق 16، 45). أو من لامنظورات (عب 11: 3؛ يوسف وأسنات 12: 1-2/2: 2 أخن 65: 1؛ صنع الربّ العوالم المنظورة واللامنظورة). أمّا الكتّاب اليهود فأخذوا بالموقف الثاني: الله خلق. فلا يمكن أن يكون العالم لامخلوقًا، ثـمّ لا يمكن أن يكون أزليٌّا (يوسيفس، العاديات 1: 70؛ فيلون الخلق 7). ثمَّ أنّ بعض الكتّاب اليهود شدَّدوا على الخلق من لا شيء، ex nihilo من العدم (2مك 7: 28: خلق الله السماء والأرض ؛ 2با 21: 4؛ 48: 8). وفسَّر آخرون تك 1 على ضوء النظرة الوثنيّة النموذجيّة لعالم يخرج من الشواش cao"، حيث الله يأمر الكون (حك 11: 7). ولكنّ الجميع يتوافقون على أنّ الله هو »الواحد الذي خلق العالم«، بما فيه المادّة الأولى.

جمع فيلون، شأنه شأن سائر الأفلاطونيّين، الأفلاطونيّة الأولى مع عناصر من التعليم الشعبيّ الرواقيّ، فبيّن أنَّ الله كوَّن العالم (بادئًا مع العالم اللاجسميّ) عبر كلمته (الخلق 20، 26، 31؛ هجرة 6)، ومعه يحفظه في الوجود (الغرس 8-10؛ الوارث 206). مثلُ هذه النظرة تبقى مقبولة مع أفكار فلسفيّة يونانيّة معروفة، بأنّ الله خلق عبر المادّة والشكل، أو أنّ العقل أمرَ فوُجدت المادّة. في فيلون، ليس اللوغس فقط العقلَ الإلهيّ الذي يبني المادّة، بل هو نموذج محدَّد (كما في الأفلاطونيّة المتوسِّطة)، هو صورة الله (الخلق 17-19، 25، 31). اللوغس هو الكمال، أجمل من جمال الخلق: (الخلق 139). واللوغس هو صورة الله: (البلبلة 97؛ الهرب 101). والحكمة هي صورة الله (تفسير أليغوريّ 1: 43). وهكذا صنع الله العالم كنسخة عن صورته الإلهيّة، بحيث يكون اللوغس الختمَ النموذجيّ الأوّل المطبوع في العالم (الخلق 16، 26، 36).

شابه فيلون يوحنّا الذي ربط اللوغس الخالق مع اللوغس كلمة الله (مز 33: 4-12). ربط اللوغس بحكمة العقل الذي به اجتذب إليه الإنسان الكامل teleio"، الإنسان الحكيم (فيلون، ذبيحتا 8. العقل البشريّ هو نسخة عن اللوغس، الخلق 146). وربط فيلون أيضًا الخلق مع شريعة موسى، فبيّن أنّ الخلق تمّ في تناغم مع شريعة موسى، بحيث إنّ الذين يطيعون الشريعة يطيعون الطبيعة (الخلق 3). وهكذا ماهى بشكل واضح بين شريعة موسى وشريعة الكون الطبيعيّة التي اعتبرها الفلاسفة سائدة على الكون(41). اختلف فيلون عن يوحنّا، فكان مرتاحًا في العالم اليهوديّ المتحضِّر بالحضارة الهلّينيّة. ولكنّ المناخ كان هو هو بالنسبة إلى الاثنين (شناكنبورغ 1: 237).

غير أنّ فيلون لم يكن أوَّل كاتب يهوديّ يعلن أنَّ الله بدأ الخلق انطلاقًا من نموذج، من مثال. فمنذ القرن الثاني ق.م.، أعلن الكتّاب اليهود أنّ أوَّل مخطَّط لله في الخلق، تجذّر في المعرفة أو الحكمة (يوب 2: 2؛ قمران، نظام الجماعة 3: 15: الله خلق البشر عبر الحكمة). وقال نظام الجماعة في 11: 11: »كلُّ شيء صار بمعرفته (ب )، وهو يُقيم الكلّ بحسابه« ( ) وبعد ذلك، طبَّق المعلِّمون الصورة الأفلاطونيّة على التوراة: الله الباني استعمل التوراة كمهندس، فاستشار التوراة من أجل التصاميم والرسوم التخطيطيّة (يه 16: 14؛ 4 عز 6: 38؛ 2 با 21: 4؛ 48: 8). وأحسّ بعض الردّادين أنّ الله ختم كلَّ إنسان بختم آدم (سنهدرين 4: 5). واستغلّ الكتّاب اللاحقون كلّ هذا، فعلّموا أنّ الله خلق الكون حين تكلَّم (تك 1؛ مز 33)، أو عبر الحكمة (أم 8).

ج- الخلق بالكلمة، بالحكمة، بالتوراة

دعا الله الكون إلى الوجود في تك 1، وواصل معاصرو يوحنّا الكلام عن هذا النموذج التوراتيّ. وأعلن كتّاب (معلِّمون وردّادون). أنّ الله خلق الكون فقط »بقوْل«. وقال أحد الردّادين: »الله هو الواحد الذي تكلَّم، وأمرَ الكون فوُجد«. مع أنّ هذا لم يلتقِ مع اللوغس في المعنى الفيلونيّ، ولم يجعلنا أمام »أقنوم«، وَجد كثيرون فيه خلفيّةً من أجل اللوغس اليوحنّاويّ، في خطّ كلام الخلق في سفر التكوين مع عبارة »في البدء« عند يوحنّا(42).

ربطت النصوصُ الخلقَ بكلمة الله، مع الخلق بحكمته (حك 9: 1-3) أو بالتوراة. وفي تقليد تفسيريّ قديم، الكلمات العشر التي عليها تأسَّس الكون (»وقال الله«، ترد 10 مرّات. 1: 3، 6، 9، 11، 14، 20، 24، 26، 29؛ 2: 18، المشناة 455) تمثِّل الوصـايــا (أو: الكلمــات. د ب ر) العشر (تك ربا 16: 1). بُنيَ الكلامُ على أم 8، فكان من الطبيعيّ أن تنسب النصوصُ الخلقَ إلى الحكمة الإلهيّة (حك 7: 22). هي مهندسة tecnith" كلّ شيء (عب 11: 10). في 2 أخن، كلام عن خلق البشر. وفي 33: 3 عن تصميم الخلق كلِّه: سي 24: 3-12 (يعود إلى تك). وكما نُسب الخلق إلى الحكمة، كذلك نُسب إلى التوراة لدى الذين أعطوا الأولويّة للتوراة. خُلق العالم بالكلمة والحكمة والتوراة. وحُفظ أيضًا بالكلمة والحكمة والتوراة (تك ربا، رابّي مئير، القرن الثاني، 4: 2). بعد ذلك، فسَّر المعلِّمون هذا في معنى عمليّ، لا نظريّ فقط: يُحفَظ الكون في الوجود عبر ممارسة التوراة. أعلن مثلاً ريش لخيش (القرن الثالث، في فلسطين): »إن كان إسرائيل لا يقبلُ التوراة، يُعيد الله الخلق إلى العدم«. وقيل بعد ذلك: »وجود إسرائيل يرتبط بالمحافظة على التوراة«. هذا يعني ضرورة وجود الأبرار، مثل الآباء (لا ربا 36: 5)، إبراهيم (تك ربا 12: 9)، يعقوب (تك ربا 96)، الحكماء (ترجوم 1أخ 4: 23). بل إنّ استحقاق الأبرار يحفظ المدن والقرى (بابل، تعنيم 21ب). وأعلن الحكماء أنّ العالم خُلق من أجل التوراة (تك ربا 1: 4، 10، 12: 2؛ القرن الرابع؛ لا ربا 23: 3: القرن الرابع). كما أعلن بعضهم أنّه خُلق من أجل الأبرار (2با 15: 7؛ 21: 24) الذين يمارسون الشريعة. ونصوص أخرى قالت: خُلق العالم من أجل البشر، لا البشر من أجل العالم (1تم 6: 17؛ 2با 4: 18-19؛ رؤ عز 5: 19). ونظَّر الفكر الرومانيّ أيضًا حول هدف الخليقة: من أجل الآلهة أو المائتين (شيشرون)، من أجل البشريّة، أو من أجل لاهدف.

أكَّد يوحنّا أوّلَ فعل إيمان ظهر في العقود الأولى من بداية المسيحيّة، ونحن نقرأه في رسالة بولس: يسوع هو عاملُ الآب في الخلق: »وإذا كان في السماء أو في الأرض ما يزعم الناس أنَّهم آلهة... فلنا نحن إله واحد وهو الآب الذي منه كلُّ شيء وإليه نرجع، وربّ واحد هو يسوع المسيح الذي به كلُّ شيء وبه نحيا« (1كور 8: 5-6) ونقرأ أيضًا كو 1: 15-17: »هو صورة الله الذي لا يُرى، وبكرُ الخلائق كلِّها، به خُلق كلّ شيء في السماوات وفي الأرض، ما يُرى وما لا يُرى، أأصحاب عرش كانوا أم سيادة أم رئاسة أم سلطان. به وله خلق الله كلّ شيء. كان قبل كلِّ شيء، وفيه يتكوَّن كلُّ شيء«.

ماهى يوحنّا يسوعَ مع الحكمة المتجسَّدة. »كلّ شيء« .panta عاد إلى العالم الطبيعيّ كما في 1كور 8: 6؛ أف 3: 9 (خالق كلّ شيء)؛ كو 1: 16؛ رؤ 4: 11 (خلقتَ الأشياء كلّها)(43). وإذ قيل إنّ يسوع خلق كلّ شيء، بانت أوليّة يسوع وتساميه على كلِّ ما خلق (3: 35؛ 13: 3)، وبالتالي على البشريّة كلِّها (17: 2)، أعرَفَ البشرُ ذلك أم لم يعرفوا (1: 10-11).

3- الكلمة حياة ونور (1: 4-5)

تجادل الباحثون حول موضع o gegonen في نهاية آ3. هل نقرأه مع باقي آ3: »بدونه ما صار شيء ممّا صار. فيه كانت الحياة«؟ أم نقرأه مع آ4: »بدونه ما صار شيء. ما صار فيه كان حياة«؟ سبق وتكلَّمنا عن هذا الموضوع في القراءة التحليليّة ولن نعود إليه. ماهى يوحنّا بين »الحياة« و»النور« (آ4؛ 8: 12)، وعاد »النور« إلى المسيح (1: 9-10). لهذا نفهم في النهاية وظيفة »الحياة«. إنّها تعود إلى يسوع نفسه (11: 25؛ 14: 6).

أدخلت آ5 ثنويّة النور/الظلمة، كما في باقي الإنجيل. فالنور (1: 4، 5، 7، 8، 9؛ 3: 19، 20، 21؛ 5: 35؛ 8: 12؛ 9: 5؛ 11: 9، 10؛ 12: 35، 36، 46) والنهار (9: 4) والظلمة (1: 5؛ 3: 19؛ 8: 12؛ 12: 35، 46) والليل (9: 4؛ 11: 10)، كلّ هذا حاضرٌ في الإنجيل. وبعض المرّات مع المعنـــى الرمــزيّ خلال السرد (3: 2؛ 13: 30؛ 19: 39 وربّما 6: 19)(44). ودخلت أيضًا ثيمة الحياة التي نقرأ عنها 35 مرّة في الإنجيل الرابع Bury)، حاشية 44، ص 27). خلق هذا المقطع سلسلة أدبيّة: حياة، حياة. نور، نور. ظلمة، ظلمة. مثل هذا النموذج يظهر أيضًا في حك 6: 17-20 (حاشية 42، ص 48)، كما في نصوص أخرى بيبليّة ولابيبليّة. بالنسبة إلى يو، ليست »الحياة« و»النور« مجرَّد تجريد: الحياة (شخص حيّ. هو يسوع) أقامت لعازر (11: 25، 43-44). والنور (أنا نور العالم) منح النور لعينَي الأعمى (9: 5-7) والكلمة صار بشرًا (1: 14)، إنسانًا من لحم ودم.

أ- استعمال صورة النور

ترد ثنويّة النور/الظلمة في الغنوصيّة(45). ولكنّها لم تكن منتشرة كثيرًا في المصادر. هي جاءت من تيّارات عديدة (عهد قديم، المعلِّمين، الأسيّانيّين، عالم الجليان)(46). تحدَّث الفلاسفة عن المعرفة الحقيقيّة التي تمنح النور (سينيكا. رسالة إلى لوقيليوس 48: 8؛ بلوتارك، في القراءة 17؛ أخلاقيّات 47ج، مع كلام عن نور كثير polu fw"). ونظر فيلون إلى الله على أنّه نور، والنموذج الأوّل لسائر أنواع النور (الخلق 53؛ الأحلام 1: 75). وطبَّق الكتّاب على الخير والشرّ، التعارضَ بين النور والظلمة (مكسيم الصوريّ، الخطب 34: 1). وقابل بعضهم النور مع رؤية الله. مثلاً، أفلاطون في رمز الظلال في الكهف، وضرورة مواجهة النور.

برزت صورةُ النور مرارًا في العهد القديم، وتحدَّث بعضهم عن تجذُر ثنويّةِ الخير والشرّ في التاريخ البيبليّ(47). كما برزت في تقاليد إنجيليّة ارتكزت على العهد القديم (مت 4: 16؛ رج أش 9: 1؛ مت 5: 14؛ رج مز 27: 1؛ لو 2: 32؛ رج أش 42: 6؛ 49: 6)(48). وهناك عدد من المصادر اليهوديّة استعملت رمز الظلمة والنور للكلام عن الشرّ والخير (نظام الجماعة 3: 3؛ تر أي 43: 6/4، سيب 1: 26-27)، أو عن الاستنارة بالحكمة (سي 31: 17). ولكنّ مخطوطات البحر الميت هي التي أبعدت الباحثين في العهد الجديد عن طلب خلفيّة غنوصيّة لثنويّة يوحنّا بين النور والظلمة (نظام الجماعة 3: 19-22؛ الحرب 13: 5-6، 14-15). في يو، أصبح »النهار« صورة عن »النور« و»الليل« صورة عن »الظلام« (نظام الجماعة 10: 1-2).

وطبَّق معلِّمو اليهود صورة النور والظلمة، في أكثر من مناسبة، مع تقدير عامّ لطيبة النور وتنبيه من خطر الظلمة (أي 18: 5، 18؛ 24: 13-16؛ روم 2: 19؛ 13: 12؛ 2كور 6: 14؛ أف 1: 18؛ 4: 18؛ 5: 8، 11؛ 6: 12؛ كو 1: 13). وطُبِّقت الصورة على النور الأوّل الآتي قبل الخلق أو الخارج من الخلق. قيل إنّ النور وُجد قبل الأشياء المنظورة (2 أخن 24: 4). أو ظهر في اليوم الأوّل (تك ربا 42: 3). فيه يرى الإنسان العالم من طرف إلى طرف (تك ربا 42: 3؛ لا ربا 11: 7؛ عد ربا 13: 5). كما نتذكَّر صلاةً إلى خالق النور، في الليتورجيّا اليهوديّة، كما المسيحيّة (فيلون، الخلق 30-35)(49). كلّ هذا له أهمِّيَّته من أجل يو 1: 1-4(50). في تك 1: 3، أتى النور بكلمة الله. وتواصل الكلام عن هذا الموضوع في 2كور 4: 6. أمّا لونجين، الكاتب الوثنيّ في القرن الأوّل، فنسب ذلك إلى موسى. وفي ترجوم نيوفيتي، على تك 1: 3-5، ميَّز الله النور على الظلمة من أجل البشر. بما أنّ النور سوف يعود، بعد أن أُخفي حتّى الزمن الإسكاتولوجيّ، بسبب خطيئة البشر (تك ربا 11: 2؛ 42: 3؛ خر ربا 18: 11؛ لا ربا 11: 7)، ارتبط بصوَر من العهد القديم حول النور الإسكاتولوجيّ والمجد (1أخن 1: 8؛ 5: 7؛ 108: 11-14؛ قمران، الحرب 17: 6-7؛ سيب 2: 316). واعتاد معلِّمون يهود آخرون (سي 50: 6-7: سمعان بن أونيّا مثل كوكب الصبح، مثل الشمس المشرقة) أن يدعوا الحكماء الأبرار »أنوارًا« (رج يو 5: 35 عن يوحنّا: كان سراجًا منيرًا؛ مت 5: 14: أنتم نور العالم). وتحدَّث كتاب العاديات البيبليّة (51: 4) عن صموئيل، ورابّي ناتان عن آدم الذي كان سراجًا. وقالت حنّة عن ابنها طوبيّا: »سراج عيني« (طو 10: 5). رج 2صم 21: 17 (داود سراج إسرائيل). إبراهيم نور (تك ربا 2: 3). ومثله يعقوب (راعوت ربا 2: 12، القرن الرابع). وموسى (خر ربا 1: 20، 22، 24) وداود، وفي النهاية المسيح (1أخن 48: 4). وإسرائيل أيضًا دُعيَ النور (سي 17: 19؛ رج أش 60: 3) وأورشليم (أش 60: 3؛ تك ربا 59: 25) والهيكل (تك ربا 2: 5. الهيكل هو في المنطقة المسيحانيّة مع أش 60: 1) والله نفسه(51).

أمّا في سياق مطلع يوحنّا، فنلاحظ أنّ الأدب اليهوديّ يصوّر الحكمة على أنّها نور(52) والتوراة كذلك(53). وهذا ما لاحظه عدد من الشرّاح(54). فيسوع ككلمة الله وحكمة وتوراة، هو النور الذي يُنير شعب الله، كما التوراة كانت نورًا قُدِّم لشعب الله على سيناء. و»نور الشعب« (1: 24) يعني نورًا من أجل البشريّة (3: 19)، نورًا من أجل »العالم« (9: 5). وطبَّق المسيحيّون الأوّلون صورة الانتقال من الظلمة إلى النور، على الانتقال من ملكوت الشيطان إلى ملكوت الله لدى اهتداء المؤمن: »تفتح عيونهم فيرجعون من الظلام إلى النور، ومن سلطان الشيطان إلى الله، فينالون بإيمانهم بي غفران خطاياهم وميراثًا مع القدّيسين« (أع 26: 18). وفي 2كور 4: 6: »والله الذي قال: ليُشرق من الظلمة النور، هو الذي أضاء في قلوبنا لتشرق معرفةُ مجد الله، ذلك المجد الذي على وجه المسيح«. وتحدَّثت كو 1: 13 عن الله »الذي نجّانا من سلطان الظلام، ونقلنا إلى ملكوت ابنه الحبيب«. وحدّثتنا 1بط 2: 9 نحن النسل المختار فقالت: إنّ الله »دعاكم من الظلمة إلى نوره العجيب«. وفي مطلع يوحنّا، هذا النور يرتبط بالمجد (1: 14)، كما في سفر الرؤيا (18: 1: استنارت الأرض من بهائه؛ 21: 23: والمدينة لا تحتاج إلى نور الشمس والقمر، لأنّ مجد الله ينيرها، والحمل هو مصباحها)(55).

ب- يسوع الحياة

تكلَّم يوحنّا مرارًا عن »الحياة« (5: 25، 26، 29؛ 6: 33، 57، 63؛ 11: 26؛ 14: 6، 19؛ 17: 3؛ 20: 31؛ ق 4: 50؛ 6: 44) أو عن الحياة الأبديّة (3: 15، 16، 36؛ 4: 14، 36؛ 5: 21، 24، 39، 40، 47، 48؛ 6: 51، 53، 54، 58، 68؛ 8: 12؛ 10: 10، 28؛ 11: 25؛ 12: 25، 50؛ 17: 2). نشير إلى أنّ لفظ »حياة« يرد 36 مرّة عند يو، 17 مرّة في رؤ، 14 مرّة في روم، 13 مرّة في 1يو(56). فهمَ العالمُ اليهوديّ ذلك كخبرة في المستقبل. أمّا يو فجعل الأفعال في صيغة الحاضر (3: 36 : له الآن؛ 5: 24)، وربطها بالإيمان (3: 15: »لينال كلّ من يؤمن به الحياة الأبديّة«؛ 3: 16، 36؛ 6: 27-29، 40-47): »أنا نور العالم. من يتبعني لا يمشي في الظلام، بل يكون له نورُ الحياة« (8: 12) : اسم الفاعل: تابعي (أنا، أي الذي يتبعني) الآن وفيما بعد. وقيامةُ يسوع تهَب هذه الحياة للمؤمنين (14: 19؛ 20: 22). وأخذ يسوعُ الحياة، لأنَّه أخذ الحقّ والطريق إلى الله (14: 6). كلّ هذا ارتبط في العالم اليهوديّ التقليديّ مع الحكمة والتوراة، مع تعليم الله المجّانيّ من أجل طرق الحياة.

في نصوص يهوديّة عديدة، أعطت الحكمة الحياة (أم 3: 18؛ 13: 14؛ رج حك 8: 13، 17؛ سي 4: 12؛ 17: 11؛ 1أخن 98: 10، 14؛ 2با 38: 2. وجمع الكتّاب اليونان الفلسفة مع الحياة. رج Painter حاشية 48، ص 49). والتوراة منحتْ الحياة، بل لبستها. قال رابّي هيلال: بقدْر التوراة (ت و ) تكون الحياة (ح ي ). من امتلك لنفسه كلمات التوراة، امتلك لنفسه حياة العالم الآتي (ح ي ). هــذا مــا لاحظـــه عـددٌ من الشـــرّاح(57). كمـا أشارت بعض النصوص اليهوديّة إلى جهوزيّة الحياة والنور في التوراة (تث ربا 7: 3: الحياة ارتبطت بالحياة الأبديّة، 2أخن 42: 5). وتقليد الحياة في التوراة، ينبع، على ما يبدو، من مواعيد تقول: »من أطاع الشريعة يحيا« (لا 18: 5؛ تث 30: 6-19). ومع أنّ هذه النصوص تنطبق على الحياة الطويلة على الأرض (تث 4: 1، 40؛ 5: 33؛ 8: 1؛ 30: 16، 19-20)، وتفسَّر في هذا الجوّ (سي 3: 5-6، 12-15؛ كعـب 11: 9: الحياة الطويلة هي أجر الطاعـة، نج 4: 7)، كان من الطبيعيّ أن نقرأها (كما فعل بعضُ الرابّينيّين) بواسطـة البرهــان »بالأحرى« (ق ) على أنّها تنطبق على الحياة الآتية. وفي النهاية، الله هو حياة إسرائيل (تث 30: 20). أي ذاك الذي يبارك شعبه ليحيا حياةً طويلة في الأرض، إن هو أطاع الوصايا.

كان »النور« و»الحياة« صورتين طبيعتين تُستَعملان معًا. وتحدَّثت النصوص اليونانيّة عن الذين ماتوا على أنّهم استُبعدوا من النور(58). والنفوس المتوفّاة تعيش في ظلمة العالم السفليّ (هومير، إلياذة 4: 3-5؛ 5: 22، 47، 310؛ أوريبيد، هيبوليت 1444). وتحدَّث شيشرون عن شخص حبيب على أنّه »نور حياتنا«. Lux nostra. ذاك ما كتب لامرأته عن ابنته (رسالة إلى أهل البيت 14/5: 1). واستعمل الشعراء العبريّون الصورة عينها، فضمّوا »النور« إلى »الحياة« (أي 3: 20؛ 10: 21-22؛ 17: 13؛ 18: 18؛ 33: 28، 30؛ 38: 17؛ مز 36: 9؛ 107: 10، 14)، فشاركوا عالمَ الشرق في صورة الموت والعالم السفليّ.

ج- سيطرة النور على الظلمة

كان التعارضُ صورةً نموذجيّة بلاغيّة في الفكرين اليونانيّ والعبريّ، ولاسيّما في مناخ خلقيّ. فالظلمة بدت رمزًا سلبيٌّا في عدد من الآداب القديمة بما فيها النصوص اليهوديّة المتأخِّرة (تك ربا 33: 1؛ 89: 1. نشير إلى أنّ التعارض بين النور والظلمة لا يحمل دومًا سمة أخلاقيّة، تك 1: 14-18). فالحرب بين النور والظلمة مع جيوشهما، واضحة في مخطوطات قمران. والصراع بين الاثنين حيث تظهر الظلمة وكأنَّها تضع يدها على العالم (نج 11: 10؛ الحرب 13: 11-12)، يجد حلاٌّ له في انتصار أبناء النور في القتال الأخير (الحرب 1: 7، 10. هي نهاية الظلمة الإسكاتولوجيّة في 1أخن 58: 5-6؛ تك ربا 89: 1). في هذا قالت موشّحات سليمان (18: 6): »لا تسمحْ أن تغلب الظلمةُ النور، ولا الحقيقة أن تهرب من الكذب«.

وتدلّ لغة يو 1: 3-5 إلى شكل من الصراع بين النور والظلمة. ولكنّ الجدال يبقى حول طبيعة هذا النزاع. هل يعني فعل katelaben أنّ الظلمة ما استطاعت أن تُدرك النور (بالعقل). ذاك موقف كيرلُّس الإسكندرانيّ. إنّ الظلمة لم تقبل النور، إنّ الظلمة لم تقدر أن تستولي على النور (أوريجان والآباء اليونان). تلاعَب يوحنّا على الكلام، هنا وفي مقاطع أخرى من إنجيله: الظلمة لا »تدرك« ولا »تسيطر« على النور. فلغة يوحنّا تتكيَّف مع أكثر من معنى. هو تطبيق تاريخيّ مع إيجاز كلّ خدمة يسوع المتجسِّد خلال حياته العلنيّة. وهكذا تتضمَّن الظلمةُ معارَضة يسوع من قبل اليهود (1: 11) ومن قبل العالم الذي يُمثِّلون(59). ما من أحد تقهره الظلمة إن هو سار في النور (12: 35). هو يتداخل في الظلمة ويكشفها (أف 15: 13) ويعرّيها.

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM