الدعوة إلى قراءة الكتاب المقدَّس.

 

الدعوة إلى

قراءة الكتاب المقدَّس

خلال المجمع الفاتيكانيّ الثاني الذي شارك فيه كارول فويتيلا الذي صار، سنة 1978 البابا يوحنّا بولس الثاني، كان دستور خاصّ بالكتاب المقدَّس: في الوحي الإلهيّ. وعنوانه أو بدايته: كلمة الله نصغي إليها بورع، نعلنها بثقة، نبشِّر بها. وبعد كلام عن الوحي بشكل عامّ والإلهام في الكتاب بعهديه القديم والجديد، كان فصل خاصّ، هو الفصل السادس: الكتاب المقدَّس في حياة الكنيسة. تلك كانت الوجهة الرعائيّة في هذا الدستور العقائديّ، حيث كان لخبز الكلمة من الأهميّة ما لخبز القربان. نأكل كلمة الله ونشربها. كما نأكل جسد المسيح ونشرب دمه، فنتحوَّل إليه، ويصبح كلُّ واحد منّا مسيحًا آخر. وطلب المجمع من الإكليريكيّين بشكل خاصّ، بأن يتمسَّكوا بالكتاب المقدَّس وبأن يستمرّوا في قراءته ودرسه دراسة عميقة لئلاّ يصبح وعظهم باطلاً. هذا ما حاول أن يعيشه يوحنّا بولس الثاني في حياته الخاصّة بلا شكّ، وهذا يبقى سرٌّا بينه وبين الله، وفي رسالته. وهذا ما نتوسَّع فيه الآن.

1- وثائق تتعلَّق بالكتاب المقدَّس

ثلاث وثائق صدرت في أيّامه عن اللجنة الحبريّة للكتاب المقدَّس. الكتاب المقدَّس وشخصيّة يسوع المسيح. تفسير الكتاب المقدَّس في الكنيسة. الشعب اليهوديّ وكتبه المقدَّسة في البيبليّا المسيحيّة.

أ- البيبليا وشخص يسوع المسيح

سنة 1984، ظهرت هذه الوثيقة في عنوان علميّ: البيبليا (أو الكتاب المقدَّس بجزئيه) والكرستولوجيّا (أو العلم حول يسوع المسيح). وهي تبدأ كما يلي: »كثير من الناس في أيّامنا، ولاسيّما في الغرب، يعتبرون أنفسهم أنَّهم لا يعرفون أو لا يؤمنون. ومع ذلك لا يقدرون إلاّ أن يهتمّوا بيسوع المسيح وبدوره في العالم. فالكتب والدراسات عديدة في هذا المضمار...«. وتتابع الوثيقةُ فتقول: »الدراسة التاريخيّة لشخص يسوع هي المثال الأوضح لهذا الوضع. مثلُ هذه الدراسة لا يمكن أن تكون حياديّة (لا مع يسوع ولا ضدَّ يسوع، ويسوع قال: من ليس معي فهو ضدّي). فشخص يسوع يعني كلَّ إنسان، وبالتالي المؤرِّخ نفسه، وذلك بوجهة موته وحياته، بُبعد تعليمه للبشر، بالتفسير الذي حملته إلينا أسفار العهد الجديد. فما من أحد يقدر أن يدرس ''من الخارج'' وكأنَّه يدرس عرضًا، بشريّة يسوع، مسيرة حياته التي توَّجها الصليبُ، والبلاغ الذي تركه للبشر بأقواله وأعماله وحياته نفسها«.

وتنتهي الوثيقة فتقول: »الخلاص الذي يحمله يسوع هو خلاص تامّ، يُدرك البشرَ حتّى في جسدهم، بنعمة المعموديّة والإفخارستيّا وسائر الأسرار. وقداسة المسيح التي تنتقل إلى الكنيسة، تشعُّ هكذا في حياة المسيحيّين الملموسة، وبواسطتهم في عالم فيه يعيشون. فعلى صورة أخيهم البكر، يشاركون في تشييد ملكوت الله الذي جاء يؤسِّسه وسط البشر، مع برنامجه في الحبِّ والعدالة والسلام. وعلى مثال معلِّمهم، ينبغي أن يبذلوا حياتهم من أجل إخوتهم.

ب- تفسير الكتاب المقدَّس في الكنيسة

إلى العربيّة نُقلت هذه الوثيقة التي أعلنت سنة 1993 وكان عنوانها: التفسير البيبليّ في الكنيسة. هناك أكثر من طريقة لقراءة الكتاب المقدَّس. فالمرأة تقرأه بحسب نفسيَّتها، والرجل بحسب نفسيَّته. حيث كلمات الكتاب لا تكون حجارة نضعها حيث نشاء، بل نداء نسمعه ونحاول أن نعيشه في حياتنا. والفيلسوف يكشف في الكتاب ما لا يكشفه المناضل من أجل حياة من الحقِّ والعدالة. طرق عديدة، والمهمُّ فيها أن ننطلق من عمق السياق الذي كُتب فيه النصّ كي نصل إلى المحيط الذي نعيش فيه. هناك أناس يريدون ترجمة حرفيّة للنصِّ القديم. حينئذٍ يكونون أمام جسم لا يتحرَّك ولا حياة فيه. فالترجمة تكون ديناميكيّة. يعني تُحرُّك القلب، تحمل الحياة إلى القارئ فلا يبقى بدون إحساس أمام ما يقوله الربُّ له اليوم. على ما قال المزمور: »اليوم إذا سمعتم صوته فلا تقسّوا قلوبكم«. وهناك ناس يقرأون الكتاب كالببغاء، أو يحفظون بعض المقاطع غيبًا، مثل بعض الشيع، ويعتبرون أنَّهم وحدهم مسيحيّون قد ولجوا عمق الكتاب. مساكين هؤلاء، تمرُّ المياه بقربهم فلا تفيدهم بشيء. يقرأون الكتاب ويعيدون قراءته ويكون جوابهم مثل جواب وزير ملكة الحبشة. سأله فيلبُّس، أحد السبعة: »هل تفهم ما تقرأه؟« فأجاب الوزير: »كيف أفهم ولا أحد يشرح لي« (أع 8: 30-31)؟

وتنتهي الوثيقة بالقول: التفسير البيبليّ مهمّةٌ لا بدَّ منها. وهو يؤدّي خدمة كبيرة للكنيسة وللعالم. فمن أراد أن يفهم الكتاب دون تفسير له، يعيش في الوهم، ولا يراعي متطلِّبات الوحي الإلهيّ. من جهة، نترك »الأصوليّين« الذين يتعلَّقون بأصل عربيّ قرأوه في الماضي وحفظوه غيبًا، وما استعدّوا أن يتركوه وكأنَّه النصُّ الأصليّ الذي ينيره الإلهام. ونترك الذين يفسِّرون الكتاب كما يشاؤون انطلاقًا من نظريّات لا تمتُّ إلى كلام الله بصلة.

ج- الشعب الأوَّل وكتبه المقدَّسة في البيبليا المسيحيّة

سنة 2001، ظهرت هذه الوثيقة فدلَّت على مكانة الشعب الأوَّل في مخطَّط الخلاص. فالعهد الأوَّل أو العهد القديم له مكانته في البلاغ المسيحيّ. فيسوع ما جاء لينقض، بل ليكمِّل الشريعة والأنبياء. هناك تواصل بين العهد القديم والعهد الجديد، بالصور وعدد من الأفكار اللاهوتيّة التي لبثت ناقصة، وانتظرت أن يتمَّها العهدُ الجديد.

2- شرح الكتاب المقدَّس

اعتاد البابا يوحنّا بولس الثاني أن يشرح في عظات الاستقبالات العامّة، أسفارًا من الكتاب المقدَّس، أو مواضيع تنطلق من الكتاب بعهديه القديم والجديد. في إحدى السنوات، توقَّف عند شرح سفر التكوين، ولاسيّما في فصوله الأحد عشر الأولى. فكان له أن يدهش أمام عظمة الخلق، ويتوقَّف عند الإنسان الذي هو على صورة الله، رجلاً وامرأة. ودور المرأة كبير في مساواتها بالرجل، لا تلك الراكعة عند قدميه كالجارية والخادمة. والزواج الذي يهاجمه العديدون في هذه الأيّام، سواء نظريٌّا أو عمليٌّا. صار الطلاق بهذه السهولة. والخيانات الزوجيّة متواترة. وفي بعض بلدان أوروبّا توصَّلوا إلى الفصل بين الحبّ والحياة الجنسيّة. فالإنسان يستطيع أن يحبَّ واحدًا حبٌّا نظريٌّا، ولكنَّه يعبِّر عن حبِّه بالكذب فيعيش حياة زوجيّة مع شخص آخر. أمّا قدسيّة الزواج فقد أعلنها الله في البدء، وردَّدها يسوع في جداله مع الفرّيسيّين: »يترك الرجل أباه وأمَّه ويتَّحد بامرأته فيكون الاثنان جسدًا واحدًا« (تك 2: 25؛ مت 19: 5).

سنة 1988، تحدَّث عن معجزات المسيح، التي هي آيات تدلُّ على قوَّته الخلاصيّة. قال في 25 تشرين الثاني: »أن يكون المسيح تجسَّد من أجلنا، كان خيرًا من أجل خلاصنا أكثر من معجزات أتمَّها في وسطنا. فشفاء شرِّ النفوس أهمّ من الاعتناء بمرضى الأجساد الذاهبة إلى الموت«. ذاك كان إيرادًا من القدّيس أوغسطينس. ثمَّ تابع البابا:

»بالعودة إلى خلاص النفس هذا وافتداء العالم كلِّه، أجرى يسوع أيضًا معجزات على المستوى الجسديّ...«.

هذا ما نكتشفه بشكل خاصّ في شفاء مخلَّع كفرناحوم. فالأشخاص الذين حملوا المخلَّع لم يقدروا أن يدخلوا من باب البيت حيث يعلِّم يسوع، فأنزلوا المريض في فتحة في السقف، وهكذا كان هذا المسكين عند قدمي المعلِّم... رأى يسوع إيمانهم فقال للمخلَّع: »يا بنيّ، مغفورة لك خطاياك«! تذمَّر الحاضرون: »هذا الرجل يجدِّف! من يقدر أن يغفر الخطايا إلاّ الله وحده«.

ويتابع قداسة البابا: »شرح يسوع هذا الوضع، فأبان أنِّ شفاء المخلَّع دلَّ على القوّة الخلاصيّة التي بها يغفر الخطايا. أجرى يسوع هذه الآية، لكي يبيِّن أنَّه جاء كمخلِّص للعالم. عملُه الرئيسيّ تحرير الإنسان من الشرِّ الروحيّ، هذا الشرُّ الذي يفصل الإنسان عن الله. ويمنع الخلاص في الله، وتلك هي الخطيئة«.

وفي الثاني من كانون الأوَّل، تحدَّث البابا عن معجزة قانا الجليل حيث أظهر يسوع مجده فآمن به تلاميذه. »إذن، تمَّت المعجزة من أجل الإيمان، وتمَّت خلال حفلة عرس. فالآية هنا أبرزت التدبير الإلهيّ، تدبير عهد النعمة، كما في صورة الزواج على ما نقرأ في أسفار العهد القديم. وفي معجزة العاصفة التي هدَّأها يسوع. قال قداسته: »هي علامة حضور مستمرّ للمسيح في »سفينة« الكنيسة التي تتعرَّض دائمًا، على مرِّ التاريخ، للرياح والساعات العاصفة. والسير على المياه آية تدلُّ على حضور المسيح فتؤكِّد سهره الدائم على تلاميذه وعلى الكنيسة. »تشجَّعوا! أنا هو لا تخافوا«.

سنة 1990، كانت سنة الروح القدس. فتطرَّقت عظات البابا يوحنّا بولس إلى هذا الموضوع. من هو الروح القدس، وما هي مهمَّته في قلب شعب الله؟ سمعنا كلام يسوع يعلن مجيء الروح ويَعِد به، في الخطب التي تلت العشاء السرّيّ في إنجيل القدّيس يوحنّا. أمّا سفر الأعمال فبيَّن لنا دور الروح في إيمان الكنيسة الأولى وفي كرازتها. فعاد الرسل إلى نصوص العهد القديم فتكلَّموا عن مجيء الروح القدس على أنَّه يُتمُّ المواعيد القديمة والإعلانات التي بدت في العهد القيدم على أنّها زمن استعداد وتقبُّل ملء الحقيقة والنعمة اللذين يحملهما يسوع المسيح.

وكانت عظة في 3 كانون الثاني حول روح الله الذي هو ريح الله، ونسمة الله. فاللفظ العبريّ (مثل العربيّ) هو الروح. هو النسمة. والنسم هو نفَسُ الروح ونحن نشمُّها. فالروح يرتبط بتنشُّق الهواء، نحن ندركه ولكنّنا لا نراه ولا نلمسه. يبدو كلا شيء وفي الواقع أهمّيّته أهمّيّة الحياة. من يستطيع أن يحيا إن لم يتنشَّق الهواء. وكذلك نقول عن الروح الذي هو مبدأ الحياة. قال المزمور 104: 29-30: »تحجب وجهك فتفزع (المخلوقات)، وتنزع روحها فتموت وإلى ترابها تعود. ترسل روحك فتُخلَق وتجدِّد وجه الأرض«.

في 10 كانون الثاني، كان عنوان العظة روح الله نسمة تعطي الحياة. قال البابا: في اللغة البيبليّة، الأهميّة المعطاة للروح على أنَّه »نسمة الله« يبيِّن أنَّ التقابل بين عمل الله اللامنظور، الروحيّ، الحميم، القدير، وعمل الريح، تجدَّد في نفسيّةٍ وفي تقليدٍ استقى منه دومًا الكاتب الملهم وفي الوقت عينه غذّاهما. الروح قوّة حياة، تفعل في خارج الإنسان وفي داخله، وفي تاريخ كلِّ إنسان وحياته كما قال العهد القديم. وهكذا استعدَّ العالم لوحي الروح القدس، كالأقنوم الثالث في الثالوث الأقدس، كما يقول العهد الجديد.

وانتقل البابا إلى عنصرة الوثنيّين، حيث أتى بطرس الرسول إلى بيت كورنيليوس. قال: »أنتم تعرفون ما جرى في اليهوديّة كلِّها، ابتداءً من الجليل بعد المعموديّة التي دعا إليها يوحنّا، وكيف مسح الله يسوع الناصريّ بالروح القدس والقدرة، فسار في كلِّ مكان يعمل الخير...« (أع 10: 37-38). الروح هو الذي يقود عمل الرسل. هو الذي وجَّه بطرس إلى بيت رجل وثنيّ. فخالف العادات الدينيّة المعروفة في العالم اليهوديّ. ولكنَّه سار بحسب مشيئة الله. ذاك كان وقتًا كبيرًا في تاريخ الخلاص. بهذا القرار أخرج بطرس الكنيسة الأولى من حدود العرق والدين، من أورشليم والعالم اليهوديّ، فصارت أداةَ الروح القدس وفتحها على جميع الأمم على ما قال يسوع في نهاية إنجيل متّى. وتواصل كلامُ، البابا عن الروح القدس فتجاوز كلَّ تردُّد. بل هو حلَّ على كورنيليوس، وكأنّي به »أجبر« بطرس ليمنح العماد لهذا »الوثنيّ« مع كلِّ عائلته. ووصلت الكنيسة إلى أنطاكية. وكلُّ هذا بفعل الروح. في هذه المدينة، كانت مناسبة نهائيّة من أجل الإيمان الجديد المؤسَّس على الله في المسيح الذي صُلب وقام من بين الأموات. والتسميةُ الجديدة لتلاميذ يسوع، تسميتهم مسيحيّين، دلَّت على التضامن بين كلِّ أعضاء الجماعات المسيحيّة من أين أتوا.

في 17 كانون الثاني، كانت عظة حول الروح القدس الذي يوجِّه المؤمنين، من أجل الخدمة التي يُدعَون إليها أو الرسالة. في 14 شباط تحدَّث البابا عن العمل النبويّ الذي يحرِّكه الروح القدس. النبيّ هو رجل الكلمة. ولكنَّه أيضًا »رجل الروح« لأنَّه يتحدَّث باسم الله. ذاك واقع يشير إليه حزقيال النبيّ: الكلام باسم الله يتطلَّب حضورَ روح اللهِ لدى النبيّ، وهذا الحضور يتجلّى في لمسة هي »رؤية« وانخطاف. الله يضع يده على النبيّ. قال النبيّ: »دخل الروح فيّ، رفعني فسمعتُ ذاك المتكلِّم معي« (حز 2: 3). دخل الروح إلى عمق شخص النبيّ. فجعله شاهدًا لكلمة الله.

3- كلام الله في قلب كتابات البابا

ترك البابا يوحنّا بولس الثاني العدد الكبير من الرسائل، وهو الذي طالت أسقفيَّته في رومة، ستًا وعشرين سنة. وما نلاحظه بشكل خاصّ هو استناده الدائم إلى الكتاب المقدَّس. من كلمة الله ينطلق كلامه بحيث يصل إلى المؤمنين، لا لأنَّه كلام الناس، بل كلام الله الذي يعمل في المؤمنين. ونعطي بعض الأمثلة عن طريقة قداسة البابا في معالجة المواضيع التي يوجِّهها إلى المؤمنين، بل إلى جميع ذوي الإرادة الحسنة.

ففي أوَّل رسالة كتبها، في 4 آذار سنة 1979 وجعلها في مستهلِّ خدمته الحبريّة، أفهمنا أنَّ يسوع المسيح، فادي الإنسان، هو محور الكون والتاريخ. إليه يتَّجه منّا العقل والقلب في هذه الحقبة الفريدة من نوعها في الزمن التي تمرُّ بها الكنيسة والعائلة البشريّة جمعاء.

عنوان هذه الرسالة »فادي الإنسان«. كيف الكلام عن هذا الموضوع دون العودة إلى الكتاب المقدَّس، ولاسيّما العهد الجديد منه؟ فإيرادات الكتاب كثيرة جدٌّا، ولاسيّما من الإنجيل المقدَّس، ثمّ من رسائل القدّيس بولس. فإذ يدخلنا قداستُه في سرِّ المسيح، تجيء النصوص الكتابيّة متواترة: الآب الأزليّ هو أبو العصور الآتية (أش 9: 6). وهو يدعو قداسة البابا وكلَّ أسقف: إرع خرافي (يو 20: 15). أي كن راعيًا لقطيعي. ويقول له كما قال لبطرس حين حدَّثه عن النكران: »وأنت متى رجعت ثبِّت إخوتك« (لو 22: 32). فالسيِّد المسيح الذي هو وحده فادينا وفادي الإنسان، نريد أن نتلمَّس وجهه لأنَّ فيه وحده، بما أنَّه إبن الله، الخلاص، قائلين مع بطرس: »إلى من نذهب يا ربّ، لديك كلام الحياة الأبديّة« (يو 6: 66).

ويتابع البابا: »وبفضل وعي الكنيسة ذاتها... علينا أن نسعى باستمرار إلى من هو الرأس (أف 1: 10) إلى من »منه الكلُّ ونحن فيه« (1كور 8: 6)، إلى من هو في الوقت عينه »الطريق والحقّ« (يو 14: 6). وكذلك القيامة والحياة (يو 11: 25). إلى من إذا رأيناه رأينا الآب (يو 14: 9)، إلى من كان عليه أن يغادرنا (يو 16: 7) أعني بالموت على الصليب ومن ثمَّ بالصعود إلى السماء، ليأتي إلينا البارقليط ويأتي باستمرار بما أنَّه روح الحقّ (يو 16: 7-13). فيه جميعُ كنوز الحكمة والمعرفة (كو 2: 3)، وجسدُه الكنيسة (روم 12: 5؛ 1كور 6: 15؛ 10: 17).

ذكرت هذا المقطع من »فادي الإنسان« وقدَّمت المراجع الكتابيّة، كي أجعل القارئ يكتشف دور الكتاب المقدَّس في ما ترك لنا البابا يوحنّا بولس الثاني من غنى في رسائله. كما في خطبه القصيرة منها والطويلة. نذكر ههنا رسائله إلى الكهنة بمناسبة خميس الأسرار. سنة 1991 كان العنوان »روح الربِّ عليّ« (لو 4: 8؛ أش 61: 1). عاد البابا إلى الليتورجيّا التي شارك فيها يسوع في مجمع الناصرة، فشدَّد على دور الروح الذي به يصير الإنسان، في المسيح، شريكًا في الطبيعة الإلهيّة، وفي حياة الثالوث الكليّ قدسه. سنة 1993، تطلعنا إلى »يسوع المسيح الذي هو هو أمس واليوم وللأبد« (13: 8). هذه الكلمات تصف لنا الكاهن الأزليّ الأوحد الذي دخل القدس مرّة واحدة بدمه فكسب لنا فداءً أبديّا (عب 9: 12). وكان موضوع سنة 1996 الدعوة مع عبارة في البداية: »أنظروا أيّها الإخوة إلى دعوتكم. فالكهنوت دعوة خاصّة«، ولا يأخذ أحد لنفسه هذه الكرامة إلاّ من دعاه الله (5: 4). فدعوة المسيح بدأت منذ دخوله العالم (عب 10: 5). فقيل له: أنت كاهن إلى الأبد، على رتبة ملكيصادق (عب 5: 5-6). هو كهنوت يتعدّى شعبًا من الشعوب، فيصل إلى جميع الشعوب.

في الثامن عشر من شهر أيّار، في عيد العنصرة سنة 1986، أصدر البابا يوحنّا بولس الثاني رسالة عامّة: الروح القدس في حياة الكنيسة والعالم. بدأ كما يلي: »الربُّ المحيي. هذا هو اعتراف إيمان الكنيسة بالروح القدس«. هذا الروح يُعطى لنا مع الحياة الجديدة كما يعلن يسوع ويَعد في عيد المظال الكبير: »من هو عطشان فليأتِ إليّ ويشرب. من يؤمن بي، كما قالت الكتب، تجري من جوفه أنهار ماء الحياة (يو 7: 37-38)، ويفسِّر الإنجيل ذاك بقوله: »هذا قاله عن الروح الذي سوف يقبله المؤمنون به« (آ39). ويستخدم يسوع التشبيه ذاته في الحديث الذي دار بينه وبين المرأة السامريّة، في كلامه عن »معنى الماء الجاري للحياة الأبديّة« (يو 4: 14). وفي حديثه مع نيقوديمُس مؤكِّدًا ضرورة الولادة الجديدة »من الماء والروح« حتّى يستطيع الإنسان أن يدخل ملكوت الله (يو 3: 5).

تلك كانت البداية المضمَّخة بكلام الله، في إنجيل يوحنّا بشكل خاصّ. وتتواصل الرسالة مستندة إلى العهد الجديد في كلِّ ما يتعلَّق بالروح القدس، مع كلام عن الروح القدس والحقّ (يو 4: 24)، عن الخليقة الجديدة (روم 8: 22)، عن كلمة الله التي لا تزول (عب 24: 35). عن هذا الروح الذي وعدنا به يسوع بعد العشاء: »وأنا أطلب إلى أبي فيعطيكم بارقليطًا (= محاميًا) آخر، ليكون معكم إلى الأبد، روح الحقّ« (يو 14: 11، 13-16).

وما يتميَّز به يوحنّا بولس الثاني، هو تكرار العبارة الواحدة في الرسالة أو في العظة، على مثال ما في المزامير: ألهج بكلامك نهارًا وليلاً. هذا ما يدعوه الشرقيّون، ولاسيّما الكنيسة الواقعة شرقيّ الفرات، صلاة القلب. يبدأ الفم فيتكلَّم، ويردِّد العبارة الواحدة. ويأتي وقت يسكت الفم ويتكلَّم القلب على ما كانت تفعل حنّة، والدة صموئيل. »وأقامت حنّة صلاتها للربّ... كانت تصلّي في قلبها، وشفتاها تَتحرَّكان ولا تُخرجان صوتًا« (1صم 1: 12-13). الأمثال عديدة في هذا المجال. مثلاً، ما كتب البابا في مناسبة سنة الإفخارستيّا: »أبقَ معنا يا ربّ« (لو 24: 39). ذاك ما قاله تلميذا عمّاوس للذي رافقهما في الطريق. وفي الإرشاد الرسوليّ »أعطيكم رعاة« (إر 3: 15). توسَّع قداسته فأورد ما قاله إرميا: »وأقيم على غنمي رعاة يرعونها، فلا تخاف من بعد ولا تفزع« (إر 23: 24). وانتهى إلى اسم يسوع الذي هو »الراعي الصالح« (10: 11).

خاتمة

حين كان القدّيس أوغسطينس يبحث عن الله لدى الأشخاص وفي الفلسفات المختلفة، سمع وهو في بستان بيته صوتًا يقول له: خذ واقرأ. فأخذ. قرأ الكتاب وقرأ فوجد ضالَّته وتبدَّلت حياته كلُّها. والذي صار كاهنًا وأسقفًا، شرح تقريبًا كلَّ الأسفار المقدَّسة للمؤمنين، وما زالت كتاباته تغذّي الكنيسة إلى أيّامنا. سبق له وقرأ الكتب العديدة. ولكنَّه تأخَّر في أن يقرأ الكتاب المقدَّس. ولكن حين فتحه سمع صوت الله يناديه في أعماقه. إلى مثل هذه القراءة أراد أن يدعونا قداسة البابا، يوحنّا بولس الثاني. أن نقرأ الكتب المقدَّسة. على ما قال بولس الرسول لتلميذه تيموتاوس. »فهي قادرة على أن تزوِّدك بالحكمة التي تهدي إلى الخلاص في الإيمان بيسوع المسيح. فالكتاب كلُّه وحي الله، يفيد في التعليم والتفنيد والتقويم والتأديب في البرّ، ليكون رجل الله كاملاً مستعدٌّا لكلِّ عمل صالح« (2تم 3: 15-17). هذا ما فعله يوحنّا بولس الثاني. وهذا ما تدعونا الكنيسة أن نفعله إن أردنا أن نكون على مستوى التزامنا. وقد قال أحد الآباء: »من جهل الكتاب المقدَّس جهل المسيح«.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM