دعوة بطرس.

 

دعوة بطرس

تعدَّدت الظروف في نداء التلاميذ. كان يوحنّا المعمدان الواسطة بالنسبة إلى أندراوس والتلميذ الآخر. وكان أندراوس الواسطة لبطرس، وفيلبُّس لنتنائيل. وتلقّى فيلبُّس نداء مباشرًا. تعدَّدت الظروف، ولكنَّ يسوع هو الذي يحتفظ بالمبادرة: بنظرته الثاقبة، بكلمته الحاسمة هو يدعو ويُصدر حكمه في الأشخاص.

لا يقول لنا الإنجيليّ شيئًا عن استقبال يسوع لبطرس. بل يهتمُّ بصورة خاصّة بكلمة يسوع الذي يعلن لبطرس أنَّه سيتلقّى في يوم من الأيّام اسمًا جديدًا. كيفا (كذا في الآراميَّة والسريانيَّة). في العربيّة: صخر. في اليونانيّة واللاتينيّة: بطرس.

وهكذا قدَّم لنا يوحنّا موضوعين اثنين. في الأوَّل شدَّد (كما سيفعل مرارًا) على سلطة يسوع الذي يتصرَّف هنا كحامل وحي. في الثاني، جعل بطرس في موقع السلطة منذ البداية، وهو الذي سيتكلَّم باسم الاثني عشر (6: 67) ويكون راعي الخراف (21: 16ي).

ذكر يوحنّا كلمتين آراميَّتين في الصيغة اليونانيّة: »ماسيّا«. وفي الآراميّة: مشيحا. »كيفاس«. وفي الآراميّة: كيفا. الأولى تعني الممسوح بالزيت. والثانية تدلُّ على الصخر والحجر. وقدَّم الإنجيليّ الترجمة اليونانيّة للكلمتين.

إنَّ تسمية بطرس »الصخرة« قد وُلدت في أرضٍ تتكلَّم اللغة الآراميّة. لأنَّ العبارة التي أوردها متّى (16: 18) غير ممكنة في اللغة اليونانيّة: »أنت الصخرة وعلى هذه الصخرة أبني بيعتي«.

كانت الجماعة المسيحيّة الأولى (التلاميذ الأوَّلون) يدعون سمعان »كيفا«. هذا ما نقرأه مثلاً في (غل 1: 18). يقول بولس: »وبعد ثلاث سنوات، صعدتُ إلى أورشليم لأرى كيفا، فأقمتُ عندَه خمسة عشر يومًا« (غل 2: 9-11: جاء كيفا إلى أنطاكية). وفي 1كور، يرد مرارًا اسم »كيفا«. واحد يقول أنا مع بولس، وآخر، أنا مع أبلُّوس، وآخر أنا مع كيفا (1: 12). كلُّ شيء لكم. بولس، أبلُّوس، كيفا (3: 22). أما لنا حقٌّ مثل سائر الرسل وإخوة الربّ وكيفا أن نستصحب أختًا مؤمنة (9: 5)؟ ظهر الربُّ لكيفا ثمَّ للرسل الاثني عشر (15: 5).

دعا التلاميذ الأوَّلون سمعان »كيفا«. ولكنَّهم لم يدعوا يسوع »ماسيّا« (أو مشيحا) بالاسم الآراميّ. وحين دعوه كما في اللغة اليونانيّة »كريستُس«، فَصَلوا هذا »الممسوح« بالزيت المقدَّس عن المثال التوراتيّ الذي يصوِّر المسيح ملكًا سياسيًا و»حربيٌّا«. ففي المقطعين الوحيدين في كلِّ العهد الجديد حيث يدعى يسوع »ماسيّا«، لا يزال التصوُّر التوراتيّ الناقص للمسيح، ماثلاً لدى فكر الذين يتكلَّمون. في المرة الأولى مع أندراوس: »لقينا مشيحا، أي المسيح« (آ41). نحن نعرف ما كان ينتظر التلاميذ في بداية حياتهم مع يسوع. مثلاً، أراد يعقوب ويوحنّا أن يكونا »وزيرَين« عن يمينه وشماله. وفي المرّة الثانية مع السامريّة: »أنا أعرف أنَّ مشيحا، أي المسيح، آتٍ، ومتى أتى يُنبئنا بكلِّ شيء« (4: 25). سيحتاج السامريّون بعض الوقت قبل أن يُعلنوا يسوع »مخلِّص العالم« (4: 42).

نقرأ في الآية 41 لفظة تعني: أوَّلاً. لقي أوَّلاً أخاه سمعان. وتعني أيضًا: »على أنَّه الأوَّل«. الأوَّل لقي أخاه سمعان. وقد تعني في شكل آخر: »في الصباح الباكر«. لقي سمعان أخاه في الصباح الباكر.

الفرضيّة الأولى نجدها في أفضل المخطوطات على الرقّ، كما في البرديَّتين رقم 66 و75. الفرضيّة الثانية ترى أنَّ التلميذين المذكورين في آ35، قد جاءا بأخوَيهما إلى يسوع. »الأوَّل« أندراوس جاء بأخيه بطرس. والثاني (لا يُذكر اسمه) هو يوحنّا الذي جاء بأخيه يعقوب. والفرضيّة الثالثة ترى في النصِّ أنَّ دعوة بطرس تمَّت غداة لقاء يسوع مع تلميذَي المعمدان.

لا يرتبط هذا المقطع بالتقليد الإزائيّ. لاشكّ في أنَّ مر 3: 16 ولو 6: 14 (في لائحة الرسل الاثني عشر) يرويان أنَّ يسوع أعطى سمعان اسم »بطرس«. ونقرأ في مت 16: 16-17 أنَّ الربَّ وعد سمعان فقال له: »أنت الصخر وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي«. ولكنَّ واحدًا من هذه النصوص لا يستطيع أن يكون نموذجًا للخبر الذي نقرأ.

نكتشف في هذا المقطع، يَد الإنجيليّ تبني النصّ حسب فكرة لاهوتيّة محدَّدة: مؤمنٌ يشهد أوَّلاً، ثمَّ يأتي بصديقه إلى الربِّ الذي يجتذبه اجتذابًا لا ينفصم. بالإضافة إلى ذلك، نحن نفهم بسهولة أن يُذكر بطرس أوَّلاً ويكون في المركز المميَّز، لأنَّه أهمُّ الرسل. في هذه الظروف يبقى شيءٌ لم نفهمه: لماذا لم يجعل الإنجيليّ بطرسَ أوَّل مَن دُعي من التلاميذ؟ لماذا لم يستفد من هذا الأسلوب ليُفهمنا أنَّ بطرس هو الصخرة التي شُيِّدت عليها الكنيسة؟ وإذا كان قد أراد لبطرس أن يأتي إلى يسوع مدفوعًا بيد شاهد، لماذا كلَّف أندراوس بهذه المهمَّة الشريفة ولم يكلِّف »التلميذ الذي كان يسوع يحبُّه«؟ ففي مسيرة الإنجيل نجد بطرس في وضع مميَّز بقرب التلميذ الحبيب (13: 23ي؛ 18: 15ي؛ 20: 4؛ 21: 7، 20).

وإليك الجواب: وجد الإنجيليّ الرابع نفسه أمام تقليد آخر مستقلٍّ عن التقليد الإزائيّ ومختلف عنه. والرغبة (كما في 1: 29-34) بعدم قطع الرباط مع الوقائع التاريخيّة، حدَّت من النشاط اللاهوتيّ عند يوحنّا. فاسم »كيفا« الذي لا يظهر إلاّ في الإنجيل الرابع، دون سائر الأناجيل (حتّى متّى)، يُثبت قولنا بأنَّ أساس هذا المقطع تسمية يسوع سمعان باسم »كيفا« للمرّة الأولى. فنحن لا نكتشف هذا الأمر لا في يو 1: 42 ولا في مت 16: 17-18، بل في مر 3: 16 الذي يقول لنا إنَّ الاسم أُعطيَ لسمعان في ساعة مبكِّرة.

* * *

وظهر يسوع للعالم: ذاك هو الموضوع الأساسيّ. لقد امتدَّ النور كالشمس الشارقة، وكالشموع التي تُضاء في ليلة الفصح. وكانت ذروة أولى بعد الآية الأولى، آية قانا، فقال الإنجيليّ: »أظهر مجده فآمن به تلاميذه« (2: 11).

في 1: 41-45، نجد خمس مرّات فعل »لقي، وجد«. في آ41: »لقي (أندراوس) أخاه سمعان«. في آ43: »لقي (يسوع) فيلبُّس«. في آ45: »ولقي فيلبُّس نتنائيل«. هذه صيغة الغائب المفرد. وهناك صيغة المتكلِّم الجمع. قال أندراوس: »وجدنا (لقينا) مشيحا، أي المسيح« (آ41). وقال فيلبُّس: »وجدنا من تكلَّم عليه موسى والأنبياء« (آ45).

هناك رباط داخليّ بين »طلب« (فتَّش، ابتغى، بحث) في آ38، و»وجد« (لقي) في آ41-45. نكتشف هنا أفكار الأدب الحكميّ في العالم اليهوديّ المتأخِّر. فما قالته الحكمة عن نفسها يتمُّ في يسوع.

قالت: »أحبُّ الذين يحبُّونني، والذين يبكِّرون في طلبي يجدونني« (أم 8: 17). »طوبى للرجل الذي يسمع لي، الذي يسهر يومًا فيومًا عند أبوابي، ليحفظ عضائدها«. »من وجدني وجد الحياة، ونال مرضاة من الربّ« (أم 8: 34-35). ونقرأ في حك 6: 11-12: »إبتغوا كلامي وارغبوا فيه فتتعلَّموا. فالحكمة بهيّة وهي لا تذبل. الذين يحبّونها يستطيعون مشاهدتها. والذين يطلبونها يجدونها«.

إنَّ يسوع يعرف أفكار البشر. رأينا أعلاه كيف أنَّ يسوع كان على علم تامّ، فالتفت إلى التلميذين، وقال لهما: »ماذا تطلبان؟« والآن، ها هو يلقي نظرة ثاقبةٍ على بطرس ويعده قائلاً: »أنت تدعى كيفا أي صخر« (بطرس). فكلمات الربِّ النبويّة لا تتوجَّه فقط إلى أوَّل المدعوّين، بل تتوجَّه إلينا نحن أيضًا الذين نتعرَّف إلى بطرس من خلال سمعان.

سمعان هو ابن يوحنّا في إنجيل يوحنّا. أمّا في مت 16: 17 فهو ابن يونا أو يونان. نحن هنا أمام لفظتين مختلفتين (يوحنّا، يونان) وأمام مدلولين مغايرين. يوحنّا يعني »يهوه يتحنَّن«. »يونان« هو »الحمامة«. قد يزول الاختلاف حين تنسخ اللفظتان في اليونانيّة. ولكن في هذه الحالة، يبدو الشكل الآراميّ التقليديّ أصيلاً في متّى. ولكنَّ يوحنّا قد هدف بوعي تامٍّ إلى إظهار اسم يوحنّا من خلال الترجمة اليونانيّة الخاصّة به وفي نقله للأسماء الساميَّة. وهذا أمر مهمّ بالنسبة إلى الحلقة التي تحيط بالإنجيليّ. وما يبرهن عن ذلك، توجُّهُ يسوع ثلاث مرّات وبصورة احتفاليّة إلى بطرس: يا سمعان بن يوحنّا (21: 15-17). هنا بنوَّة جسديّة تربط بطرس بيونا. وهناك بنوَّة روحيّة تربط بطرس، مثل التلميذ الحبيب، بيوحنا المعمدان. وهكذا نكتشف بشكل جديد الفكرة القائلة بأنَّ كلَّ شهادة رسوليّة أُدِّيَتْ إلى يسوع، تجد ينبوعها في شهادة المعمدان.

ويلي التوجُّه الاحتفاليّ (ابن يوحنّا) التسمية الجديدة: بطرس، صخر. المعنى واضح عند متّى: سمعان هو الصخر الذي عليه يشيِّد يسوع كنيسته. أمّا عند يوحنّا، فلا شيء يدلُّ أنَّه يفترض لدى القارئين فهمًا للاسم الجديد. لاشكَّ في أنَّهم ريعرفون هذا الاسم، ولكنَّ يوحنّا يمنعهم من أن يروا في سمعان أوَّل حجر في بناء كنيسته، بعد أن جعله في المقام الثالث في مجموعة تلاميذ يسوع.

إذن، ما هو مدلول لقب »صخر« الذي أُعطيَ لسمعان؟ في العهد القديم، يهوه (الربّ) هو الصخر. »الربُّ صخرتي« (2صم 22: 2). وعند بولس الرسول، المسيح هو »الصخر« (1كور 10: 4: وهذا الصخر هو المسيح). ولقد فسَّر العالم اليهوديّ المتأخِّر أش 28: 16، فقابل بين المسيح والصخر أو حجر الزاوية. وهناك مدراش (درس وتأمُّل) متأخِّر اعتبر أنَّ الحجر الذي نام عليه يعقوب في حلم رأى فيه السلَّم السماويّة، هو المسيح.

وفي 1: 15، يلمِّح يوحنّا إلى سلَّم يعقوب. هل نستطيع أن ننطلق من كلِّ هذا لكي نفهم اللقب الذي أُعطيَ لسمعان؟ حيث يوجد هذا الحجر فهناك »بيت الله« و»باب السماء« (تك 28: 17). فبطرس يشارك في صلابة ومتانة هذا الحجر الرمزيّ الذي كُرِّس وجُعلَ علامةً تدوم إلى الأبد (تك 28: 18).

يلعب الاسم دورًا هامٌّا في الكتاب المقدَّس كلِّه. فالعالم القديم يعتبر أنَّ من لا اسم له ليس فقط مجهولاً. إنَّه وكأنَّه لا وجود له. وهذا واضح بصورة خاصّة في أسطورة الخلق (أنوما إليش). وفي التوراة، لا وجود لليل والنهار، إلاّ ساعة يعطيهما الله اسمًا (تك 1: 5). فالاسم يدعو إلى الوجود. وهو يدلُّ أيضًا على جوهر الشيء. فالشيء هو ما يعنيه اسمه. حين كلَّمت أبيجائيل داود عن نابال (زوجها) قالت: اسمه نابال، وهو في الحقيقة يجسِّد الحماقة (1صم 25: 25).

وحسب النظرة البيبليّة، قد يحضر شخص إذا ناديناه باسمه. »أنت بيننا يا ربّ، ونحن تسمَّينا باسمك« (إر 14: 9). وفي العهد الجديد، »اسم« الله هو الله نفسه كما أخبر به يسوع البشر (مت 6: 9؛ يو 17: 6، 26). وكلمة أش 43: 1، لا تنطبق فقط على بعض الرسل الذين أعطاهم يسوع اسمًا جديدًا، بل على جميع »أبناء الله«: »لا تخف لأنّي افتديتك. دعوتك باسمك، فأنت لي«.

وكما كان الوضع في حلقة الرسل، فهو عندنا، وأسماؤنا لا تتساوى كالأرقام والأعداد. ليس أحد »رقمًا من الأرقام« عند الله. كلُّ واحد له اسمه. وكلُّ واحد ناداه المسيح بطريقة خاصّة (1: 35-51). ومن واجبي أن أتبع ذاك الذي دعاني باسمي، دعاني بطريقة توافق »اسمي«، أي شخصيَّتي. والإيمان له معناه في المجال الشخصيّ، حيث لا يستطيع أحد أن يحلَّ محلّي، لا يستطيع أحد أن يلج بين شخص الله وشخصي، بين اسم الله واسمي أنا.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM