الكتاب المقدَّس واالرعية.

 

الكتاب المقدَّس والرعيَّة

حين تتأسَّس جمعيَّة من الجمعيّات، يكون لها دستورها. وحين تستقلّ الدولة، تكون لها قوانينها من أجل تنظيم حياتها اليوميَّة. وهذا ما نقول عن الكنيسة، سواء الكنيسة الجامعة المنتشرة في العالم كلِّه، أو الكنيسة المحلِّيَّة في الأبرشيَّة حول الأسقف، أو في الرعيَّة حول الكاهن. أمّا دستورنا نحن فهو الكتاب المقدَّس بشكل عامّ والأناجيل بشكل خاصّ. فرعيَّة لا تعيش من كلام الله تكون ميتة. تعيش الرتابة اليوميَّة، وتفتخر بالأمجاد الماضية، وتتوقَّف عند الحجر يرتفع هنا وهناك، دون أن تنظر إلى البشر.

1- مكانة الكتاب في الرعيَّة

اعتادت رعايانا منذ القديم أن تقرأ الكتب المقدَّسة في احتفالاتها. في الذبيحة الإلهيَّة، أو عشاء الربّ، كما دعاه المسيحيّون الأوَّلون. الذروة قراءة الإنجيل. تسبقها قراءة من رسائل القدّيس بولس أو سائر الرسل. وقد يسبق هاتين القراءتين، مقطعٌ من العهد القديم. فحين نقرأ مثلاً عن شفاء الأبرص، نقرأ في سفر اللاويّين ما يُقال عن الأبرص، كمرضٍ معدٍ يهرب منه الناس، وكنجاسة تُبعد العليلَ من المشاركة في حياة الجماعة، والصلاة في الهيكل.

وليلة الآحاد والأعياد الكبرى، كانت أكثر من قراءة، في خطِّ ما اعتاد الشعب الأوَّل أن يفعل. قراءة أولى من أسفار موسى الخمسة. من سفر التكوين مثلاً، ما يتعلَّق بإبراهيم أو يعقوب. من سفر الخروج، مسيرة الشعب في البرِّيَّة. وقراءة ثانية من أسفار الأنبياء. نقرأ من أشعيا ما يتعلَّق بالحبل البتوليّ، أو عمانوئيل (إلهنا معنا) الذي يدلُّ على الابن المتجسِّد، هذا دون أن ننسى ما يتعلَّق بآلام يسوع: أخذ أمراضنا وحمل أوجاعنا. والقراءة الثالثة تكون من سائر الكتب، من سفر الأمثال أو سفر الجامعة ونشيد الأناشيد ويشوع بن سيراخ، هذا عدا المزامير التي تربط قراءة بقراءة، وصلاة بصلاة: إرحمني يا الله كعظيم رحمتك. نتلوه في زمن التوبة والصوم. كما يشتاق الأيِّل إلى مجاري المياه، في الزمن الآتي بعد العنصرة، طلبًا للربِّ الذي »بدا« غائبًا بعد الصعود إلى السماء. فنحن نتشوَّق إلى حضوره، خصوصًا في الإفخارستيّا التي نحتفل بها يوم الأحد، يوم الربّ. تلك كانت خبرة التلاميذ بعد القيامة.

والكتاب المقدَّس لا ينحصر داخل جدران الكنيسة. بل يدخل إلى البيوت في ما يُسمّى السهرات الإنجيليَّة، أو حلقات الصلاة. دور الكاهن كبير في هذا المجال، وهو يستطيع أن يتعرَّف إلى أبناء الرعيَّة، ولاسيَّما إذا كانوا بعيدين عن الخورنيَّة. بهذه الطريقة، تتكوَّن حلقات تشبه إلى حدٍّ بعيد ما كان يتمُّ في الكنيسة الأولى. وما يربط حلقة بحلقة، هو القدّاس الأسبوعيّ حيث يأتي الذين اغتذوا بكلام الربّ، فيشاركون في جسد الربِّ ودمه، وهكذا تكتمل المسيرة التي ساروها طوال الأسبوع، وتصل إلى ذروتها، حيث نعرف يسوع عند »كسر الخبز«.

2- في رعيَّة كورنتوس

أسَّس بولس وسيلا وتيموتاوس »رعيَّة« في مدينة كورنتوس اليونانيَّة. وكانت الصعوبات كثيرة. لا شكَّ في أنَّ البشارة رافقتها الآيات التي لا يمكن أن تدوم، لأنَّها تبقي الناس على مستوى الدهشة والإعجاب، ولا تصل بهم إلى الإيمان. فماذا يبقى لهذا الفريق الرسوليّ؟ كلام الله.

كانت صعوبة أولى: الخلاف داخل هذه الجماعة. كلُّ واحد تبع مرسلاً من المرسلين، كما يتعلَّق اليوم المؤمن بكاهن من الكهنة. منهم من ارتبط بأبلّوس ذاك الخطيب اللامع الذي عرف الكتب المقدَّسة فأفحم اليهود بأجوبته. ومنهم من ارتبط ببطرس، لأنَّه لم يترك كلِّيٌّا العادات اليهوديَّة. هكذا يبقى بعض المؤمنين متجذِّرين في أمور عاشوها منذ الطفولة، ويتضعضعون إن لم يتخلّوا عنها. وأخيرًا، ارتبط مؤمنون ببولس. هو مؤسِّس الكنيسة، الذي رفض أن يبني على أساس غيره. هو المندفع في خدمة المسيح، المستعدّ أن يضحّى بحياته من أجل الخدمة الرسوليَّة، بل يعتبر نفسه أبا الكنيسة وأمَّها، بعد أن وَلد كنيسة كورنتوس في المسيح.

كيف يمكن أن تعود هذه الجماعة إلى وحدتها؟ تستنير بكلام الربّ. كما عرفه المؤمنون قبل أن يُكتَب إنجيلاً. وفي العهد القديم مع كلام عن حكمة الله السرّيَّة (1كور 2: 7). مثل هذه الحكمة تفوق الفكر البشريّ. أعطاها الله للذين يحبّونه. أعطاهم »ما لم تره عين، ولا سمعت به أذن، ولا خطر على قلب بشر« (آ9؛ أش 64: 3). والكلام الآخر: الله يجازي كلَّ إنسان بحسب أعماله. وأخيرًا، نحن نستسلم لسرِّ الله، لأنَّ ما من أحد يعرف فكر الربّ (أش 40: 3)، لكي يرشده حول الحكمة الحقيقيَّة. أتُرى قبِلَ الكورنثيّون هذا الكلام؟ بما أنَّهم لم يزالوا من لحم ودم، بشر، خاضعين للخطيئة، فقد استصعبوا مثل هذا الكلام. فهم يحتاجون أن يسلكوا بحسب الروح.

والمسألة الثانية في رعيَّة كورنتوس تدور حول طعام يقدَّم للأصنام. ففي الأعياد الوثنيَّة، كانت تُنحَر الذبائح العديدة، فيستفيد منها الفقراء ويشترونها بأسعار بخسة. فهل يحقُّ للمؤمن أن يأكل من هذه اللحوم؟ وكان الجواب الأوَّل من قلب الكتاب. الوثن ليس بشيء (1كور 8: 1). هنا نتذكَّر ما قاله العهد القديم عن الأوثان: لها عيون ولا ترى، ولها آذان ولا تسمع، ولها أيدٍ ولا تفعل. الإنسان يصنعها، فكيف يمكن أن يعبدها؟ وجواب ثانٍ جاء على وضع »النقابات« التي ارتبطت بإله من الآلهة في المدينة. أعضاء النقابة يقيمون العيد في ظلِّ أحد المعابد. فهل يحقُّ للمسيحيّ أن يشاركهم ويتمتَّع بحماية هذا الإله أو ذاك؟ وماذا يكون من أمر إيمانه؟ هو معمَّد فلا يخاف من شيء.

هنا عاد الرسول إلى الكتاب المقدَّس. إلى الشعب الأوَّل في البرِّيَّة. كانوا »تحت السحابة« (10: 1). هي تدلُّ على حضور الله وحمايته، كما السحابة تؤمِّن الظلَّ من حرِّ الشمس. »عبروا البحر« كما على الأرض اليابسة. كان البحر موطن الموت، فلم يعد كذلك بعد أن دجَّنه الله بقدرته. فماذا استفاد هؤلاء من السحابة ومن البحر؟ ثمَّ هم »أكلوا طعامًا روحيٌّا«. هو المنّ، هو عطيَّة الله في هذه البرِّيَّة المقفرة. والعطيَّة الكبرى: الماء من صخرة سوف ترافقهم حتّى توصلهم إلى أرض الموعد، على مثال المنِّ الذي توقَّف حين عبر يشوع ورفاقه نهر الأردنّ. ويستنتج الرسول: »ومع ذلك، ما رضيَ الله عن أكثرهم، فسقطوا أمواتًا في الصحراء« (آ5). لماذا؟ لأنَّهم تركوا الله وعبدوا الأوثان. ولاسيّما حين صنعوا لنفوسهم العجل الذهبيّ. وهكذا تكون حالة المسيحيّين في كورنتوس. هم يتعلَّقون بالأصنام، أو هم يعودون إليها دون أن يدروا، ولا أن يحسبوا حسابًا إلى أين تصل بهم مسيرتُهم. قال الرسول لأهل كورنتوس: »لا تعبدوا الأوثان مثلما عبدها بعضهم. فالكتاب يقول: جلس الشعب يأكلون ويشربون، ثمَّ قاموا يمرحون« (آ7).

3- الكتاب المقدَّس سلاح في أيدينا

حين نرى الشيع والبدع تتنقَّل من بيت إلى بيت وفي يدها الكتاب المقدَّس، نتساءل: ماذا يريد هؤلاء المتشيِّعون؟ هم يقدِّمون تعليمًا، يعتبرونه جديدًا. وسلاحهم الكتاب. يقرأونه. يفسِّرونه كما يشاؤون، ويُخضعونه لنظريّاتهم. يعتبرون أنَّ التضارب يمكن أن يُوجَد في الكتب المقدَّسة، لا في كتبهم الخاصَّة، لأنَّ التعليم الذي يقدِّمون هو النقطة التي ينطلقون بها ويصلون إليها.

وفي أيِّ حال، هناك شرائع عديدة. في كنائسنا الشرقيَّة، بل والغربيَّة، التي تنطلق من تقاليد قديمة وتعاليم جمعتها من هنا وهناك. قد تعود إلى الكتب المقدَّسة أو لا تعود. المهمّ المحافظة على التقليد القديم الذي لا يرتبط بالإنجيل ولا بالكتاب المقدَّس. بل يعود إلى القرون الوسطى، وإلى نظريّات هي بنت عصرها، ولا يمكن أن تتوجَّه يومًا إلى جميع العصور. بل لا يمكن أن تكون نورًا وحياة لنا في القرن الحادي والعشرين.

مرَّة من المرّات، اشترى أحد المهندسين مجموعة كتب تشرح الكتب المقدَّسة ولاسيَّما الأناجيل. ووضعها في مكتبه. ويبدو أنَّه كان قبالة مكتبه مكتب يخصُّ إحدى البدع. فقال الرسّام العامل لدى ذلك المهندس: ضع هذه الكتب أمامهم فيعرفوا الشروح التي نملك. وكان جواب المهندس: لا يكفي أن يكون لدينا الكتب. ثمَّ إنَّ الكتاب المقدَّس سلاح. نحن لا نستعمله. نتركه في الزاوية مثل سيفٍ يأكله الصدأ. أمّا هؤلاء فيعرفون أن يستعملوه، وبالتالي يحاربوننا به وينجحون. وما لك إلاّ أن تنظر أبناء الكنائس الشرقيَّة يتركون أجيالاً من الإيمان ويلتحقون بهذه البدعة أو تلك.

والسبب: جهل الكتاب المقدَّس. فالرعيَّة كرعيَّة لا تهتمُّ لهذا الأمر، ولا تنظِّم المحاضرات ولا الحلقات حيث يُدرَس كلام الله، يُشرح، يفسَّر مع الصعوبات التي يمكن أن تعترض المؤمنين، والأسئلة التي يمكن أن تُطرَح عليهم من هذه الجهة أو تلك. وإن لم تبدأ الرعيَّة حركة كتابيَّة، لا يمكن الأفراد، في شكل إجماليّ، أن يهتمّوا بالكتاب المقدَّس. وبعد ذلك نتساءل: لماذا يذهب أولاد رعايانا إلى هذه الجهة أو تلك؟ ما وجدوا عندنا المياه التي طلبتها السامريَّة لئلاّ تأتي وتستقي كلَّ يوم من »بئر يعقوب«. بل أعطيناهم آبارًا مشقَّقة، والماء الذي فيها مُرّ لا يمكن شربه (خر 15: 23). فمضوا إلى أحد الأشخاص الذين تركوا كنيستهم، ومضوا إلى حيث تُعطى كلمة الله له.

هذا يجعلنا في خطِّ ما قاله الربُّ لحزقيال: أنت »رقيب«. والرقيب هو من يسهر. ينظر إلى البعيد. فإذا رأى جيش العدوِّ مقبلاً، ينفخ في البوق وينذر الشعب (حز 33: 3). »فإن سمع السامعُ صوت البوق وما تنبَّه، ثمَّ جاء الجيش وقتله، فدمه يكون على رأسه« (آ4). يكون المسؤول عن خسارة حياته. ذاك هو عمل كاهن الرعيَّة. تنبيه الأبناء والبنات إلى الخطر الذي يهدِّد إيمانهم. وإن ضلَّ أحدهم، مضى وراءه كما الراعي وراء الخروف الضائع. ولكنَّ الخطأ الكبير يكون على الرقيب حين »يرى جيش العدوّ مقبلاً ولا ينفخ في البوق« (آ6). يقول الربّ: »من يد الرقيب أطلب دم« الذي قُتل، لأنَّ أحدًا لم ينذره.

ذاك هو واجب الرعيَّة. الكتاب المقدَّس سلاحها، وسلاح كلِّ واحد من أبنائها. لا في الدفاع فقط، بل في الهجوم أيضًا. هي حرب مقدَّسة، لا بسلاح البشر، بل بسلاح الله. فالرسالة الإلهيَّة تقول: »كلمة الله حيَّة فاعلة، أمضى من كلِّ سيف له حدّان« (عب 4: 12). أترى هذا السيف لم يعد ينفذ في الأعماق، إلى ما بين النفس والروح؟ أترى هذا السلاح صدئ لأنَّنا لم نستعمله؟ أم أنَّ يميننا تراخت فما عادت تستطيع أن تمسك »السيف«؟ يبقى علينا أن نتذكَّر دور الكتاب المقدَّس في رعايانا وفي بيوتنا، بحيث نكون مستعدِّين، في كلِّ وقت، للإجابة على الرجاء الذي فينا.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM