من الحياة إلى الكتاب.

 

من الحياة إلى الكتاب

الكتاب المقدس هو ترجمة »بيبليا«، الكتب. ونحن نذكر أن جبيل هي مدينة الكتاب، لهذا سُميَّت بيبلوس مع اليونان. دعا اليهود العهد القديم: توراة، أنبياء، كتب، وغيرهم دعا العهد الجديد انجيلاً، باعتبار أن سائر الأسفار هي أيضًا إنجيل في المعنى العام، أي خبر سارّ عن يسوع. أما الكنيسة فدعت كل الأسفار المقدسة من سفر التكوين إلى سفر الرؤيا، الكتب. وعندنا الكتاب المقدس.

بيبليا، هي كلمة الله المكتوبة بالعبرية والآرامية واليونانية، وقد تُرجمت كلها أو بعضها إلى 2200 لغة أو لهجة في العالم. هكذا يستطيع كل إنسان أن يسمع كلام الله في لغةٍ رضعها مع حليب أمه. على ما قال الناسُ حين سمعوا بطرس يعظ فيهم يوم العنصرة: »نسمعُهُم يكلموننا بلُغاتِنا عن أعمال الله العظيمة« (أع 2:11).

كيف كُتبت هذه الأسفار؟ انطلق كاتبُها من الحياة اليومية، وأضفى عليها وحيًا آتِ من عند الله؟ ولهذا نقرأ هذه الكلمات لأننا من خلالها نعرف كيف نحيا حياة تليق بإنجيل المسيح، كما قال الرسول.

أولاً: صورة خاطئة عن الله

حين نقرأ كلام الله، نعتبر أنه جاء من العلاء وهو يفرض نفسه علينا. والويل لمن يعارضه. فهذا مكتوب! يشبه قرار ملك يفرض نفسه على غيره. هذا يعني أن الله هو البعيد البعيد، ولا علاقة له بالبشر إطلاقاً. نعفِّر جبيننا بالتراب، ولا نجسر أن نرفع عيوننا. خُلقنا من أجل عبادته والركوع أمامه والانسحاق. يمكن أن يُحيينا إذا شاء. ويقرّر أن يُميتنا ساعة يشاء. كل هذا يجعلنا في إطار قديم حيث الإله صنمٌ من حجر أو خشب تتجسّد فيه سلطةُ الحاكم. يبقى الإنسان جاهلاً أصل تلك السلطة. فيأتي بالقرابين والعشور إرضاءً لذاك الإله!

صورة بشعة عن الله. صورة خاطئة. فالله قريب منا. منذ الصفحات الأولى، يصوّره سفر التكوين: »يتمشّى مع الإنسان عند برودة المساء« (تك 3:8). وهو يدعو إبراهيم كما يدعو الإنسان صاحبه: »أنا ترسٌ لك« (تك 15:1). ويكلم صموئيل في قلب الليل فيجيب صموئيل: »تكلم يا رب فإن عبدك يسمع« (1صم 3:10) وفي النهاية كلّم مريم العذراء حيث أرسل إليها الملاك جبرائيل: »السلام عليك. افرحي يا ممتلئة نعمة« (لو 28:1).

ثانيًا: الله وحياتنا اليوميّة

الله قريب منا ويكلمنا. وصارت كلمته في أشكال عديدة. ولكن كيف كلمنا. أرسل وحيه إلى هذا الإنسان أو ذاك. ماذا فعلوا حين كتبوا؟ انطلقوا من الحياة اليومية، ليعطونا أمثولة وعبرة، بحيث نكتشف حياتنا وما فيها من ابتعاد عن الله. فنسمع حديث النبيّ يقول باسم الله: »عودوا إليَّ فأعود إليكم«. ونأخذ بعض الأمثلة.

كان الناس في العهد القديم فئتين: البدو العائشون على حدود الأراضي المزروعة. والحضر العائشون في المدن المحصّنة. أو في الريف من أجل الزراعة. يمكن أن يتكاملوا. لكن ماذا حصل؟ قتل واحدٌ من الحضر آخرَ من البدو. قتل قايين صاحبُ المقتنيات والغنى، هابيلَ الذي بدا ضعيفًا. في عالم القبائل، كان الثأر يأخذ مجراه. نقتل واحدًا منكم، فتقتلون واحدًا منا. وفي النهاية، تفنى القبيلتان. رفض الكتاب هذا المنطق. فمع أن قايين قاتل، منع الله أحدًا من أن يقتله. ووضع على رأسه علامة: هذا القاتل هو لي. بشريًا، هرب كما يهرب كل قاتل. ولكن الله لا يريد موت القاتل، بل أن يعود عن حياته الشريرة، أن يحيا. وهكذا تعلَّمت الشرائع الحديثة أن لا تحكم بالإعدام على أحد، مهما كان، هذا إذا سارت بوحي كلام الله. والإنجيل يدعونا إلى عدم الانتقام، لأن لا نفع منه. بل يقول سفر الأمثال، كما رواه بولس الرسول: إن جاع عدوُّك فأطعمه، وإن عطش فاسقه...«.

ونأخذ مثلاً آخر. اعتاد الناس أن يذبحوا أولادهم إكرامًا للأصنام وقد دعوها آلهة. انطلق كتاب الله من الواقع، وربطه بشخص إبراهيم. هذا المؤمن الذي برَّره الله، مضى ليذبح ابنه اسحاق. حمَّله الحطب، وهو أخذ السكين والنار. مشهد مريع! الولد هو مُلك أبيه يفعل به ما يشاء. يذبحه كما يذبح خروفًا. ولمن؟ لله؟ الله لا يرضى بذلك. فمنعه بواسطة الملاك: »لا تمدَّ يدك إلى الصبي ولا تفعل به شيئًا« (تك 22:12). إذا أردتَ أن تقدم أبنك للرب، تفعل كما فعلت أمّ صموئيل، حنة: »أكرّسه لك كلّ حياته«. أنذره. وهناك أناس عديدون ينذرون أولادهم ويتمنون أن يكونوا في خدمة خاصة للرب: في الكهنوت، في الحياة الرهبانية مثل مار شربل والقديس نعمة الله، والقديسة رفقه، مثل الكهنة الذين يخدموننا في الرعايا، والرهبان والراهبات.

ثالثًا: الرجل والمرأة أمام الله

وكانت المرأة في خدمة الرجل. وما زالت كذلك في بعض المحيط الشرقي. وأعتبرها الغرب حتى القرن الثاني عشر جسدًا بلا نفس. ورأى اليهودي فيها شخصًا قاصرًا لا يُطلب منه الكثير. هي ليست مثل الرجل الذي يمكن أن يكون له عدد من النساء في خدمته، في خدمة أولاده وشهوته. هكذا كان داود مع أنه دُعيَ النبي لأنه ترك لنا بعض المزامير والصلوات. وهكذا كان سليمان »الحكيم«. وأي حكمة كانت لذلك الذي استسلم »إلى آلهة غريبة« بعد أن »أزاغت نساؤه قلبه«، فما كان »مُخلصًا للربّ إلهه« (1 مل 11:2-4).

فجاء كاتب حمل الوحي، فبدا كلامُه ثورة في ذلك الوقت. بل هو ثورة حتى الآن. المرأة ليست على مستوى الحيوان والبيتِ وسائر المُلك. كما قالت الوصايا: »لا تشته بيت قريبك. لا تشته امرأة قريبك ولا عبده ولا جاريته ولا ثوره ولا حماره« (خر 17:20). هل تقبل المرأة اليوم أن تكون كذلك؟ لهذا جاءت الصورة: »هي عظم من عظام الرجل ولحم من لحمه« (تك 2:23). هي جزء منه وهو جزء منها. أي عظم هي؟ أهي عظم من رجله لكي تكون خادمة له، راكعة عند قدميه؟ كلا. أهي عظم من رأسه بحيث تسود عليه؟ كلا. هي ضلع من أضلاعه، هي عظم أخذه الرب من عند قلب الرجل. والرجل والمرأة معًا هما صورة الله. الرجل وحده ليس صورة الله، والمرأة وحدها ليست صورة الله. خلق الله الاثنين ليكونا معًا »على صورة الله« (تك 1:27). قال: »الاثنان يكونان جسدًا واحدًا...« (تك 2:24). اتحد الرجل بامرأته، لا بنسائه. ترك أباه وأمه ليؤسِّس عائلة جديدة، وقيل للمرأة: »انسَيْ شعبك وبيت أبيك« (مز 45:11).

واستعاد يسوع كلام العهد القديم حين سألوه عن الزواج والطلاق، وكان اليهودي يطلق امرأته لكل علّة: إذا احرقت الطبخ، إذا رفضت أن تلبّي طلبه، إن هو وجد أجمل منها... في أي حال لم يتبدّل الوضع كثيرًا بالنسبه إلى عدد من المؤمنين. فجاء كلام يسوع: »ما جمعه اللّه لا يفرّقه الإنسان« (مت 19:7). »ومن فعل ذلك، كان قلبه قاسيًا« (آ 8)، فلم تدخل فيه كلمة الله، الذي قال: »أنا أكره الطلاق« (ملا 2:16). فالطلاق يدلّ على البغض وعلى العنف. الله كان الشاهد. »كل من الاثنين له جسد وروح« (آ 15). الغدر ممنوع.

الخاتمة

ما بقي الله في عليائه، بل أتى إلينا. عاش عيشنا كي يعلّمنا عيشه. عرف صراخنا وآلامنا، صعوباتنا وسهولاتنا. وعلّمنا كيف نعيش انطلاقًا من واقعنا. جاء نوره يضيء ما في قلوبنا، ما في أقوالنا وأعمالنا. وهكذا نحن، نكتشف الله، نقرأ كلام الله في حياتنا. نحن منذ الآن أبناء السماء، ونبدأ حياتنا مع الآب السماوي. بعد ذلك، لن يكون في عيشنا عملٌ تافه أو عادي. على ما قال الرسول: إن أكلتم أو شربتم أو مهما عملتم، فليكن ذلك لمجد الله. عندئذ تكون حياتنا كتابًا يقرأ فيه الناس، فنصل إلى الكتاب المقدّس الذي يحمل حياة المؤمنين ولن يزال حتى نهاية العالم.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM