مسيرة الصوم مسيرة التوبة والإيمان.

مسيرة الصوم

مسيرة التوبة والإيمان

في أحد عرس قانا الجليل ينتهي زمن الدنح والظهور، مع هذه العبارة التي يوردها إنجيل يوحنّا: »أظهر مجده فآمن به تلاميذه« (2: 11). هذا الذي رأينا وجهه في مياه الأردنّ، وحلَّ عليه الروح بشبه جسم حمامة، وناداه الآب ابنه الحبيب، رافقناه في مجده، وها نحن في زمن الصيام المبارك، الذي يبدأ يوم اثنين الرماد وينتهي يوم الجمعة السابقة لأحد الشعانين، أربعين يومًا من الصيام تنتهي بالتجارب الثلاث، كما قال لوقا: »وما أكل شيئًا في تلك الأيّام حتّى انقضت فجاع« (4: 2). حينئذٍ جاءه إبليس مجرِّبًا. وقال متّى: »بعد أن صام أربعين يومًا وأربعين ليلة، جاع، فدنا منه المجرِّب« (4: 2).

نشير هنا إلى أنَّ الصوم الأربعينيّ كان في الأصل مفصولاً عن الصوم الذي سبق عيد الفصح وما يُسمّى أسبوع الآلام. وأوَّل من جمع الاثنين كان أتناز أسقف الإسكندريّة، في القرن الرابع. جعل الصوم الأربعينيّ يمتدُّ في أسبوع الآلام استعدادًا لآلام يسوع وقيامته.

وهكذا بعد أن عرفنا أنَّ الصوم يمتدُّ على أربعين يومًا، نكتشف خمسة آحاد تتوزَّع هذه الأيّام المباركة: أحد شفاء الأبرص، أحد شفاء النازفة، أحد الابن الضالّ، أو: الابن الشاطر، أحد شفاء المخلَّع، أحد شفاء الأعمى. وكما كان أحد قانا الجليل نهاية زمن الدنح استعدادًا لاتِّضاع يسوع وصومه، كذلك سيكون أحد الشعانين في بداية أسبوع الآلام الذي ينتهي يوم الجمعة على الصليب. ويوم السبت مع نزول يسوع إلى القبور ومثوى الأموات. ماذا نكتشف في هذه الأناجيل التي نقرأها في زمن الصوم؟ نحن مرضى نحمل مرضنا إلى يسوع وهو يشفينا. نحن تائبون فننتظر يسوع الذي يستقبلنا كما يستقبل الأب أولاده. ومسيرة المرضى لا تصل إلى يسوع إلاَّ إذا كانت مسيرة إيمان. وهكذا نقول عن مسيرة التوبة التي تفتحنا في النهاية على الرجاء.

1- مسيرة المرضى

حين نقرأ الأناجيل نكتشف العدد الكبير من الأشفية التي أجراها يسوع خلال حياته على الأرض. وقد ربطها يسوع في كلامه إلى يوحنّا المعمدان، بالأزمنة المسيحانيَّة. تساءل يوحنّا: هل يسوع هو المسيح؟ فجاءه الجواب في خطِّ أشعيا النبيّ: العميان يبصرون، العرج يمشون، البرص يُطهَّرون، الصمُّ يسمعون، الموتى يقومون (35: 5-6؛ 61: 1؛ رج مت 11:15). أجل، إنَّ زمن الصوم الذي يحدِّثنا عن قدرة يسوع تجاه المرضى، يرفع أنظارنا إلى العيد الكبير، عيد القيامة، حيث نرجو، كما يقول سفر الرؤيا، أن يزول الموت والحزن والصراخ والوجع.

المعجزة الأولى التي نقرأها هي شفاء الأبرص. هذا الإنسان الذي عُزل عن المجتمع، ذهب إليه يسوع في البرِّيَّة. هو ما جاء من أجل الأصحّاء، بل من أجل المرضى. وبرزت قدرةُ يسوع بكلمة تفوَّه بها: قال له الأبرص: »إن أردت طهَّرتني«. فجاء الجواب: »أريد، فاطهر« (مر 2: 40-41). كلمة الله فاعلة مذ قالت للنور: كن، فكان النور. ويسوع الذي هو ابن الله، قال كلمة فطهر الأبرص في الحالّ. ونلاحظ في هذا الشفاء لمسة الحنان لدى يسوع. هو ما خاف أن ينجِّسه الأبرص، بل هو يطهِّر الأبرص فيعود جسمه كجسم طفل. اعتاد الآباء أن يشبِّهوا البرص بالخطيئة، بل أنَّ الخطيئة أكثر شرٍّ من البرص. فالبرص يرافقنا في هذه الحياة. أمّا الخطيئة، ففي هذه الحياة وفي الأخرى، بعد أن نبَّهنا يسوع إلى ما يقتل الجسد والنفس.

في المعجزة الثانية، مريضة من نوع آخر. هي نجسة، شأنها شأن الأبرص. لم تنتظر أن يلمسها يسوع، فلمسته هي. ولكنَّها لم تجرؤ. اكتفت بأن تلمس طرف ثوبه. فشُفيت حالاً من مرضها. ونلاحظ هنا أنَّ الكنيسة لم تقرأ إقامة ابنة يائير من الموت، مع أنَّ المعجزتين متداخلتين (لو 8: 40-48). فالحديث عن القيامة يقع خارج الصوم، مع إقامة لعازر كنظرة مسبقة إلى قيامة يسوع.

دنا الأبرص من يسوع، وكذلك فعلت النازفة، ونحن في الصيام المبارك نحمل مرضنا ومرضانا إلى يسوع. يمكن أن تتمَّ المعجزة أو لا تتمّ. ولكن في أيِّ حال، هناك لمسة يسوع التي تحوِّل الألم إلى فرح، والمرض إلى مناسبة فيه يكتمل في جسدنا ما ينقص من آلام المسيح من أجل جسده الذي هو الكنيسة.

2- مسيرة التوبة

يقع خبر الابن الضال بين معجزتين في البداية. هما تطهير الأبرص وشفاء المنزوفة، ومعجزتين في النهاية، هما شفاء المخلَّع وشفاء الأعمى. وهكذا يكون هذا الأحد ذروة في زمن الصوم المبارك. فيسوع الذي جاء من أجل المرضى، جاء أيضًا من أجل الخطأة. بل هو يفرح بعودة »خاطئ واحد يتوب أكثر من الفرح بتسعة وتسعين من الأبرار لا يحتاجون إلى التوبة« (لو 25: 7).

ابنٌ شطر مال أبيه. وشطر قلب من أحبَّه وما زال يحبُّه حتّى في أعماق ضلاله وخطيئته. ابتعد الابن فرافقه الأب »من بعيد« (آ20). ولمّا عاد، تحرَّكت أحشاؤه كأمٍّ على ولدها المريض، فعانقه وقبَّله. حسب الابنُ أنَّه سيكون أجيرًا بين الأجراء. ولكنَّه الابن ويبقى الابن. فالربُّ لا يدعونا عبيدًا، بل يُدخلنا إلى سرِّه ويحاول أن يعوِّض ما فاتنا من نعمة حين ابتعدنا عنه. فالابن الذي ظلَّ بقرب أبيه تمنّى أن يُعطى جديًا يتنعَّم به مع أصدقائه. أمّا الذي عاد »بعدما أكل مال (الأب) مع البغايا« (آ30)، فقد ذُبح له العجل المسمَّن، وهو المحفوظ للاحتفالات الكبرى. هكذا يستقبل الله الخطأة.

عاد الابن تائبًا إلى أبيه. وكلُّ مؤمن يستطيع أن يعود إن هو شاء. قد يتساءل عن نوعيَّة ندامته. نجيب أنَّ ندامة الابن الضالّ لم تكن كاملة. ولكنَّ الأب كمَّلها حين غمر الابن بحنانه ومحبَّته. وهكذا هو يفعل معنا. وإن عدنا فسقطنا، نقوم حالاً مستندين إلى قدرة الله التي لا تسمح بأن نجرَّب فوق طاقتنا.

3- مسيرة الإيمان

وكانت مسيرة توبة أخرى عاشها المخلَّع (مر 2: 1-2). جاء يحمل مرضه. بل حمله إخوته بإيمانهم. فبادره يسوع بكلام الغفران: مغفورة لك خطاياك (آ5). وبعد المغفرة، كان الشفاء: »قم واحمل فراشك واذهب إلى بيتك« (آ12). المعجزة الأمّ هي تلك التي لا تُرى. فالله وحده يغفر الخطايا (آ7). والمعجزة الثانية هي دلالة خارجيَّة على صدق المعجزة الداخليَّة. نحن لا نستطيع أن نرى بعيوننا تبدُّل الإنسان من الخطيئة إلى النعمة! وقد يكون يسوع »يجدِّف« (لا سمح الله) كما قال خصومه. ولكنَّ شفاء المخلَّع أسكت المعارضين. فتعجَّبوا كلُّهم ومجَّدوا الله (آ12).

ما الذي دفع الأربعة إلى حمل هذا المخلَّع؟ ولماذا تعبوا فنقبوا السقف ودلُّوا المخلَّع فصار أمام يسوع؟ هو الإيمان. »رأى يسوع إيمانهم«. أجل، بهذه الطريقة عبَّروا عن إيمانهم، فتحدُّوا الصعاب: المرض، ربَّما بُعد المسافة، الجموع التي تزحم يسوع وكأنَّها تريد أن تحجبه عن عيون المحتاجين، والفرّيسيُّون الذين جاءوا لكي يهاجموا يسوع ويمنعوا الناس من الاقتراب منه، إذا استطاعوا. ولكن لا شيء يقف في طريق المؤمن، على ما قال يسوع لوالد الولد »المصروع«: »آمن فقط«.

سمعوا نداء داخليٌّا، فلبُّوا هذا النداء. سمعوا عن يسوع، فحملوا إليه مريضهم. وما نقوله عن شفاء المخلَّع نقوله عن شفاء الأعمى. الإيمان هو الذي جعله يصرخ. الصعوبات عديدة، ولاسيّما الجموع التي تريد أن تسكته (مر 10: 48). وما اكتفى بأن يدعو يسوع باسمه البشريّ، بل أضاف: يا ابن داود. يعني: أنت المسيح. وبما أنَّ المسيح جاء يفتح عيون العميان، فهذا الأعمى كلُّه انتظار. قال يسوع: ماذا تريد. أجاب: أن أبصر... وما إن أبصر حتّى تبع يسوع في الطريق الذي يقود في النهاية إلى أورشليم حيث تتمُّ آلام يسوع وموته بانتظار قيامته. وما الذي جعل يسوع يوقف الجموع الغفيرة، الصاعدة إلى العيد، وينادي ذاك الأعمى؟ الإيمان الذي هو استسلام تامٌّ لله، واتِّكال عليه. لهذا قال له يسوع: »إيمانك شفاك، خلَّصك، أحياك«.

الخاتمة

تلك هي مسيرتنا في هذا الصيام المبارك: نحن مرضى نذهب إلى من اعتاد أن يستقبل المرضى ولا يرفض أحدًا منهم. بل ذهب إليهم إن هم لم يستطيعوا أن يأتوا إليه. نحن خطأة. فإن قلنا إنَّنا بلا خطيئة كنّا كذّابين. أمّا إن اعترفنا بخطيئتنا فهو »يغفر لنا خطايانا ويطهِّرنا من كلِّ شرّ« (1يو 1: 19). وحين نعود إليه، نجد أبًا يقبِّلنا ويعانقنا كما تعانق الأمُّ ابنها العائد من البعيد. نجد أنَّ كلَّ هذه المسيرة تحتاج إلى الإيمان. نسير وإن كنّا عميانًا، لأنَّ نور المسيح هو هنا. فالأعمى قفز آتيًا إلى يسوع. ومشى في الطريق، ولمّا مشى رأى. ونحن نتابع المسيرة في الاستعداد لأسبوع الآلام وعيد القيامة. ونحن متأكِّدون أنَّ رفقتنا مع يسوع على مستوى الصلاة والصوم والصدقة، لا يمكن إلاَّ أن توصلنا إلى الصليب الذي يُضيء كلَّ حياتنا وأعمالنا بنور القيامة.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM