أبوّة الله.

 

أبوّة الله

المقدِّمة

اعتادت شعوب الشرق أن تسمِّي الإله الذي تعبده »الأب«. أمّا العهد القديم فبدأ متحفِّظًا بسبب النظر إلى عائلة يكون فيها الإله الذكر، والإلاهة الأنثى، والابن يكون الثالث. مثلاً، في مصر أوزيس وأوزيريس وحورس. لهذا السبب تأخَّر العبرانيّون في تطبيق صفة »الأب« على الله. وسوف ننتظر القرن الرابع قبل المسيح لكي نقرأ أوَّل نصّ في هذا المعنى، يعود إلى سفر التثنية: »أيُّها الشعب الأحمق الجاهل، أبهذا تعترف بجميل الربّ؟ أما هو أبوك الذي خلقك، الذي أبدعك وكوَّنك« (32: 6).

1- أبوَّة الله والاختيار

هنا تبدو أبوَّة الله مرتبطة ارتباطًا واضحًا، باختيار شعب إسرائيل وتكوينه كشعب في حقبة ماضية من التاريخ المقدَّس. أمّا في سفر إرميا (31: 9)، فهذه الأبوَّة تبدو بشكل وعد من أجل الأزمنة الأخيرة، وذلك حين يجمع الله شعبه من أربعة أقطار الأرض ليعيده إلى بيته. »مضوا وهم يبكون، فأقودهم وأعزِّيهم. أقودهم إلى مجاري المياه في طريق قويم فلا يعثرون. فأنا أب لإسرائيل وأفرائيم بكرٌ لي«.

الله أب في الماضي. وهو أب في المستقبل. بل هو أب الآن، في الزمن الحاضر. نحن نقرأ في سفر إرميا رثاء مؤلمًا يطلقه النبيّ الذي يتكلَّم باسم الله، حول خطايا اقترفها شعبه: »وأنا الذي قلت: كم أودُّ أن أحسبك ابنًا لي فأعطيك الأرض الطيِّبة ملكًا ولا أجمل بين الأمم! ظننت أنَّك تدعوني »أبي« فلا تنفصل عنّي. ولكن كما تغدر المرأة الخائنة بزوجها، هكذا غدرت بي أمَّة إسرائيل« (3: 19-20).

هذه الكلمات تعطينا تعليمًا ثمينًا حول الطريقة التي بها سمّى شعب إسرائيل الله كأب. ترك الأسطورة كما في الشعوب المجاورة، وتوقَّف على المستوى الدينيّ والخلقيّ. استند إلى الاقتداء بالله، كما يقتدي الابن بأبيه، وإلى الأمانة لعهده المقدَّس. وهذه العلاقة بين الشعب والله كما بين الابن وأبيه، تحرِّك في القلوب أملاً بميراث يتَّخذ في الإعلانات النبويّة، طابعًا يربطه بعالم الآخرة.

2- أبوَّةُ الله في الصلاة والعبادة

ونشهد لقب الأب في شعائر العبادة المقدَّمة لله. فالنبيّ ملاخي يعود إلى اسم الله ليوبِّخ الكهنة الذين نسوا واجباتهم، ويذكِّرهم بخطاياهم. قال: »قال الربّ القدير: الابن يكرِّم أباه، والعبد يهاب سيِّده. فإن كنت أبًا، فأين كرامتي؛ وإن كنت أنا سيِّدًا، فأين مهابتي« (1: 6). نلاحظ تلاحق لقبين: لقب الأب ولقب الابن. كما نلاحظ تشديدًا على واجبات الابن تجاه أبيه. وسيعود النبيّ نفسه إلى مفهوم الأبوَّة ليحدِّث المؤمنين عن سرِّ الزواج المقدَّس، وعن الأمانة الزوجيّة. »أما لنا كلِّنا أبٌ واحد؛ أما إله واحد خلقنا؛ فلماذا يغدر الواحد بالآخر؟« (2: 10).

أمّا أوَّل مرَّة ينادي فيها المؤمنون الله »أبًا«، فنجدها في سفر أشعيا، في قسمه الثالث، بل نحن لسنا أمام نداء مباشر، بقدر ما نحن أمام اعتراف إيمانيّ. هنا يقابل النصُّ بين أبوَّة الله تجاه الشعب، وأبوَّة إبراهيم: »هل منعت عنّي لهفة قلبك ومراحمك لي. أنت يا ربُّ أب لنا. فإبراهيم لا يعرفنا. ويعقوب لا يعود يذكرنا. فأنت يا ربّ أب لنا، وفادينا، وهذا اسمك منذ الأزل« (63: 15-16). ونقرأ في 64: 7-8: »والآن يا ربّ أنت أبٌ لنا، نحن طين وأنت جابلنا. نحن جميعنا من صنع يدك. لا تغضب يا ربّ كلَّ الغضب، ولا تذكر إثمنا إلى الأبد«.

بعد الكارثة التي حلَّت بالوطن، علم الشعب أنَّ الثقة التي استخلصها من كونه »ابنًا« لإبراهيم بدت عابرة وسريعة العطب. فلا يبقى له أمل سوى في رحمة الله الأبويّة.

3- الله أب يربّي أولاده

في الأصل، كان الملك ابن الله. وسوف تتوسَّع هذه الصفةُ فتشمل الشعب كلَّه. وكما يربّي الأب ابنه، هكذا يربّي الله مَلكه، ثمَّ شعبه، نذكر هنا نبوءة ناتان للملك داود. تكلَّم بفم الله فقال: »أكون له أبًا ويكون لي ابنًا. إن اقترف الاثم أؤدِّبه بعصا يستعملها البشر وبضربات يضرب بها الناس أبناءهم« (2صم 7: 14). وما فعله الله مع مَلكه، سيفعله مع شعبه: »فاعلم أنَّ الربَّ إلهك أدَّبك كما يؤدِّب الأب ابنه. فاعمل بوصايا الربِّ إلهك وسرْ في طرقه« (تث 8: 5-6).

ونقرأ بشكل خاصّ الصورة الأبويّة لنبوءة هوشع. صورة يظهر الله فيها كالأب والأمِّ معًا. يأتي النصُّ في إطار من التوبيخ للذي لم يعرف جميل الله تجاه كلِّ الخير الذي ناله من جوده. قال النبيّ بلسان الربّ: »يوم كان إسرائيل فتى أحببته، ومن مصر دعوت ابني (هو ابني ومن هناك دعوته). ولكن كلَّما دعوته هرب من وجهي... وأنا الذي علَّمه المشي وحمله على ذراعه... جذبتهم إليَّ بحبال الرحمة (ترتبط الرحمة برحم الأمّ) وروابط المحبّة. وكنت له كأب يرفع طفلاً على ذراعه ويحنو عليه ويطعمه« (11: 1-4).

هذا النصّ لا يحتاج إلى تعليق بسبب عمق العاطفة التي فيه، هو يعود بنا إلى بيت من بيوتنا وُلد فيه ولد بكر. هو الأوَّل. ونحن نتخيَّل عناية الأب والأمِّ به. هو الوحيد. والله يهتمُّ بشعبه وكأنَّ لا شعب غيره فيجتذبه إليه »بحبال الرحمة وروابط المحبَّة«. والله يهتمُّ بكلِّ فرد من أفراد شعبه، يهتمُّ بكلِّ واحد منّا فيعلِّمنا كيف نمشي، كيف نسلك في طريق وصاياه. يحنو علينا ويطعمنا كما تطعم الأمُّ ابنها.

الخاتمة

ذاك هو وجه الله الآب في العهد القديم. هو الذي اختار شعبه في الماضي. ويختار كنيسته اليوم. ويختار كلَّ واحد منّا. هو الذي ندعوه في الصلاة الربّيّة ونصل إلى هذه اللفظة الرائعة التي قالها يسوع وعلَّمنا إيّاها الروح »أبّا، أيُّها الآب«. وهذا الأب هو أمٌّ أيضًا. هو يعتني بنا في كلِّ ظروف حياتنا، ويؤدِّبنا إذا لزم الأمر على ما نقرأ في سفر الأمثال: »فمن يحبُّه الربُّ يوبِّخه، يرضى به كأب بابنه« (3: 12). وهكذا هيَّأتنا أسفار العهد القديم للتعرُّف إلى من هو الله الآب في إطار الثالوث، إلى من هو الآب المتَّحد بالابن والروح القدس.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM