السلام للبيعة ولبنيها.

 

السلام للبيعة ولبنيها

»السلام للبيعة ولبنيها« بهذه الكلمات يبدأ المحتفل القدّاس، أو صلاة الفرض، في الأعياد الكبيرة، كما في زمنَي الدنح والقيامة. لا يقول: إلى بيتك دخلت، بل يبادر الجماعة حالاً بالبركة. فلفظ السلام لا يعني فقط عدم الحرب والقتال، بل ملء بركة اللّه التي تحلّ على الجماعة المصلّية. وأيّ بركة تساوي ما سوف نناله في هذا القدّاس (أو الصلاة) من عيش بين الإخوة: ما أَلذّ وما أطيب أن يكون الإخوة معًا. وأيّ بركة تساوي ما يعطينا الآب: ابنه. أعطانا إيّاه، فأعطانا فيه كلَّ شيء. وما ترك شيئًا له. هكذا أحبَّ اللّه العالم، حتّى أنّه أرسل ابنه الوحيد.

وينتهي القدّاس بالسلام. إذهبوا بالسلام. فملء البركات التي نالها المؤمنون في هذا الاحتفال، يحملونه لهم ولعيالهم ولكلّ مَن يلتقون بهم. إن فرحوا يفرحون معهم. وإن حزنوا يحزنون معهم. وإن وجدوا جريحًا انحنوا عليه كما فعل السامريّ الصالح.

والبركة، في العربيّة، ترتبط بالركوع والسجود. نتلوها بشكلّ خاصّ بعد كلام التقديس. فيبرز كامل معناها. لأنّها تعني التسبيح والتمجيد والشكر. لهذا كان جواب المؤمنين بعد كلام التقديس: »إيّاكَ نسبِّح، إيّاكَ نمجِّد، إيّاك نبارك، لكَ نسجد، بك نعترف ومنك نطلب«. حين نبارك الربّ ندلّ على شكرنا، وفي الوقت عينه نشير إلى طلبنا نحن الأبناء منذ الآن، بانتظار أن نقول له: أَعطِنا خبزنا كفاف يومنا.

في بداية القدّاس، يرفع الكاهن يده ويبارك الجماعة. وكذلك في النهاية. فيقول: »بركة ربّنا يسوع تنزل من السماء وتحلّ عليكم«. ويقول أيضًا: »إذهبوا بسلام... مع الزاد والبركات التي نلتموها من مذبح الربّ الغافر«. في بداية النافور وبعد عطيّة السلام، ينال المؤمنون البركة من يد الكاهن: »محبّة اللّه الآب، ونعمة الابن الوحيد، وشركة الروح القدس مع جميعكم يا إخوتي إلى الأبد«. هي بركة ثالوثيّة اتّخذتها الليتورجيّات من نهاية رسالة بولس الثانية إلى أهل كورنثس (13: 13): »ولتكن نعمة ربّنا يسوع المسيح ومحبّة اللّه وشركة الروح«. وهذه البركة تتلاقى في نهاية طلب الغفران والندامة. فيعلن الكاهن قبل أن يرفع الأقداس من خبز وخمر، من جسد ودم، فينظر إليها الحاضرون بعين الجسد (لا يحنون الرأس وكأنّهم خائفون أن ينظروا إليها) وخصوصًا بعين الإيمان: »نعمة الثالوث الأقدس معكم«. ويسبق هذه البركة رفع يد الكاهن اليمنى، ساعة توضع اليسرى على القرابين. فيطلب من الربّ أن ينظر إلى عباده الذين أَحنوا رؤوسهم: »أرسل إلينا بركاتك« (نافور مار يعقوب). »بارك أيّها الربّ الإله عبادك الساجدين لك« (نافور مار بطرس). »بارك يا ربّ شعبك المؤمن« (نافور الاثني عشر). لقد نال المؤمنون بركة وعطاء حين غُفرت خطاياهم بعد أن أَحنوا رؤوسهم طالبين المغفرة عن خطاياهم. وسينالون بركة البركات حين تعطى الأقداس، الأسرار المقدّسة، للقدّيسين. أي للمؤمنين كما سمّاهم بولس في رسالته إلى روما: »أحبّاء اللّه، المدعوّين ليكونوا قدّيسين« (روم 1: 7). ويواصل الرسول ما نقوله في القدّاس: »عليكم النعمة والسلام من اللّه أَبينا ومن ربّنا يسوع المسيح«.

ذاك هو موضوع البركة كما نكتشفه في الليتورجيا، ولا سيّما في القدّاس الإلهيّ الذي هو عشاء الربّ معنا، كما كان مع تلميذَي عمّاوس. فعرفاه عند كسر الخبز. فماذا يقول الكتاب المقدّس؟

1 ـ يبارككم الربّ

في نهاية الذبيحة، طلب الربّ من الكهنة أن يباركوا الجماعة المصلّية والمشارِكة: »يبارككم الربّ ويحفظكم، يضيء الربّ بوجهه عليكم ويرحمكم، يرفع الربّ وجهه نحوكم ويمنحكم السلام« (عد 6: 24 ـ 26). هكذا تباركون. فالبركة تأتي من الربّ، ويحملها الكاهن إلى المؤمنين. والانفتاح على هذه البركة يكون بعد عطيّة السلام والمصالحة بين الإخوة.

وَجب على زكريا، والد يوحنّا المعمدان، أن يعطي مثل هذه البركة للمؤمنين، »للجموع التي كانت تنتظر زكريّا وتتعجّب من إبطائه في الهيكل. فلمّا خرج، كان لا يقدر أن يكلّمهم« (لو 1: 21 ـ 22). ما استطاع أن يعطي البركة. وفي أيّ حال، منذ الآن لا بركة إلاّ باسم يسوع المسيح، الذي باسمه وحده تخلص البشريّة. والرسول حين ينطلق، فهو ينطلق »بملء بركة المسيح« (روم 15: 29). وحين ننشد كما في بداية الرسالة إلى أفسس: »تبارك اللّه أبو ربّنا يسوع المسيح«. نؤكّد أنّ اللّه »باركنا في المسيح كل بركة روحيّة في السماوات« (أف 1: 3). وكيف توزّعت بركته هذه؟ إختارنا من قبل إنشاء العالم. أرادنا قدّيسين بلا لوم في المحبّة. تبنّانا، افتدانا، منحنا ملء الغفران. فماذا بقي لنا أن نفعل؟ أن ننشد مجده ثلاث مرّات. ننشد مجد الآب (آ 6) على ما أَنعم به علينا في ابنه. ننشد مجد الابن (آ 12) الذي هو ملء رجائنا. ننشد مجد الروح (آ 14) الذي هو عربون ميراثنا.

بدأت بركة اللّه ببداية البشريّة، بدأت بظهور الحياة. فحين خلق اللّه الطيور الصغيرة والحيتان الكبيرة، رأى أنها حسنة وتحمل طيبة الربّ »باركها وقال لها: إنمي واكثري واملأي الأرض« (تك 1: 22). والبركة الكبيرة كانت للإنسان الذي هو حسن جدٌّا، الذي يعبِّر أفضل تعبير عن طيبة اللّه. والسبب: لأنّه خُلق على صورة اللّه ومثاله. »باركهم (البشر) اللّه وقال لهم: إنموا واكثروا واملأوا الأرض« (تك 1: 28). والبركة الثالثة، في نشيد الخلق (تك 1: 1 ـ 2: 4)، كانت ليوم الراحة الأسبوعيّ. فالأيّام الستة من العمل تبقى ناقصة ولا تكتمل إلاّ في اليوم السابع، يوم الربّ: »وبارك اللّه اليوم السابع وقدّسه«. كرّسه ليكون له، بحيث لا يحقّ للإنسان أن يتصرّف به كما يشاء. أو يغفله في ممارسته. لذلك تكون الرسالة إلى العبرانيّين قاسية على هؤلاء الذين يتركون الاجتماع الأسبوعيّ: يخسرون البركة.

وما توقّفت بركة اللّه مع الخطيئة. فصورة اللّه باقية في الإنسان، وإن غطّاها الوحل والطين لفترة معيّنة. لهذا يقول الكتاب، بعد أن خطئ قايين أيضًا حين قتل أخاه: »ذكر وأُنثى خلق الإنسان وباركه« (تك 5: 2) وامتدّت البركات آلاف السنين في نسل آدم وثبتت... ووصلت إلى نوح. بعد ذاك الطوفان الرهيب: »وبارك اللّه نوحًا وبنيه وقال لهم: »إنموا واكثروا واملأوا الأرض« (تك 9: 1). والنتيجة: كلّ ما على الأرض هو للإنسان، من نبات وحيوان. ونضيف مع بولس الرسول: كلّ شيء لكم، شرط أن تكونوا أنتم للمسيح.

2 ـ باركي يا نفسي الربّ

يا نفسي، أي أنا بكلّ ما أملك من قوى روحيّة وجسديّة، مدعوّ لأن أُبارك الربّ. »باركي يا نفسي الربّ، ويا كلّ أحشائي اسمه القدّوس. باركي يا نفسي الربّ، ولا تنسي جميع حسناته. يغفر جميع ذنوبي، ويشفي جميع أمراضي، يفتدي من الهوّة حياتي، وبالرحمة والرأفة يكلّلني. يُشبع بالطيبات جوعي، يجدّد كالنسر شبابي« (مز 103: 1 ـ 5).

أُبارك الربّ. أَشكره. ويرى المؤمن ضعفه، فيدعو مَن يشاركه: »باركوا الربّ يا ملائكته، أيّها المقتدرون المطيعون أمره عند سماع صوت كلامه. باركوا الربّ يا جميع جنده، يا خدّامه العاملين ما يرضيه« (آ 20 ـ 21). وما اكتفى المؤمن بمزمور واحد، بل مدّ كلامه في مز 104: 1: »باركي يا نفسي الربّ. أيّها الربّ إلهي ما أعظمك«.

نشير هنا، إلى أنّ الفعل »بارك« يرد 462 مرّة في الكتاب المقدّس، والاسم »بركة« 108 مرّات. أجل، الكتاب هو ما يحمل إلى البشر البركة (تك 12: 1 ـ 3). من أجل هذا، تبدأ مسيرة الإيمان مع إبراهيم في بركات خمس، والعدد خمسة رقم القداسة لأنّه يجمع اللّه مع الكون بأقطاره الأربعة. »أُباركك«. »تكون بركة«. »أُبارك«. »مَن يباركك«. »ويتبارك«. لُعن الإنسان مرّة أُولى بسبب الأرض التي أقام عليها. أي، غابت البركة عن آدم مع الشوك والعوسج (تك 3: 18) وعن قايين الذي لن يعرف الخصب في حقله (تك 4: 12). وها هي الآن البركة تعود. لا على إبراهيم فقط، بل على سارة امرأته التي تأثّرت في لعنة الحيَّة فعرفت التعب والأوجاع والانقياد إلى الأهواء (تك 3: 16). »أمّا سارة امرأتك... فأنا أُباركها وأُعطيك منها ابنًا. أُباركها فيكون منها أُمم وشعوب« (تك 17: 15 ـ 16).

وقمّة البركة كانت مع يسوع. فقدّمت للبرص طهرًا، وللمرضى شفاء، وللخطأة غفرانًا، وللموتى قيامة. بل وللجائعين شبعًا. ففي تكثير الأرغفة، يقول لنا الإنجيل إنّ الجموع كبيرة والمكان قفر. فماذا يأكل هؤلاء كلّه؟ أَتكفي خمسة أرغفة وسمكتان؟ عندئذٍ »أخذ يسوع الأرغفة الخمسة والسمكتين، ورفع عينيه نحو السماء، وبارك وكسر وناول تلاميذه ليوزّعوها على الناس« (مر 6: 41). ذاك كان الطعام الماديّ، والخبز اليوميّ الذي يحتاج إليه الإنسان. وقدّم يسوع أيضًا طعامًا آخر: »الخبز الحيّ الذي نزل من السماء« (يو 6: 51). والذي قال لنا فيه يسوع: »مَن يأكل جسدي ويشرب دمي، له الحياة الأبديّة« (آ 54). لأنّ »جسدي هو القوت الحقيقيّ، ودمي هو الشراب الحقيقيّ« (آ 55). أين تمّ كلّ هذا؟ في عشاءالربّ الأخير، ليلة آلامه. »أخذ خبزًا، وبارك. وكسره وناول تلاميذه وقال: خذوا كُلوا هذا هو جسدي« (مت 26: 26). وأخذ يسوع الكأس فصارت »كأس البركة التي نباركها فنتشارك في دم المسيح« (1 كور 10: 16). والجسد الذي نباركه »هو مشاركة في جسد المسيح«. ويتابع الرسول: »فنحن على كثرتنا جسد واحد لأنّ هناك خبزًا واحدًا. ونحن كلّنا نشترك في هذا الخبز الواحد« (آ 17). مَن يجسر أن يشارك كأسًا أخرى مع كأس الربّ؟ مَن يتجرّأ أن يتبارك في مائدة أُخرى؟ لهذا قال الرسول في معرض كلامه عن الذين يشاركون أيضًا في ذبائح الأوثان: »لا تقدرون أن تشربوا كأس الربّ وكأس الشياطين، ولا أن تشتركوا في مائدة الربّ ومائدة الشياطين« (آ 21). عندئذٍ لا ننال البركة. بل تبتعد البركة وينال منّا المرض والضعف (1 كور 11: 29). وفي النهاية يحكم الربّ علينا (آ 34) لأنّنا كنّا السبب »فاستهان الناس باسم اللّه بين الأُمم« (روم 2: 24).

3 ـ باركوا ولا تلعنوا

نحن نبارك اللّه. ونحن نبارك البشر. نطلب من اللّه أن يرسل بركاته على الجميع، كما يرسلها علينا. أن تطال الخطأة والأبرار. »يُطلع شمسه على الأشرار والصالحين، ويرسل مطره على الأبرار والظالمين« (مت 5: 45). ويطلب منّا أن نحمل إلى إخوتنا البركة التي نلناها »من مذبح الربّ الغافر«. نحن نبارك مَن يباركنا. هذا ما نقرأه في سفر راعوت. جاء بوعز وقال للحصّادين: »الربّ معكم«. فقالوا له: »يباركك الربّ« (را 2: 4). وسيقول بوعز لراعوت: »باركك الربّ يا ابنتي« (را 3: 10). فردّت نعمة، حماة راعوت: »مبارك هو مَن نظر إليك بعين العطف« (را 2: 19). ثمّ أعادت كلّ شيء إلى الربّ: »مبارك هو من الربّ، الذي لا يمنع رحمته عن الأحياء والأموات« (آ 20).

ولا نكتفي بأن نبارك فقط مَن يباركنا. فلا يحقّ لنا أن نحتفظ لنفوسنا بما نلناه من عند اللّه. لهذا قال لنا يسوع: »باركوا لاعنيكم« (لو 6: 27). وواصل كلامه: »صلّوا لأجل المسيئين إليكم«. لا مجال لبغض الأعداء في المسيحيّة. لا مجال لمعاملة مبغضينا بالسيّئات. فالمؤمن لا يردّ على الشرّ بالشرّ، بل »يعمل الخير مع جميع الناس« (روم 12: 17). والمؤمن لا يلعن. فالرسول قال لنا »باركوا مضطهديكم. باركوا ولا تلعنوا« (آ 14). فإن لعنّا وتمنّينا الشرّ، وشمتنا بمَن أصابته مصيبة، نكون من أهل هذا الدهر، والمطلوب منّا أن نقتدي »باللّه كأبناء أحبّاء« (أف 5: 1). وفي أيّ حال، ماذا تنفع اللعنة سوى أن تدلّ على ما في قلبنا من شرّ وحسد ونقمة وغضب. في هذا يقول مز 109: 28: »هم يلعنون وأنت تبارك«. لا مكان للعنة في مخطّط اللّه. فالإنسان مبارك منذ البدء، ويظلّ مباركًا. أَتُرى اللّه يتراجع؟ إذا كان اسحق لم يتراجع حين حمل إلى يعقوب بركة، فكيف يتراجع ربّ البركات عمّا وهبه للإنسان، أي إنسان؟ قال لعيسو: »باركته. نعم، باركته ومباركًا يكون« (تك 27: 33).

هنا نتذكّر ما قاله الربّ لإبراهيم: أُبارك مَن يباركك. هم كثيرون. أمّا اللاّعنون، أمّا الطالبون الشرّ فلا يكونون كثيرين. لاعنك يكون واحدًا. هذا إذا وُجد. لأنّ الإنسان »يستحقّ« البركة إن عاش في بركة اللّه. ذاك كان وضع اسحق في جرار. في البداية، أَبغضوه، صرفوه من عندهم. ولكن حين رأوا أنّ الربّ معه (تك 26: 28)، لجأوا إليه وقالوا: »أنت الآن مبارك من الربّ« (آ 29). ونال إبراهيم بركة من ملكيصادق. بعد أن »قهر« الأعداء بإيمانه، لا بسلاحه، بعون الربّ له. لا بكثرة الجنود. قال له الكاهن: »مبارك إبرام من اللّه العلي، خالق السماوات والأرض. وتبارك اللّه العلي الذي أسلم »معاديك« إلى يدك« (تك 14: 19 ـ 20).

الخاتمة

خلال القدّاس، يُعطى المؤمنون بركة بالإنجيل. هي بركة الكلمة. وبركة بالخبز والخمر. هي بركة القربان. أخذنا الكلمة، ابتلعناها كما قيل عن حزقيال وعن الرائي في سفر الرؤيا. فيا ليتنا نصبح، بدورنا، بركة للذين نلتقي بهم. وأَكلنا الجسد وشربنا الدم، فيا ليتنا نتحوّل كما تحوّل هذا الخبز بفعل الروح فصار جسد المسيح، وهذه الخمر فصارت دم المسيح. حينئذٍ تنطلق البركة التي تقبّلناها من عند الربّ. فتصل إلى حياتنا وعيالنا، بل هي تصل بواسطة المؤمنين في العالم إلى أقاصي الأرض.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM