المسيح الملك الآتي في نبوءة أشعيا.

 

المسيح

الملك الآتي

في نبوءة أشعيا

حين نقرأ إنجيل لوقا في خبر الميلاد، حول الإحصاء الذي سيقوم به أوغسطس قيصر في مملكته، نرى أنَّه ذكر »المسكونة كلَّها«. ولكنَّ القيصر هو إمبراطور مناطق تحيط بالبحر المتوسِّط. وما تعدَّت مملكته الفرات شرقًا ولا الدانوب غربًا. ولوقا لم يُخطئ في كلامه. فهو يعرف أنَّ هؤلاء الحكّام من أوغسطس في رومة، وكيرينيوس في ولاية سورية، محدودين في الزمان والمكان.

وحده هذا الطفل المولود في بيت لحم، والموضوع في القمط، يتعدّى الزمان، لأنَّه إبن الآب قبل الدهور. والمكان لا يسعه. فهو حقٌّا ملك »جميع المسكونة«. بل هو السيِّد في السماء والأرض، بعد أن خلق »كلَّ ما يُرى وما لا يُرى«. هذا الملك الذي يحمل السلام، انتظره العالم الرومانيّ دون أن يعرف، هذا الملك الذي يحمل الخلاص فانتظره العالم اليهوديّ، هو يسوع المسيح الذي هيَّأه الكتاب المقدَّس دون أن يعرف اسمه، قرأ فيه الملك المسيح، والملك الذي يأتي لكي يدشِّن ملكوت السماوات.

ونحن نقرأ أشعيا الذي سُمِّي »الإنجيل الخامس« لأنَّ كلامه هيَّأ الطريق، فاستقى منه متّى بشكل خاصّ، وسائر كتّاب العهد الجديد بشكل عامّ. كيف تطلَّع هذا النبيّ إلى الملك الآتي الذي رأينا فيه نحن يسوع المسيح؟ جاءت دعوته في إطار ملكيّ: رأى السيِّدُ جالسًا على عرشٍ عالٍ رفيع. وتوضَّحت رسالته على ضوء ما رأه من ملوك فاشلين، فنفض يديه من خلاص يحمله ملك أرضيّ. عندئذٍ تطلَّع إلى ذلك الذي يُولد من عذراء، إلى ولد يُولد لنا، »يقضي للفقراء بالعدل، ويُنصف المساكين بكلام كالعصا«.

1- رأيتُ السيِّد الربّ (6: 1-13)

هكذا يبدأ أشعيا فيخبر كيف أنَّ الله دعاه ساعة كان يصلّي في الهيكل. تخيَّله ملكًا، لا كالملوك. فهو فوق جميع الملوك. هم يجلسون على عرش عال. أمّا هو فعرشه عال، رفيع. يجب أن يسجد الملوك لموطئ قدميه. هو جالس، والجميع حوله وقوف إجلالاً واحترامًا. حرسُه من السرافيم أي الكائنات الناريّة. فالربُّ نار آكلة. وحرسه يكونون كذلك. من »فوقه«. يعني يغطّونه بحيث لا يراه إنسان. فقد كانوا يعرفون أنَّ أحدًا لا يقدر أن يرى وجه الله ويبقى على قيد الحياة. بل السرافيم أنفسهم يسترون وجههم. فلا يحقُّ لهم أن ينظروا إلى الله. وحين غطّوا أرجلهم بالجناحين، دلّوا على الخدمة. فرحتُهم أن يخدموه. ومنهم سوف يتعلَّم أشعيا. وإن تصوَّرهم النبيّ يطيرون، فهي صورة تدلُّ على السرعة في تنفيذ أوامر سيِّدهم. هذه السرعة ستعلِّم النبيّ أن يجيب حالاً. قال الربّ: »من أرسل؟« سمع أشعيا فأجاب حالاً: »ها أنا لك، فأرسلني«.

هذا الملك الحاضر في الهيكل هو سيِّد الهيكل. وهو يؤمِّن الحماية للمكان المقدَّس الذي إليه يأتي المؤمنون فيراهم الله ويسمعهم. هو يلبس معطفًا كبيرًا »يملأ الهيكل. تلك كانت العادة في ذلك الزمان. من بسط معطفه على شخص، جعله تحت حمايته. وهكذا فعل الربّ. الهيكل والآتون إليه هم في حمايته.

في الهيكل، صارت السماء على الأرض. ونشيدُ السرافيم سوف تنشده المسكونة كلُّها. قدّوس، ثلاث مرّات. الله هو سيِّدُ القداسة في المُطلق. ولا قدّوس سواه. أمّا البشر فجميعهم خطأة. فأشعيا نفسه أحسَّ بالخطر. قال: »ويل لي! هلكت لأنّي رجل دنس الشفتين، ومقيم بين شعب دنس الشفاه« (آ5). ولكنَّ الربَّ ليس إله الموت، بل إله الحياة. ما جاء ليُهلك، بل ليخلِّص. لهذا انطلقت جمرة عن المذبح ومسَّت شفتي النبيّ فطهُرتا.

امتلأ الهيكل بخورًا، هذا على مستوى الأرض. وفي نظر الإيمان، هذا البخور هو »دخان« يدلُّ على حضور الله الذي نستشفُّه ولا نراه. الذي هو بالنسبة إلينا بعض النور وبعض الظلمة، لأنّنا نراه كما في مرآة. فنحن ما زلنا على مستوى الإيمان. ولكن حين نصبح في »العيان«، نراه وجهًا لوجه. فلا يعود الدخان ولا الضباب يحجبه عنّا. بل ستار الهيكل الذي تمزَّق يوم صلب يسوع لن يعود له من وجود. على ما قال الرسول: أراه كما يراني.

اسمه الربُّ القدير، الضابط الكلَّ بيده. الكلمة العبريّة: جيوش، القوّات، فجيش هذا الملك كلُّ ما خُلق في السماء وعلى الأرض. »صباؤوت« اسم جمع. لهذا نسمِّيه أيضًا »ربَّ الأكوان«. لا الربّ في السماء فقط، بل على الأرض. ولهذا أرسل ابنه إلى الأرض. فالملك الذي يرى نقصًا في موضع من المواضع، يُرسل من يصحِّح الأمور. بدأ فأرسل الأنبياء والملوك والكهنة. أرسل إبراهيم وموسى وداود، وفي النهاية، أرسل ابنه. هذا ما قال المثل الإنجيليّ في مت (21: 33-39).

وكما أنَّ الربَّ غطّى بمعطفه الهيكل فأمَّن الحماية للمؤمنين، وللمكان المقدَّس، كذلك غطّى بمجده، ملأ بمجده السماوات والأرض. فمجد الله هو ما يُرى من لاهوته وقدرته وعظمته. وهذا المجد حاضر في الكون: »السماوات تنطق بمجد الله، والفلك يُخبر بعمل يديه« (مز 19: 2). ذاك الذي هو ربُّ الهيكل، هو أيضًا ربُّ الخليقة كلِّها. هو الملك الحقيقيّ. يكفي أن يقول ليُطاع. يكفي أن يأمر فيُتمِّم كلُّ موجود إرادته. المطر يأتي لأنَّه أرسله، وهو لا يعود إليه قبل أن يروي الأرض ويجعلها تجود فتنبت نبتًا وتعطي الزارع زرعًا، والآكل خبزًا« (أش 55: 10). الله هو من يأمر البحر والرياح والحرَّ والبرد كلاٌّ في أوانه.

ولكنَّ هذا الإله الكليّ القدرة، يبقى ضعيفًا أمام الإنسان. خلقه حرٌّا ولا يتعدّى على حرّيّته. يقول له: إن شئتَ. إن شاء الإنسان نال ما ناله أشعيا من نِعم غزيرة. وإلاَّ رفض أن يسمع، وإن هو سمع رفض أن يفهم. وإن نظرَ، رفض أن يبصر: قلب قاسٍ، أذنان مثقلتان، عينان مغمَّضتان. هذا ما اكتشفه أشعيا في نهاية رسالته. ما بقي سوى البشر، البقيّة الباقية، القليلين جدٌّا. ولكنَّ هذا القليل يحمل الأمل بشعب جديد. قُطعت الشجرة وبقي ساقها، ولكنَّ هذا الساقّ »يكون زرعًا مقدَّسًا« (آ13).

تلك كانت رسالة الملك الآتي، يسوع المسيح. أطلق أمثاله: خرج الزارع ليزرع (مت 13: 3). ما وقع على قارعة الطريق، أكله الطير. ما وقع في أرض قليلة التراب، نما بسرعة ويبس بسرعة، وحَبّ خنقه الشوك. والبقيّة الباقية »أثمرت الواحد مئة، والآخر ستّين، والآخر ثلاثين«. وأضاف يسوع: »من له أذنان فليسمع« (آ4-9). ولكنَّ الخبرة التي عرفها النبيّ عرفها يسوع أيضًا. »يُبصرون من غير أن يبصروا. يسمعون من غير أن يسمعوا ولا يفهموا« (آ13).

هذا الملك »المسيح« الذي أرسله الآب إلى العالم، لأنَّه أحبَّ العالم، سيطر على الطبيعة. زجر الريح، أسكت البحر. قال عنه تلاميذه: »من هو هذا فتطيعه الريح والبحر« (مر 4: 41)؟ الجواب: هو الله بالذات. فهذا الذي صار بشرًا هو الكلمة الذي هو من البدء قرب الآب (يو 1: 1).

هذا الذي جاء يبني الملكوت بحيث سقط إبليس من عليائه (لو 10: 18)، أخرج الشيطان أو جيش الشياطين من ذاك المجنون المقيم بجانب جرش، في الأردنّ. ورماهم في الماء. أعادهم إلى حيث يجب أن يكونوا لئلاّ يُضرّوا بعدُ البشر. ولكنَّ البشر رفضوا ذاك الذي جاء ليخلِّصهم من شياطينهم. يقول مز 5: 17 عنهم: »طفقوا يسألونه أن ينصرف عن تخومهم«. أي طردوه. على ما قال يوحنّا في بداية إنجيله: »أتى إلى العالم فما أراد العالم أن يعرفه«. »أتى إلى خاصّته، إلى أبناء شعبه، وخاصَّته لم تقبله« (يو 1: 11). أما هذا هو معنى كلام القدّيس لوقا في خبر الميلاد؟ »لم يكن له موضع، لا هو ولا والداه، حيث حلّوا« (لو 2: 7). وفي أيِّ حال، يروي متّى أنَّ هيرودس أراد أن يقتله، وابنه سيحاول أن يخيف يسوع، فيقول فيه يسوع: »قولوا لهذا الثعلب«.

2- ملوك فاشلون (7: 10-50)

تلك هي الصورة الأولى عن الملك المسيح. ذاك الذي يختاره الربُّ ويمسحه بالزيت المقدَّس كدلالة على القدرة الإلهيّة، ويرسله. وفي كلِّ رسول سابق، نرى يسوع المسيح الرسول الرسول، الذي لا رسول بعده إن لم تكن رسالته امتدادًا لرسالة الإنجيل. الله الملك في السماء يمارس ملكه على الأرض. لا بواسطة النبيّ، لأنَّ النبيّ إنسان محدود، بل بواسطة من هو هدف كلام النبيّ، مَن هو الكلمة التي ما بعدها كلمة.

انطلق أشعيا من رؤية الله الملك، فتطلَّع إلى ذاك الذي ينتدبه الله باسمه. ولكنَّ الملوك فشلوا جميعًا. فمع أنَّ داود كان بحسب قلب الله، إلاَّ أنَّه خطئ حين زنى مع بتشابع وقتل لها زوجها قبل أن يتَّخذها امرأة له. وسليمان قيل عنه: أزاغت النساء قلبه، ومالت به زوجاته إلى آلهة غريبة (1مل 11: 3-5). وإن هو بنى الهيكل والقصور، فلأنَّه استعبد شعبه، وأرهق الفقراء بالضرائب وأعمال السخرة. وسيقول لنا كتابُ الملوك عن كلِّ ملك تقريبًا: لم يعمل ما هو قويم في نظر الربّ. ويذكر منسّى الكافر: فعل الشرّ (2مل 21: 2) »فسفك الكثير من الدم البريء« (آ16). وآخاب رجم نابوت ليأخذ له أرضه، فقال له إيليّا النبيّ: »بعتَ نفسك وفعلتَ الشرَّ أمام الربّ« (1مل 21: 20).

والملوك الذين عاصروا أشعيا لم يكونوا أفضل من سابقيهم، ولا من لاحقيهم. دعاهم أشعيا إلى الإيمان إذا أرادوا أن يجدوا الأمان والسلام، فقال لهم: »إن لم تؤمنوا (بالله) لن تأمنوا شرّ الملوك الذين يهاجمونكم« (أش 7: 9). فراحوا تارة إلى الأشوريّين وطورًا إلى المصريّين. وخصوصًا آحاز الذي بدأت رسالة أشعيا في أيّامه. رفضوا أن يتَّكلوا على الله. بل اتَّكلوا على الأصنام. ونحن نرى آحاز »يُحرق ابنه في النار قربانًا للبعل« (2مل 16: 3). عمله رجاسة. وما كان ما فعله أمرًا موقَّتًا فيتابع النصّ: »وذبح للبعل، وبخَّر له على المرتفعات والتلال وتحت كلِّ شجرة خضراء« (آ14). ولكن أين هيكل الربّ ورمز حضوره وسط شعبه؟ لا بدَّ أن يتغيَّر. كان بحسب أمر الربّ، صار بحسب أمر تغلت فلاسر. يروي سفر الملوك الثاني إعجاب آحاز بالمذبح الأشوريّ (2مل 16: 10) »فأرسل إلى أوريّا الكاهن شكل المذبح مرسومًا بجميع تفاصيله. فبنى أوريّا المذبح مثله، وأكمله قبل رجوع الملك آحاز من دمشق. فلّما عاد آحاز، رأى المذبح فاقترب منه وصعد عليه، وأحرق ذبيحة، وقدَّم الدقيق والخمر، ورشَّ ذبيحة سلامته على المذبح« (آ10-13). لا قيمة بعد للمذبح الذي بناه سليمان، بل هذا »المذبح الكبير« الذي بني كرامة تغلت فلاسّر وتذلُلاً لملك أشور« (آ18).

وجاءت ساعة الشدّة، هجم الآراميّون (دمشق) والأفرائيميّون (السامرة) وأهل صيدون... على أورشليم. أين هو الملك؟ لا وجود له. كما يخاف على نسله ن ينقرض. دخل أشعيا وأفهمه قدرة الله. أمّا هؤلاء الملوك فليسوا بشيء: لهم ذنب مشتعل مدخِّن (أش 7: 4). فلماذا الخوف والاضطراب؟ وشبه النبيّ خوف الملك والشعب فقال: »اضطرب قلبه وقلب شعبه كاضطراب شجر الغاب في وجه الريح« (آ2).

ضعف قلبُ الملك، فكيف تعود إليه قوَّته؟ بواسطة النبيّ. بواسطة كلمة الله التي تتمُّ في أوانها على ما قال مز 33: 9: »قال فكان كلُّ شيء، وأوصى فثبت كلُّ كائن«.

قال النبيّ لآحاز: »أطلب لنفسك آية من عند الربِّ إلهك، إمّا من أعماق الهاوية، وإمّا من أعالي السماء« (أش 7: 10). ما تجاسر الملك أن يطلب. فإن طلب من الربّ، طلب منه الربُّ أن يتخلّى عن عظماء هذا العالم ويتَّكل عليه وحده. فماذا يفعل إن طلب منه الربُّ أن يهدم المذبح الذي بُني كرامة لتغلت فلاسّر، الملك الأشوريّ، ويُبقي على مذبح النحاس القديم الذي استغنوا عنه بعد أن نزعوا عنه النحاس فصار موضعًا »لمعرفة الغيب« (2مل 16: 15-17)؟ وجود الملك الأشوريّ أمرٌ ملموس. هو أمامه. يستطيع أن يسجد له، يكلِّمه بفمه، يسمعه بأذنيه، يراه بعينيه. أمّا الله فيقيم في الظلمة الدكناء. إنَّه إله محتجب. (أش 45: 15).

أجاب الملك النبيّ: »لا أطلب ولا أجرِّب الربّ« (7: 12). اختبأ الملك وراء ما يقول سفر التثنية (6: 16): »لا تجرِّبوا الربَّ إلهكم، كما جرّبتموه في مسّة«. هل اعتبر آحاز أنَّ عليه أن يطلب معجزة؟ ربَّما. ولكنَّ الآية عند أشعيا، ليست بالضرورة عجيبة، بل واقع حاضر وقريب يدلُّ دلالة اليقين، على حدث يتمُّ فيما بعد. غير أنَّ الملك أضعف من أن يصل إلى هذا المستوى. سوف يرى السلالة الملكيّة تتواصل ولكن لا شيء بعد ذلك. من أجل هذا، تركه أشعيا. وما يوجِّه إليه الكلام. فقال: اسمع إيّها الملك، بل »اسمعوا، يا بيت داود« (أش 7: 13). هي السلالة الملكيّة على المحكّ. وعليها أن تقدِّم الجواب.

ولكنَّ آحاز فشل. وابنه حزقيّا لم يكن أفضل منه، في هذا المجال، حاول أن يتحالف مع مصر، وما نجا إلاّ بأعجوبة. فسنحاريب الأشوريّ حاصر أورشليم. ولولا الوباء لسقطت. أفهمه أشعيا أنَّ الله هو الذي يتدخَّل من خلال الأحداث، ولكنَّه ما أراد أن يفهم. لهذا يئس النبيّ من ملوك الأرض. بل الله نفسه يئس. ومع ذلك قال النبيّ (7: 14): »ولكنَّ السيِّد الربَّ نفسه يعطيكم هذه الآية: ها هي العذراء تحبل وتلد ابنًا وتدعو اسمه عمانوئيل«. في هذا الولد، تستطيعون أن تقولوا: الله معنا. بوجود عمّانوئيل، تتبدَّل الأمور تبدُّلاً عميقًا. فيفيض الخير في الأرض. يأكلون الزبد بدل اللبن (آ22).

تحقَّق هذا الكلام بالنسبة إلى زوجة الملك التي ولدت ولدًا، فتواصلت السلالة الملكيّة التي هي الدلالة بأنَّ الله معنا، ولكنَّ هذا التحقيق بقي ناقصًا. لا شكَّ في عناية الله واهتمامه بشعبه وبمدينته أورشليم، لا بملكه. وسيرى التقليد اللاحق في هذه العناية معجزة من عند الله. لم نعد أمام صبيّة من الصبايا، أمام الملكة الصبيّة، بل أمام عذراء. الربُّ نفسه هو الذي يرسل إلى هذه العذراء ابنًا ستدعو اسمه عمّانوئيل.

هذا ما تمَّ في شخص مريم العذراء، التي حبلت بيسوع، دون أن يعرفها يوسف. بل هو لن يعرفها بعد أن قالت للملاك: أنا عذراء. بل كتب عنها لوقا سنة 85 أنّها عذراء لم تعرف رجلاً. وعمّانوئيل لم يعد رمزًا فحسب. فابن مريم هو حقٌّا إبن الله، مساوٍ للآب في الجوهر. به صار الله حقٌّا على الأرض. وقد قال لتلاميذه حين ودَّعهم: »ها أنا معكم كلَّ الأيّام حتّى انقضاء الدهر« (مت 28: 20).

3- وُلد لنا ولد (9: 1-6)

منذ البدء خلق الله النور، فصله عن الظلمة، ولكنَّ الشعب ما زال ساكنًا في الظلام (آ1). هذا، يدلُّ على الشدَّة لا على الراحة، على السواد الذي يحمل معه الموت والحداد. ولكنَّ الأمور سوف تتبدَّل. لا بفعل البشر، بل بفعل الله. »الجالسون في أرض الموت وظلاله، أشرق عليهم نور« (آ1). وبعد الحزن، عاد الفرح. وبعد نير العبوديّة، أطلَّت الحرّيّة. كسر الربُّ »الخشبة التي بين أكتاف الأسرى، القضيب الذي يحمله المسخِّر« (آ3). بل توقَّفت الحرب وأُحرق كلُّ ما يذكِّر الناس بها.

والسبب: الولد الذي يُولد لنا، الابن الذي يُعطى لنا (آ5). في الأصل. يلمِّح القول إلى ملك جديد. يُنصَّب أمام الشعب، يسمع كلام الربّ بفم نبيِّه: »قال لي: أنت ابني أنا اليوم ولدتك« (مز 2: 7). فابن الملك هو ابن الله، ويكون عمله اهتمامًا بالشعب على مثال الله الذي يهتمُّ »بالقطيع الصغير« ويعطيه الملكوت.

جُعلت عليه شارات الملك. المعطف الذي تحدَّثنا عنه في الهيكل، والصولجان الذي هو امتداد لعصا الراعي، وتسلَّم المفاتيح بحيث يغلق فلا يفتح أجد، ويفتح فلا يُغلق أحد (أش 22: 22).

هذا الولد يأتي ليصلح الأخطاء التي سبقته، فيقول يسوع، الراعي الصالح، عن الذين جاؤوا قبله: »جميع الذين أتوا قبلي كانوا سرّاقًا ولصوصًا« (يو 10: 8). كان الغشُّ والكذب، فحلَّ الحقّ. ونحن لا ننسى أنَّ يسوع دعا نفسه »الحقّ«، فقال: »أنا هو الطريق والحقُّ والحياة« (يو 14: 6). كان الجورُ والظلم، فسيطر العدل، لا في حقبة مؤقَّتة، بل »من الآن وإلى الأبد«. ضَعفت المملكة فتقوّت بهذا الولد. تزعزعت أركانها فصارت ثابتة. فهذا الذي سُرَّ بأن يكون من البشر، هو في الوقت عينه إبن الله. الإنسان يتبدَّل، يتراجع. أمّا الله فالأمين الذي يبقى هو هو الآن وإلى الأبد كما كان في الماضي. الجواب واضح في 9: 6. من يفعل هذه المعجزة الدائمة؟ الجواب: »غيرة الربِّ القدير تعمل ذلك«.

في منطق الكتاب كلِّه، نقول إنَّ الابن لا يمكن أن يكون سوى إبن الله. وهذا الولد، هو ذاك المولود غير المخلوق، كما نقول في النؤمن. هو المساوي للآب في الجوهر، الذي به كان كلُّ شيء. الصفات التي أعطيت له، لا يمكن أن تكون بشريّة.

هي لا تليق إلاّ بابن الله. ذاك هو المسيح الذي انتظره النبيّ. النبوءة أخبرتنا به مسبقًا »إنجيلاً« وخبرًا طيِّبًا. أما هذا الذي قاله الملاك يوم ميلاد المخلِّص: »أنا أبشرِّكم، أحمل إليكم إنجيلاً، بفرح عظيم« (لو 2: 1).

هذا الولد، اسمه العجيب. الله وحده يتصوَّر الأمور المدهشة ويحقِّقها. أمّا البشر فيكتفون بتأمُّلها. قال الربُّ في أش 14: 24: »ما نويتُه سيكون، وما قرَّرته سيتمّ«. ويهتف النبيّ في إحدى صلواته: »أيّها الربُّ أنت إلهي، أعظِّمك وأحمد اسمك، لأنَّك صنعت عجبًا. وتمَّمت بحقٍّ وصدق ما شئته من قديم الزمان« (أش 25: 1). ونقرأ أخيرًا في أش 28: 29: »هذه الحكمة ومثيلاتها جاءت من عند الربِّ القدير وهو عجيب المشورة وعظيم الفهم«.

هذا الولد هو الإله الجبّار. ذاك هو رسم الله في 10: 21: »إلى هذا الإله الجبّار، تعود البقيّة، »بقيّة يعقوب«. كلَّم موسى الشعب في موآب فقال لهم: »قدِّسوا قلوبكم للربّ، لأنَّ الربّ إلهكم هو إله الآلهة وربُّ الأرباب الإله العظيم الجبّار الذي لا يحابي ولا يرتشي« (تث 10: 16-17).

والله هو أبٌ لشعب. أبٌ أبديّ، لا نهاية لأبوَّته. هو أبد الآباد. وخلاص يحمله هو خلاص أبديّ (45: 17). لأنَّه العليّ الرفيع، ساكن الأبد. »القدّوس اسمه« (57: 15). والولد الذي ينتظره الشعب هو رئيس السلام. بل ربُّ السلام كما سمّى جدعون ذاك الذي تراءى له وخاف أن يموت (قض 6: 24).

ويبيِّن لنا أشعيا كيف تصرَّف رئيس السلام هذا، فيدلُّ على قدرة لا توازيها قدرة. بحضوره يسكن الذئب مع الحمل، ويبيت النمر بجانب الجدي، ويرعى العجل والشبل معًا، وصبيّ صغير يسوقهما« (11: 6).

هكذا نستعدُّ في عيد الميلاد لسماع نشيد الملائكة فوق المذود الإلهيّ. المجد لله في العلى، وعلى الأرض السلام. صار يسوع هو السلام على الأرض، عندئذٍ تمجَّد الله في العلاء. وقد قال فيه الرسول: »هو سلامنا«.

جعل من الشعبين واحدًا، إذ نقض الحائط الحاجز بينهما، أي العداوة« (أف 2: 14).

خاتمة

قال المزمور 97: »الربُّ ملكَ فلتبتهج الأرض، ولتفرح البحار الكثيرة. السحاب والضباب من حوله، وقضاؤه العادل قاعدة عرشه«. إنَّه ملك على الأرض، وكلُّ ما حوله يدلُّ على عظمة لاهوته. لهذا قال مز 99: »الربُّ يملك فترتعد الشعوب. يجلس على الكروبيم (مركبته). فترتجف الأرض. الربُّ عظيم في صهيون، أو أورشليم، متعال على جميع الشعوب«. هو ملك في مدينته المقدَّسة، وفي الكون كلِّه. أذيال معطفه ملأت الهيكل، ومجده ملأ السماء والأرض.

هذا الربّ الملك جاء إلى الأرض. وُلد من امرأة. وُلد من عذراء. وكان اسمه يسوع، لأنَّه يخلِّص شعبه من خطاياهم. عمله عمل بشريّ. »لا يقضي بحسب ما ترى عيناه. ولا يحكم بحسب سماع أذنيه. بل يقضي للفقراء بالعدل، وينصف المساكين، ويميت الأشرار« (أش 11: 3-4). له سلطان شبيه بسلطان الملوك العظام، وشاراته على كتفه مثل فرعون وغيره. ولكنَّه ملك يختلف عن هؤلاء الملوك وغيرهم. هو الله نفسه. كان على الملك أن يُحلَّ السلام، فاشتهر بالحروب التي خاضها. أمّا يسوع فلا يماحك ولا يصيح ولا يسمع أحد صوته في الشوارع (أش 4: 2؛ مت 12: 18-21). كان على الملك أن يكون أبًا للجميع فيقضي للفقراء والمساكين، فإذا هو يصاحب عظماء المملكة وأغنياءها، الجورُ في الأرض. كان على الملك أن يكون ذاك الجبّار. فإذا هو ضعيف بعد أن ذُلَّ أمام الملوك الذين حوله. أمّا يسوع، ففي قمطه خاف منه هيرودس. وفي قيوده أعلن أنَّه الملك، ولكنَّ ملكَه ليس من هذا العالم. بل هو ملك لا يشبه ملوك العالم بما يمارسونه من عنف وكبرياء، وظلم يجعل الجوع يعمُّ الأرض. والفقراء يفقدون ما يملكون في الأرض. هدف ملكه أن يشهد للحقّ، »وكلُّ من هو من الحقّ يسمع صوتي« (يو 18: 38).

ذاك هو الملك الذي تحدَّث عنه أشعيا. تمنّى أن يراه، مثل إبراهيم، ولكن لا. فكلُّ أبرار العهد القديم لم يقدروا أن يبلغوا الكمال إلاّ معنا (عب 11: 40). إلاّ في تجسُّد الابن، يسوع المسيح. إلينا انتهت »أواخر الدهور« (1كور 10: 11)، فنعمنا بمن هو المسيح المنتظر. رأيناه بعيوننا، سمعناه بآذاننا، لمسته أيدينا، من أجل هذا نستطيع أن نبشِّر بمن هو كلمة الحياة فيكون فرحنا كاملاً (1يو 1: 1-4).

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM