يسوع قدير بالقول والعمل.

 

3-يسوع قدير بالقول والعمل

- الكرازة بملكوت الله

جاء يوحنّا المعمدان يهيئ الشعب لرسالة المسيح بهذه الكلمات: «توبوا، فقد اقترب ملكوت السموات» (مت 3: 5). وبدأ يسوع رسالته التبشيريَّة معلنًا مجيء ملكوت السماوات (4: 17).

ملكوت السماوات هو ملكوت الله. وهذا يعني أنَّ الله الساكن في السماوات جاء يدشِّن ملكه على الأرض. وعلَّمنا أن نصلّي كلَّ يوم: أبانا الذي في السماوات ليتقدَّس اسمك، ليأتِ ملكوتك، أو ملكك. كان شعب العهد القديم يعتبر أنَّ الله هو وحده ملك عليهم، وأنَّ الإنسان الذي يملك عليهم إنَّما يفعل ذلك باسم الله، وكممثِّل لله. قال المزمور (21: 28): جميع الأمم تتذكَّر الربَّ وترجع إليه من أقاصي الأرض، وأمام وجهه تسجد جميع الشعوب، فالمُلك للربِّ سيِّد الأمم.

الله يملك في شعبه. هذا ما تاق إليه المؤمنون في العهد القديم، ولكن ذلك لم يتحقَّق إلاَّ في شخص المسيح الذي جاء يكرز بهذا الملكوت (4: 12) ويعلن أنَّ هذا الملكوت قد جاء (12: 28)، وبدأ يفعل فعله لأنَّ يسوع الملك، المسيح المنتظر، بدأ يطرد الشياطين ويشفي المرضى ويقيم الموتى.

عن هذا الملكوت يحدِّثنا الإنجيل ليقول لنا إنَّ الله بدأ يملك على القلوب في العالم، على قلب يسوع أوَّلاً وهو ابنه الذي يرضى عنه، وفي قلوب الرسل الذين أعطيت لهم معرفة أسرار هذا الملكوت (مر 4: 11)، وفي قلوب المؤمنين الذين سمعوا كلام الرسل فآمنوا بالمسيح (يو 17: 20).

أتى ملكوت الله، وهو يفرض علينا أن نستقبله بالتوبة وتجديد حياتنا والسير وراء من يبشِّر به. وهو الذي طلب إلينا أن نترك لأجله البيوت والأولاد والوالدين والحقول، وأن نتخلّى حتّى عن ذواتنا، فنكون عمّالاً في هذا الملكوت.

هذا الملكوت حاضر في كلام يسوع وفي شخصه، وكلُّ آية يعملها يسوع يدلُّ على أنَّه المسيح المنتظر الذي جاء يبني ملكوت الله الآب. ولقد فهم يوحنّا المعمدان أنَّ يسوع هو الآتي من قبل الربِّ ليؤسِّس هذا الملكوت، لمّا عرف أنَّ العميان يبصرون، والعرج يمشون، والبرص يطهرون، والصمَّ يسمعون، والموتى يقومون، والمساكين يبشَّرون (11: 5).

2- شفاء الأبرص (8:1-4)

هي المعجزة الأولى في سلسلة من عشر معجزات، توجز عمل يسوع الشفائي والتعليم الذي توخّاه من هذه الشفاءات.

أ- جموع كبيرة

كان يسوع على الجبل ومعه تلاميذه. هتف بهم: طوبى للمساكين، طوبى للودعاء. وقال: أنتم ملح الأرض. أنتم تعطون العالم نكهته. أنتم نور العالم، لا بما تقولون فقط، بل بما تعملون أيضاً: يضيء نوركم قدّام الناس فيرون أعمالكم الصالحة. فالقول وحده دون العمل يشبهكم بالكتبة والفريسيين الذين يقولون ولا يفعلون. المؤمن الحقيقي »يعمل بمشيئة أبي الذي في السماوات« (7:22).

كان يسوع على الجبل، ولكنه لم يبقَ هناك، كما فعل موسى فأطال إقامته. جبل »عظة الجبل« تتمة لجبل سيناء. هناك أعطيَت لنا الوصايا. أما مع يسوع، فتعمّمت الوصايا. لا نستطيع بعد أن نتوقّف عند أعمال محدّدة. فالوصيّة تمضي بنا بعيدًا، لأنها وليدة المحبة، والمحبة لا تعرف حدودًا. نحن لا نقتل فقط، بل لا نقول كلمة سوء، ولا نجرح أحدًا، صغيرًا كان أو كبيرًا. نحن لا نزني فقط. بل لا ننظر إلى امرأة فنشتهيها. هي على صورة الله، فلماذا نحدرها من علّوها. والرجل على صورة الله، فلماذا نماهيه مع صحّة أو مال أو جسم. فالانسان أي انسان، هيكل الله، فلماذا نجعله مسكن الشيطان والخطيئة؟

ب- دنا منه أبرص

البرص مرضٍ معدٍ يخاف منه جميع الناس. يتناثر اللحم شيئًا فشيئًا بحيث يصبح المريض عظامًا لا جلد عليها ولا عظم. فمن يجسر أن يقترب منه؟ لا الانسان الضعيف. لا ذاك الذي يحتاج إلى الأدوية لكي يُشفى من أمراضه. لهذا ما كان أحد يتجرّأ ليمضي حيث يقيم الأبرص: ثيابه ممزقة. شواربه مغطّاة لئلاّ ينفث علَّته في الآخرين. يُمسك جرسًا بيديه ويهتف. وإن صادف ووُجد انسان في الجوار، هرب وابتعد.

ومع ذلك تجرّأ يسوع وراح إلى ذلك الأبرص. المقيم في الغابة، أو في البرية. وفي أي حال، بعيدًا عن الأماكن الآهلة. فالذي يمنح الشفاء لا يخاف من المرض. والذي يعطي الطهارة، لا يخاف أن ينجّسه أحد. فالأبرص في مفهوم العهد القديم، هو أكثر من مريض. هو نجس. وراحت الشريعة تحدّد كيف يكتشف الكاهن مرضه، وكيف يعلن شفاءه. وبين المرحلتين »يسكن منفردًا، وفي خارج المحلة« (لا 13:46)، ما دامت به البلوى.

نستطيع أن نتخيّل التعاسة التي يعيش فيها. مريض. منبوذ، وحيد في هذه البرية مع الوحوش. ما من انسان بقربه. مع أن الكتاب قال: لا يكون الانسان وحده. أصنع شريكًا له. وقال: مسكينٌ الانسان وحده. فإن سقط لا يجد من يسنده أو يقيمه. مثل هذا الرجل، لا يمكن أن يكون وحده. مضى إليه يسوع، ابتسم. أشار إليه، حينئذ تجاسر الأرض ودنا من يسوع.

ج- إن أردت

الفعل الأول كان فعل سجود. في الماضي، كان الواحد يركع أمام الآخر يستعطفه. يستغفره، يتوسّل إليه طالبًا. ويمكن للولد أن يركع ليكون في حضن أمه. كما يركع الخطيب أمام خطيبته. تلك يمكن أن تكون ركعة هذا الأبرص. ولكنها أكثر من ذلك. هي ركعة السجود. مع فعل إيمان: أنت قادر. فمن هو القدير القدير سوى الله خالق السماوات والأرض.

ما فرضَ الأبرصُ نفسه على يسوع. بل قال: »إن أردتَ«. كما نقول في صلاة الأبانا: لتكن مشيئتك. استعدّ أن يطهر، يتقبّل نعمة الشفاء. واستعدّ أن يعود إلى الغابة فيعيش بعيدًا عن الناس. ولكن ذاك الذي أتى »ليعمل الخير ويشفي الجميع« (أع 10:38)، سوف يعمل ما يريد ذاك الأبرص. أنت تتمنى، تريد. وأنا أريد. أريدك أن تطهر: كلمة الله فاعلة. ما ان قال يسوع: فاطهر، حتى »طهر برصه في الحال« (مت 8:3).

صار مقبولاً في الجماعة. بقي أن يتأكد الكاهن على ما يقول سفر اللاويين: »يخرج الكاهن إلى خارج المحلة ليفحص الأبرص، فإذا رأى أن الأبرص برئ من بلوى البرص...« (لا 14:3)، يقوم ببعض الممارسات الطقسيّة.

أما هذا الأبرص، فمضى إلى الهيكل وشهد ليسوع هناك، حين قدّم قربانه. صار رسولاً قبل الرسل، في عالم اليهود، كما كان »لجيون« رسولاً في العالم الوثني.

3- شفاء المخلَّع

بعد الأبرص، نتوقَّف عند مشهد شفاء المخلَّع (9: 1-8)، فنرى في هذه المعجزة المضاعفة علامة من علامات الملكوت الآتي في شخص يسوع ابن الإنسان.

يروي كلٌّ من القدّيس متّى ومرقس ولوقا قصَّة المخلَّع الذي شفاه يسوع في كفرناحوم بعد أن غفر له خطاياه. لا يتوقَّف القدّيس متّى على التفاصيل بل يشدِّد على العقيدة التي يريد أن يعلِّمنا إيّاها. نرى في هذا المقطع ثلاث مراحل: يسوع يغفر خطايا المخلَّع، يسوع يشفي المخلَّع من مرضه ليدلَّ على أنَّ له سلطانًا ليغفر الخطايا، يسوع يعطي كنيسته المؤلَّفة من بشر سلطانًا لتغفر الخطايا على مثاله.

أ- يسوع يغفر خطايا المخلَّع

هذه المعجزة تتمُّ في كفرناحوم وهي مدينة تقع على بحيرة طبريّة جعلها يسوع نقطة انطلاق لرسالته في الجليل.

لمّا رأى يسوع إيمانهم قال للمخلَّع: تشجَّع يا ابني، مغفورة لك خطاياك. الإيمان شرط مهمٌّ للحصول على نعمة الشفاء. قال لقائد المئة: »ليكن لك على قدر إيمانك«، فشفي خادمه. إنَّ يسوع يفرض على الطالبين الشفاء أن يعبِّروا عن إيمانهم بقدرة الله.

وجاء يسوع، لا لشفاء الأجساد وحسب، بل لشفاء النفوس أيضًا. هم الخطأة الذين يحمل إليهم الخلاص فيقول: »ما جئت لأدعو الصالحين إلى التوبة بل الخاطئين« (9/ 12-13)، »لأنَّ ابن الإنسان جاء ليبحث عن الهالكين ويخلِّصهم« (لو 19: 10). وكما جعل من الإيمان شرطًا لشفاء الأجساد، جعله شرطًا لشفاء النفوس. فقال للمرأة الخاطئة التي جاءت تبكي على قدميه في بيت سمعان الفرّيسيّ: »مغفورة لك خطاياك، إيمانك خلَّصك، فاذهبي بسلام«. إذا كان الإيمان ضروريٌّا للمريض الطالب الشفاء فهو ضروريّ أيضًا للخاطئ الذي يشفيه يسوع شفاء روحيٌّا عندما يغفر له خطاياه.

ب- سلطان ابن الإنسان (9: 3-7)

وكان الكتبة حاضرين هناك. قالوا إنَّ يسوع يجدِّف على الله؛ فبما أنَّ يسوع يمنح الخاطئ غفران الخطايا فهو يعتبر نفسه الله، لأنَّ الله وحده يستطيع أن يغفر الخطايا. فشفى يسوع المخلَّع ليبرهن لهم أنَّ له السلطان أن يغفر الخطايا. فلم تكن معجزة الشفاء إلاّ علامة عن معجزة أعظم.

ج- سلطان معطى للبشر

»لمّا رأى الجموع ذلك استولى عليهم الخوف«. يشدِّد القدّيس متّى على الخوف الذي استولى على الحاضرين، وهذا الخوف يشعر به الإنسان عندما يكون بحضرة الله ويرى أعماله.

»ومجَّدوا الله الذي أعطى البشر مثل هذا السلطان«. هذا السلطان الذي هو ملك الله الخاصّ، يتمتَّع به ابن الإنسان وسوف يعطيه للبشر، لتلاميذه. كما أعطاهم سلطانًا على الأرواح النجسة (10: 1) وعلى شفاء الأمراض، سيعطيهم سلطانًا ليغفروا الخطايا. نقرأ في العهد القديم أنَّ الله أعطى البشر سلطانًا ليجترحوا المعجزات، ولكن أن يعطيهم سلطانًا ليغفروا الخطايا فهذا ما لا يتخيَّله البشر لولا رحمة الله ومحبَّته. قال يسوع لبطرس: »ما تربطه في الأرض يكون مربوطًا في السماء، وما تحلُّه في الأرض يكون محلولاً في السماء« (16: 19). كما قال للرسل الكلام عينه (18: 18)، والكنيسة تمارس هذا السلطان الذي سلَّمه إليها الربّ.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM