العظة على الجبل.

 

2- العظة على الجبل

صعد يسوع إلى الجبل وأحاطت به الجموع، فجلس وجلس تلاميذه حوله.

وجهُ يسوع على جبل من جبال الجليل هو وجه الله بالذات عندما ظهر على جبل سيناء وسط البروق والرعود وأعطى موسى والشعب وصاياه وفرائضه وإرشاداته. أخذ موسى شريعة الربِّ وأعلنها على شعب الله: »أنا هو الربُّ إلهك لا يكن لك إله غيري، لا تحلف باسم الله بالباطل، لا تقتل، لا تسرق، لا تزنِ... لا تظلم الغريب واليتيم والأرملة... وأحبب قريبك حبَّك لنفسك«. وها هو يسوع يعلن على الجموع شريعة قديمة وجديدة. قديمة، لأنَّه ما جاء ليبطل كلام الشريعة القديمة. وجديدة، لأنَّه سيعطي كلمات موسى أبعادًا جديدة ويشدِّد على متطلِّبات الوصايا. وهذا ما لم يقدر موسى على فعله بسبب قساوة قلب الشعب. أمّا يسوع وهو كلمة الله فقد أعلن وصايا الله بكلِّ قوَّتها، فقال يومًا لتلاميذه: »من استطاع أن يفهم فليفهم« (مت 19: 12). ولمّا تركه الكثيرون لم يخفِّف من حدَّة كلامه، بل اكتفى بالقول لتلاميذه: »وأنتم أتريدون أن تذهبوا (يو 6: 67) وتتركوني كما فعل الآخرون؟ وكان جواب بطرس الرائع: «إلى من نذهب يا ربّ وكلام الحياة الأبديَّة عندك؟«.

1- دستور المسيحيين

عظة الجبل هذه يسمّيها الشُرَّاح دستور المسيحيّين، شريعة الملكوت. وهي تبدأ بالتطويبات: »طوبى للمساكين، طوبى للودعاء، طوبى لفاعلي السلام...«. ثمَّ تعرض علينا البرَّ الحقيقيّ وطريق العيش حسب الوصايا في العهد الجديد. ثمَّ تبيِّن لنا كيف يجب أن نمارس أعمالنا التقويَّة من خدمة وصلاة وصوم؛ لا ليرانا الناس، بل في الخفية، وأبونا الذي يرى في الخفية يجازينا. وتنتهي العظة ببعض التنبيهات: لا تدينوا لئلاّ تدانوا. إيّاكم والأنبياء الكذبة، من ثمارهم تعرفونهم. ليس من يقول لي يا ربّ يا ربّ يدخل ملكوت السماوات، بل من يعمل إرادة أبي الذي في السماوات.

ذكر القدّيس لوقا (6: 20-49) في إنجيله أقسامًا عديدة من العظة على الجبل مشدِّدًا على حبِّ المؤمن لأعدائه، على كرمه وسخائه للقريب. كتب القدّيس متّى إنجيله إلى ناس يعرفون الشريعة اليهوديَّة فذكر بعض شرائع العهد القديم وبيَّن لهم كيف كمَّلها يسوع. وكتب القدّيس لوقا إنجيله إلى الوثنيّين فشدَّد بنوع خاصٍّ على وصيَّة المحبَّة التي تجمع جميع المؤمنين يهودًا كانوا أم وثنيّين. اهتمَّ متّى بأن يبيِّن أنَّ يسوع الناصريّ هو ابن إبراهيم، هو ابن داود، والمسيح المنتظر؛ واهتمَّ لوقا بأن يحدِّثنا عن يسوع الإله الإنسان الذي حمل إلى البشريَّة مراحم الله وحنانه. وهذا ما يدفعنا إلى أن نقرأ كلَّ إنجيل من الأناجيل الأربعة بمفرده لنتتبَّع الطريقة التي بها اكتشف كلٌّ من متّى ومرقس ولوقا ويوحنّا شخص يسوع وساروا على خطاه وضحّوا بحياتهم من أجله.

2- سمعتم أنَّه قيل، أما أنا فأقول لكم (5: 17-48)

يقابل يسوع كلام موسى بكلامه، يقابل البرَّ القديم بالبرِّ الجديد. يقابل القداسة التي طلبها موسى ومعلِّمو الشريعة من الشعب اليهوديّ بالقداسة التي يطلبها هو من المسيحيّين.

»لا تظنُّوا أنّي جئت لأبطل كلام الشريعة والأنبياء». الشريعة والأنبياء دستور الحياة الكاملة عند اليهود. أترى يسوع عندما يدافع عن الشريعة لا يعود إلى عهد موسى؟ كلاّ، بل بالأحرى هو يجعل نفسه وارثًا للشريعة فينزع من الشعب اليهوديّ تراثًا أضاعوه عندما خالفوا وصايا الله من أجل تقاليدهم، وكرَّموا الله بشفاههم لا بقلوبهم وحياتهم. وهكذا يفهم المسيحيّون أنَّ غاية الشريعة هي المسيح الذي به يتبرَّر كلُّ مؤمن. (روم 10: 4).

»ما جئت لأبطل بل لأكمِّل«. بهذه الكلمات يعلن يسوع أنَّه المسيح المنتظر الذي جاء في الزمن المحدَّد ليتمِّمَ كلَّ برّ (مت 3: 15). ويتمِّم كلَّ ما كتب عنه الأنبياء في العهد القديم. وتتميم الشريعة هذا لا يكون بالممارسة الحرفيَّة لكلماتها، بل بالتفهُّم الكامل لمضمونها وأهدافها. الشريعة تطلب منّا صدقًا في حبِّنا لله واستقامة في علاقتنا بالقريب. هذا ما قاله يسوع (مت 23: 37-39)، مردِّدًا كلمات العهد القديم »أحبَّ الربَّ إلهك بكلِّ قلبك (تث 6: 5)، أحبب قريبك مثلما تحبُّ نفسك (أح 19: 18). الكبير بنظر الله هو من يحفظ الوصايا، كبيرة كانت أو صغيرة، فيعلِّم الناس أن يعملوا مثله؛ والصغير في ملكوت السماوات هو من يخالف أصغر هذه الوصايا. تزول السماء والأرض قبل أن يزول حرف من الناموس أو كلمة من وصايا الله.

بعد هذه المقدِّمة نتفهَّم مع يسوع كيف نعيش الشريعة الجديدة في ستِّ حالات خاصَّة.

أ- القتل (5: 21-26)

»سمعتم أنَّه قيل: لا تقتل. أمّا أنا فأقول لكم: من غضب على أخيه، من قال لأخيه أنت أحمق، استوجب نار جهنَّم.«

كانت الشريعة تمنع الإنسان من القتل عمدًا وتنهي المؤمن من الأخذ بالثأر. ومن يقتل يستوجب حكم القاضي والمجلس ويستحقُّ العقاب المنصوص عليه. فقد قيل في سفر الخروج (21: 12) من ضرب إنسان فمات، فليقتل قتلاً. وفي سفر الأحبار (24: 13) من قتل إنسانًا يقتل قتلاً. هذه الشريعة كان اليهوديّ يعرفها ويحفظها ليحفظ حياته.

ولكنَّ يسوع لا يكتفي بتحذيرنا من الأعمال السيِّئة بل ينزل إلى الينبوع الذي يخرج منه كلُّ سوء. لا يتوقَّف على ما يدخل الفم من أكل وطعام، بل ما يخرج من الفم من أفكار شرّيرة تدفعنا إلى القتل والزنى والفسق والسرقة وشهادة الزور والنميمة (مت 15: 19).

عاقب الله موسى كليمه بقساوة على الغضب الذي أبداه حين ضرب الصخرة ليخرج منها الماء. ونبَّه في سفر الأمثال (29: 22) المؤمنين إلى ما يثيره الغضب من نزاع والغيظ من معاصي، وطلب إلينا القدّيس بولس (أف 4: 3) أن نتخلَّص من كلِّ حقد ونقمة وغضب وصياح وشتيمة وما إلى ذلك من شرور.

يغضب الإنسان فيتلفَّظ بكلمات نابية مشينة، يذكر منها الإنجيليّ اثنتين: الأولى »راقا« وهي تدلُّ على الأحمق، وصاحب الرأس الفارغ، والطائش والأرعن الذي يصل به حمقه إلى القتل والسرقة (قض 9: 4). والثانية: »موري« وتعني المجنون، الجاهل الذي يصل به جهله إلى إنكار الله والتمرُّد عليه. من تلفَّظ بهذه الكلمات أو غيرها على قريبه يستوجب دينونة الله وعقابه في جهنَّم.

ما الحاجة إلى تقدمة تقدِّمها للربِّ وأنت مغضب على أخيك؟ صالح أخاك وتعالَ بعد ذلك فقدِّم قربانك. ولا تتأخَّر، فإن التقيت وجه الربِّ في الدينونة وأنت مغضب على أخيك، فسيغضب الله عليك، وكلَّ ما نفعله لأحد من إخوتنا، شرٌّا كان أم خيرًا، إنَّما نعمله للمسيح.

ب- الزنى (5: 27-30)

ويذكر يسوع وصيَّة ثانية من الوصايا العشر: لا تزنِ، والزنى محرَّم في العهد القديم وقد أمر الربُّ كلَّ رجل على لسان موسى، قال: لا تشته زوجة صاحبك، ولا تشته بيته ولا حقله ولا عبده ولا أمته ولا ثوره ولا حماره (تث 5: 21). فالمرأة ملك الرجل، ومن اشتهاها عرَّض نفسه لخطر الغيرة والانتقام، والداخل على امرأة صاحبه، إن مسَّها، لا يسلم من العقاب، فيفعل ما يفعل لهلاك نفسه ولا يمحى عاره في الناس (أم 6: 29-34).

ولكنَّ يسوع يشدِّد على نيَّة الإنسان الذي ينظر إلى امرأة قريبه. من نظر إليها فاشتهاها يكون قد سلبها من زوجها. ولهذا تصبح النظرة الشهوانيَّة خطيئة كالزنى.

كلُّ ما يقودنا إلى الخطيئة نقصيه عنّا. كلُّ ما يقف حاجزًا بيننا وبين الله نهدمه. نبتعد عن كلِّ فخٍّ نسقط فيه أو حجر نعثر به. إذا جعلتنا عيننا نخطأ نقلعها ونلقيها عنّا، وإن جعلتنا يدنا اليمنى نخطأ نقطعها ونلقيها عنّا.

ج- الطلاق (5: 31-32)

أمّا الكلام عن الطلاق، فنقرأه في سفر تثنية الاشتراع (24: 1): »إذا تزوَّج رجل بامرأة، ثمَّ لم تجد عنده حظوة لعيب وجده فيها، فليكتب لها كتاب طلاق ويدفعه إلى يدها ويصرفها من بيته«. كان للرجل حقٌّ في أن يعيد امرأته إلى بيت والدها دون أن يكون لها حقٌّ في الاعتراض. ولكن في شريعة المسيح الجديدة لم يعد من وجود للطلاق لأنَّ من طلق امرأته جعلها عرضة للزنى، ومن تزوَّج مطلَّقة زنى. ولقد عقَّب القدّيس بولس على هذا الكلام (1كور 7: 10) فقال: لا تفارق المرأة زوجها، وإن فارقته، فلتبقَ بلا زواج أو فلتصالح زوجها، وعلى الرجل أن لا يطلِّق امرأته.

د- حلف اليمين (5: 33-37)

تفرض الوصيَّة الثانية على المؤمن أن لا يحلف حلفًا باطلاً لئلاّ يدنِّس اسم الربِّ فيجعله شاهدًا على كذبه. ولكنَّ يسوع يمنع تلاميذه من أيِّ حلف، أكان كاذبًا أم صادقًا، كم يمنعهم من الحلف بالسماء والأرض وأورشليم... لا حاجة لنا إلى الحلف، بل فليكن كلامنا »نعم« أو »لا«، لأنَّ من يحلف كثيرًا يكذب كثيرًا، فيكون من حزب الشيطان الذي هو كذَّاب وأبو الكذب (يو 8: 44).

5- الانتقام (5: 38-42)

شريعة المثل تقول: سنّ بسنّ وعين بعين. من أخذ لي سنّي آخذ له سنَّه. ومن قلع عيني أقلع عينه. ومن كسر يدي أكسر يده، والعيب الذي أحدثه فيَّ إنسان أحدثه فيه (أح 24: 20). شريعة موسى هذه طوَّرت شريعة الغاب الأولى التي كانت تقول: »قتلت رجلاً لجرح أحدثه فيّ، وأهلكت فتى لشدخ في رأسي (تك 4: 23). من لا يحافظ على حقوقه يهلك ويموت، ومن لا يردُّ الضربة ضربتين يزول من الوجود.

ولكنَّ شريعة يسوع بعيدة كلَّ الابتعاد وهي تطلب منّا الكثير، حتّى إنَّ بعض المؤمنين يودّون الرجوع إلى شريعة موسى ويؤوِّلون كلام يسوع على هواهم، كان كلام يسوع ببساطته يحتاج إلى تفسير أو تأويل. ويعطينا يسوع ثلاثة أمثلة ليفهمنا أن لا نقاوم الشرّير ولا ننتقم ممَّن أساس إلينا، بل نترك الانتقام للربّ. إن لطمنا أحدٌ لا نعيد إليه اللطمة لأنَّ السيطرة على إرادتنا وعلى العنف الذي فينا، أفضل من أن نُفلت العنان لثورة الغضب فينا. إن طلب أحد أن يأخذ ثوبنا، لا نقاومه بل نعطيه أيضًا رداءنا. أما يخبرون عن أحد النسّاك أنَّ اللصوص سرقوا له كلَّ شيء ونسوا صحنًا في زاوية، فحمله إليهم؟ وإن سخَّرَنا أحد لنمشي معه ميلاً فلنمشِ معه ميلين. هذه هي قوَّة المسيح الذي تقدِّم إلى الذين جاؤوا ليقبضوا عليه (يو 18: 44) ولم يرد على الذين شكوه (مت 26: 62)، فأسلم إلى أيدي الخاطئين. وفي هذا تكون قوَّة المسيحيّ فلا يخاف الاضطهاد بل يفرح لأنَّ الأجر الذي ينتظره في السماء عظيم.

و- محبَّة الأعداء (5: 43-48)

بعد أن ألغى يسوع شريعة المثل ومنع تلاميذه من الانتقام والأخذ بالثأر، ها هو يطلب منّا لا أن نحبَّ قريبنا وحسب، بل عدوَّنا أيضًا. كان اليهوديّ يعتبر قريبه كلَّ من هو ابن عائلته وقبيلته وبلدته ودينه. وكلّ غريب عن البلد والدين والقبيلة يعتبر عدوٌّا. ولكنَّ يسوع يعتبر الناس جميعًا إخوة وأبناء الآب الواحد الذي يشرق شمسه على الأشرار والصالحين، ويمطر على الأبرار والظالمين. فالمسيحيّون لا يعتبرون وجود حواجز بين البشر، بل يقولون إنَّ لا فرق بين يهوديّ وغير يهوديّ، بين عبد وحرّ، بين رجل وامرأة، لأنَّ البشر كلَّهم واحد في المسيح يسوع. وفوق ذلك فتلميذ المسيح لا يبغض الأشرار ولو أساؤوا إليه، ولا يحقد على الظالمين ولو اضطهدوه. إذا كان الآب السماويّ يحبُّ جميع البشر، فعلى أبنائه أن يتشبَّهوا به، فيكونون كاملين كما أنَّ أباهم السماويّ كامل. إذا لم يتصرَّف المسيحيّ بهذه الطريقة فأيُّ فرق بينه وبين الوثنيّ الذي لا يعرف الله.

هذه هي الشريعة الجديدة. إذا كان لموسى بعض السلطة فأعلن شريعة الربِّ على الجبل، فيسوع يملك سلطة تفوق سلطة موسى، فيفسِّر الشريعة ويعطيها أبعادًا جديدة.

وانطلقت رسالة يسوع على ما يقول انجيل متى: يعلّم في المجامع... يشفي الناس من كل مرض ووجع (4: 23). رسالة تعليم جعلت الناس يتعجبون من تعليمه »لأنه كان يعلّمهم مثل من له سلطان، لا مثل معلّمي الشريعة« (7: 28-29). ورسالة شفاء هي تعليم في الوقت عينه. من خلال شفاء المخلّع، تعلّمنا أن الرب يغفر الخطايا، لأنه الله وابن الله. وأن الكنيسة أيضًا تغفر الخطايا، لأنها جسد المسيح السري. فهي تفعل ما فعله يسوع، بحيث تتواصل الرسالة حتى نهاية العالم.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM