السياسة والقراءة الحرفيّة للكتاب المقدس

 

السياسةوالقراءةالحرفيّة للكتاب المقدس

باتت الماكنة الإعلاميَّة العالميَّة، تنقاد إلى تشديد مفرط على معطيات جاءت في الكتاب المقدس، لتضعها وتستغلها في اتجاه بعيد عن العلميَّة التاريخيَّة، بحيث تجعل هذه المعطيات تُستثمر سياسيٌّا وإعلاميٌّا وقوميٌّا على حساب الانتماء القوميّ لأبناء المنطقة سواء من المسيحيِّين أو المسلمين. هذا التساؤل توجَّهنا به إلى الباحث المعروف الخوري بولس الفغالي والمتخصِّص في الدراسات البيبليَّة الكتابيَّة ضمن سلسلة لقاءات كتابيَّة سبق وأن أجرتها معه مجلة الفكر المسيحي في دير مار يوسف في بحرصاف في لبنان. فأجاب:

- أوَّل شيء، مهم جدٌّا في هذا المجال، هو أنَّ القبائل الاثنتي عشرة من الشعب العبرانيّ لم تكن كلها حاضرة، عندما توجهت إلى مصر (قصة يوسف في تك). فأبناء زبولون أو نفتالي مثلاً لم يكونوا في مصر قبل ذلك. وبالمقابل، لا بدَّ من تذكير الذين قد يجهلون ذلك، أنَّه لم يرجع من مصر إلاَّ قبيلة أفرائيم بصحبة يشوع، وقبيلة لاوي ويهوذا بصحبة موسى وهارون. وفي أيِّ حال، فإنَّ قبيلة يهوذا دخلت من الجنوب مع كالب والذين كانوا معه. ومن الشرق دخل أفرائيم أو يشوع بن نون، ولهذه الملاحظة أهمِّيَّتها، إذ عندما دخل العبرانيُّون، لم يدخلوا بالحرب أبدًا، بل تسلَّلوا إلى أماكن لم يكن فيها أحد أصلاً. وإذا انتبهنا إلى النصّ نستخلص ما يأتي: الكنعانيُّون كانوا في السهل، هذا يعني أنَّ العبرانيِّين كانوا في الجبال حيث لا يصِلهم أحد، وكانت تلك الأرض فقيرة. وهكذا دخلوا إلى هذه الأراضي، بصفة متسلِّلين. وفيما بعد ازدادوا مع النموِّ الطبيعيّ، وكثر الناس الذين مشوا في خطِّهم. وقامت بينهم شبه معاهدة حول عبادة الله الواحد. ولكن ظلُّوا في الوقت عينه، مقيمين مع الشعوب الأخرى التي كانت موجودة على تلك الأرض. من تلك الشعوب تُذكر دومًا شعوب كالحويِّين والأموريِّين. إذن من الواضح والأكيد أنهم عاشوا مع شعوب أخرى. المرّة الوحيدة التي صارت فيها سيطرة غالبة لصالح اليهود كانت في عهد الملكين داود ثمَّ سليمان، لكن ظلَّ لكلِّ شعب كيانه الخاصّ. وحتّى على مستوى العبرانيّين كانوا يقولون: جيش يهوذا في الجنوب، وجيش إسرائيل في الشمال، وجيش موآب وجيش عمون...

وتطوّرت القضيّة، عندما صار الذين في يهوذا يقولون: يا ليت شعبنا، الذي في الجهة الثانية، يرجع إلى الهيكل. ومن الناحية العمليَّة، كان اليهود ينتمون كلُّهم إلى مملكة يهوذا، وصار في مملكة إسرائيل شيئًا فشيئًا عبادات ممزوجة بعبادات وثنية ولهذا كان اليهود يحتقرون السامريِّين، إذ كانوا يعدُّونهم نصف وثنيّين ونصف يهود.

ونسأل العالِم البيبليّ، إن كان في الإمكان التحدُّث عن جذور محدَّدة في هذه المنطقة، فيجيب:

- منطقة يهوذا كانت منطقة ثابتة حتّى جاء البابليُّون سنة 597، ففرَّ أهل يهوذا، الملك وأعداد من الناس. في سنة 587 حصل تدمير أورشليم، وأخذ المحتلّ الناس إلى السبي، وكانت خلال تلك المرحلة قد صارت ثورة (في غضون عام 582) فأخذوا المنطقة من جديد، لمدَّة معينة. ولكن عمومًا ومن بعد هذا التاريخ كانت كلُّ أرض فلسطين مأهولة من قبل مملكتي »الفلسطيِّين« والفينيقيِّين، وكذلك أناس من يهوذا وأناس من إسرائيل في الشمال إلى جانب أبناء عمُّون وموآب وآدوم. فاشتملت البلاد على مقاطعات متتالية النفوذ: البابليَّة، الفارسيَّة ثمَّ أتباع إسكندر المقدونيّ، ثمَّ غدت مع الزمن رومانيَّة فبيزنطيَّة حتَّى الفتح الإسلاميّ. فلم يبقَ كيان سياسيٌّ لهذه المقاطعات. ومع الوقت أصبح اليهود على مرِّ هذه العصور وتناقُل النفوذ، تحت رعاية رئيس الكهنة، وبما يُمكن أن يُقارن برعايا البطريرك في وقتنا، فكان رئيس الكهنة صاحب السلطة على كلِّ طائفة من الطوائف، وهو السياق الذي اتّبعه العثمانيُّون والأتراك أيضًا. وصار لكلِّ جماعة دينية أو مذهبيّة من يمثلها: بطريرك للروم الأرثوذكس، وبطريرك للموارنة، إلخ.

بخصوص بلاد فلسطين، إحتلها الرومان سنة 135 ق.م. حدثت ثورة أولى في فلسطين في زمان القائد الرومانيّ تيطس سنة 70 بعد المسيح، وتمَّ في تلك السنة دمار الهيكل، فقبل هذا التاريخ كان قد بقي شيء من الهيكل، ولكن حال قدوم الإمبراطور أدريان، جعل ساحة الهيكل كلَّها أرضًا بدون بناء. لذلك عندما جاء المسلمون، وجدوا الساحة الكبيرة موجودة وجاهزة، فبنوا عليها المسجد الأقصى مع مسجد آخر. ويمكننا القول: عمليٌّا، لم يمسَّ المسلمون بناء مسيحيٌّا أو يهوديٌّا، ولكن سوف يأتي بنو طولون من مصر، ويهدمون كلَّ شيء حوالي سنة 1009، ولم يتركوا من المباني المسيحيَّة أثرًا على أثر، وعندما جاء الصليبيُّون، لم يكن قد بقي أيُّ أثر مسيحيٍّ في القدس أو في أورشليم. وكلُّ ما يوجد الآن من مبانٍ مسيحيَّة هو من أيَّام الصليبيِّين وحدهم.

ونعود إلى تاريخ الفلسطينيِّين، لنقول: قبل كلِّ شيء كانت على هذه الأرض شعوب مختلفة، وكان الذين يعيشون في المدن يتكلَّمون اللغة اليونانيَّة، وكان فيها مسيحيُّون من الروم، وكان هناك وثنيُّون أيضًا. وجاء المدُّ الإسلاميّ، والذين جاؤوا كانوا قليلين، فامتزجوا مع الآخرين. أمَّا أوَّل مرَّة اعتُرف فيها بفلسطين رسميٌّا، فكان ذلك في عهد الإمبراطور الروماني أدريان (76 - 138م). إذ عمد، وإمعانًا في إذلال بَني إسرائيل، إلى أخذ إسم مقاطعة الفلسطيِّين(1) وسمّاها »فلسطين«. وهكذا في سنة 135م صارت فلسطين أولى، كما صارت بعدئذٍ فلسطين ثانية، مثلما صارت فينيقيا الأولى وفينيقيا الثانية. تقسَّمت كلُّها تقسيمات جغرافيَّة إداريَّة، ومع هذا التقسيم صارت تقسيمات إداريَّة كنسيَّة، فصارت أبرشيَّة فينيقيا الأولى مع أبرشيَّة فينيقيا الثانية، وهكذا الحال مع أبرشيَّة فلسطين الأولى والثانية، إلخ.

وممَّا يودُّ استخلاصه من هذا العرض، قال الخوري الفغالي:

- هذه الأرض لم يكن لها كيان إسرائيليّ ممتدٌّ ومستقل أبدًا، كان هناك أناس عائشين في فلسطين وهؤلاء السكان تمازجوا بعضهم مع بعضهم بعد الفتح الإسلاميّ، وهناك من اعتنق الإسلام وغيرهم انتقلوا إلى أماكن أخرى، وهذا الأمر، بقي هكذا إلى سنة 1919. فصار الانتداب، وهذا حدَّد حدود فلسطين، حيث جعلوا نهر الأردنّ كفاصل، وإلاَّ لكانت الجزيرة العربيَّة (السعوديَّة) قد وصلت البحر. وحينئذ أيضًا قسَّموا لبنان وسورية، وكان هناك ثمّة مشروع بشأن لبنان، ليكون بحره حتَّى اللاذقيَّة، لكنَّ البطريرك الحويِّك رفض هذا الشيء. بعدئذٍ سُمّيت المنطقة باسم »الأقضية الأربعة«، أي الجنوب والبقاع وبيروت وطرابلس، فغدت كلُّها رقعة لبنان الحالي.

وهكذا في سنة 1919 أُعلنت دولة فلسطين تحت انتداب إنكليزيّ، ودولة لبنان تحت انتداب فرنسيّ، وكذلك الأردنّ وسورية (الشام الكبرى)، وأعطى الفرنسيُّون كلَّ لواء الإسكندرون السوريّ لتركيّا كي لا تدخل في الحرب بجانب الألمان وذلك في سنة 1932. وكان اليهود قد بدأوا يُعدُّون العدّة لأوضاعهم. إذا كان هناك من يقول بوجود يهود، ففي الواقع لم يكن لهم إلاَّ وجود محدود في المنطقة، حالهم حال الكثير من الجماعات الأخرى، وكانوا عائشين مع غيرهم(2). منذ القرن التاسع عشر وبداية العشرين بدأ اليهود يقومون بعمليَّات: يقتلون الناس، ويشترون الأراضي في فلسطين ضمن مخطَّط محدَّد، ولم تنفجر القضيَّة الفلسطينيّة عالميٌّا إلاَّ في وقت حرب سنة 1948، وأحسَّ الفلسطينيُّون أنَّ الأرض ستذهب من بين أيديهم. وبدأت الحروب فامتدَّت أحيانًا إلى البترون في لبنان. وكان من واقع الحال أنَّ الأردنّ تولَّى نصف فلسطين، في عهد الملك عبد الله الذي قُتل في عام 1951، وفي سنة 1967 عندما انفصلت الأرض المسمَّاة غربيّ الأردنّ عن شرقيّ الأردن، احتلَّ اليهود شرق الأردن مع أراضٍ أخرى، وما زال الفلسطينيُّون قائمين بثورتهم من أجل الحصول على دولتهم المفقودة والمعترف بها في المحافل الدوليَّة المعاصرة منذ سنة 1919.

اليهود، أصل التسمية

كلمة »يهود« مشتقة من »يهوذا«، الابن الرابع ليعقوب من زوجته ليئة (تك 29: 31). وقد أطلقت كلمة »يهود« أوَّلاً على بني يهوذا الذين طردهم »رصين« ملك أرام من أيلة على خليج العقبة (2 مل 16: 6). وفي عصر إرميا أصبحت كلمة (يهود) إسما عامٌّا يُطلق على بنى إسرائيل قبل السبي (في أواخر القرن 6 ق. م. إرميا 32: 21) تمييزًا لهم من شعوب الأمم المحيطة بهم، وتُستخدم الكلمة مرادفًا لكلمة »عبرانيِّين« (إرميا 34 : 9). كما يذكر إرميا أنَّ نبوخذنصَّر سبى »من اليهود« في السنة السابعة من ملكه، 3023 شخصًا (إرميا 52 : 28).

وعندما كان الشعب في السبي البابليّ، اتسع معنى الكلمة ليشمل كلَّ أتباع الديانة اليهوديَّة، فقد كان اليهود يختلفون عن الشعوب المحيطة بهم، إذ كانوا يعبدون الله الحيَّ الحقيقيّ، وهكذا انقسم العالم إلى: »يهود وأمم«، وقد تقدم رجال كلدانيُّون إلى نبوخذنصَّر ملك بابل، قائلين له »يوجد رجال يهود، لم يجعلوا لك، أيُّها الملك، إعتبارًا، وآلهتك لا يعبدون، ولتمثال الذهب الذي نصبته لا يسجدون« (دا 3: 8). كما أنَّ سفر (أستير) يبرز موضوع انفصال اليهود عن سائر الشعوب، ممّا جعلهم موضع عداء. ولكن لمَّا فشلت مؤامرة هامان (وزير أحشويرش الفارسيّ) لإبادتهم، وانقلبت عليه المؤامرة، »تهوّد كثيرون من شعوب الأرض لأنَّ رعب اليهود وقع عليهم« (أس 8 :17). وفى سفر عزرا (4: 12)، نجد كلمة »اليهود« تطلق على الراجعين من السبي البابليّ، وكذلك في سفر نحميا (1: 2، 4: 2). وفى سفري عزرا ونحميا نجد إدراكًا لأهمِّيَّة انفصال الشعب اليهوديّ عن الأمم الأخرى، والأمر بعدم التزاوج معها (عز 9 : 1 - 10: 4، نح 13 : 24).

وتحتفظ كلمة »اليهود« في أسفار العهد الجديد بمدلولها كشعب ودين، فقد كان لليهود ديانتهم وعوائدهم الخاصَّة، حتَّى إنَّ كتبة العهد الجديد الذين كتبوا للأمم التي اعتنقت المسيحيّة، رأوا من الضروريّ تفسير بعض تلك العادات للأمم (رج مر 7: 3، يو 5: 1، 19: 40)، فهناك اليهود والأمم (أع 11: 19)، والسامريُّون (يو 4: 9 و22)، والدخلاء (أع 2: 10). واليهود الذين اعتنقوا المسيحيَّة، كان يُطلق عليهم - في البداية - »المتهوِّدون« (غل2: 13) أي الذين أصلهم يهوديّ، ولكن مع مرور الوقت تأكَّد الفصل بين اليهود والمسيحيِّين. وقدِّم لنا الرسول بولس تحليلاً لاهوتيٌّا لمعنى كلمة »يهود« (رو 2: 17)، فأوضح أنَّ معنى الكلمة، ليس الاعتراف الدينيّ الظاهريّ، بل الموقف القلبيّ من الله. ولا شكَّ أنَّ الرسول بولس كان يفكِّر في عدم كفاية حياته الماضية كيهوديّ، قبل أن يؤمن بالمسيح (في 3: 3).

ويؤكِّد العهد الجديد على عداوة اليهود للربِّ يسوع المسيح، كما إنَّ الإنجيل كان عثرة أمامهم (1كور 1: 23). ومع أنَّ الرسول بولس كان أصلاً يهوديٌّا غيورًا (أع 26: 4)، إلاَّ أنَّه وجد نفسه موضعَ اتِّهام من قبل اليهود وهدفَ عداوتهم المُرّة (أع21: 11، 23: 12 و27). ونقرأ في سفر الرؤيا عن »تجديف القائلين إنَّهم يهود، وليسوا يهودًا بل هم مجمع الشيطان« (رؤ 2: 9، 3: 9)، فقد كانوا يؤدُّون عمل الشيطان المقاوم لله. وترد كلمة »يهود« نحو 70 مرَّة في إنجيل يوحنَّا، وفي غالبيَّة الحالات، ترد في الإشارة إلى السلطات الدينيَّة في أورشليم وإلى عدائها للربَّ يسوع (5: 18، 9: 18، 11: 8، 18: 36). وممَّا يلفت النظر أنَّ والدَي الإنسان المولود أعمى، وكانا كلاهما يهوديَّان، قيل عنهما: »كانا يخافان من اليهود« (يو 9: 22). وكلمة »اليهود« في (يو 18: 12) تشير إلى »رؤساء الكهنة والفريسيِّين« (يو 18: 3) ولكنَّ يوحنا يذكر أيضًا أنَّ بعض اليهود آمنوا بالمسيح (يو 8: 31، 11: 45، 12: 11) ونرى فى »نثنائيل« نموذجًا لليهوديّ المسيحيّ، فقد كان »إسرائيليَّا لا غِشَّ فيه« (يو1: 47).

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM