وجه الكنيسة في سفر الرؤيا.

 

وجه الكنيسة

في سفر الرؤيا

حين نقرأ سفر الرؤيا، نفهم للوهلة الأولى أنه يتوجّه إلى كنائس قريبة من كنيسة أفسس، أمِّ كنائس تلك المنطقة. وهي سبع كنائس، هذا هو رقم الكمال. وهذا يعني أنَّ سفر الرؤيا يتوجّه إلى الكنيسة كلِّها، التي سنراها فيما بعد امرأة، تقاسي ألم المخاض قبل أن تلد البنين العديدين. فكيف يبدو وجه الكنيسة في كتاب يخاف الناس من قراءته، لما فيه من كوارث؟ إنَّه نظرة إنسان مؤمن إلى ما حدث في الكون في حقبة متأزّمة من تاريخ الكنيسة.

1- كنائس في حياتها اليوميّة

جعل الكاتب الملهَم أمامنا كنائس محدّدة، في آسية الصغرى التي هي تركيّا الحاليّة. على رأس كلِّ كنيسة أسقف يسمِّيه النصُّ »ملاكًا«، أي ذاك الذي أرسله المسيح لرعاية المؤمنين. وهذا الأسقف يمثِّل شعبه، فينال ما يستحقُّون من مديح، ويوبِّخ حسب ما يستحقُّون من توبيخ. هذه الكنائس مدعوَّة لأن تسمع نداء الروح يكلِّمها كلَّها كما يكلِّم كلَّ واحدة منها. فما يقوله لكنيسة محدّدة يعرفها باسمها، يقوله لجميع الكنائس، لأنَّها جميعَها معنيَّة بحضور الإنجيل وسْطَ عالم يعرف الضيق والاضطهاد.

يهنِّئ الكتاب أسقف أفسس على أعمالِه وتعبه الرسوليّ وصبرِه في المحنة (2: 2)، وأسقفَ إزمير على غِناه مع أنَّه يعرف المحنة والفقر (آ9)، وأسقف تياتيرة على أعماله ومحبَّته وإيمانه وصبره. »أعمالك الأخيرة أكثر من الأولى« (آ 14). ومع التهنئة يأتي التوبيخ، إذا دعت الحاجة. فيسمع أسقف أفسس كلام الرب: »تركتَ محبّتك الأولى. فاذكر من أين سقطتَ، وتُبْ واعمل أعمالك الأولى« (2: 4-5). ويُقال لأسقف برغامُس: »عندك قوم متمسِّكون بتعليم بلعام«، وما في هذا التعليم من زنى في ظلِّ المعابد الوثنيَّة. كما عندك آخرون يتمسَّكون بتعاليم النيقولاويِّين الذين يعتبرون أنَّهم يخونون المسيح في الخارج، ولكنَّهم يتعلَّقون به في الداخل، كذبة كبيرة. أمَّا التوبيخ الأقوى فنجده في كنيسة لاودكيَّة. قال الربُّ لأسقفها: »أنا أعرف أعمالك: لست باردًا ولا حارٌّا، فيا ليتك كنت باردًا أو حارٌّا. فبما أنَّك فاتر فأنا مزمع أن أتقيَّأك من فمي« (3: 15-16).

وتأتي كلمات التشجيع من الربِّ نفسه بدون الهروب من الواقع، مهما يكن فيه من صعوبات: »لا تخف« (2: 10)، فالألم ينتظرك، والصعوبات وافتراءات اليهود لن توفِّرك. بل سيُلقى بعض أعضاء الكنيسة في السجن. يبقى على أسقف كنيسة إزمير أن يكون »أمينًا إلى الموت«، وهو سينال »إكليل الحياة« (آ10). فالاستشهاد حرب وصراع، والمنتصر يتوَّج. وفي نظر يسوع، لا يعرف الموت الثاني، موت النفس والجسد. وقال الربُّ لأسقف كنيسة فيلدلفية: »مع أنَّ لك قوَّة يسيرة، فقد حفظت كلمتي ولم تنكر اسمي«. تلك هي التهنئة. ويكون جزاء الربّ ردٌّا على ما فعله أسقفه: »لأنَّك حفظت كلمتي بصبر، فأنا أيضّا أحفظك في ساعة المحنة. ها أنا آتي سريعًا، فتمسَّكْ بما عندك لئلاّ يأخذ أحد إكليلك« (3: 8، 10-11).

2- كنيسة تلاقي الضيق

في نهاية القسم الأول من سفر الرؤيا، نتعرّف إلى الشاهدَين اللذَين هما بطرس وبولس. ماتا في رومة على أيَّام الإمبراطور نيرون، ولكنَّهما قاما بعد ثلاثة أيام ونصف اليوم، كما صعدا إلى السماء. قبْلَهما مات المسيح. وهو يموت في كلِّ موضع يموت شهيد في سبيل الإيمان. مات حيث مات إسطفانُس، الذي كان الشهيدَ الأوَّل في موقفه الغافر لأعدائه، امتدادًا لموت يسوع الذي غفر لصالبيه.

وبدا الطرفان المتحاربان، من جهة قوى الشرِّ مع التنّين الذي هو إبليس والحيّة الجهنميَّة، ومعه الوحشان. ومن جهة ثانية هذه المرأة التي هي علامة آتية من السماء. هي تدّل على الكنيسة في كلِّ بهائها، ارتدت الشمس الذي هو يسوع المسيح. وكان على رأسها اثنا عشر إكليلاً، تدلّ على الرسل الإثني عشر الذين يزيّنون الكنيسة بحضورهم وتعليمهم بانتظار أن يسقوها بدمائهم. أحسّت هذه المرأة بالخطر، فهربت إلى البرِّيَّة، وفي هربها ابتعاد عن خطايا العالم الوثنيّ، ولجوء إلى حِمى الله، على مثال الشعب الأوَّل في البرية. وكما كان الربّ حاضرًا في سيناء ليطعم شعبه ويسقيه، هكذا يفعل الآن مع كنيسته فيُعيلها مدّة من الزمن. وكما انتصر شعب الله على عماليق، كذلك سوف تنتصر هي بقوَّة ميخائيل الذي يعني اسمه: »مَن مثل الله«. وكما حمل الله شعبه مثل النسر الذي يحمل فراخه ويجعلها في الأمان، كذلك كان الوضع للكنيسة في قلب الاضطهاد: »أعطيَت المرأة ''الكنيسة'' جناحَي النسر العظيم لكي تطير إلى البرِّيّة حيث تُعال« (12: 14). وحاولت المياه أن تتحالف مع قوى الشرّ، كما في الطوفان، ولكنَّ الأرض ابتلعت المياه القاتلة، والسمّ الذي ألقاه التنين لم يؤذِ المؤمنين لأنَّهم مطبوعون منذ الآن بطابع القيامة.

3- كنيسة تسير نحو النصر

منذ بداية سفر الرؤيا، وفي الكلام عن الكنائس السبع، تكرَّرت الردَّة: »الغالب، مَن يغلب«. قيل لكنيسة أفسس: »مَن يغلب أعطيه أن يأكل من شجرة الحياة التي في وسط فردوس الله« (2: 7). حُرم منها الإنسان بالخطيئة في البداية، وها هو ينال الحياة الأبديَّة في النهاية. وقيل لكنيسة إزمير: »مَن يغلب لا يؤذيه الموت الثاني« (آ11). فالمؤمن لا يخاف الموت الأوَّل، موت الجسد. لهذا، حتّى إن مات فحياته في يد الله. ونال الغالب في كنيسة برغامُس المنّ الخفي الذي يرمز إلى الافخارستيّا وطعام الخلود. والغالب في كنيسة تياتيرة ينال »سلطانًا على الأمم، فيرعاهم بقضيب حديد« (آ27). هذا ما قاله المزمور الثاني عن المسيح: »ترعاهم بعصا من حديد، وكإناء خزّاف تحطِّمهم«. وتتوإلى المواعيد الحلوة للغالبين في الكنيسة التي لا يمكن أن تخاف. بل أعداؤها هم الذين يخافون ويدبّ اليأس في قلوبهم، فيصرخون: »يقولون للجبال والصخور: اسقطي علينا وأخفينا من وجه الجالس على العرش (أي الله الآب) ومن غضب الحمل (أي الابن)، لأنَّ قد جاء يوم غضبه (الآب والابن واحد) العظيم، فمن يستطيع الوقوف؟« (6: 15).

هذا النصر الذي تحرزه الكنائس، كلٌّ في موضعها، في نهاية القرن الأوَّل المسيحيّ، وساعة كُتب سفر الرؤيا، ستُحرزه الكنيسة ككلٍّ في نهاية العالم. بل إنَّ هذا النصر يتجلّى فيها يومًا بعد يوم، بفضل ذاك الذي قال لنا: »لا تخافوا، أنا غلبتُ العالم«. من أجل هذا يُنشد المؤمنون: »الخلاص والمجد والكرامة والقدرة للربِّ إلهنا« (19: 1). أمّا آخر عدوّ ينتصر عليه الربّ، فهو الموت الذي لن يكون له مكان في أورشليم الجديدة.

فالكنيسة ستصبح حينذاك السماء الجديدة والأرض الجديدة. والبحر، الذي هو موضع الشرّ والموت، لن يعود له من وجود (21: 1). الله يقيم في كنيسته، فلا مكان بعدُ للدموع، الله الحيّ حاضر بين المؤمنين، فلم يعد مكان للموت والحزن والصراخ والوجع (21: 4). بل لم يعد مكان لليل، ولم تعد حاجة إلى الشمس والقمر، فمجدُ الله ينير المدينة المقدَّسة التي تجمع المؤمنين من الأرض كلِّها، وسراجها حمل الله (آ23).

خاتمة

ذاك هو وجه الكنيسة في سفر الرؤيا. أبواب الجحيم لا تقوى عليها، والموت لا يؤذيها. فالحمل - الذي يحميها من كلِّ شرٍّ - حاضر فيها. لا شكّ في أنَّه مذبوح، وهو يحمل أثر جراحه التي بها شُفينا، ولكنَّه واقف وقفة القيامة. فإن كان الضيق حاضرًا، فالرجاء حاضر أيضًا. والكنيسة التي تخاف من أعداء الخارج، تخاف بشكل خاصٍّ من أعداء الداخل، من أبنائها، ساعة تجفّ المحبّة في القلوب، ويُبغض الأخ أخاه والأب ابنه. فتبقى الكلمة الأخيرة: »مَن يصبر إلى المنتهى فذاك يخلص«.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM