سفر الرؤيا والتاريخ.

 

سفر الرؤيا والتاريخ

 

اعتاد الكثيرون، لدى قراءتهم سفر الرؤيا، أن يجدوا فيه أحداث المستقبل. فيرون في »الرؤيا« كتاب نبوءة يتوزَّع على الأجيال الآتية. ويحسبون الأختام السبعة والأبواق السبعة والكؤوس السبع، مع ما في هذا الرقم من رمز، ليروا فيها ما سوف يحدث للبشريَّة وكيف تكون نهاية العالم. أمّا الحقيقة، فسفر الرؤيا نظرة دينيَّة إلى التاريخ الذي عاصرته الكنيسة في القرن المسيحيِّ الأوَّل، مع سمة خاصَّة هي الاضطهاد الذي أصابها في أيام الإمبراطور الرومانيِّ دوميسيان (91-96).

التاريخ الاجتماعيّ

حين نجول في الكنائس السبع التي إليها تتوجَّه رسائل، نكتشف صورة عن مدن آسية الصغرى في القرن الميلاديِّ الأوَّل. تقع هذه المدن على الخطِّ البريديِّ الرومانيِّ القديم على شكل دائرة بيضويَّة، وتتميَّز كلُّ واحدة بشيء خاصٍّ بها. ولكنَّها تُجمِع كلُّها على عبادة الإمبراطور ورومة. فتمثال رومة يتوسَّط المدينة، وكذلك تمثال الإمبراطور. وتمتزج العبادة للأصنام مع السجود للإمبراطور والخضوع له. فما هو حال المسيحيّين؟ في البدء اعتبروهم جماعة يهوديّة، فمُنحوا ما مُنح اليهود من إعفاء من المشاركة في عبادة الأوثان. ولكن حين تمَّ الفصل بين الجماعتين، صار المسيحيُّون أناسًا ذاهبين إلى الموت، لأنَّهم بلا غطاء شرعيّ. لهذا أُرسِل مَن أرسِل إلى السجن، أو إلى الموت. فكتب الرسول يوحنّا سفر الرؤيا ليشجِّع المؤمنين على الثبات والأمانة.

وإذا عدنا إلى كلِّ مدينة على حدة، نفهم أنَّ أفسس هي الأولى مع ربع مليون من السكان. والعبرة: يجب أن تكون أيضًا الأولى على مستوى الإيمان. أمّا برغامُس فهي »عرش الشيطان« وفيها عبادة الإله أسكولاب الذي قيل إنَّه يشفي المرضى. وعُرفت أزمير بالمباني المحيطة بها، فوجب عليها أن تنتظر من الربِّ إكليل الحياة. وعرَفت سرديس اجتياحات حربيّة دمَّرتها، فعليها أن تنتظر المسيح الذي يأتيها »كالسارق«. كما عرفت حياكة الصوف، فوجب عليها أن تفهم رمزيَّة اللباس الذي هو لباس المعموديَّة. وفيها مدرسة للطبّ مع صناعة لكحل خاصّ يشفي بعض أمراض العيون، فنبَّهها المسيح بأنَّها فقيرة إلى الغنى الحقيقيّ، وبأنَّها كالمياه الفاترة لا تنفع شيئًا، لا هي حارّة ولا هي باردة. لذا سيتقيّأها الربّ. أمَّا الدواء الحقيقيّ للعينين فنجده لدى الله. فهناك عمى بشريّ وهناك عمى على مستوى الإيمان.

التاريخ السياسيّ

انطلق الكاتب من واقع هذه المدن، فما توقّف عنده، واهتماماتُه تختلف عن اهتمامات المؤرِّخين. بل استخلص منه موقفًا إيمانيٌّا في عالم يعيش فيه المسيحيُّون كغرباء ونزلاء. وما قلناه عن التاريخ الاجتماعيّ، نقوله عن التاريخ السياسيّ. فالأحداث التي يصوِّرها سفر الرؤيا بلغة نسمِّيها »جليانيّة«، لأنَّها تكشف المعنى الحقيقيّ لما يحصل في العالم، هي واقع ينطلق منه الكاتب ويجعله في إطار مخطَّط الله الخلاصيّ.

على المستوى اليهوديّ، نستطيع أن نقرأ عن خراب أورشليم سنة 70م ودمار الهيكل. لقد أعطي للأمم الوثنيَّة، للرومان الذين جاؤوا مع تيطس ووسباسيان، وهم سيدوسون المدينة المقدّسة بجيوشهم (11: 2). هذا ما يجعلنا قريبين جدٌّا ممّا قاله لوقا: »متى رأيتم أورشليم محاطة بالجيوش، فاعلموا أنَّ خرابها اقترب«. فجعل هذا الكلام على فم المسيح. ولكنَّه في الحقيقة قرأه حين رأى ما آلت إليه المدينة المقدَّسة، لأنَّها رفضت ربَّها فصار بيتُها خرابًا. فماذا يبقى؟ هيكل الله والمذبح. هيكل الله هو جسد المسيح، هو جماعة المؤمنين الجدد، تجاه هيكل صنعته الأيدي فصار صنمًا يتعلَّقون به ولا يفهمون معناه. والمذبح يرتبط بالشهداء الذي سفكوا دماءهم من أجل كلمة الله وشهادته، فكانوا رفاق المسيح في قيامته.

وعلى المستوى الرومانيّ، نكتشف بشكل خاصٍّ هجمة الجيوش الآتية من شرقيّ الإمبراطوريَّة الرومانيَّة في منتصف القرن الميلاديِّ الأوَّل، صوّرها الرائي بأسلوب مأخوذ من الأنبياء (9: 1-19)، فشبَّهها بالجراد الزاحف الذي يدمِّر كلَّ شيء أمامه. كما نكتشف أكثر من مجاعة حدثت، والوباء والزلازل. واستلهم ضربات مصر ليقول إنَّ ما حدث كان نداء إلى التوبة، أكثر منه انتقامًا من الناس الطيّبين الذين قال فيهم سفر نينوى: »لا يعرفون شمالهم من يمينهم«.

لقد مات مَن مات من الناس، كما هو الوضع الآن مع الحروب والمجاعات والأوبئة. فيستخلص الكاتب العبرة: »وأمَّا بقيّة الناس الذين لم يموتوا بهذه الضربات، فلم يتوبوا عن أعمال أيديهم. بل ظلّوا يسجدون للشياطين وأصنام الذهب والفضَّة والنحاس والحجر والخشب، التي لا تستطيع أن تبصِر ولا تسمع ولا تمشي، ولا تابوا عن القتل الذي مارسوه والسحر والزنى والسرقة« (9: 20-21). فكأنّي بالكاتب أراد أن يُذكِّر بالوصايا العشر: عبادة الإله الواحد، والابتعاد عن عبادة الأصنام كما هو الوضع في العالم الرومانيّ. ثمَّ ممارسة المحبَّة الأخويَّة، والامتناع عن الفواحش. وأخيرًا، بدت كلمات الرؤيا عودة إلى الماضي ونداء للبشر إلى التوبة. لا يتوقَّف الكاتب عند الأحداث بتفاصيلها، بل ينظر إليها على ضوء الإيمان وكلامِ الله كما قرأه في العهد القديم.

التاريخ الدينيّ

انطلقت المسيحيّة من العالم اليهوديّ، وتوسَّعت فوصلت إلى العالم اليونانيّ- الرومانيّ، المنتشر حول حوض البحر المتوسط. لا شكَّ في أنَّ المسيحيِّين كانوا عديدين شرقيّ تركيا وفي بلاد الرافدين وأبعد من ذلك. ولكنَّ الكاتب ينطلق من محيطه فيربطه بمركز القرار في رومة حيث مات بطرس وبولس وعدد كبير من الشهداء.

كيف بدا المشهد الدينيّ في نهاية القرن الأوَّل المسيحيّ؟ هناك حضور يهوديٌّ في مدن عدّة. لم يبقَ لهم، بعد دمار الهيكل، سوى التوراة أو العهد القديم، يقرأونه في المجمع، يوم السبت. ولكنَّ حُكم كاتب الرؤيا قاسٍ: صار المجمع مجمع الشيطان (2: 9) لأنَّه يقاوم الكنيسة. والعهد القديم لا يفهمونه. بل ما زال مختومًا بسبعة ختوم. وحده يسوع المسيح، حملُ الله، يفتح السفر ويفكّ ختومه السبعة. هذا يعني أنَّ العهد القديم لا يُفهم إلاّ على ضوء العهد الجديد. فهو ناقص، يحتاج إلى المسيح الذي يكمِّله. وبعد الفصل 11، لا يعود الكاتب يتحدَّث عن العالم اليهوديّ. فثقلُ الكنيسة انتقل إلى العالم الوثنيّ بعد أن ظهر اليهود »غير مستحقِّين الحياة الأبديَّة«، كما قال لهم بولس في مجمع أنطاكيَّة - بسيدية.

أمَّا العالم الوثنيُّ فيتعبَّد لأصنام خاصَّة بكلِّ مدينة. وكان ثمّة تبادل، فعبدت هذه المدينة آلهة جارتِها وقابلتها جارتُها بالمثل. والقاسم المشترك هو عبادة الإمبراطور وتمثاله في كلِّ مدينة. ثمَّ عبادة رومة، عاصمة المملكة. وجاءت ديانات »سِرّانِية«، تحاول أن تُدخل الإنسان في عبادة سرّيَّة باطنيَّة، محفوظة لفئة من المتدرِّجين. وفي أيِّ حال، بدا المجتمع الرومانيُّ مفكّكًا يبحث عن نفسه، بل غارقًا في خطاياه وشهواته، كما قال عنه بولس في بدء الرسالة إلى رومة.

وتبقى الكنيسة التي انتشرت في كلِّ مدن الإمبراطوريَّة، بل تجاوزتها حتَّى وصلت عيلام وماداي وبلاد الرافدين والشرق البعيد عن الفراتيّين، كما يقول لوقا في سفر الأعمال. ولكنَّ وضع الكنيسة القانونيّ لا يسمح لها أن تظهر علنًا بسبب الاضطهاد. وهنا يصوِّر الكاتب ما قاسته الكنيسة في أيَّامه، ونحن نعرف السجن والقتل اللذين عاناهما المسيحيُّون في نهاية القرن الأوّل. ويعود بنا إلى الستّينيّات مع ملاحقات واضطهاد نيرون، وموت الرسولين بطرس وبولس، ويرينا من جهة كنيسة تصبر على المحنة، ومن جهة أخرى مسيحيِّين يتراخون وآخرون يخونون الرسالة. إنّه لا يجمّل الصورة وكأنَّها بنت الخيال، بل يرسمها على حقيقتها ليكون المؤمنون على بيّنة من الأمر، فيفهموا أنَّ صراعهم ليس مع لحم ودم، بل مع رئاسات وشياطين، مع قوى الشرّ التي تريد أن تدمِّر الكنيسة. لكنَّ هذا مستحيل بعد أن قال يسوع إنَّ أبواب الجحيم لا تقوى عليها.

خاتمة

وهكذا بدا سفر الرؤيا نظرة إلى التاريخ. إنطلق من الحاضر وصعوباته، وعاد إلى الماضي ليكتشف أمانة الله الذي حفظ كنيسته في الماضي وهكذا اليوم. ويتطلَّع المؤمن إلى المستقبل وهو متأكِّد من أمانة الله، غير أنَّها لا تعطى لنا »معلَّبة« فنأخذها كما هي مفروضة علينا، مكتوبة، وموضوعة في نبوءة تسير مسارها رغم البشر. كلاَّ ثمَّ كلاَّ. فهذه الأمانة يجسِّدها المؤمنون بحياتهم. إنَّهم يكتبون التاريخ مع الله. لهذا كان سفر الرؤيا حافزًا لنعرف مسؤوليَّتنا في العالم الذي نعيش فيه فننطلق إلى العمل، متّكلين على أمانة الله.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM