سفرا المكابين
 

 

سفرا المكابين

مقدمة:
سفران بالغا الاهمية بالنسبة إلى تاريخ الأمة اليهودية في القرن الثاني قبل المسيح، إذ ان كتب التاريخ اليونانية تكاد تتجاهل هذه الحقبة. والقانون اليهودي الذي حدّد الكتب المقدسة في يمنية في القرن الأول المسيحي لا يذكرهما فىِ عداد الكتب الموحاة. كذلك اعتبرهما القديس ايرونيموس منحولَين وحذا حذوه البروتستانت، بيما اعترفت بها الكنيسة منذ نهاية القرن الرابع وأقرتها في مجمع ترانت (في ايطاليا سنة 1546). وكذلك تعترف بها الكنيسة الارثوذكسية. وكان آباء الكنيسة الاولون قد علقوا عليهما الشروح لما فيهما من تعليم حول الامانة لله، والقيامة، والجزاء في العالم الثاني، وشفاعة القديسين.
محتواها اخبار الحرب التي قادها متتيا واولاده ضد السلوقيين الذين حاولوا أن يخضعوا اليهود للحضارة الهلينية التي كانت قد عمَّت بلدان البحر المتوسط. أما كلمة "مكابي" فقد أطلقت على يهوذا بن متتيا، وقد تعني "مختار الله"، ثم عمت سائر اخوته.
1- تعريف بالسفر الاول:
يتكلم هذا السفر على الخصمين المتناحرين: انطيوخس الرابع الملقب بابيفانيوس ومتتيا وأولاده الثلاثة. يقسم هذا السفر ثلاثة اقسام، وكل قسم منه مكرَّس لاحد ابناء متتيا:
1- يهوذا من سنة 166 إلى 160 ق. م.
2- يوناتان من سنة 160 إلى 142 ق. م.
3- سمعان من سنة 142 إلى 134 ق. م.
تدور احداث هذا الكتاب بين سنة 175 تاريخ تسلّم أنطيوخس الرابع الحكم وسنة 134 سنة موت سمعان. وُضع بالعبرية لكنه لم يُحفظ إلا في ترجمته اليونانية. واضعه يهودي من فلسطين كتبه بعد سنة 134 وقبل سنة 63 ق. م، سنة احتلال القائد الروماني بومبيوس لاورشليم، أي حوالي سنة المئة. هو مرجع تاريخي مهم وان حاول تقليدَ الكتب التاريخية اليهودية المعروفة كسفري اخبار الايام. إنه كتاب سياسي وحرب، ولكنه قبل هذا كله تاريخ ديني يبيّن ان كل انتصار آتٍ من الله وكل فشل قصاص منه لتربيتنا. كاتبه مؤمن يرى الايمان في خطر فيحارب، بضراوة، الحضارة الهلينية التي بدأت تطغى على قلوب معاصريه وتبهر عقولهم. هو معجَب ببطولة المكابيين الذين يؤمِّنون للشعب نوعاً من الاستقلال الديني والوطني. انه يؤرخ لحرب تنتصر فيها أورشليم حاملة الوحي الالهي على حضارة، مهما عظمت، تبقى وثنية.
2- تعريف بالسفر الثاني:
ليس هذا السفر تكملة للأول. انه يبدأ في أواخر ايام سلوقس الرابع وينتهي بموت نكانور القائد السلوقي الذي دحره المكابيون. فهو اذن يؤرخ لخمسة عشر سنة فقط (175- 160 ق. م 0). الفن الأدبي هو غير فن السفر الأول. اسلوبه شعري ملحمي وإن ألقى دروساً في الاخلاق والايمان. انه اسلوب خطابي إرشادي أكثر مما هو تاريخي وعلمي، مع أن معلوماته التاريخية بخصوص المؤسسات اليونانية والاشخاص هي اصحّ من معلومات السفر الاول. هو مختَصر لكتاب مؤلَّف من خمسة اجزاء لياسون القيريني (2/23). وُضع ليهود الاسكندرية ليحسّسهم بقضايا اخوتهم في اورشليم ويحثّهم على الاقتداء بهم في وقفتهم الدفاعية ضد الهلينية. وضع ياسون كتابه بعد موت نكانور سنة 160 ق. م. واختصره 2 مك حوالي سنة 124 ق. م. جديد هذا الكتاب هو تعليمه بصدد قيامة الاموات والمجازاة في الحياة الثانية واستحقاقات الشهداء وشفاعة القديسين والصلاة من أجل الموتى.
3- الاحداث:
سنة 538 ق. م. صدر مرسوم كورش الذي دعى المسبين إلى العودة إلى أورشليم وإلى إعادة بناء الهيكل. وعاش اليهود طيلة قرنين حياة آمنة نتبيَّن صداها في كتابي عزرا ونحميا.
في منتصف القرن الرابع اتحدت المدن اليونانية حول الاسكندر بن فيليبس المكدوني الذي قهر الفرس في معركة ايسوس سنة 333 ق. م. كان هذا الانتصار فاتحة انتصارات حملت هذا الفاتح الشاب على احتلال سائر بلدان البحر المتوسط حيث بنى المدن على اسمه ونشر الحضارة الهلينية التي بلغت ذروتها آنذاك في كل صقع احتله. فراح جميع المثقفين يتكلمون اليونانية ويُبهَرون بسحر هذه الحضارة الانسانية الزاهرة. عند موت الاسكندر سنة 323 ق. م. اقتسم قواده الأمبراطورية بينهم، فكانت مصر من نصيب البطالسة اللاجيين وسوريا من نصيب السلوقيين. وعايش يهود فلسطين تحت حكم اللاجيين طوال القرن الثالث حيث نعموا بمعاملة انسانية منفتحة وبشبه استقلال ذاتي إلى ان قام سنة 198 ق. م. انطيوخس الثالث السلوقي وانتزع فلسطين من اللاجيين وضمها إلى سوريا.
بدأ السلوقيون سياستهم في فلسطين باحترام العقائد والعادات اليهودية. انما حاجة ملوكهم إلى المال، حملت سلوقس الرابع على ان يطلب من وزيره هليودورس وضع يده على أموال هيكل أورشليم. هنا يبدأ سفر المكابيين الثاني. ثم قَتل هليودورسُ سلوقسَ الرابع، فخلفه اخوه انطيوخس الرابع سنة 175 ق. م. هنا يبدأ سفر المكابيين الاول.
كان انطيوخس الرابع ذا ثقافة واسعة وأطماع لا محدودة، فأراد أن يحقق حلم الاسكندر بجعل جيع الناس امة واحدة وذلك بفرض الحضارة الهلينية في جميع اصقاع الامبراطورية. وكانت الهلينية في أوجها آنذاك، وقد سحرت ألباب الكثيرين حتى من اليهود. وكادت أن تمحو كل أثر للاله الحي. هذا اقله ما ادَّعى المكابيون في ثورتهم. فانتفضوا مع عدد من الرجال المؤمنين المتمسكين بتقاليد الاباء، وتصدوا لهذه المحاولة، وراحوا يعلنون امام العالم الاغريقي شهادتهم للاله الحي، الحر، سيّد التاريخ، ويدافعون عن استقلالهم "السياسي والديني. فكُتبت لهم عدة انتصارات نسبوها لاصبع الله مسيِّر التاريخ وسيدهِ.
سنة 168 ق. م. دنّس ابيفانيوس الهيكل اذ اقام فيه هيكلا لزوش. فثار متتيا ثم ولده يهوذا الذي ترأس المقاومة وانتصر في عدة معارك وطهّر الهيكل وأمَّن لليهود حرية العبادة والعيش بحسب تقاليدهم. ثم استعان بمعاهدة صداقة وتضامن مع الرومان الذين كانوا يطمعون بان يحلّوا محلَّ اليونانيين. ومات يهوذا في ساحة الحرب، فخلفه اخوه يوناتان سنة 160 ق. م. كان يوناتان دبلوماسياً يعرف كيف يفيد من الخلافات القائمة بين طلاَّب عرشه السلوقيين فتعين رئيس احبار، وعَمل على كسب ود الرومان والاسبرطيين وامّن فترة سلام لشعبه، إلى ان قُتل على يد تريفون أحد قواد انطيوخس السادس سنة 143 ق. م. فخلفه اخوه سمعان الذي عُيِّن أيضاً رئيسَ احبار بالاضافة إلى الزعامة الزمنية. فأمَّن لشعبه السيادة السياسية وجدّد المعاهدة مع الرومان. لكن انطيوخس السابع انقلب على اليهود وقتله سنة 134 ق. م. فتسلم مكانه ابنه يوحنا هركانس.
حَلم ابيفانيوس بخلق امبراطورية موحدة فحمله حلمه على اضطهاد اليهود الذين كانوا عقبة في سبيل تحقيق هذه الوحدة. منعهم من ممارسة شعائرهم كتقدمة الذبائح في الهيكل والختان وقراءة التوراة... وساعده في هذه العملية رئيس الكهنة آنذاك، ياسون الخائن، الذي حوّل اورشليم إلى حاضرة إغريقية تحت إسم انطاكيا تيمّنا باسم الملك، وأقام فيها حكّاماً علمانيين. عاونه في ذلك بعض من اليهود الذين بهرتهم الحضارة الجديدة. هذا كان في أساس ثورة المكابيين الذين يُعتبَرون شهداء الدين الحقيقي وشهود الاله الواحد.
قصة المكابيين ملحمة تبدأ في جو من الحماس وتنتهي في الدسائس والقتل إلى ان يأتي هيرودس ويتزوج آخر فتاة من العائلة المكابية. اما الكتاب الثاني فيضيف على هذه الملحمة نظرة جديدة إلى الايمان وتعليقا روحيا على الاحداث، فبينما لا يهتم الكتاب الأول الاّ بالسيادة السياسية والانتصارات الزمنية، يشدد الثاني على أهمية الانتصار العقائدي على االوثنية. فهنا لا مساومة ولا اختلاط بالوثنية وحضارتها التي تتنافس والدين اليهودي.
مرحلة هامة من تاريخ الشعب اليهودي تسترعي انتباهنا فيها ظاهرتان. التركيز على التقليد ونشأة لاهوت الاستشهاد.
4- التركيز على التقليد:
يظهر التركيز على التقليد في مواضيع ثلاثة: الشريعة والهيكل والكهنوت.
أ- الشريعة: الامانة للشريعة المدوَّنة في الكتب الخمسة هي أهم ما يبرز في سفري المكابيين فليست التوراة مجموعة قوانين، وإن كانت تحتوي على قوانين. بل هي قبل كل شيء تذكير قسَم بالعهد المقطوع للشعب. بعد العودة من المنفى، تترجمت هذه الامانة باحترام القوانين المتعلقة بالمآكل وبراحة السبت وبالختان. كوَّنت قضية المآكل المحرمة عائقاً أساسياً في سبيل الاختلاط بالمجتمع اليوناني. هناك مآكل طاهرة ومآكل نجسة. ولم يفهم اليونانيون هذا الموقف على حقيقته، ونسبوه إلى التخلف أو إلى التعصب الديني. اما توجه يهوذا إلى القفر وتغذى بالأعشاب كيلا يأكل مآكل محرّمة (2 مك 5/27)؟ وكان احترام التقليد يفرض ايضا صلوات واصواماً طلباً للعون الالهي (2 مك 3/15). اما راحة السبت فكانت تفرض جمودا شبه تام يبدأ يوم الجمعة مساء ويستمر حتى السبت مساء. فالسبت اصبح، بعد السبي، العلامة التي تربط الله بشعبه. ألم يفضِّل بعضُهم الموت في المغاور على الدفاع عن النفس يوم السبت؟ ولكن جاء متتيا وسمح لهم بالدفاع عن انفسهم يوم السبت مخافة أن يفنوا عن بكرة أبيهم (1 مك 2/29- 41). واصبح الختان علامة تكريس اذ هو رمز في الجسد للعهد الابدي مع يهوه. يرافق كل هذا صلاة شخصية وحياة داخلية تعمقت مع انبياء المنفى بعد أن فقدوا الهيكل وسائر العبادات الخارجية.
ب- الهيكل والطقوس: شدّد إرميا وحزقيال وسفر تثنية الاشتراع على الهيكل كمكان وحيد للعبادة. إنّه موضع لقاء بالله ومركز الاعياد الكبرى الذي إليه يحجون أينما وجدوا. هو مكرَّس للطقوس ورمز للتجديد. انه مسكن الله الذي لا يُمس. تدنيسه يعني العبودية، وكل قبول لطقوس غير يهودية في داخله أو تأثير طقسي غريب، هو تجديف يعرّض العبادة للزوال. من هنا ثورة المكابيين وتجديده بعد تدنيسه وتأسيس عيد التجديد.
ج- الكهنوت: تدّعي العائلات الكهنوتية نسبتها إلى صادوق الذي مسح سليمان ملكاً (1 مل 1/33 ي). بينما اللاويون يعاونون الكهنة في هيكل أورشليم. منذ نهاية القرن الثالث تسلّم رئاسة الكهنة اناس من عائلة اونيا. وفي بداية الثورة كان اونيا الثالث رئيسا للكهنة. ثم ما لبث ان تسلمها المكابيون مع يوناتان فسمعان. كانت مهمة رئيس الكهنة ترؤس احتفال يوم كيبّور (أو التكفير) حيث يمثل الشعب كله، كما كانوا يرجعون إليه ليتكلم باسم الشعب لدى السلطات اليونانية. وكان مسؤولا عن كل ما يتعلق بالهيكل. كتاب المكابيين الثاني يشهد على قوته المعنوية وقداسة سيرته. لذا يُنسب خلاص الهيكل إلى اونيا الثالث، ويتّهم ياسون بادخال عادات وثنية إلى أورشليم. وقد أصبح دوره بعد السي دور راع يجمع قطيعه ويديره ويشفع به لدى الله (2 مك 15/12).
5- لاهوت الاستشهاد:
جاء الاضطهاد قاسياً فكان يموت كل من وُجد في حوزته نسخة عن الشريعة، وكل من خَتن ولده، وكل من عاش بحسب تعاليم التوراة (1 مك 1/50، 56- 57، 60- 61). ويفصّل الكتاب الثاني، انواع الميتات التي تعرّض لها الشعب: عذابات العازار الشيخ والاطفال السبعة مع امهم (6/18 – 7/14). لا شك في ان هناك بعض المبالغة في الوصف: لكن المهم هو العبرة التي يستخرجها الكاتب من هذه الاضطهادات. فهو يتكلم على الاضطهاد ومعناه وقيمته. قَبِل الشهداءُ الموت ليظلّوا أمينين لتعاليم آبائهم، بيما رأى الوثنيون في موقفهم تعبيراً عن تعصبهم الاعمى. يرى المؤمن في الاستشهاد برهاناً على القداسة، والعازر يرى أكثر من ذلك. إنه يجيب الذين ينصحونه بقبول الاطعمة المقدمة للأوثان وبالتظاهر بالمشاركة فيها: "لا يليق بنا الرياء لئلا يظنّ كثيرٌ من الشبان أن العازار، وهو ابن تسعين سنة، قد انحاز إلى مذهب الاجانب، ويضلّوا بسببي لاجل ريائي وحي لحياة قصيرة، فانية، فاجلب على شيخوختي الرجس والفضيحة. فاني ولو نجوت الان من نكال البشر لا افرّ من يد القدير، لا في الحياة ولا بعد الممات. ولكن، اذا فارقتُ الحياة ببسالة فقد وفيت بحق شيخوختي، وأبقيت للشبان قدوة شهامة ليتلقوا المنيّة ببسالة وشهامة في سبيل الشريعة الجليلة المقدسة (3 مك 1/2 ي). يجب ان يكون موقفنا في الاضطهاد واضحاً وعلنياً. إنه شهادة امانة لا مساومة فيها. ثم ان للشهيد دور الشفاعة، كما يقول احد الاخوة السبعة للملك: "نحن نعاقَب على خطايانا. وربنا الحي، وإن سخط علينا حينا يسيرا لتوبيخنا وتأديبنا، سيتوب على عبيده فيما بعد" (2 مك 7/32- 33). هذا الولد لم يخطأ، لكنه يُعاقَب بخطيئة جماعته. فلا يعني الاضطهاد أن الله أهمل شعبه بل يعني، على العكس، أنه يحب شعبه. وآلام الابرياء إمتحان موجّه إلى الجماعة التي تستفيد منها.
6- لاهوت الحياة:
نرى في الفصلين السادس والسابع من السفر الثاني تعليما متكاملاً بصدد موضوع القيامة. فهناك بحثٌ مستفاض في قضية المجازاة. ما كان موضوعَ بحثٍ قبل المنفى، أصبح درساً علمياً منظماً. كان الاقدمون يؤمنون دائهـا بحياة ثانية، وبوجود موضع يذهب اليه الاموات هو الجحيم (هاديس عند اليونان، شيول عند اليهود. راجع كتاب الاموات عند المصريين). اما في اسرائيل، فالتطور جاء بطيئاً في هذا الموضوع. كان الموت يُعتَبر انضاماً إلى الآباء في الجحيم، تحت الأرض حيث الظلام والسكوت، وحيث الأموات كالاشباح ينعمون بشيء من الحياة كامضى. لذا، فكلّ ميت لم يُدفن يبقى تائهاً غير ناعم بالسلام. عدم دفن الاموات لعنةٌ من الله، ودفنهم عملٌ تقوي (طوبيا). إنطلاقا من هنا، كان اليهودي يعتبر الحياة على الأرض أسمى ما في الوجود، وطولَ العمر وكثرةَ الأولاد ووفرةَ الغنى جزاءَ حياة صالحة. لكن هذا الشرح لم يشفِ غليل ايوب، الرجل الصالح الذى ضربه الله في خيراته واولاده وجسده.
بعد السي جاء التطورُ سريعاً. ارميا يبشر بنهضة عتيدة ويَعِد بمجازاة شخصية (31/29-30). حزقيال يشدِّد على المسؤولية الفردية (18). كان زمن السبي اعادة نظر في هذه الامور. سفر المكابيين الثاني يشدد على أن ألم ساعةٍ يجدُ مكافأةً عند الله، لذلك يجب ان يكون رجاءُ الشهداء وطيداً. ألم يقل أحد الاولاد السبعة: "إن مَلِك العالمين، إذا متنا لأجل شريعته، فيقيمنا لحياة ابدية"؟ (2 مك 7/9). ويهوذا يطلب ذبيحة للموتى (2 مك 12/43- 45). الجزاء آت بعد الموت الزمني وباستطاعة الاحياء أن يستحقوا كفران خطايا الاموات. والجزاء هو القيامة والمشاركة في حياة الله الخالدة. فالحياة الالهية للصالحين، وللأشرار العقاب هنا، اما هناك فلا يشتركون بحياة الله. أما كيف تكون القيامة؟ فكما خلقهم الله يعود فيقيمهم (2 مك 14/46؛ 7/11، 22) اذ يعيد إلى الجسم نَسمة الحياة (2 مك 7/23). الله خالد ومانح الخلود اذ يرد للانسان نسمة الحياة الالهية. وطاعة الشريعة هي التي تقود الى هذه الحياة مع الله. لأن الله عادل يميّز بين الشهداء ومضطّهديهم، ويجازي كل واحد بحسب اعماله. فالقيامة إذن ضرورية لتحقيق مجازاة عادلة.
7- سفرا المكابيين والاسفار المعاصرة:
ليس موقف كتاب المكابيين من الحضارات الغربية التعبيرَ الوحيد عن النظرة اليهودية إلى الأمور. فهو يختلف مثلا عن موقف سفر دانيال وسفر الحكمة.
1- المكابيون ودانيال: بينما يبدو موقف المكابيين متعصباً وانعزالياً، نرى سفر دانيال منفتحاً على الهلينية. وإذ يدعو الامم إلى اعتناق اليهودية، لا يخاف من الحضارة الجديدة بل يرى في اليهودية إمكانات تجعلها قادرة على المحافظة على التراث وعلى التأثير في المجتمعات الوثنية. فاليهود مدعوون لخلاص المجتمع الذي يعيشون فيه. كما أنه لا يؤمن بجدوى الحرب في مجابهة الوثنية، بل يتكل على الله وشريعته، ولا يستسلم للحقد والبغض وحب الانتقام. وقد جاء فيه:
"حينئذ خرّ نبوكد نصّر على وجهه وسجد لدانيال وأمر ان تقرَّب له تقدمة بخور ورضى، وأجاب الملك دانيال وقال: ان الهكم هو الاله الحقيقي وربّ الملوك" (2/46- 47).
2- سفر الحكمة: امّا سفر الحكمة فيقبل الحضارة الهلينية ويهضمها ويقدّسها. فيهود الاسكندرية تتلمذوا على التوراة كما تتلمذوا على هوميروس وافلاطون. والكاتب يتوجَّه في حديثه إلى اليهود وإلى الوثنيين أيضا ليقنعهم بسموّ الدين اليهودي. هو أمين لتقليده الديني وفي الوقت عينه لا يخاف من تأثير الفكر الهليني مع أنه يشجب الوثنية التي لا يرى فيها سوى فراغ ديني. وعديدون هم المفكّرون اليهود الذين برعوا في فهم الفكر اليوناني كما برعوا في فهم العهد القديم، امثال فيلون الفيلسوف ويوسيفوس المؤرخ.
فالكاتب يستشهد بمعلوماته الأدبية والفلسفية والعلمية المرتكزة على الفكر اليوناني. لا ننسى أنه يكتب ليهود الاسكندرية الذين لم يعودوا يعرفون العبرية والذين تثقفوا في مدارس يونانية واعتنقوا المبادئ العلمية اليونانية. فعلى هذه المبادئ يرتكز ليوصل اليهم التقليد اليهودي الخاص. فهو شاهد أمين للتراث، إنما في قالب جديد يفهمه معاصروه. الحكمة تُخضِع لله الواحد، الهِ الاباء، كلّ غنى الحضارات الوثنية التي تلتقيها.
8- سفرا المكابيين ونحن:
تواجه الكنيسة اليوم تحدّياً شبيهاً بالذي واجهه المكابيون في القرن الثاني قبل المسيح: حضارة انسانية زاهرة، انجازات علمية تبهر الالباب وتغري العقول، انسان يغزو القمر ويكتشف اسراراً كانت تخيفه فما مضى، ويحقق انتصارات جبارة على المادة، ويستخرج من بطن الارض واعماق البحار ثروات طائلة، طب جراحي يتلاعب بشرايين القلب وخلايا الدماغ، تجربة شبيهة بالسحر والشعوذة.. فيتنكر الانسان المعاصر لقيم كانت حتى الامس القريب مسلَّمات بديهية كوجود الله وخلود النفس. إنها تجربة برج بابل ومحاولة لروموتاوس (الذي تحدّى الآلهة).
هل هذا التحقيق العلمي سيضعف الايمان بالله؟ والمؤمنون هل سيرفضون هذه الحضارة كا فعل المكابيون؟ أم إنهم يقبلون بها كما فعل كاتب سفر دانيال وسفر الحكمة؟ إن الكنيسة لم تخَف يوما من المنجزات العلمية. منذ نشأتها راحت تفيد من الفلسفة اليونانية والحق الروماني وقوة البرابرة. والمجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني يدعونا إلى الأخذ بالحضارات وهضمها وروحنتها. عندما يقول:
"ان كل ما يوجد من خير مزروعا في قلوب الناس وعقولهم ومن ثقافات الشعوب وطقوسها الخاصة، ليس فقط لا يُباد، بل يُنَقَّى ويُرفع ويَبلغ كماله لمجد الله وخزي ابليس وسعادة الانسان" (نشاط الكنيسة الإرسالي 9). وفي صدد الاضطهاد يقول المجمع ذاته:
"الكنيسة تتقدم في حجَّتها عبر إضطهاد العالم وتعزيات الله، مبشِّرة بصليب السيد وموته حتى مجيئه، متشدّدة بقوّة الرب القائم من الوت، لتتغلب بالصبر والمحبة على الشدائد والضيقات" (دستور في الكنيسة 8).
ليس الشهداء اعداء العالم بل احباؤه وقد احبوه إلى حد أنهم بذلوا نفوسهم فداء عنه على غرار معلمهم.
سفرا المكابيين يجعلانا إذن نتأمل في واقع الكنيسة اليوم. كم من المسيحيين يقاومون قوى الشر في العالم؟ وكم هم الذين يموتون شهوداً للحقيقة وغالباً ما يتجاهلهم الضمير العالمي؟ والظلم الذي يُسامونه في اجسادهم ونفوسهم لا يأتي دائماً من اعداء المسيحية. فمسيحيون كثيرون انضموا إلى صفوف الظالمين. وقد نقبل نحن بالظلم حوالينا عن وعي أو عن غير وعي. كثيرون غير المكابيين اضطُهدوا من أجل إيمانهم. لكن مقاومة المكابيين تحمل شيئاً من رجاء العالم. شهادتهم كلمة حق كانت تُحرق شفاههم: الايمان بوعود الله، إيمان يعود الى بدء تاريخ شعبهم. لكن فكرة جديدة تبلورت في القرن الثاني طالما راودت الشعوب القديمة وهي أن الامانة لله تتحدّى الموت. فالله يعيد نسمة الحياة إلى الذين يحبهم، ويعيد اليهم الأعضاء التي تحطمت في سبيله. فالانسان بكامله سوف يخلص ويعود الى الحياة من جديد فتجد الام اولادها. إنها صورة لتجمّح عام بعد الموت. أمّا كيف تكون القيامة؟ فيجب ان ننتظر بولس الرسول ليحدثنا عن جسد روحاني (روم 8/11). فالذي يحي ويخلّص هو الروح الذي بدأ يعمل في نفوسنا. غاية مسيرة البشرية منذ البدء هي أن تجعل منا ابناء لله. اليوم كما في الامس، الذين يجاهدون ضدّ الشر في طاعة الروح هم أبناء الله وهم رجاء العالم. والروح الساكن فيهم يغيّر اجسادهم المائتة وبهم تخلص الخليقة كلها التي تئنّ من ألم المخاض بانتظار خلاص أبناء الله (روم 8/22). ألسنا نسمع اليوم صراخ من لا صوت لهم وقلقَ العالم المهدَّد؟ اليوم كما في الأمس كلمة الله معروضة على الناس ولن تجد المغامرة البشرية معناها إلاَّ في روح الله.
يوسف ضرغام
مطران القاهرة للموارنة

 

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM