الفصل التاسع والعشرون: يوحنّا الذهبيّ الفم وتفسيره للرسائل البولسيّة.

 

الفصل التاسع والعشرون

يوحنّا الذهبيّ الفم وتفسيره للرسائل البولسيّة

حين نقرأ يوحنّا الذهبيّ الفم، يلفت انتباهنا المكانة العظيمة التي تحتلُّها رسائل القدّيس بولس، بحيث لم يجاره أحدٌ من آباء الكنيسة. شرح الرسائل كلَّها في تلك العظات، وما نسيَ الرسالة إلى العبرانيّين. كما أسبق هذا الشرح بخمس وخمسين عظة حول سفر الأعمال، الذي كان التفسيرَ الكامل الوحيد خلال القرون العشرة الأولى من تاريخ الكنيسة. فما من شخص أحبَّ بولس مثل الذهبيّ الفم، ولا تمعَّن مثله في رسائله. ونحن في رحلة أولى نتطلَّع إلى شرح أعمال الرسل والتقاريظ على بولس. وفي مرحلة ثانية، نتوقَّف عند شرح الرسائل، وصولاً إلى شرح الرسالة إلى رومة، الذي هو أجمل ما تركه لنا هذا الأب الكبير وبطريرك القسطنطينيَة (+407) من مؤلَّفات خلال حياته، التي انتهت في المنفى والموت، لأنَّه حمل الكلمة وما تراجع.

1- أعمال الرسل وشخص بولس

أ- عظات حول سفر الأعمال

كانت العظات حول الأعمال خمسًا وخمسين عظة. وقد أرَّخها يوحنّا نفسه في السنة الثالثة من إقامته في القسطنطينيَّة، أي سنة 400. بدا النصُّ مقاطعَ تركها لنا الكاتبون بطريقة الاختزال(1). اعتاد الذهبيّ الفم أن يعيد النظر فيما نقل عنه »المختزلون« في عظاته. أمّا سفر الأعمال فما عاد إليه بسبب المسؤوليّات الضخام التي ألقيت على عاتقه كأسقف على عاصمة الإمبراطوريَّة، وفيها ما فيها من عمل ينتظره.

نجد في هذه العظات الصفات التي نجدها في سائر أعمال يوحنّا التفسيريَّة: العرض الواضح، والحسّ التاريخيّ، والروحانيَّة التي تسعى إلى تحريك الإيمان لدى السامعين، والغيرة الرسوليَّة على العيش على مثال الكنيسة الأولى.

ونقرأ بداية العظة الأولى حيث يتحسَّر الواعظ لأنَّ القليلين قرأوا هذا السفر من أسفار العهد الجديد.

»كثيرون يجهلون حتّى وجود سفر الأعمال، كما يجهلون اسم كاتبه، فحسبتُ أنَّه من المفيد أن أبدأ بشرحه فأعالج هذا الجهل العميق، وأكشف لكم، كنزًا غنيٌّا يتضمَّنه هذا الكتاب. فقراءته لن تكون أقلَّ فائدة من قراءة الإنجيل عينه، لأنَّه يزخر بأقوال الحكمة المأثورة، بالحقائق العقائديَّة، بأخبار المعجزات، وبشكل رئيسيّ تلك التي أجراها الروح القدس نفسه. هذا السفر يستحقُّ أن نقرأه بانتباه وأن نشرحه في اعتناء«(2).

في هذا التفسير، رافق الذهبيّ الفم القدّيس لوقا، كاتب أعمال الرسل، عن قرب، واهتمَّ بأن يَعُدَّ أيّام السفر التي انطلق فيها الرسول. وعالج في ما عالج من مواضيع روحيَّة وخلقيَّة، عادةً يكرهها وهي أن يؤخِّر قبول سرِّ العماد المقدَّس(3). عاد مرارًا إلى طبيعة المعجزات وهدفها، وميَّزها عن أعمال السحر، وأكدَّ أنَّ الألم من أجل المسيح ورذْل الخطيئة، أهمّ من طرد الشياطين. وشدَّد على ضرورة الصلاة، ودراسة الكتب المقدَّسة، واللطف والصدق. ودعا إلى نبذ الحلف والشتائم والتجاديف.

قدَّمت المخطوطات شكلين من النصِّ بحيث نظنُّ أنَّنا أمام نسختين مختلفتين، الأولى خشنة ويظنُّ أنَّها ترتبط بيوحنّا. والثانية مشذّبة، وقد يكون أحد تلاميذ الواعظ نسَّق لغتها وأبرز المنطق في توسُّعاتها(4).

أورد كاسيودور(5) في نظم الدراسات الإلهيَّة والإنسانيَّة أنَّه طلب من أصدقائه أن يترجموا »العظات الخمس والخمسين حول سفر الأعمال، ليوحنّا أسقف القسطنطينيَّة« إلى اللاتينيَّة. وأنَّ هذه الترجمة أُودعت في مكتبة الرهبان. ضاع النصُّ اللاتينيّ ولكنَّ قوانين المجمعين المسكونين الخامس والسادس احتفظا بمقطع من النصِّ اليونانيّ ورد في العظة الرابعة عشرة وتضمَّن رأي الذهبيّ الفم حول »الشمامسة السبعة« في سفر الأعمال (ف 6).

* * *

نقدِّم هنا بعض ما قال يوحنّا في عيد العنصرة.

»إنَّه الاحتفال بذكرى حلول الروح القدس في الكنيسة. لأنَّه، كما أنَّ ابن الله هو كائن مع الناس الأتقياء المؤمنين، فالروح القدس كذلك تمامًا. وما البرهان على ذلك؟ حسبما يقول الربّ: »من يحبُّني يحفظ وصاياي... وأنا أطلب من الآب فيعطيكم معزِّيًا آخر، روح الحقّ ليمكث معكم إلى الأبد« (يو 14: 15-16). وبحسب قول الربِّ أيضًا: »ها أنا معكم كلَّ الأيّام إلى انقضاء الدهر« (مت 28: 20). يمكننا كلَّ يوم أن نكون في عيد الظهور الإلهيّ، وأن نكون كلَّ يوم أيضًا في عيد البنتيقسطي (حلول الروح القدس)، حيث أنَّ المسيح أعلن أنَّ الروح القدس كائن معنا على الدوام.

»بالإضافة إلى ذلك، فإنَّ البرهان أنَّ الحياة كلَّها (وليس أيّامًا محدَّدة) ينبغي أن تكون للمسيحيّ عيدًا واحدًا، فهاكم قول القدّيس بولس: ''لنعيِّد الفصح، ليس بخميرة عتيقة، ولا بخميرة الشرِّ والخبث، بل بفطير الإخلاص والحقّ'' (1كو 5: 8). في حين أنَّ وقت كتابة هذه الرسالة لم يكن موافقًا لأيِّ عيد: لا عيد الفصح، ولا عيد الإبيفانيا أو البنتيقسطي. ولكنَّ الرسول يريد أن يقول: ليست المناسبات الزمنيَّة، بل طهارة القلب هي التي تصنع العيد. وما مضمون العيد إلاّ البهجة والفرح. ومن يقدر أن يعطي هذا الفرح الروحيّ إلاّ القلب النقيّ الغنيّ بالأعمال الصالحة. حيث إنَّ الإنسان ذا القلب النقيّ المثمر في الأعمال الممدوحة، هو الذي يمكنه أن يكون في حالة احتفال بالعيد. حقٌّا هو ما كان يعلِّم به الرسول عندما قال: ''إذن فلنعيِّد ليس بخميرة عتيقة، ولا بخميرة الشرِّ والخبث، بل بفطير الإخلاص والحقّ«(6).

ربط الذهبيّ الفم عيد الظهور الإلهيّ (الإبيفانيا، أو الدنح) بعيد حلول الروح القدس يوم الخمسين (البنتيقسطي)، لكي يفهمنا أنَّ العيد لا يكون فقط بالاحتفال الخارجيّ، بل بطهارة القلب. وواصل الكلام ليفهمنا أنَّ الروح القدس معنا:

»ولكن قد يقول أحدكم: أين هو الروح الإلهيّ منّا الآن؟ أجل، كان الروح القدس في الكنيسة عندما كانت تُجترَح المعجزات ويُقام الأموات، والبرص يُشفَون. ولكن في وقتنا الحاضر، ما البرهان على حضور الروح القدس بين المؤمنين؟

»أنعموا بالاً! فإنَّه ما زال في وسطنا. ولكن من أين لنا أن نعرف ذلك؟

»إن لم يكن الروح القدس، في وسطنا، فطالبو المعموديَّة الذين تجدَّدوا واستناروا (أي: تعمَّدوا) في هذه الليلة الجليلة المقدَّسة (مساء السبت - الأحد في عيد الفصح والقيامة)، هل كان يمكنهم أن يتطهَّروا من خطاياهم بدون الروح القدس؟ كلاّ. فهذا التطهير لا يمكن أن يكون إلاّ من عمل الروح القدس. وهنا استشهد بولس الرسول: ''لأنَّنا كنّا نحن أيضًا قبلاً أغبياء، غير طائعين، ضالّين، مستعبَدين لشهوات ولملذّات مختلفة، عائشين في الخبث والحسد، مبغضين بعضنا بعضًا. ولكن حين ظهر لطف الله مخلِّصنا وإحسانه، لا بأعمال برٍّ عملناها، نحن، بل بمقتضى رحمته، خلَّصنا بغسل الميلاد الثاني وتجديد الروح القدس'' (تي 3: 3-6). وأيضًا: »''لا تضلّوا. لا زناة ولا عبدة أوثان ولا فاسقون ولا المفسِدون ولا مضاجعو الذكور، ولا سارقون ولا طمّاعون ولا سكّيرون ولا شتّامون ولا خاطفون، يرثون ملكوت الله'' (1كو 6: 9-10). أترون هذه السلسلة المتراصَّة من أنواع الفساد المختلفة؟ ولكن اسمعوا تتمَّة القول: »وهكذا كان أناس منكم. لكن اغتسلتم، بل تقدَّستم، بل تبرَّرتم«. وبأيَّة كيفيَّة؟ بالروح القدس. فبالروح قد تطهَّرنا من كلِّ هذه الأدناس: ''بل تقدَّستم، بل تبرَّرتم، باسم الربِّ يسوع وبروح إلهنا« (1كو 6: 11).

»أترون كيف أنَّ إزالة هذه الأرجاس هي من عمل الروح القدس؟ أين هم أولئك الذين يستهينون بجلال الروح القدس الإلهيّ؟ إذا كان الروح القدس لا يبرِّر من الخطايا، فعبثًا يكون قبولُه في العماد. أمّا إذا كان يبرِّر من الخطايا، فيكون تطاول الهراطقة عليه بدون حقّ«.

نحن اعتمدنا، إذًا نحن أبناء الله. ومن الذي يعلِّمنا هذه الحقيقة؟ الروح القدس. يقول الواعظ:

»وإذا كان الروح القدس غير موجود، فإنَّنا لا يمكن أن ننطق باسم الربِّ يسوع، كما يقول القدّيس بولس (1كو 12: 3). وإن لم يكن هناك الروح القدس، فلا يمكن للمؤمنين أن يدعوا الله قائلين: ''أبانا الذي في السماوات''. فكما أنَّه بدون الروح القدس لا يمكن أن ننطق باسم يسوع، كذلك بالمِثل لا يمكننا أن ندعو الله أبانا. وما البيِّنة على ذلك؟ هذا ما يؤكِّده لكم القدّيس بولس في قوله: ''ثمَّ بما أنَّكم أبناء، أرسل الله روح ابنه إلى قلوبكم صارخًا: ''أبّا، أيُّها الآب'' (غل 4: 6). فحيثُ أنَّكم تدعون الله الآن، فاعلموا أنَّ نعمة الدعاء هذه إنَّما تأتيكم من الروح القدس الذي يعمل في روحنا«(7).

* * *

وفي عيد الصعود، نقرأ بعض ما وعظ به أسقف القسطنطينيَّة:

»تأمَّل! من الذي صعد، وأيَّة طبيعة صعدت، وما حالة هذه الطبيعة قبل صعودها؟ إنّي أقف مليٌّا وبكلِّ ارتياح متأمِّلاً في حقارة جنسنا لكي أتملّى من فهم محبَّة السيِّد للبشر. لقد كنّا ترابًا ولا ذنب علينا في ذلك، لأنَّ هذا الانحطاط ملازمٌ للطبيعة، لكنَّنا أصبحنا أقلَّ عقلاً من العجماوات: ''قيس الإنسانُ بالبهائم التي لا عقل لها، وشُبِّه بها'' (مز 49: 21). بيد أنَّ هذا التشبيه بالبهائم يجعل الإنسان أحطَّ منها. فمن كان غير عاقل بالطبيعة وثبت على ذلك، فجرمُه ليس عليه، بل على الطبيعة. أمّا من شُرِّف بالعقل ثمَّ سقط إلى تلك الدركة من الحماقة، فجرمُه على إرادته. إذًا، حين تسمع أنَّ الإنسان يشبَّه بالعجماوات، فلا تظنَّ أنَّ الكتاب يريد أن يساوي أولئك البشر بها، بل أن يظهرهم أحطَّ منها. فإنَّنا صرنا أدنى منها وأقلَّ شعورًا، لا لكوننا ونحن بشر قد وضعنا نفوسنا في مرتبة البهائم، بل لأنَّنا أنزلناها إلى غباوة أعظم، وذلك ما أوضحه أشعيا بقوله: ''عرف الثورُ قانيَه والحمار معلف صاحبه، لكنَّ إسرائيل لم يعرف'' (أش 1: 3). رأيتَ كيف كنّا أحطَّ البهائم. لكن لا نخجلنَّ بسبب ما قلنا، لأنَّه ''حيث كثرت الخطيئة طفحت النعمة'' (روم 5: 20).

»أتُريد الآن أن ترانا أقصر عقلاً من العصافير نفسها؟ ''إنَّ اليمامة والسنونو وعصافير الحقل عرفت أوقات رجوعها، أمّا شعبي فلم يعرفوا أحكامي'' (إر 8: 7). إذًا، ها نحن قد حُسبنا أقصر فهمًا من الحيوانات، وأقلَّ فهمًا من الطيور، من اليمامة والسنونة. أوَتريدُ شاهدًا آخر على مذلّتنا؟ إنَّ الكتاب يرسلنا إلى مدرسة النمل، بعد أن فقدنا ذكاءنا الفطريّ، ويقول: ''اذهب إلى النملة وانظر طرقها'' (أم 6: 6). لقد أصحبنا تلامذةً للنمل نحن الذين خلقنا على صورة الله، لكن ليس الخالقُ سببَ هذا الانقلاب، بل نحن الذين لم نستمرَّ على صورته.

»وما بالي أتكلَّم عن النمل وقد صرنا أقلَّ إحساسًا من الحجارة؟ أتريد شهادة على ذلك أيضًا؟ ''إسمعي أيَّتها الجبال ويا أسس الأرض، فإنَّ للربِّ خصومة مع شعبه'' (مي 6: 2). أيَّها السيِّد، إنَّك تحاكم البشر وتستدعي أسس الأرض؟ يجيب: نعم. لأنَّ البشر هم أقلَّ إحساسًا من قواعد الأرض، أتودُّ أن نبحث عن هوانٍ أشدَّ من هذا الهوان. بعد أن اعتُبرنا أقلَّ إدراكًا، وأقلَّ نهمًا، وأكثر غباوة من السنونة واليمامة، وأنقص فطنة من النمل، وأقلَّ إحساسًا من الحجارة؟ فإنَّنا حاكينا أيضًا الأفاعي لأنَّ ''غضب بني البشر، يقول الكتاب، كشبه الحيَّة'' (مز 58: 5). ''وسمُّ الأفاعي تحت شفاهه'' (مز 140: 4).

»وما بالي أقف عند نقص العقل الجدير بالعجماوات، وقد دُعينا أبناء الشيطان نفسه. ''أنتم من أبٍ هو إبليس'' (يو8: 44). ومع ذلك، فنحن الجهّال الأغبياء الحمقى، نحن الذين فُقنا الحجارة من الجمود، نحن المتسفِّلين أكثر من كلِّ كائن، نحن الأدنياء الأذلاّء، وماذا أقول أيضًا وبماذا أنطق، بل أيُّ كلمات تعبِّر عن فكري؟ نحن أولى الطبيعة الخسيسة، نحن الأقلُّ فهمًا ما بين جميع الخلائق، ها قد أصبحنا اليوم أرفع من كلِّ مخلوق«(8).

لاحظنا هذه الصورة البشعة التي قدَّمها يوحنّا. ففي عيد الصعود، كيف لا يرفع الإنسان عقله إلى الأعالي؟ قال الواعظ: »اليوم كملت مصالحة جنس البشر مع الله. اليوم انتهت العداوة المزمنة، والحرب الطويلة أخذت حدٌّا، اليوم استتبَّ سلامٌ عجيب لم نكن نحلم به قبلاً. فمن كان يرجو أن يتصالح الله مع الإنسان؟« وماذا حصل؟ قال يوحنّا:

»ومع ذلك، نحن الذين غير أهل لهذه الأرض، ها قد رُفعنا اليوم إلى السماوات. ونحن الذين لا نستحقّ أن نملك على الأرض، قد صعدنا إلى الملكوت العلويّ وجُزنا السماوات واستولينا على العرش الملكيّ. وطبيعتنا التي كان الكروبون يحرسون الفردوس بإزائها، تجلسُ اليوم فوق الكروبين...

»إنَّ السيِّد قدَّم اليوم للآب باكورة طبيعتنا. وإذ أعجب الآب بهذه التقدمة، نظرًا لكرامة المقدِّم وطهارة المقدَّم، تناولها بين يديه، ووضعها بجانبه وقال: ''اجلسي عن يميني''. فلأيَّة طبيعة قال الله: ''اجلسي عن يميني؟''. لتلك التي سمعت قِدمًا: ''أنتِ تراب وإلى التراب تعودين''. ألا يكفيها أن تجوز السماوات؟ ألا يكفيها أن تقف بين الملائكة؟ أما كان ذلك شرفًا لا يُوصَف؟

»لكنَّها تخطَّت الملائكة، وتجاوزت رؤساء الملائكة. عبرت بين الكروبين وصعدت فوق السرافين. تعدَّت الرئاسات ولم تقف حتّى استوَت على العرش السيِّدي. ألا ترى المسافة بين السماء والأرض؟ أو بالحريّ فلنبدأ من أسفل: ألا ترى ما أعظم المسافة من الجحيم(9) إلى الأرض، ومن الأرض إلى السماء، ومن السماء إلى السماء العليا، ومن السماء العليا إلى الملائكة فإلى رؤساء الملائكة فإلى القوّات العلويَّة فإلى عرش الملك نفسه؟

»لقد جاز السيِّد بطبيعتنا كلَّ تلك المسافة، ورفعها إلى ذلك العلوّ. فانظر الآن إلى أين سقطَتْ، ثمَّ إلى أين صعدَتْ. لعمري، إنَّه لا يمكن أن ينزل الإنسان أسفل ممّا نزل، ولا أن يُرفَع إلى مقام أسمى من المقام الذي رُفع إليه. وهذا ما أبانه القدّيس بولس إذ قال: ''ذاك الذي نزل هو الذي صعد أيضًا'' (أف 4: 10). فإلى أينَ نزل؟ إلى أقصى أسافل الأرض. لذلك ''صعد فوق جميع السماوات«(10).

أجل، صعودُ الطبيعة البشريَّة أفرح الملائكة. »فإذا كانوا يفرحون متى رأوا خاطئًا واحدًا يتوب، فكيف لا يطيرون اليوم فرحًا إذ يرون طبيعتنا كلَّها، وهي ممثَّلة في باكورتها، داخلة إلى السماء؟«. وأورد يوحنّا ما قاله الإنجيليّ عند صعود الربّ: »وبينما هم شاخصون نحو السماء وهو منطلق، إذا برجلين وقفا عندهم بلباس أبيض وقالا لهم: ''أيُّها الرجال الجليليّون، ما بالكم واقفين تنظرون إلى السماء؟ إنَّ يسوع الذي ارتفع عنكم إلى السماء، سيأتي هكذا كما عاينتموه منطلقًا إلى السماء« (أع 1: 10-11). ثمَّ شرح المقطع في فكرتين، الأولى، جاء الملاكان لتعزية الرسل: المسيح يعود. والفكرة الثانية: صعد يسوع حقٌّا إلى السماء، لا »كأنّما إلى السماء«. بمعنى أنَّه تظاهر، ولكنَّه في الواقع لم يصعد. قال:

»أرجو أن تعيروني هنا كلَّ انتباهكم. لماذا قال الملاكان ذلك؟ أليسَ للتلاميذ عيون؟ ألم يشهدوا الحادث؟ ألم يقل الإنجيليّ (لوقا): »إنَّه صعد عنهم وهم شاخصون إليه«؟ فلأيِّ سبب حضر الملاكان يخبرانهم بأنَّه صعد إلى السماء؟ ذلك لسببين: الأوَّل، لأنَّهم كانوا متألِّمين لانفصال المسيح عنهم. إسمع ما قال لهم سابقًا: ''ليس أحد منكم يسألني إلى أين تنطلق، ولكن لأنّي كلَّمتكم بهذا ملأت الكتابةُ قلوبكم'' (يو 16: 5-6). إن كنّا لا نطيق الانفصال عن أصدقائنا وأقاربنا، فكيف يتجلَّد الرسل على فراق المخلِّص والمعلِّم والكافل، الودود، الوديع، الصالح، وهم يرونه منفصلاً عنهم؟ كيف لا يتوجَّعون؟ كيف لا تتفطَّر قلوبُهم حزنًا. لذلك وقف بهم الملاكان ليعزِّياهم عن صعوده ببُشرى مجيئه الثاني: ''إنَّ يسوع سيأتي هكذا كما عاينتموه''. فلا تجزعوا، ولا تسترسلوا إلى الحزن المفرط... ذلك هو السبب الأوَّل لحضور الملاكين.

»أمّا السبب الآخر فلا يقلُّ عنه أهميَّة وهو متضمِّن في كلمتَيْ ''إلى السماء'' اللتين أضيفتا إلى ما قبلهما: ''إنَّ هذا الذي ارتفع عنكم''. فما السرُّ في ذلك يا تُرى؟ هو أنَّه لما أخذ في ارتقائه وُجهة السماء وبلغ منها شأوًا بعيدًا، لم تعد الأبصار قادرة على رؤية جسده الصاعد دومًا نحو الأعالي. فكما أنَّ العصفور الطائر في العلاء يختفي عن نظرنا على قدر ما يرتفع في الجوّ، هكذا جسدُ المخلِّص كان يختفي بمقدار ما كان يطير في الأعالي، إلى أن عجزت النواظر الضعيفة عن أن تتَّبعه بسبب بُعد المسافة. لذلك حضر الملاكان وأخبرا التلاميذ بأن صعوده كان في الحقيقة ''إلى السماء''، لئلاّ يظنُّوا أنَّه صعد ''كأنَّما إلى السماء'' على مثال إيليّا دون أن يبلغ إليها. ولذلك قالا: ''إنَّ هذا الذي ارتفع عنكم إلى السماء'' لغاية في نفسهما، وليس عرضًا كما رأيتم«(11).

نموذجان من عظات الذهبيّ الفم حول مواضيع سفر الأعمال، مع الملاحظة أنَّه يستند أكثر ما يستند، إلى رسائل القدّيس بولس. فهذا القدّيس ملأ قلب يوحنّا الذهبيّ الفم، فتحدَّث عنه وامتدحه، قبل أن يفسِّر رسائله.

ب- مديح القدّيس بولس

ألقى الذهبيّ الفم عددًا من العظات يمتدح قدّيسي العهد القديم منذ أيّوب وأليعازر الكاهن، وشموني وأولادها، ويمتدح الشهداء، كما يمتدح الأساقفة الذين عاصروه أو سبقوه: أغناطيوس الأنطاكيّ، أوستات أسقف أنطاكية، ديودور، أسقف طرسوس. ولكنَّ أشهر التقاريظ هي العظات السبع في مديح القدّيس بولس(12). في هذه التقاريظ عبَّر بحماس عن إعجابه اللامحدود بهذا الرسول. نقلها أنيان(13) إلى اللاتينيَّة بين سنة 415 وسنة 419، وقال فيها: ما صوَّر يوحنّا فقط الرسول العظيم، بل بدا وكأنَّه أقامه من بين الأموات، فصار أيضًا مثالاً حيٌّا للكمال المسيحيّ.

* * *

في عظة الافتتاح، امتدح الذهبيّ الفم في القدّيس بولس شميلة جميع الفضائل، وقابله مع الوجوه الكبيرة في العهد القديم، من هابيل إلى يوحنّا المعمدان، ليعلن في الختام، أنَّه تفوَّق عليهم جميعًا بسموِّ حياته. وها نحن نقدِّم بدايتها:

»يمكن بدون خوف من الانخداع أن تُسمّى نفسُ القدّيس بولس مرجًا للفضائل وبستانًا روحيٌّا، لوفرة بهائها بزهور النعمة، ولوفرة ما كانت متَّفقة هذه النعمة مع فلسفته العالية. فإذ هو صار ما صار إليه إناء مختارًا عاملاً على زيادة تنقيته كلَّ يوم، تقبَّل هذا الرسول مواهب الروح القدس مندفقة عليه بغزارة عجيبة. ومن تلك المواهب تتدفَّق لنا أنهر عجيبة، لا أربعة فقط كما في الفردوس، بل إنَّها أكثر جدٌّا، ومياهُها لا تتعكَّر أبدًا. وإنَّ تلك الأنهر، عوض أن تسقي الأرض، تُطفئ ظمأ النفوس وتجعلها خصيبة فتنمو فيها غلالُ الفضائل الفاخرة نموّا زاهرًا.

»فأيُّ كلام هو أهل للإشادة بما تستحقُّه فضائل هذا الرجل؟ وأيُّ لسان يستطيع أن يبلغ إلى علوِّ مجده؟ إنَّه وحده يجمع بأعلى درجة من الكمال، كلَّ أنواع الفضائل التي يمكن وجودها في البشر، بل في الملائكة أنفسهم. أجل، إنَّنا لأعجز من أن نقوم بمديحه، ولكنَّنا مع ذلك لا نلزم الصمت، بل ذلك العجز فينا هو مدعاة لأن نتكلَّم. فإنَّ أجلَّ المديح جمالاً، هو ما استدعته جلائل الأعمال التي يتقاصر دونها كلُّ مجهود البلاغة البشريَّة. على أنَّ قصورنا الخاسر في هذا الميدان، هو أمجد عندنا من ألف شعار انتصار«(14).

تفوَّق بولس على الأنبياء والآباء والرسل والشهداء وجميع الصدّيقين في جميع العصور وأخذ يوحنّا المثل الأوَّل: هابيل. »قدَّم محرقة. فاسمُه مقارنٌ للشرف. ولكنَّكم إذا وضعتم محرقته تلقاء محرقة بولس، فبولس يتفوَّق عليها بمقياس ما تعلو السماء عن الأرض. ولعمري عن أيِّ محرقة من محرقاته تريدون أن أتكلَّم؟«

ويستفيض الواعظ في كلام عن تضحية بولس بحياته:

»إنَّها لجمّة العدد (= الفضائل)، ويمكننا أن نختار منها ما شئنا. كلَّ يوم كان يضحّي بنفسه، وتلك التضحية كانت مضاعفة، لأنَّه كان يموت كلَّ يوم، ويحمل في جسده إماتة يسوع المسيح. ''يا إخوة، أقسم بالفخر الذي لي بكم في المسيح ربِّنا، أنّي أموت كلَّ يوم'' (1كو 4: 10). فإذا استبسل في خوض المخاطر، وتقبَّل في قلبه موت الاستشهاد، مُخضِعًا جسده إلى حدِّ الموت، لم يكن في كلِّ ذلك إلاَّ ضحيَّة مقدَّمة للربّ بثبات عزم، بل كان أكثر من ذلك. فهو لم يكن يقرِّب حملانًا وثيرانًا، بل كان يقرِّب كلَّ يوم نفسه قربان ذبيحة مضاعفة كما أسلفنا فذكرنا. وكذلك كان يقول بثقة: ''أمّا أنا فقد أريق السكيب عليَّ، ووقت انحلالي قد اقترب'' (2تم 4: 6). يشير إلى سفك دمه.

»ولا يقتصر على هذه التضحية. فبعد أن بذل نفسه بأجود سخاء وشرف، شاء أن يقرِّب العالم كلَّه لله. فانظروه يطوف في أقطار الأرض وفي البحار، كأنَّه ذو جناحين، يتعهَّد مدنيّة اليونان كما يتعهَّد البرابرة وكلَّ النواحي التي تنيرها الشمس، لا ليعاني سفرًا لا خير فيه، بل ليستأصل أشواك الخطيئة، ناثرًا بكلامه بذار التقوى، طاردًا أمامه الضلال والكذب، مقوِّمًا مملكة الحقيقة، وجاعلاً البشر ملائكة، بل أكثر من ذلك، قد جعلهم بشرًا بعد أن كانوا أبالسة. وقبل أن يغادر هذا العالم، وغبَّ أن جاهد جهاد الظفر وبذل في سبيل ذلك عرقًا غزيرًا، عزّى تلاميذه بقوله: ''لو أرقتُ سكيبًا على ذبيحة إيمانكم وخدمته، لكنت أفرح وأبتهج مع جميعكم. وبذلك عينه افرحوا أنتم أيضًا وابتهجوا معي'' (فل 2: 17-18) فمن ذا يجدُ مثلَ هذه التضحية التي يضرب فيها بولس ضحيَّته بسيف الروح على مذبح يعلو إلى ما فوق السماوات؟«(15)

* * *

في العظة الثانية، بيَّن يوحنّا أنَّ الرسول كشف بمثَله إلى أيِّ علوٍّ شاهق تستطيع الطبيعة، أن ترتفع، بالرغم من عطوبتها.

»ما الإنسان وما شرف طبيعته، وإلى أيِّ حدٍّ من الفضيلة يستطيع هذا الكائنُ الحيُّ أن يتسامى؟ ذلك ما جلاه لنا بولس أكثر من جميع البشر، فلقد قام منذ أوَّل عهده يدافع عن السيِّد جهرًا إزاء الذين يتجنّون علينا، ويحثُّ على الفضيلة، سادٌّا أفواه التجاديف الوقحة، ومبيِّنًا أنَّ الفرق ما بين الملائكة والبشر هو فرقٌ زهيد، وليس له كبير شأن إن أحببنا أن نهتمَّ لأمور نفسنا. إنَّ بولس لم يمتلك غير طبيعتنا، ولا أُشرك بغير نفسنا، ولا قطن في غير عالمنا. بل نشأ في الأرض نفسها، وتربّى في الشرائع والعوائد نفسها. ولكنَّه فاق جميع البشر منذ ما عُرف البشر على الأرض. أين إذن القائلون إنَّ الفضيلة أمرٌ صعب، ممتنع، وأمّا الشرّ فقريب المنال؟ إنَّ بولس ينقض رأيَهم بقوله: ''إنَّ ضيقنا الحاليّ الخفيف يُنشئ لنا ثقلَ مجدٍ أبديًا لا حدَّ لسموِّه'' (2كو 4: 17). فإذا كانت الضيقات خفيفة لديه، فبأولى حجَّة المسرّات«(16).

تحدَّثت هذه العظة عن بولس الذي ذلَّل الصعوبات وسُرَّ بالمحن، الذي أحبَّ المسيح فوق الجميع، وحنَّ على النفوس، الذي بيَّن لنا كم كانت نفسه شريفة وقدرها عالٍ. وأخيرًا، أبرز يوحنّا غيرة بولس الشاملة حيث وصل عمله إلى »المسكونة بأسرها«. وتنتهي العظة بدعوة إلى الاقتداء بهذا الرسول:

»لذلك أنا أتحيَّر من قدرة الله، وأتعجَّب من غيرة بولس. لأنَّه تقبَّل مثل هذه الموهبة، وأهَّل نفسه لها. وإنّي أرجوكم أن لا تقنعوا بالتعجُّب فقط، بل أن تقتدوا بمثال الفضيلة هذا. وهكذا يتيسَّر لنا أن نشاركه في الأكاليل نفسها. وإذا أخذك العجب، عند سماعك، أنَّك ستنال الجوائز نفسها إن أقبلت على المآثر نفسها، فاسمعه يقول لك بلسانه: ''قد جاهدتُ الجهاد الجميل، وأتممتُ شوطي وحفظتُ الايمان وإنَّما يبقى إكليل العدل المحفوظ لي، الذي يجزيني به ذلك اليوم، الربُّ الديّان العادل، لا إيّاي فقط، بل جميع الذين يحبّون تجلّيه أيضًا'' (2تم 4: 7-8). أرأيت كيف يدعو الجميع إلى الشركة نفسها؟ فبما أنَّ المكافأة نفسها محفوظة لنا جميعًا، فلنسعَ جهدنا لكي نستحقَّ الخيرات التي وُعدنا بها. ولا نكتفِ بأن ننظر إلى كبر وعظم مآتيه الجليلة، بل لننظر إلى شدَّة عزيمته التي أنالته تلك الحظوى«(17).

* * *

في العظة الثالثة، صوَّر يوحنّا العوائق التي تجاوزها الرسول، بفضل عزيمته التي لا حدَّ لها، ومحبَّته التي هي نبع لا ينفد.

»طوبى لبولس. فلقد أظهر كلَّ ما يستطيعه إنسان من اتِّقاد الغيرة، وتمكَّن من أن يطير إلى السماوات، ويرتفع فوق الملائكة ورؤساء الملائكة وجميع القوّات السماويَّة. فهو يدعونا أحيانًا بمثَله لنقتدي به. قال: ''اقتدوا بي كما أنا أقتدي بالمسيح'' (1كو 11: 1). وأخيرًا، لا يذكر نفسه، فيعمد إلى أن يرفعنا إلى قرب الله، إذ يقول: ''كونوا مقتدين بالله كأبناء أحبّاء'' (أف 5: 1). ثمَّ يضيف إلى هذا الكلام ما يبيِّن أنَّه لا شيء يجعلنا على مقربة من ذلك المثال الإلهيّ، إلاّ أن ننفع الناس ونهتمَّ جدَّ الاهتمام بما يُجدي إخوتنا، فيقول على أثر كلامه: ''اقتدوا بي''. ''اسلكوا في المحبَّة كما أحبَّنا المسيح وبذل نفسه لأجلنا'' (أف 5: 2). ثمَّ يشرع في الكلام على المحبَّة، إذ هي الفضيلة التي تقرِّبنا إلى الله أكثر من سواها. فمهما كانت الفضائل الأخر، فهي تُحسَب تالية للمحبَّة. لأنَّ بقيَّة الفضائل هي من خصائص الإنسان، كمجاهدتنا للأهواء الرذلة، ومحاربتنا للشراهة وللخجل أو للغضب. وأمّا المحبَّة، فهي مشتركة بين الله وبيننا. ولذلك قال يسوع المسيح: ''صلُّوا لأجل من يعنِّتكم ويضطهدكم، لتكونوا بني أبيكم الذي في السماوات« (مت 15: 44-45)(18).

* * *

وعالجت العظة الرابعة اهتداء الرسول على طريق دمشق. فقابل يوحنّا بين جواب بولس على نداء الله، مع جواب الشعب اليهوديّ الذي لبث قاسيَ القلب، فرفض أن يؤمن بالرغم من العجائب التي كان شاهدًا لها. وصوَّرت العظة الخامسة الضعف الذي قاساه الرسول فتجاوزه ليصل إلى المجد الذي أعدَّه الله له. وتوقَّفت العظة السادسة عند الخوف من الموت. فرأى فيها كثيرون علامة ضعف. غير أنَّ الرسول بيَّن أنَّ السمات التي تدلُّ على تهرُّب على مستوى الجسد، لا تقلِّل في شكل من الأشكال من سطوع الشجاعة الحقيقيَّة. فالمهمُّ هو القرار الذي تتَّخذه النفس. والعظة السابعة والأخيرة وازت بين حامل الراية في جيش أرضيّ، وبين القدّيس بولس الذي حمل راية الربِّ المصلوب والملك السماويّ، الذي حمل الصليب المرسوم على رايته رسمة افتخار، عبر العالم كلِّه(19).

وهكذا ننهي كلامنا في تقريظ بولس الرسول مع كلام عن جنونه، وهو الذي قال في 2كو 11: 1 بعد أن سرد أتعابه: »ليتكم تحتملون جنوني قليلاً«. ويوحنّا الذهبيّ يعلن هذه المرَّة، كما في كلِّ مرَّة، محبَّته لهذا الرسول:

»لا ريب في أنّي أحبُّ جميع القدّيسين. ولكنّي أحبُّ حبٌّا خصوصيٌّا الطوباويّ بولس، ذلك الإناء المختار، ذلك الصُّور (أو: البوق) السماويّ، وذلك الصديق العزيز للعريس الإلهيّ. فإذا تكلَّمتُ هكذا، وإذا بيَّنتُ ما أشعر به شديدًا من حبّي له، فذلك لرغبتي في أن تقاسموني أنتم أيضًا هذه العاطفة. إنَّ الناس الذين تستولي عليهم المحبَّة الجسديَّة، لا يتجرَّأون على التصريح بها، وهم محقّون في ذلك، لأنَّ نتيجة هذا التصريح تعود عليهم بالخجل المزري وإلقاء الشكِّ في نفوس السامعين. وأمّا الأشخاص الذين تتلهَّب فيهم المحبَّة الروحيَّة، والذين لا يفتأون يعلنون محبَّتهم تلك، فذلك الإعلان الساطع النور يؤتيهم هم أنفسهم خيرًا عظيمًا، ويُؤتي سُمّاعهم أعظم خير. فإذا كانت أولى هذه العواطف مجرمة، أثيمة، فالثانية هي سامية، مجيدة، الأولى هي فرح في النفس يوجب الخجل. وأمّا الثانية فتملأها فرحًا وتهلُّلاً وجمالاً...

»بما أنَّ الثمار المستنتجة عن شركة القدّيسين لها هذه القيمة الجلّى، أدعوكم لأن تقاسموني حبّي، ولنحمل كلُّنا عاطفةَ حبٍّ للرسول القدّيس. فإذا اخترق هذا الحبُّ نفسكم، وأوقد فيها لهيبَه المنير، يكون أنَّه إذا وَجد في قلوبكم أشواكًا وصخورًا، وقسوة وعدم إحساس، أحرق من جهة وليَّن من جهة، وحوَّل فيها الأرض القاحلة إلى أرض ثريَّة، مخصبة وصالحة لقبول الزرع الإلهيّ...«(20).

2- الذهبيّ الفم وشرح الرسائل البولسيَّة

بعد نظرة إلى سفر الأعمال، وفيه رافقنا بولس الرسول من أورشليم إلى رومة، بعد إيراد التقاريظ التي تبيِّن عظمة هذا الرجل الذي انتقل من المضطهِد إلى ذلك الذي تقبَّل الاضطهاد من أجل المسيح، نعود إلى شرح الرسائل، ونبدأ بالمراسلة إلى الكورنثيّين.

أ- رسالتان إلى كورنتوس

أربع وأربعون عظة حول الرسالة الأولى إلى كورنتوس، وثلاثون حول الرسالة الثانية. في هاتين الرسالتين نكتشف النموذج الأساسيّ لفكر الذهبيّ الفم وتعليمه. عظات ألقيَت في أنطاكية، وقبل ذهاب يوحنّا إلى القسطنطينيَّة، أسقفًا على عاصمة الإمبراطوريَّة. هذا أمرٌ أشار إليه يوحنّا بشكل صريح في العظة الحادية والعشرين (21: 6) من 1كو. والعظة السادسة والعشرون (26: 5) في 2كو، تتحدَّث عن القسطنطينيَّة وتقول: »هناك«. متى قيلت هذه العظات؟ هذا ما لا نعرفه بالتحديد. ولكنَّ العظة السابعة (7: 2) تذكر تفسير إنجيل متّى، والعظة 27: 2، تفسير إنجيل يوحنّا.

قراءتنا للعظة السابعة (7: 1-2) في 1كو، التي تعالج بالتفصيل المفهوم البولسيّ للسرِّ المسيحيّ، تعطينا أفضل مفتاح لفهم فكر الذهبيّ الفم حول 1كو 2: 6-10. فتفسيره العميق لهذا المقطع يردُّ على الاتِّجاهات العقلانيَّة للأنوميّين(21) الذين تنكَّروا لوجهة السرِّ في الديانة المسيحيَّة.

قرأ يوحنّا 1كو 2: 6-7: »ولكنَّ هناك حكمة نتكلَّم عليها بين الناضجين بالروح، وهي غير حكمة هذا العالم، وسلطانهم إلى زوال. بل هي حكمة الله السرّيَّة الخفيَّة التي أعدَّها الله قبل الدهور في سبيل مجدنا«. وشرحها كما يلي:

»الظلمة تليق بالذين عيونهم مريضة، أكثر من النور. لهذا يفضِّلون اللجوء إلى خلوة معتَّمة. ونقول الشيء عينه عن الحكمة الروحيَّة. فنعمة الله ما كانت سوى جنون للغرباء، وما تعرَّفوا سوى إلى حكمتهم الخاصَّة التي هي في الواقع جهالة. مصيرهم مصير ذاك الذي يعلن أنَّه قبطان، فيلتزم بعبور البحار الواسعة بدون شراع، بل بدون سفينة. ثمَّ يحاول أن يبيِّن بواسطة البرهان أنَّ هذا ممكن. وآخر جاهل كلَّ الجهل في هذا المجال، يستند إلى السفينة، إلى القبطان، إلى الملاّحين، بحيث يسافر بأمان. ما ندعوه جهلاً عند هذا، يتفوَّق في الحقيقة، على علم الأوَّل. ففنُّ قيادة السفينة شيء حلو. ولكن حين يعِدُ بأكثر ممّا يفي، لم يعُد سوى نوع من الجنون. وكذلك كلُّ فنٍّ لا يحصر نفسه في حدوده. كانت الحكمة الغريبة تستحقُّ اسم الحكمة هذا لو أنَّها لجأت إلى الروح. ولكن حين ارتكزت على ذاتها وأقنعت نفسها أنَّها لا تحتاج إلى مساعدة، صارت جهالة بعد أن بدت كأنَّها حكمة.

»وبعد أن ردَّ عليها بالوقائع سمّاها باسمها الحقيقيّ، كما أنَّه ما تردَّد أن يدعوها حكمة بعد أن دعا جهالةً حكمةَ اللغة بحسب لغة البشر، لأنَّه حين تُعطى البراهين يغطّي الخجلُ المعارضين. حينئذٍ قال: ''نكرز بالحكمة وسط الكاملين''. فأنا الذي يدعونني جاهلاً والواعظ بالجهالات، إن انتصرتُ على الحكماء، ما انتصرتُ في الظاهر عليهم في حكمتهم الجاهلة، بل بحكمة أسمى من هذه وهي من السموّ بحيث اعتبرت الحكمة البشريَّة منذ الآن، جهالة.

»بدأ فاستعمل عبارات يستعملها الناس. ثمَّ حين انتصر بواسطة الوقائع، وحين أقنع الخصوم بأنَّهم جهّال، استعمل عبارات تخرج من طبيعة الأشياء: »نكرز بالحكمة وسط الكاملين«. فالحكمة التي يتحدَّث عنها هي الكرازة، هي الخلاص الذي ننال بالصليب. والكاملون هم الذين اعتنقوا الإيمان. وفي الحقيقة، هؤلاء هم الكاملون؛ رأوا ضعف الأمور البشريَّة، فرذلوها باستخفاف، لأنَّها لا تقدر أن تفيدهم. هؤلاء هم المؤمنون«(22).

وبعد أن قال يوحنّا إنَّ حكمة الله جهالة للغرباء عن الإيمان، وللفلاسفة الذين يضعون العقل موضع الوحي، تحدَّث عن حكمة هذا الدهر التي هي حماقة.

»حكمة هذا الدهر''! ما فائدة هذه الحكمة المزعومة المنحصرة في حدود الحياة الحاضرة، والعاجزة عن المضيّ أبعد منها، والتي لا تنفع شيئًا للذين يفتخرون بها؟ ما فهمَ ''برؤساء هذا العالم'' الشياطين، كما ظنَّ بعضهم. فهمَ بها الناس الذين لبسوا القوَّة واهتمُّوا بهذه الحكمة الباطلة: الفلاسفة، الخطباء، الكتّاب. فهمَ الذين يسوسون الشعوب ويقودونهم. دعاهم بولس ''رؤساء هذا الدهر'' لأنَّ سلطانهم لا يتعدَّى الدهر الحاضر: لذلك بيَّن كيف أنَّهم في طريق الانحلال حين مزجوا الحكمة البشريَّة بنتائجها والمتشيِّعين لها. أرانا أنَّها كاذبة، مجنونة، عاجزة أن تكتشف شيئًا، أن تفعل شيئًا. وأضاف الآن أنَّها قصيرة النفَس.

»نكرز بحكمة الله في السرّ''«. أيُّ سرٍّ يعني؟ أما تكلَّم المسيح هكذا؟ ''ما قيل لكم في الآذان، فاكرزوا به على السطوح، (مت 10: 37). إذًا، كيف وصفها الرسول بالسرّ؟ لأنَّها شيء لم يعرفه الملاك ولا رئيس الملائكة ولا أيَّة خليقة، قبل أن تتمَّ. من هنا يقول في موضع آخر: ''ليكون للكنيسة الآن فضل اطلاع أهل الرئاسة والسلطة في العالم السماويّ، على حكمة الله في جميع وجوهها'' (أف 3: 10). إنَّه لشرف كبير شرَّف الربُّ به طبيعتنا حين كشف لها الأسرار ساعة كشفها لنا. ووسط البشر، هي بيِّنة صداقة أن يسلِّم الواحد إلى الآخر أسرارًا لم تُكشَف لأحد. ليسمعِ ذلك الوعّاظ الذين تنقصهم الفطنة، الذي يرمون إلى الجميع بدون تمييز، الحجارة والعقائد، الذين يعرضون ببراهين باطلة المقدَّسات أمام الخنازير والكلاب. فالسرُّ لا يحتاج إلى مثل هذه البراهين. يكفي أن نعلن ما هو. فالسرُّ الإلهيّ يخسر كماليَّته حين تمزجه بشيء من عندك. وهذا الاسم يبرِّر نفسه أيضًا لأنَّنا لا نرى في العمق ما نراه على السطح. يلفت نظرَنا شيء فنرى آخر. بل هو جوهر أسرارنا. والشعور تجاه المؤمن غير شعور اللامؤمن. أسمع أنَّ المسيح صُلب، وأقدِّر حالاً حبَّه للبشر، ويسمعه اللامؤمن من جهته فلا يرى فيه سوى علامة ضعف. أسمع أنَّه صار عبدًا وأقدِّر تنازله نحونا. والعبارة نفسها لا تحمل إلى اللامؤمن سوى فكرة العار. أسمع أنَّه مات، فأبقى مشدوهًا أمام قدرته، لأنَّه ما هُزم من قِبَل الموت بل قتل الموت، ويسمع اللامؤمن أيضًا فيرى عنده عجزًا.

»نكلِّمه عن القيامة، فيعتقد أنَّها خرافة. ساعة ظروف الموت عينه تجعلني أسجد أمام مقاصد الحكمة الإلهيَّة. نحدِّثه عن المعموديَّة، فلا يرى فيها سوى الماء، ساعة لا أتوقَّف عند الحواسّ، بل أكتشف تطهير النفس بالروح. يحكم فقط على الجسد الذي غُسل. وأؤمن أنا أنَّ النفس صارت بذلك نقيَّة، مقدَّسة(23)«.

وقراءتنا للعظة 40 في 1كو (40: 15، 29) تقدِّم لنا قطعة يبدو أنَّها انتمت إلى عبارة اعتراض إيمانيّ يتلفَّظ به طالبو العماد قبل النزول إلى حوض العماد، وذلك في السهرة الفصحيَّة. لا شكَّ في أنَّ هذا »النؤمن« الأنطاكيّ تضمَّن في أيِّ حال البنود التالية: »مغفرة الخطايا، قيامة الموتى، الحياة الأبديَّة«. العظة كلُّها هامَّة من أجل دراسة الليتورجيّا العماديَّة ونظام الخفائيَّة(24). ونقرأ هنا بعض ما قال الذهبيّ الفم:

»أوَّلاً، أودُّ أن أذكِّركم، أنتم الذين تدرَّجتم، بما طلب منكم منشِّئوكم أن تكرِّروه في هذه الليلة الاحتفاليَّة. ثمَّ أشرح لكم المقطع الذي نعالج، فيسهل عليكم حينئذٍ أن تفهموه. هذا المقطع يأتي على شفاهنا بعد الباقي كلِّه. أودُّ أن أتكلَّم علنًا، ولكن لا أجسر بسبب اللامتدرِّجين. فَهُم الذين يجعلون الشرح صعبًا، فيفرضون علينا أن نستعمل ألفاظًا غامضة، أو أن نعرض عليهم السرّ. ومع ذلك أتكلَّم بقدر استطاعتي مراعيًا الخفايا المقدَّسة.

»بعد أن أُعلنت لنا الأسرار، بعد أن ذُكرت العبارات السرّيَّة والرهيبة التي تتضمَّن العقائد النازلة من السماء، نختتم هكذا بعد أن أُمرنا بأن نقول حين نعمِّد: ''أؤمن بقيامة الموتى''. ففي هذا الإيمان تُعطى لنا المعموديَّة. فبعد أن نعترف بذلك نغطَّس في هذا الغسل المقدَّس. هذا ما ذكَّرنا به بولس حين قال: ''إذا كان لا قيامة للموتى، فلماذا نعتمد من أجل الموتى؟''، أي من أجل الأجساد. أنتم تتقبَّلون العماد لأنَّكم تؤمنون بقيامة الجسد الميت. وتؤمنون أنَّه لا يبقى في هذه الحالة. تؤكِّدون بالكلام هذه الحقيقة، والكاهن يرسمها صورة ويبيِّنها في الأشياء عينها. إنَّه يمثِّل ما تؤمنون به وما تعلنونه. وحين تؤمنون بدون علامات، يجعل العلامات على عيونكم. وحين تعملون ما يتعلَّق بكم، يكمِّل الله العمل. كيف وبأيَّة وسيلة؟ بواسطة الماء. فالنزول إلى الماء، ثمَّ الصعود يرمز إلى النزول إلى الجحيم (الأسافل، حيث يقيم الموتى) والخروج من هذا المبيت. لهذا يدعو الرسولُ العمادَ: قبرًا. ''دُفنّا مع (المسيح) بالمعموديَّة في الموت«(25).

* * *

في الفصل الخامس عشر من 1كو، يحدِّثنا بولس الرسول عن قيامة الموتى. في هذا الموضوع يتحدَّث يوحنّا الذهبيّ الفم، وينطلق من 2كو 5: 1ي:

»لهذا السبب ترون القدّيس بولس يحدِّثنا كثيرًا عن قيامة الأموات. وقد سمعتموه يهتف: ''فإنّا نعلم أنَّه إذا نُقض بيتُ مسكننا الأرضيّ، فلنا بناء من الله، بيت لم تصنعه الأيدي، أبديّ'' (2كو 5: 1). ولكن لنأخذ الأمور بالنظر العالي، ولنتبصَّر في السبب الذي دعا الرسول لأن يتكلَّم في قيامة الأموات. لأنَّه ليس بغير داعٍ ولا عن عرَض اتِّفاق يعود إلى الكلام في هذه المسألة مرارًا متتابعة. فهو إذ يقصد إقناعنا بحقيقة المستقبل، يبحث عمّا يقوّي أبطال الإيمان...«(26).

»لماذا الكلام عن قيامة الموتى؟ لأنَّ المؤمنين يمضون إلى الموت، فيسلّم الأب ابنه للموت، والأمُّ ابنتها، والسيِّد عبده. فالممتلكات تُنهَب، والحرِّيَّة تسلَب، والحياة عرضة لأشدِّ الأخطار، لا بسبب هجوم البرابرة، بل بسبب اضطهاد الملوك أنفسهم«. فإن غابت قيامة الأموات، من يجسر أن يقف في وجه هذه الأخطار التي لا تعرفها الكنيسة في زمن يوحنّا، بل في زمن بولس. وللكلام عن القيامة، سرد بولس ما يعانيه هو من البلايا: ''إنّا نتضايق في كلِّ شيء، ولكن لا ننحصر. ونتحيَّر، ولكن لا نيأس. ونُضطهَد، ولكن لا نُخذَل، ونُطرَح، ولكن لا نهلك'' (2كو 4: 8-9). يريد هنا الإشارة إلى أنواع الميتات اليوميَّة التي يتعرَّض لها المؤمنون، حتّى كأنَّهم جثث متحرِّكة تُدفَع كلَّ يوم للإجهاز عليها. وغبّ ملاحظته للمساوئ التي يُبتَلَون بها، يبثُ فيهم الشجاعة بذكر قيامة الموتى فيقول: ''فنحن نؤمن بأنَّ الذي أقام الربَّ يسوع سيقيمنا نحن أيضًا. لذلك لسنا نفشل، لأنَّ ضيقنا الحاليّ الخفيف يُنشئ لنا ثقل مجدٍ أبديٌّا لا حدَّ لسموِّه« (2كو 4: 13).

»أثار الرسول حماسة المؤمنين حين عاين آلامهم، وقال لهم: ''إنَّنا نتضايق في كلِّ شيء، ولكن لا ننحصر''. ثمَّ حرَّضهم على الثبات بذكر قيامة المسيح، فقال: ''فنحن نؤمن بأنَّ الذي أقام الربَّ يسوع، سيقيمنا نحن أيضًا مع يسوع''. والآن قد لجأ إلى وسيلة أخرى. فبما أنَّ عديدًا من البشر هم ضعفاء الروح ولا شجاعة عندهم ليتغلَّبوا على البلايا، ومع أنَّهم على اقتناع بقيامة الأموات، ينساقون إلى الفشل فيترجرجون ويسقطون حينما يتأمَّلون في طول الزمان الذي يكابدون فيه الآلام، يعمد الرسول إلى أن يُعلن لهم مكافأة ينالونها قبل قيامة الأموات.

»وما تكون تلك المكافأة؟ إنَّها معلنة بقوله: ''إن كان إنساننا الظاهر ينهدم، فإنساننا الباطن يتجدَّد يومًا فيومًا''. فالإنسان الظاهر هو الجسد، الإنسان الباطن هو النفس. فكأنَّه يقول: ''إنَّكم قبل أن تُبعثوا أحياء بالقيامة، وقبل أن تتمتَّعوا بالمجد الآتي، تنالون حتّى في هذه الحياة، جائزة نبيلة لقاء بلاياكم''. لأنَّ نفسنا تتجدَّد حتّى في الآلام عينها«(27).

ب- رسائل الأسر

اعتاد الشرّاح أن يضمّوا أربع رسائل كان بولس سجينًا حين كتبها. الرسالة إلى أفسس، الرسالة إلى فيلبّي، والرسالتان إلى كولوسّي وإلى فيلمون.

أوَّلاً: الرسالة إلى أفسس

جاءت العظات في الرسالة إلى الأفسسيّين أربعًا وعشرين عظة. ألقيَت في أنطاكية فذكرت القدّيس بابيلاس(28) في العظة التاسعة (9: 2)، والقدّيس يوليان في 21: 3 وهما القدّيسان المفضَّلان في المدينة. واعتبر تيودوريه القورشيّ في التاريخ الكنسيّ (4: 27) أنَّ يوليان زار أنطاكية. في العظتين السادسة والثالثة عشرة، تكلَّم الذهبيّ الفم عن أديرة في الجبال المجاورة للمدينة، وهذه الأديرة لعبت دورًا هامٌّا في حياة يوحنّا. أمّا العظة 11: 5 فتضمَّنت تلميحًا إلى انشقاق يمكن أن يكون انشقاق ميليتيوس(29).

أمّا العظة العشرون فنقرأها مطوَّلاً لأهمِّيَّتها بالنسبة إلى تعليم الذهبي الفم حول الزواج. فهي تبدو شرعة خلقيَّة من أجل الزوجين، وتعطينا فكرة سامية عن الزواج المسيحيّ. »أيَّتها النساء، إخضعن لأزواجكنَّ كما للربّ، لأنَّ الرجل رأس المرأة كما المسيح رأس الكنيسة ومحيي الجسد. وهكذا، كما تخضع الكنيسة للمسيح يجب على النساء أن يخضعن لأزواجهنَّ في كلِّ شيء« (أف 5: 22-24). قال الذهبيّ الفم:

»بعد أن قدَّم الرجل الحكيم تعدادًا طويلاً عن التطويبات، أضاف هذه: »''المرأة التي تعيش في توافق مع زوجها''« (سي 25: 2). وعاد في مقطع آخر، فأظهر هذا التوافق وسط التطويبات. فمنذ البدء بيَّن الله أنَّه يعتني عناية خاصَّة بالرباط الزواجيّ، فهو يتكلَّم عن الاثنين وكأنَّهما واحد: ''صنعهما من جنسين'' (من ذكر وأنثى، تك 1: 27) وبعد ذلك: ''لا فرق بين الرجل والمرأة'' (غل 3: 28). فاتِّحاد الرجل بالرجل لا يُقابَل أبدًا مع اتِّحاد الرجل بالمرأة، شرط أن يكون هذا الاتِّحاد الثاني شرعيٌّا. لهذا أراد شخصٌ كبير وقدّيس أن يعبِّر عن محبَّته العميقة بمناسبة موت صديق كان له جزءًا من نفسه، فما مضى يأخذ الإلهام من قلب أبٍ، أمّ، ابن، أخٍ، صديق. فأين إذًا؟ ''حبُّك سقط عليَّ شبيهًا بحبِّ النساء'' (2صم 1: 26). وهذا الحبّ أما هو أكثر استبدادًا من أيِّ حبٍّ آخر؟ هناك حبٌّ عنيف: وهذا يضمُّ إلى العنف العناد. هو حبٌّ مخفيٌّ في عمق الكيان، ولا ينكشف فينا إلاّ حين نجُري هذا الاتِّحاد.

»انظروا هذا الرباط المقدَّس، واستبعاد كلِّ جوهر آخر. انظروا الأصوات التي كان الاتِّحاد سببها. لا القرابة، ولا التماهي أوقف عملها: هي قدرة بدئيَّة تقود إلى التوحيد كتلك التي تكوِّن الحجارة. فالعمل لا ينطلق فقط من الخارج، بحيث لا نشبِّهه بشيئين خارجيّين. ولا يتوقَّف عند الاتِّحاد الزواجيّ بحيث إنَّ الإنسان يبقى منعزلاً عن سائر الكائنات ولا يؤثِّر على العالم الخارجيّ.

»كما أنَّ أفضل الأشجار وأجملها هي صاحبة جذع واحد يزهر في أغصان عديدة، فتلك التي تبقى في مكانها وتتعب في إكثار الجذور، لا تستحقُّ الالتفات إليها. وكذلك أيضًا أراد الخالق أن يعود الجنس البشريّ كلُّه إلى آدم، وأخضعه لضرورة آمرة بحيث لا يأتي شيء يقطع الوحدة. وإذ أراد أن يقوّي هذا التماسك، منع الزواج مع الأخت والابنة: ما أراد أن يتركَّز الحبُّ على نقطة واحدة. ولا أن ننفصل عن ذواتنا. من هنا هذا الكلام: ''الذي صنعهما في البدء صنعهما من جنسين'' (مت 19: 4). هنا ينبوع أكبر الشرور للأُسرَ وللحواضر، وأكبر الخيرات. فلا شيء ينسِّق الحياة مثل حبِّ الرجل والمرأة. فحين يَدفع هذا الحبّ، يأخذ العديدون السلاح ويضحّون بأنفسهم حتّى الموت. لهذا أظهر بولس غيرة كبيرة للحفاظ عليه. قال: ''لتخضع النساء لرجالهنَّ كما للربّ''. لماذا؟ لأنَّه حين يكون التناسق بينهما، يتربّى الأولاد، ويسود النظام بين الخدم. ويتنشَّق الجيران والأصدقاء والأهل الرائحة المحبَّبة التي تصدر عن هذه الأسرة. إن كان الأمر غير ذلك، صار كلُّ شيء إلى الفوضى والضياع. ونعطي مثلاً آخر: إن توافق قوّاد الجيش بعضهم مع بعض، يسيرُ كلُّ شيء بانتظام. وإن انقسموا تبلبل كلُّ شيء رأسًا على عقب. هذا ما يحصل اليوم. لهذا كانت توصية الرسول«(30).

التوافق هو الأساس. وفي الحبِّ نجد أكبر الخيرات وأكبر الشرور. يتَّفق الرجل والمرأة، فتكون السعادة في المنزل كما حول المنزل. ويتَّفق القوّاد في الجيش، فيسير كلُّ شيء بانتظام. ويكون للشجرة جذع واحد، فتكثر الأغصان وتعطي الثمار. ويتوقَّف يوحنّا عند واجبات المرأة تجاه زوجها:

»لتخضع النساء لأزواجهنَّ كما للربّ'' (كو 3: 18). ولكن أما قال المعلِّم: ''من لا يتنكَّر لامرأته أو لزوجه لا يقدر أن يتعبني؟'' (لو 14:33). بما أنَّ مثال الخضوع هو الخضوع الواجب للربّ، فكيف يجب أن ينفصلا باسم الربّ؟ لا شكَّ في أنَّه يجب عليهما ذلك. فالمقابلة لا تعني دومًا المساواة. أو، ها هو معنى النصِّ الذي نقرأ: حين تراعين مشيئة زوجك تأكَّدي أنَّك تطيعين الربّ. فإن كان صحيحًا أنَّ ''من يقاوم السلطات البشريَّة وحكّام المدينة، يقاوم النظام الذي أقامه الربّ'' (روم 13: 2)، فبالأحرى نستطيع القول عينه عن مقاومة سلطة الزواج. فمشيئته تجلَّت منذ البدء. لنقُلْ إذًا إنَّ الرجل هو الرأس والمرأة الجسم. ثمَّ إنَّ بولس يقدِّم لنا هذه الصورة الواضحة: كما أنَّ المسيح رأس الكنيسة ومحيي الجسد. وأيضًا: ''كما تخضع الكنيسة للمسيح، يجب على النساء أن يخضعن لأزواجهنَّ في كلِّ شيء''. لاحظوا هذه الكلمات: ''الرجل رأس المرأة كما المسيح رأس الكنيسة''. ثمَّ: ''وهو محيي الجسد''. وفي الواقع، الرأس يحيي الجسد. نستطيع القول إنَّ هنا أسس الجماعة الزواجيَّة، وحصّة كلٍّ من الزوجين في الواجبات التي يلهمها الحبّ: للواحد سلطة سابقة. وللأخرى خضوع واثق.

»إذًا، ''كما الكنيسة تخضع للمسيح''. ذاك هو الرمز الإلهيّ للأسرة. ''لتخضع النساء لأزواجهنَّ كما للربّ''. واسمعوا أيضًا: ''أيُّها الرجال، أحبّوا نساءكم كما أحبَّ المسيح الكنيسة''. رأيتم عظمة اللغة عند الرسول: لقد امتدحتم بولس وأعجبتم به حين رتَّب، بحكمة، نظام حياتنا. هو رجل روحيٌّ حقٌّا ويستحقُّ كلَّ إعجابنا. ولكن اسمعوا الآن ما يطلبه منكم. وحين رسم لكم واجبَكم واصل المقابلة عينها: ''أيُّها الرجال أحبُّوا نساءكم كما أحبَّ المسيح الكنيسة'' رأيتم مقياس الخضوع. وما هو مقياس الحبّ؟ تريدون أن تطيعكم المرأة كما الكنيسة للمسيح؟ فاهتمُّوا بها كلَّ الاهتمام كما اهتمَّ المسيح بالكنيسة. أتعطون حياتكم، أتمزَّقون إربًا، أتتحمَّلون كلَّ العذابات؟ لا تتراجعوا. وحين تصنعون كلَّ ذلك، ما عملتم سوى التشبُّه بما عمله المسيح...« (باراي، ص 379-380).

ثانيًا: الرسالة إلى فيلبّي

خمس عشرة عظة حول هذه الرسالة. أعادها باور(31) إلى الحقبة الأنطاكيَّة، لأنَّ عمله كان يسمح له بأن يؤلِّفها. غير أنَّها تتضمَّن عددًا من التلميحات إلى مسؤوليّاته الأسقفيَّة، ولاسيَّما في العظة التاسعة (9: 5)، فتبيِّن ارتباطها بالقسطنطينيَّة. وظنَّ باور (العظة 15) أنَّ التلميح إلى الإمبراطور المالك في ذلك الوقت، يليق بتيودوز(32) وبالحقبة الأنطاكيَّة، لا بأركاديوس(33) وحقبة القسطنطينيَّة. سأل الواعظ: »ذاك الحاكمُ اليوم منذ تقبَّل التاج، أما تعب وعرف الخطر والحزن واليأس والحظَّ السيّئ؟ أما تعرَّض للمؤامرات؟«. ظنَّ باور أنَّ هذا الكلام ينطبق على تيودوز الذي مات باكرًا. ولكن يبدو أنَّ الذهبيّ الفم يفكِّر في أركاديوس، الضعيف العقل، لا في تيودوز المجيد الذي تجاوز كلَّ الصعوبات.

أمّا العظة السابعة فتقرأ فل 2: 5-11، وتدافع عن عقيدة التجسُّد، في ردٍّ على القدماء ومعاصري يوحنّا. وخصوصًا بولس الشميشاطي(34) والأريوسيّين. شدَّد يوحنّا على اللاهوت »الكامل« والناسوت »الكامل« في المسيح. والناسوت يعني الإنسان كلَّه، »نفسًا وجسدًا« »لا مزج ولا اختلاط«. فالطبيعة الإلهيَّة لم تسقط بحيث صارت طبيعةً بشريَّة. فالطبيعتان وُجدتا متَّحدتين(35).

تفسير الرسائل مناسبة لتقديم الفكر اللاهوتيّ والردّ على الهراطقة من أيِّ جهة أتوا. ردَّ يوحنا على الأنوميّين الذين هم الجهة الجذريَّة في التعليم الأريوسيّ. كما على بولس الشميشاطيّ. وها نحن نقدِّم بعض ما قاله الذهبيّ الفم عن سرِّ التجسُّد هذا، وعن العذراء البتول:

»لا أكلِّمك الآن عن هذا الميلاد الإلهيّ، بل عن الميلاد البشريّ الصائر إلى الأرض، الذي يؤيِّده آلافٌ من الشهود. عن هذا الميلاد نحدِّثك ما نستطيع بمؤازرة الروح، لأنَّ هذا الميلاد أيضًا يتعذَّر علينا تبيانه بوضوح كامل، إذ تعترضنا في سبيل ذلك عقبات كأداء.

»لا يخيَّل إليك أنَّك تستمع إلى أمور قليلة الخطورة باستماعك إلى الأرض، وقد كان هذا الحادث من الغرابة والعجب بحيث وقف الملائكة أجواقًا، وجعلوا يُنشدون تسابيح الحمد في المسكونة كلِّها عندما نظروا إلى هذا السرّ. ودهش الأنبياء لمّا أدركوا بالروح أنَّ إلهنا يظهر على الأرض ويتردَّد بين الناس. والأغرب أن نسمع بأنَّ إلهًا كَلَّ دونَهُ الوصفُ والتعبير، وقصُرت عن إدراكه طامحات العقول، إلهًا مساويًا لأبيه، حلَّ في أحشاء عذراء، ورضيَ أن يُولَد من امرأة، وأن يكون إبراهيم وداود جدَّين له. وما لي أقول داود وإبراهيم. وفي الأمر ما هو أشدُّ هولاً إذ تُوجَد بين أجداده نساءٌ زانيات... ألا فاسمُ بعقلك لدى سماعك هذا الكلام، ولا تقبلْ في نفسك ما هو دنيء. بل بالأحرى، لهذا السبب، تعجَّبْ كيف احتمل ابن الله الأزليّ، الابن الذي هو من جوهر الله، احتمل أن يُدعى ابن داود ليجعلك ابن الله. إحتمل أن يكون أبوه عبدًا، ليجعل السيِّد أبًا لك أنت العبد. إن كنتَ ترتابُ في ما يخصُّك، فكنْ على يقين جازم ممّا يتمُّ في الابن المتجسِّد. وإنَّه لأصعب جدٌّا أن يسلِّم عقلُنا البشريّ بإله يصير إنسانًا، من أن يسلِّم بإنسان يصير ابن الله. فإذا ما سمعتَ بأنَّ ابن الله هو أيضًا ابن داود وابن إبراهيم، فلا يخامرْك ريبٌ في أنَّك أنت أيضًا تستطيع، وأنت ابن آدم، أن تكون ابن الله«(36).

ولماذا التجسُّد؟ لكي يرفع الإنسان. ولماذا أخذ طبيعتنا البشريَّة؟ لكي يرفعها إلى طبيعته الإلهيَّة. صار يسوع ابن آدم، ليساعدك حتّى تصير ابن الله.

»لا لعمري! لم يذلّ نفسه عبثًا على هذا النحو لولا الغاية التي يتوخّاها، ألا وهي أن يرفعنا. قد ولدك بحسب الجسد ليجعلك تُولد بحسب الروح. وُلد من امرأة حتّى لا تكون بعدُ ابن امرأة. فلهذا السبب كانت الولادة مزدوجة: ولادة تجعله شبيهًا بنا، وأخرى تفوق ولادتنا. فالولادة من امرأة تتَّفق والطبيعة الضعيفة. أمّا الولادة بالروح التي ليست من لحم ولا من دم ولا من مشيئة رجل، فهي لممّا يفوق طبيعتنا ولممّا يبشِّرنا بالولادة المقبلة التي يُنعم بها الروح علينا... هكذا فعل المسيح إذ جمع بين العهدين القديم والجديد، وبين الطبيعة الإلهيَّة والبشريَّة، وبين ما له وبين ما لنا«(37).

ثالثًا: الرسالة إلى كولوسّي

كما ارتبطت العظات حول الرسالة إلى فيلبّي بكنيسة القسطنطينيَّة، كذلك نقول عن العظات الاثنتي عشرة حول الرسالة إلى كولوسّي. فنهاية العظة الثالثة تدلُّ بشكل واضح على مهمَّة الواعظ الأسقفيَّة: »أنتم لا تحتقرون شخصي، بل الكهنوت. فحين ترونني مجرَّدًا منه، عندئذٍ تبدون لي احتقاركم. ومن جهتي لن أعطكيم بعدُ أوامر. ما دمنا جالسين على هذا العرش، ما دُمنا في كرسي الرئاسة، فنحن نمتلك السلطان والقوَّة بالرغم من حقارتنا. كرسي موسى كان موقَّرًا بحيث فرض نفسه على السماع لكلِّ من يتكلَّم باسم موسى، فكم بالأحرى يجب أن يكون هكذا بالنسبة إلى كرسي المسيح. ونحن على هذا الكرسي جالسون، ومن على هذا الكرسي نتكلَّم... فجميع السفراء أيٌّا كانوا ينعمون بصفتهم سفراء، بأكثر الامتيازات احترامًا... ونحن أيضًا تسلَّمنا صفة سفراء. وجئنا باسم الله. فهذا ما يميِّز الأسقفيَّة... نحن لدى البشر سفراء الله. إذا بدت لكم العبارات قويَّة، نقول: ''هي الأسقفيَّة لا نحن. لا هذا الفرد، بل الأسقف«(38).

هذا يعني أنَّ الذهبيّ الفم ألقى هذه العظات سنة 399، لأنَّه يلمِّح إلى زوال الخطوة لأوتروبي(39). قال: »ذاك الذي كان البارحة جالسًا في كرسي المحكمة، الذي كان له المنادون الذين يصرخون أمامه بالصوت العالي، فيفتحون له بغطرسة، الطريقَ إلى الساحة العامة، هو اليوم حقير، سافل، مجرَّد من كلِّ شيء ومعرَّى، مثل الغبار الذي تحمله الريح، مثل مجرى الماء الذي مضى«. لا نجد ذكرًا لمقتل أوتروبي ممّا يعني أنَّ العظة ألقيت بعد سقوطه بقليل(40).

وضعٌ خاصّ عرفه يوحنّا في تلك الفترة، فما جاءت هذه العظات مثل أخيّاتها، ولكنّ تنوُّع مواضيعها يكفي لكي يجعلها في خطِّ سائر الشروح حول الرسائل البولسيَّة. جاءت العظة الأولى حول مختلف أشكال الصداقة بين البشر. وعالجت العظة الثالثة كو 1: 15-18 فقدَّم الذهبيّ الفم دراسة كرستولوجيَّة حول من هو صورة الله، ورأس الجسد أي الكنيسة. وتوقَّفت العظة الخامسة عند العقل البشريّ، الذي لا يستطيع أن يفهم الأسرار ويدرك ما يتجاوز الطبيعة. وهكذا عاد إلى الأنوميّين الذين قدَّسوا العقل على حساب الوحي. وما نلاحظه هو أنَّ الواعظ أخذ بالتفسير الأليغوريّ، الاستعاريّ، وكأنَّه نسيَ أنَّه من مدرسة أنطاكية في تفسير الكتاب المقدَّس.

ورسمت العظة السادسة المسيح وهو يدمّر بموته، ويمزِّق الصكَّ الذي وُضع ضدَّ البشريَّة. وعرضت العظة السابعة الدمار والولادة الجديدة اللذين تمّا بواسطة العماد. أمّا العظة الثامنة فتحدَّثت عن فعل الشكر الذي هو فلسفة الحياة الكبرى والذي يوازي الاستشهاد إن نحن أدَّيناه مقابل شتائم تلقَّيناها من القريب. وشدَّدت العظة التاسعة حول ضرورة قراءة الكتب المقدَّسة باجتهاد، ونصحت باللجوء مرارًا إلى المزمور من أجل التربية الخلقيَّة. فدعا الوالدين لكي يعلِّموا أولادهم نشيد المزامير، الذي يقودهم إلى المدائح التي هي »عمل الله«. قال يوحنّا: »يبدأون فيتعلَّمون المزامير، ثمَّ يعرفون أيضًا المدائح، على أنَّها أمرٌ إلهيّ، لأنَّ القوّات العلويَّة تُنشد المدائح، لا المزامير«'. أمّا العظة الثانية عشرة فتشجب الإفراط في الولائم التي ترافق الأعراس، وتضع أمامنا المسيح وملائكته الذين يحضرون العرس المسيحيّ. فكيف يكون تصرُّفنا؟(41)

قدَّمنا موجزًا عن عظات يوحنّا حول الرسالة إلى كولوسّي، واكتشفنا الغنى الذي فيها. منذ الكلام عن يسوع المسيح في سرِّ ألوهيَّته، في التجسُّد، وصولاً إلى الفداء حيث دمَّر الصكَّ الذي كُتب في البشريَّة وحكم عليها بالموت. ونودُّ أن نقرأ في هذا المناخ مقطعًا حول الفائدة من مطالعة الكتاب المقدَّس.

بعد أن دعا الواعظ المؤمنين لكي يطالعوا الكتب المقدَّسة، لا »عند وجودنا في الكنيسة فقط، بل عند الرجوع إلى البيت«، بحيث نكون كالشجرة المغروسة »على مجاري المياه« فنشرب لا ساعة أو ساعتين في النهار، بل طوال النهار والليل، قال:

»التمرين على مطالعة الكتب الإلهيَّة هو الميناء الهادي والسور الحصين الذي لا ينهدم، والبرج غير المتزعزع والمجد اللازم والسلاح الذي لا يُغلَب والسعادة الخالية من الأكدار، والنعيم الدائم ومصدر الخيرات التي لا يقدر العقل البشريّ أن يتصوَّرها. إنَّها تطرد اليأس، وتحفظ الوداعة، وتغني الفقير أكثر من الغنيّ، وتُبعد الأغنياء عن الخطأ. وتجعل الخاطئ صدّيقًا، وتقود الصدّيق إلى المأوى الحصين، وتستأصل الشرَّ وتزرع الخير حيث لا أثر له، وتطرد الحقد والضغينة والحفيظة، وتردُّ النفس أو الفضيلة وتثبِّتها وتديمها. بل هي كالطبيب للنفس، ونشيد إلهيّ سرّيّ يميت الشهوات ويستأصل أشواك الخطيئة. إنَّها تنقّي الحقل وتزرع البذور الطاهرة وتنضج الأثمار. إنَّها الطيب المنتشر لا بكمِّيَّته بل بطبيعته. هكذا الكتب الإلهيَّة تعطينا المنفعة العظيمة، لا بكثرة كلامها، بل بالقوَّة الكائنة فيها. إنَّ الطيب فوّاح، زكيّ بطبيعته، لكن بطرحه في النار تزداد رائحته زكاء. هكذا الكتابة الإلهيَّة فإنَّها جميلة جدٌّا بنفسها. ولكن إذا دخلت أعماق النفس تصبح كالبخور المطروح في المبخرة يملأ البيت بشذاه الزكيّ«(42).

رابعًا: الرسالة إلى فيلمون

تركنا جانبًا شرح الرسالة إلى غلاطية التي بدت تفسيرًا متواصلاً للنصّ، آية آية، فابتعدت عن أسلوب الوعظ، وإن وجَّه يوحنّا بعض المرّات كلامه إلى السامعين. كما لم نتوقَّف عند الرسائل الرعائيَّة التي جاءت العظات عنها في أنطاكية(43). وتبقى العظات الثلاث حول الرسالة إلى فيلمون. أهمِّيَّتها كبيرة لأنَّها تعطينا بعض فكر يوحنّا حول نظام العبوديَّة: يعتبره واقعًا مفروضًا علينا، وهو نتيجة الخطيئة. ولكنَّه يرفض أن يحسبه ناموسًا طبيعيٌّا، بمعنى أنَّه ملتصق بطبيعة الإنسان. هذا عبد وذاك حرّ. فالكنيسة لا تعرف تمييزًا في هذا المجال (العظة الأولى)، كما قال الرسول: »لا فرق الآن بين يهوديّ وغير يهوديّ، بين عبد وحرّ، بين رجل وامرأة. فأنتم كلُّكم واحد في المسيح يسوع« (غل 3: 28). ودعا هؤلاء الخدّام، إخوة المسيح الذين نعاملهم كما المسيح (العظة الثانية)(44). ونقرأ بداية العظة الأولى، بعد مقدِّمة تحدَّثت عن فيلمون، الذي اعتنق بيتُه كلُّه الإيمان فصار »كنيسة«:

»من أجل العبيد تحدَّث الرسول هكذا، متوجِّهًا إلى سيِّد. منذ البداية، هدّأ له أفكاره، وأبعد عنها كلَّ عاطفة عار، وهدَّأ انزعاجه. وإذ أعطى لنفسه لقب سجين في القيود، علَّمه التواضع والرصانة، بحيثُ تُحسَب الأشياء الحاضرة كلا شيء. إذا لم تكن القيود المحتملَة من أجل المسيح موضوع عار، إن سُمح له بأن يفتخر بها، فبالأحرى حالة العبيد لا تحمل أيَّ عار. وإن تحدَّث الرسول بهذه اللغة، ما أراد أن يفتخر، بل توخّى أن يعطي كلامه سلطة أقوى لكي ينال نعمة، لا لنفسه. بدا وكأنَّه يقول: أحمل هذه القيود من أجلك. ذاك ما قاله في ظروف أخرى. فدلَّ على اهتمامه، كما بيَّن هنا صدقه. لا شيء يعلو هذا المجد، لأنَّه يُدعى الصورة الحيَّة للمخلِّص: ''أحملُ فيَّ سمات المسيح'' (غل 6: 17). ''سجين المسيح''. من أجل المسيح تلقّى القيود. من لا يحترم هذا الكلام، من لا يتحنَّن؟ من لا يستعدّ أن يعطي حياته، لا فقط عبدًا من العبيد؟

»وتيموتاوس أخونا''. قدَّم الرسول نفسه مرافقًا، ليكون لطلبه وزن ويُستجاب. ''إلى الحبيب فيلمون معاوننا''. إذا كان ''الحبيب'' فلا تجرّؤ ولا اعتداد حين يعبِّر له عن ثقته. هو برهان جديد عن الصداقة: إذا كان معاونًا، فهو لا يكتفي بأن يمنح مثل هذه الحسنة، بل يشكره لأنَّه طلبها منه، فهو يحسن إلى نفسه، ويواصل تعاونه. وبمعزل عن الصلاة، هناك سبب آخر يقوله بولس يدفعك لأن تمنح هذه النعمة. هذا العبد يعاون الآن في الكرازة، التي ترغب أيضًا في نجاحها. فيجب عليك أنت أن تطلب ولا تنتظر أن يُطلَب منك«(45).

هدف بولس واضح. أونسيمس عبد ترك سيِّده ومضى. ولا بدَّ أن يرجع بعد أن يسامحه سيِّده، ولا يعاقبه كما اعتاد الشرع الرومانيّ أن يفعل. احتاج إلى مساندة تيموتاوس، والوضع الجديد الذي حوَّل أونسيمس من عبوديَّة إلى عبوديَّة. كان عبدًا لفيلمون، فصار عبدًا للمسيح، شأنه شأن بولس، وانطلق في عمل الكرازة. وبعد أن يذكر الرسول »أبفيَّة« و»أرخبُّس«، يصل إلى ما يريد:

»إلى العزيزة أبفيَّة''. أظنُّ أنَّها امرأة فيلمون. أنظر تواضع الرسول: طلب مساندة من تيموتاوس في طلبه. وما توسَّل فقط إلى الزوج، بل إلى الزوجة. ثمَّ إلى صديقٍ على ما يبدو. ''إلى أرخبُّس، رفيق السلاح''. هو لا يريد أن يحصل عن طريق السلطة ولا يغتاظ إن لم يُستجَب حالاً. لا يكفي أن يطلب الكثيرون، بل يهمُّ أن يتوجَّه الطلب إلى العديدين لكي يصل إلى مبتغاه. لهذا يقول: ''إلى أرخبُّس رفيق السلاح''. بما أنّك تشاركني في القتال، فقاسمْني أيضًا مجهودي في هذا الظرف...

»وإلى الكنيسة التي في بيتك''. ما نسيَ العبيد. فهو لا يجهل أنَّ كلامهم قد يحوِّل استعدادات سيِّدهم، وخصوصًا حين يكون الموضوع التوسُّل من أجل عبد. ربَّما يحرِّكون غضبه على هذا الهارب (أونسيمس). لجأ بولس إلى تشفُّعهم كما لجأ إلى تشفُّع أسيادهم، فسعى إلى منعهم من الاستسلام إلى الحسد. وما أراد أن يعطي سيِّدهم...«. (باراي، ص 67).

ما لاحظناه هنا من خلال العظة، تشديد يوحنّا على التدابير التي أخذها من أجل أونسيمس، ذاك العبد الذي هرب من أمام سيِّده. وسوف نفهم بعد ذلك، طلب بولس من فيلمون. ولا شكَّ قال له: الكنيسة لا تعرف تمييزًا بين عبد وحرّ، التمييز الوحيد على مستوى الفضائل والخطايا. بما أنَّكم تشكِّلون كنيسة، لا تغتاظوا إن دعوتُ العبد معكم. ففي المسيح يسوع لا عبد ولا سيِّد (غل 3: 28).

ج - العظات حول الرسالة إلى رومة

»كلَّ مرَّة أسمع قراءة رسائل الطوباويّ بولس، مرَّتين أقلَّه في الأسبوع، ومرارًا ثلاث مرّات وأربعًا، كما يكون ذلك حين نحتفل بتذكار الشهداء القدّيسين، أبتهج وأفرح، وأسكر بأصوات هذا البوق الروحيّ. قلبي يتهلَّل ويشتعل لرنَّة هذا النغم المحبوب. أتصوَّره هو نفسه حاضرًا وأظنُّ أنّي أسمعه. ولكنّي أتألَّم وأئنُّ لأنَّ مثل هذا الرجل لا يعرفه الجميع، كما يستحقُّ أن يُعرَف. لأنَّ العديدين يجهلونه بحيث لا يعرفون حتّى عدد رسائله. هذا لا يعني أنَّنا لا نتسلَّم التعليم الكافي، بل لأنَّنا لا نريد أن نحاور هذا الرسول القدّيس ونثابر. وبالنسبة إلينا، كلُّ ما نعرف، هذا إذا كنّا نعرف بعض الشيء، قد تعلَّمناه لا بقوَّة فهمنا وولوج عقلنا، بل بالحديث العاديّ معه وفي الحبِّ المستمرّ الذي يلهمه«(46).

هكذا تبدأ العظة الأولى من العظات حول الرسالة إلى رومة، فتدلُّ على محبَّة يوحنّا لبولس الرسول وعلى إعجابه بشخصه وبتعليمه. اثنتان وثلاثون عظة تمثِّل أهمَّ شرح آبائيّ لهذه الرسالة، وأجمل ما تركه يوحنّا الذهبيّ الفم من آثار. كتب عنها إيزيدور السينيّ(47) في رسائله: »إنَّ كنوز الحكمة لدى العالِم يوحنّا وافرة جدٌّا في تفسيره للرسالة إلى الرومانيّين. أظنُ (ولا أحد يقول إنّي أكتب لكي أمالق أحدًا) أنَّه لو أراد بولس الإلهيّ أن يقدِّم في لغة أثينة كتاباته الخاصَّة، لما كان تكلَّم غير ما تكلَّم هذا المعلِّم الشهير. فتفسيره رائع بمضمونه، وجمال شكله، وطريقة التعبير« (الرسالة 5: 32).

أين ألقيت هذه العظات؟ في أنطاكية، على ما يبدو. ففي الثامنة قدَّم يوحنّا نفسه، هو وسامعيه، على أنَّهم خاضعون لأسقف، ممّا يعني أنَّه لم يكن بعد أسقفًا، بل كاهن أو شمّاس. والعظة الثالثة والثلاثون تبيِّن أيضًا بشكل أفضل الأصل الأنطاكيّ لهذه العظات. فالواعظ يعود إلى الموضع الذي يعيش فيه سامعوه، على أنَّه الموضع الذي فيه علّم القدّيس بولس وقيِّد، وهذا ما يصحُّ في أنطاكية لا في القسطنطينيَّة. وهكذا تكون الشروح حول الرسالة إلى رومة بين سنة 381 وسنة 398، بعد نهاية تفسير إنجيل يوحنّا بقليل.

سلسلة المواعظ هذه تحمل ختم كاتبها، في الأسلوب واللغة والنهج التفسيريّ وخلال الجدال البيلاجيّ(48) سنة 422، أورد القدّيس أوغسطين في ردِّه على يوليان ثمانية مقاطع من العظة الثامنة ليبيِّن أنَّ يوحنّا ما اعتنق يومًا الأفكار البيلاجيَّة حول الخطيئة الأصليَّة. وقد أخذ هذه الإيرادات من ترجمة لاتينيَّة »نُشرت« في أيّامه.

عالجت الرسالة إلى رومة عددًا من المسائل العقائديَّة، ولكنَّ الذهبيّ الفم لم يتوقَّف عندها طويلاً. إنَّه لا يميل كثيرًا إلى التنظيرات اللاهوتيَّة، فيحسُّ بنفسه منجذبًا نحو المسائل الخلقيَّة والنسكيَّة. لهذا، ومن الوجهة اللاهوتيَّة، جاء تأويله الرائج في الخطِّ الأنطاكيّ، بسيطًا بعض المرّات. أمّا القارئ المعاصر، فيأسره حماسُ ذاك الواعظ المشغوف بالقدّيس بولس. وهذا ما نكتشفه في العظة الأخيرة التي فيها نكتشف حماسة يوحنّا نحو المعلِّم المحبوب ورسول الأمم:

»بالنسبة إليّ، هذا ما يحبِّبني برومة، وإن كانت هناك دوافع أخرى لأن أنشدها: أنشد عظمة هذه المدينة وقدمها، جمال العمارات، عدد السكّان. قوَّة هذه المدينة وغناها. مزاياها الحربيَّة ومنجزاتها. ولكن أترك جانبًا كلَّ هذا وأهتف أنَّ الرومان سعداء، لأنَّ بولس كتب إليهم وهو بعدُ حيّ، لأنَّه أحبَّهم حبٌّا جمٌّا، لأنَّهم سمعوا كلامه وتلقّوا النَفس الأخير حين استشهاده. ذاك ما يصنع مجد هذه المدينة، أكثر من جميع الامتيازات الأخرى. إنَّها تشبه شخصًا كبيرًا وقويٌّا. لها عينان ترسلان البروق، جسما هذين القدّيسَين (بطرس وبولس). لا تشعُّ السماء بنور حيّ حين تكون الشمس في كلِّ جلالها، بقدر ما تشعُّ مدينة رومة بهذين المشعَلين اللذين تضيء أشعَّتهما على العالم كلِّه. من هنا ارتفع بولس. من هنا ارتفع بطرس. إقشَعرّوا حين تفكِّرون بمشهد رومة التي تبدو أمام ناظريكم. أنظروا بولس خارجًا فجأة مع بطرس من المبنى الذي كان فيه مسجونًا، والذي منه حُمل في الهواء إلى لقاء الربّ. أيَّ وردة لا تقدِّم هذه المدينةُ إلى المسيح؟ أيُّ تاج لا يتوِّجها؟ أيُّ سلسلة ذهبيَّة لا تحيط بها؟ وأيَّ ينبوع نجده فيها؟ لهذا أنا معجب بها، لا بسبب كنوزها وعواميدها وكلِّ زيتَنها: فيها يقوم عمودا الكنيسة«(49).

رومة عظيمة كمدينة تتَّجه إليها الأبصار. وأعظم ما فيها »عمودا الكنيسة« بطرس وبولس. هناك أتمّا شهادتهما. ويواصل يوحنّا كلامه ليتحدَّث فقط عن بولس:

»من يعطيني الآن أن أقبّل جسم بولس، أن ألصق فمي على قبره، أن أشاهد غبار هذا الجسم الذي كمَّل بآلامه آلام المسيح، الذي حمل سمات الصليب، الذي نشر في كلِّ مكان كلام الإنجيل؟ أجل، أريد أن أرى غبار هذا الجسم الذي به طاف في العالم كلِّه، غبار هذا الفم الذي به تكلَّم المسيح... أودُّ أن أرى غبار هاتين العينين اللتين انطفأتا في السعادة، ثمَّ اشتعلتا من جديد لخلاص المسكونة، اللتين استحقَّتا أن تشاهدا المسيح في جسده، اللتين رأتا أمور الأرض وما رأتاها، اللتين ما عرفتا النوم وسهرتا في وسط الليل، اللتين لم يشوَّه بشيء نورُهما. أودُّ أن أرى غبار رجليه، اللتين طافتا العالم وما تعبتا، اللتين كانتا في القيود حين تزلزل السجن، اللتين داستا الأقطار الموحشة كما البلدان المأهولة، واجتازتا المسافات الكثيرة.

»ولكن، لماذا هذا التعداد؟ أودُّ أن أرى القبر الذي فيه يرقد سلاح البرّ، سلاح النور. ترقد أعضاء حيَّة الآن. وميتة حين كان هو حيٌّا، فيها عاش المسيح. أرى هيكل الروح القدس، البناء المقدَّس الذي ترتبط كلُّ أجزائه بالروح، وتلجها مخافةُ الله، وتطبعها سماتُ المخلِّص. هذا الجسم هو بالنسبة إلى المدينة طريق لا يُؤخذ، ولا يساويه أقوى برج كما لا تساويه دائرة أسوار مهما كانت بارعة«(50).

وإليك بداية هذه العظة التي شرحت روم 16: 17-18: »وأناشدكم، أيُّها الإخوة، أن تكونوا على حذر من الذين يثيرون الخلاف والمصاعب بخروجهم على التعاليم التي تلقَّيتموها. ابتعدوا عنهم، لأنَّ أمثال هؤلاء لا يخدمون المسيح ربَّنا، بل بطونهم، ويخدعون بالتملُّق والكلام المعسول، بسطاءَ القلوب«.

»المناشدة أيضًا. الصلاة أيضًا بعد المناشدة. يجب أن نلاحظ صانعي الخلافات، قال، ونبعد إرشاداتهم. وأضاف حالاً: ''وإله السلام يسحق الشيطان تحت أقدامكم... نعمة الربِّ معكم'' أنظروا بأيِّ وداعة يحثُّهم. لا يأخذ لهجة الناصح، بل لهجة المتوسِّل، وهذا التوسُّل ترافقه أكبر علامات الإكرام: فهو يتوجَّه إلى إخوة. بدأ فقال: ''أتوسَّل إليكم''. ثمَّ حذَّرهم فدلَّهم على حيلة الأعداء. هؤلاء الأعداء لا ينزعون القناع. فقال بولس: ''أتوسَّل إليكم بأن تلاحظوا، بأن تعرُّوا مؤامراتهم''. عمَّن يتكلَّم؟ ''عن الذين يثيرون القلاقل والشكوك، عكس التعليم الذي تلقَّيتموه''. ما من شيء يحمّل الضربات القاسية للكنيسة مثل الانقسام. هو السلاح الأخطر لدى إبليس، وهذا ما يقلب كلَّ شيء. ما دام الجسد موحَّدًا، لا يلجه روح الشرّ، وعن الانقسام يأتي الدمار. والانقسام، من أين يأتي؟ من تعاليم تعارض تعاليم الرسول. وهذه التعاليم، من أين أتت؟ لأنَّهم عبيد بطنهم وسائر الأهواء. وتابع: ''مثل هؤلاء الناس لا يخدمون الربَّ، بل بطنهم''. إذًا، لا مجال للشكوك ولا للشقاقات إن لم يتخيَّلوا تعليمًا مغايرًا لتعليم الرسل المرتَّبين لذلك. قال بوضوح: ''خارج التعليم''، ما أضاف: ''الذي علَّمناه''. بل أضاف: ''الذي تعلَّمتموه''. استبق كلَّ اعتراض من جهتهم، وذكَّرهم بما سمعوا وما اعتنقوا. وماذا نفعل بصانعي الشرِّ هؤلاء؟ ما أجاب: هاجموهم معًا، ردّوهم على أعقابهم. بل اكتفى بالقول: ''ابتعدوا عن مصاحبتهم''. لو تصرَّفوا عن جهل أو ضلال، لكنّا ننيرهم. ولكنَّهم يخطأون وهم عارفون. فلا يبقى سوى تجنُّبهم. في موضع آخر قال الرسول: ''ابتعدوا عن كلِّ أخ بطّال'' (2تس 3: 6). وحين تحدَّث إلى تيموتاوس، كانت التوصية عينها: »انتبهوا إلى هذا الرجل« (2تم 4: 15)(51).

* * *

أجل، حين يقدِّم الرسول نصائح عمليَّة، يرتاح الذهبيّ الفم في الكلام عنها، لأنَّه ذاك الراعي الذي يعرف الصعوبات التي يتخبَّط فيها المؤمنون. ومن الفرد إلى الجماعة، يقدِّم لنا يوحنّا عظة حول الفكر السياسيّ المسيحيّ. وهو يميِّز بوضوح ما هو إلهيّ في السلطة، والوظيفة بأصلها البشريّ. ويبدأ العظة 23 التي عنوانها: »كلُّ نفس تخضع للسلطات العليا«.

»عالج الرسول هذا الموضوع في بعض أماكن من رسائله وعلَّم المسيحيّين بأن يخضعوا لرؤسائهم كما الخدم لأسيادهم. حين أعلن المسيح شرائعَه، ما توخّى هدْمَ الدول، بل بالأحرى تقويتها وتعليمنا أن لا ندخل في قتالات خطرة لا هدف لها. تكفينا الاضطهادات التي نتحمَّل من أجل الحقيقة. فلا نضمَّ إليها محنًا نستطيع تجنُّبها ولا يكون لنا منها فائدة. لاحظوا بأيِّ طريقة دخل في هذا الموضوع. جعل بولس أمام أنظار المؤمنين لوحة عن التعليم الساميّ الذي ينتظر من سخائهم: الخدمة لأعدائهم كما لأصدقائهم، التضحية في الصعوبة كما في الازدهار، للأغنياء كما للفقراء، عيش حياة جديرة بالملائكة، التخلّي عن كلِّ حقد، الابتعاد عن كلِّ كبرياء، ممارسة اللطف في كلِّ الظروف. هذا ما يجب عليهم أن يفعلوا، بحسب تعليم المخلِّص.

»وبعد أن درس هذه النقاط، عالج المسألة التالية: إذا وجب علينا أن نجابه الشرَّ بالخير على شاتمنا، فبالأحرى يجب أن نتجاوب مع الذين يصنعون الخير معنا. غير أنَّ هذا لا يظهر إلاّ في نهاية الإرشاد. أمّا الآن فترك جانبًا مثل هذه البيِّنة، وتوقَّف عند الدواعي التي تفرض علينا الطاعة. هذه الدوافع هي بطبيعتها عامَّة: هي تنطبق على الجميع بدون استثناء: على الكهنة كما على الرهبان كما على العوام. وأكدَّ بولس ذلك منذ البداية: ''لتخضع كلُّ نفس للسلطات العليا''. سواء الرسول، الإنجيليّ، النبيّ، لا فرق: فالطاعة لا تسيء بشيء إلى الكرامة. ما قال: يجب أن تطيع. بل أن تخضع. والسبب الأوَّل لهذه التوصية وهو سبب مؤسَّس على الإيمان، قد أمر به الله هكذا: ''لا سلطان إلاّ من الله''. ما معنى هذا الكلام؟ هل يعني أنَّ كلَّ ملك نال هنا سلطانه من الربّ؟ ليس هذا ما يقوله الرسول: هو لا يتكلَّم عن هذا الملك أو ذاك، بل عن الصفة الملكيَّة في ذاتها.

»إن كان هناك من سلطات، إن كان البعض يأمرون والآخرون يطيعون، إذا كانت مصائر الشعوب غير مسلَّمة إلى الصدف، إذا كان الشعوب لا يشبهون أمواجًا تحرِّكها الرياح هنا وهناك، فنظامُ الأشياء تصنعه الحكمةُ الإلهيَّة. لهذا لم يُكتَب: ما من رئيس إلاّ وأقامه الله. كلاّ. بل الموضوع في الصفة الملكيَّة في ذاتها. ''لا سلطان إلاّ من الله. السلطات الموجودة قد رتَّبها الله''. في المعنى عينه، كتب القدماء: ''خُلقت المرأة بيد الله من أجل الرجل''. هذا يعني أنَّ الله هو خالق الزواج بشكل عامّ، لا مختلف الزواجات التي تُعقَد فنرى عددًا من الزواجات لا شرعيَّة، ولا علاقة لها بالزواج بحيث نتحفَّظ أن نرى أنَّ الله خالقها. ويعبِّر الحكيم عن الفكرة عينها التي قالها المسيح: ''ذاك الذي خلق الكلَّ من البدء، خلق الرجل والمرأة وقال: لهذا يترك الرجل أباه وأمَّه ويتَّحد بامرأته'' (مت 9: 4-5؛ تك 2: 24).

»بما أنَّ القتال هو مرارًا نتيجة المساواة، أقام الله علاقات مختلفة بين الأدنى والأعلى، بين الابن وأبيه، بين الشابّ والشيخ، بين العبد والحرّ، بين الخاضع والملك، بين التلميذ والمعلِّم. عملَ هذا من أجل البشر، وعمِلَه من أجل مختلف أعضاء الجسم. فالكرامة نفسها لا تخصُّ الأعضاء المتنوِّعة! هذا أعلى وذاك أوضع. هؤلاء يأمرون وأولئك يطيعون. ويقدِّم لنا عالمُ الحيوان المشهد عينه، بين النمل وقطيع نعاج البرّ وسائر الحيوانات. وفي البحر يسودُ الناموسُ عينه: فمختلف أنواع السمك يخضعون لمن له يخضعون نراهم يقاتلون ويهاجرون هجرات طويلة بقيادة رئيس. فالفوضى آفةٌ في كلِّ مكان، وفي كلِّ مكان هي مبدأ أسوأ الشرور«(52).

وبعد هذه التشابيه العديدة المأخوذة من عالم الطبيعة، يعود الذهبيّ الفم إلى موضوع السلطة في المجتمع:

»بعد أن دلَّ بولس على أهل السلطة، أضاف: ''هكذا، من يقاوم السلطة يقاوم النظام الإلهيّ''. لاحظوا إلى أيِّ حدٍّ وصل، وكيف أيقظ المخافة في النفس، وبأيَّة طريقة بيَّن شرعيَّة هذا الواجب. فلا يحقُّ للمؤمنين أن يصرخوا: ولكنَّك تُحدرنا، تجعلنا موضوع احتقار، لأنَّك تُخضع لرؤساء الأرض، وارثي الملكوت السماويّ. ولكنَّهم لا يستطيعون أن يتكلَّموا هكذا وهم يخضعون لله، لا لملوك هذه الأرض. فالخضوع الذي نقدِّمه للملوك يعود مباشرة إلى الخالق. غير أنَّ الرسول لا يقول ذلك بشكل حرفيّ، بل يهتمُّ فقط بأن يحرِّك المخافة ويبيِّن أنَّ رفض الطاعة لقوى الأرض، هو حرب مع الله، خالق هذا الناموس. وبالتالي، حين نطيعهم، نقوم بواجب ولا نمنحهم حظوة. إنَّها وسيلة سامية لاجتذاب الملوك اللامؤمنين إلى الإيمان، مع الحفاظ على المسيحيّين في الطاعة. فيجب أن لا ننسى أنَّ شائعات تسري من جميع الجهات، وهي تمثِّل الرسل متمرِّدين وأعداء النظام الحاليّ، ويتوخّون في جميع أعمالهم وفي جميع خطبهم، تقويض الشرائع المعمول بها. وحين نبيِّن أنَّه فرض على المسيحيّين الطاعة التامَّة، نغلق أفواه المفترين، ونعطي الكرازة قوَّة جديدة« (العظة 23، ص 198-199).

نكتفي بهذا القدر من ا23لعظة التي جاءت طويلة، شأنها شأن سائر عظات الذهبيّ الفم، بحيث تساءل الباحثون: هل قيلت هذه العظة كلُّها على الشعب الجالس في الكنيسة، أم هل أضاف عليها يوحنّا الكثير حين أعاد النظر في ما وصل إليه من »نصوص مختزلة« بيد أحد سامعيه، كما عرفنا عن ذلك الكاهن الأنطاكيّ الذي رافق الأسقف الجديد إلى القسطنطينيَّة، ودوَّن العظات حول الرسالة إلى العبرانيّين؟ أمّا طريقة التفسير في العهد الجديد، فتختلف عن طريقة التفسير في العهد القديم. هنا يجب على المفسِّر أن يقرأ النصَّ في إطاره التاريخيّ، ثمَّ يطبِّقه على حياة المؤمنين الذين يسمعونه. وفي النهاية، يصل إلى سرِّ المسيح والكنيسة، وإلاّ لا حاجة إلى قراءة العهد القديم. هذا ما اكتشفناه مثلاً في شرح المزامير. كما يمكن أن نكتشفه في شروح سفر التكوين أو نبوءة أشعيا. أمّا في العهد الجديد، فالمؤمنون يعيشون التدبيرالإلهيّ كما تمَّ في يسوع المسيح. فيكفيهم أن يفهموا النصَّ في الإطار الذي كُتب فيه.

وبالنسبة إلى رسائل بولس، ينطلق يوحنّا من الوضع الذي عرفته الكنيسة الأولى من اضطهاد، ليصل إلى وضع الكنيسة العائشة اليوم في سلام وبعيدًا عن اضطهادات رافقتها ثلاثة قرون. نجد أنَّ هذا لا يعني أن لا مقاومة لها من قِبَل السلطة التي تريد أن »تدجِّن« الكنيسة. وأنَّ الرذائل حاضرة في المجتمع، ولاسيَّما في عاصمة الإمبراطوريَّة بما فيها من مكر وكذب واحتيال وبغض وحسد. إلى هؤلاء تكلَّم الذهبيّ الفم، فكلَّفته الكلمة ما كلَّفت سميَّه يوحنّا المعمدان: هذا سُجن ثمَّ قُطع رأسه، أمّا الذهبيّ الفم فراح من منفى إلى منفى، حتّى مات في طريق أبعد منفى، في كومونا، على شاطئ البحر الأسود، في 14 أيلول سنة 407. ما اعتبر يومًا أنَّ له هنا مدينة ثابتة، فوصل إلى المدينة الباقية. ذاك الذي عاش للمسيح، مات للمسيح بحيث استطاع أن يقول مع رسول الأمم: حياتي هي المسيح، والموت ربح لي. وهكذا كان للذهبيّ الفم الربح الأعظم: هو ما مات، بل لبث حيٌّا، خصوصًا حين جعل رسائل بولس تحيا في أيّامه، وتصل إلينا كلمة نستطيع أن نسمعها فنجد فيها »كلام الحياة الأبديَّة«.

الخاتمة

تفسير رسائل القدّيس بولس. لا نعرف أحدًا من آباء الكنيسة شرحها كلَّها ووعظها. والذهبيّ الفم تشرَّب منها قبل أن يحملها إلى المؤمنين، بشكل خاصّ في أنطاكية يوم كان شمّاسًا ثمَّ كاهنًا. فهو الذي أُغرم ببولس، واتَّخذه قدوة له ولكنيسته. من أجل هذا كانت المدائح، بل هو شرح سفر الأعمال، لأنَّ الموضوع الأساسيّ فيه رحلاتُ بولس الرسول، وصولاً إلى رومة حيث مات شهيدًا، حبٌّا بالمسيح. يعدُّ الواعظ النقاط الرئيسيَّة، ويتوسَّع فيها أمام الحاضرين. ويكون بقربه من يدوِّن عن طريقة الاختزال. فيصبح الواعظ كاتبًا: ينقِّح النصَّ، يضيف إليه، وهكذا صارت العظات سلسلة مقالات تفسيريَّة حول رسائل القدّيس بولس، بحيث احتلَّت هذه الشروح القسم الأكبر من آثار يوحنّا التي وصلت إلينا. يكفي أن نعرف أنَّ هذه الآثار ملأت اثني عشر مجلَّدًا في مجموعة الآباء اليونان. وكانت حصَّة الرسائل البولسيَّة مع سفر الأعمال أربعة أجزاء من القطع الكبير والصفحات العديدة. أمّا نحن، فكشفنا بعض الأمور من هذه التفاسير، ويا ليتها تكون في العربيَّة كما هي في سائر اللغات، لكان المؤمنون يغتنون، ولكان أهل أنطاكية من موارنة وملكيّين وسريان وأرمن، يكتشفون هذا الكنز الكبير بحيث لا يعتبرون نفوسهم فقراء في شروح الكتاب، ولا يمضون إلى خارج تراثهم فينسون غناهم ولا يدخلون في عمق تراث يبقى في أيِّ حال غريبًا عنّا.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM