الفصل العاشر: من بولس إلى أحباء الله في رومة

 

- تصميم الرسالة إلى رومة

قضيّة تصميم الرسالة قضيّة مهمَّة جدٌّا في روم أكثر منها في سائر الرسائل. فكلُّ من 1تس، و2تس، وفل، وغل كُتب في ظرف معيّن، فجاءت بُنيتها صدفةً واتّفاقًا: و1كو تتضمّن سلسلة من الأجوبة عن أسئلة، أو توسّعات في مواضيع تهمّ الحياة اليوميّة في الجماعة، و2كو كُتبت في إطار من الدفاع عن أساس رسالة بولس؛ أمّا روم، وبالأخصّ في ف 1-11، فهي بحثٌ يتِألَّف من نقاط تعليميّة. من هنا أهمّيّة التصميم ليبدو البحث واضحًا. ولكن اختلف الشرّاح في التصاميم التي قدّموها لأنَّهم اختلفوا حول هدف بولس الأساسيّ.

هناك قسمٌ أوّل (ف 1-11) تعليميّ بمجمله، وقسمٌ ثانٍ (ف 12-15) أخلاقيّ، ثمّ السلامات وكلام الوداع (ف 16). وها نحن نقدِّم تصميمًا وتحليلاً للرسالة داخل هذا الإطار العامّ.

أ) 1: 1-17: المقدّمة: بعد السلامات المعتادة، يقدِّم بولس نفسه على أنّه رسول الأمم (1: 1-7)، ويشكر الله من أجل إيمان كنيسة رومة، ويخبرها برغبته في أن يزورها (1: 8-15)، ثمّ يقدِّم موضوعه: إنجيل البرّ في الإيمان (1: 16-17).

ب) 1: 18-4: 26: بالإيمان بالإنجيل ينتقل البشر من غضب الله إلى برِّه الخلاصيّ.

هنا يبدأ القسم الأوّل وعنوانه: الإنجيل قوّةٌ لكلِّ من يؤمن، وينتهي في 11: 36.

ظهر غضب الله... (1: 18).

- على الأمم (1: 18-32) التي لم تعبد الله ولم تشكُرْه. رفضوا متطلِّبات الله المشروعة، ولو أرادوا لاستطاعوا أن يتأمَّلوا الله في خلقه. ولكنَّهم لم يفعلوا. لهذا غرقوا في الخطايا.

- على اليهود (2: 1-3: 20) الذين عرفوا الشريعة ومارسوا الختان، إلاّ أنّهم ظلّوا بعيدين عن الخلاص، شأنهم شأن سائر البشر. ولكن بين الأمم من يحفظون شريعة الله المكتوبة في قلوبهم. هم لم يعرفوا نظام الشريعة ولكنَّهم عاشوا حسب نظام الروح. وهكذا، فكلّ البشر خاطئون كما يقول الكتاب وهم يستحقّون عقاب الله.

وظهر أيضًا برُّ الله (3: 21).

- برٌّ خلاصيٌّ أعطي لجميع المؤمنين بموت يسوع الفدائيّ، ولم يُعطَ لغيرهم (3: 21-31).

- لا يعارض الكتاب هذا القول، ويدلّ على ذلك مَثلُ إبراهيم: حُسب له إيمانُه، بقدرة الله، برٌّا. ولهذا فهو أبو كلِّ المؤمنين (4: 1-25).

ج) 5: 1-8: 39: حمل يسوع إلى جميع البشر البرَّ بالإيمان فأحلَّ، محلَّ نظام الشريعة الدينيّ، نظامَ الروح.

من الموت إلى الحياة (5: 1-6: 23).

- نحن بالإيمان ننال النعمة، لأنّ الله، حين أرسل ابنه، صالحَنا معه وأعطانا المحبّة بروحه (5: 1-11). لذلك، كما أدخل آدمُ إلى العالم الخطيئةَ والموت، كذلك أدخل المسيحُ، آدمُ الجديد، النعمةَ والبرّ والحياة (5: 12-21).

- تعمَّد البشر في موت المسيح فماتوا عن الخطيئة وما عادوا يتحمّلون سلطتها عليهم. فبسبب المسيح نالوا حياةً جديدة هي مشاركةٌ في قيامته (6: 1-11). تحرَّروا من الخطيئة فوجب عليهم أن يعيشوا في طاعة لله تقودهم إلى القداسة والحياة الأبديّة (6: 12-23).

من نظام الشريعة إلى نظام الروح (7: 1-8: 39).

- نال لنا المسيح، بموته، التحرُّرَ من نظام الشريعة الدينيّ (7: 1-6)، ولكنّ هذا لا يلغي الواقع، وهو أنّ الشريعة صالحةٌ ومقدَّسةٌ وروحيّة. غير أنّ الإرادة والعقل ما استطاعا أن يؤمِّنا ممارسة الشريعة لدى الخاطئ: فالشريعة أكثرت الخطيئة التي تقود إلى الموت (7: 7-25).

- ولكنّ الله حكم على الخطيئة في جسد المسيح ليستطيع المؤمنون الذين عاشوا حسب الروح وتحرَّروا من سلطان الخطيئة أن يُتمّوا متطلِّبات الشريعة ويحصلوا على رجاء القيامة (8: 1-11). صاروا بالروح أبناءَ الله ووارثين مع المسيح (8: 12-17)، فنالوا رجاءً شاركَتْهم فيه الخليقةُ كلُّها. وحين قيامة الأجساد، يتمّ تبنّينا على يد الله (8: 18-30). ويُنهي بولس هذا العرض بنشيد الرجاء المسيحيّ (8: 31-39).

د) 9: 1-11: 36: رفض بنو إسرائيل موقّتًا المسيحَ يسوع، ولكنَّ رفضهم لا يقف حاجزًا أمام شموليّة مخطَّط الله الخلاصيّ.

لم يؤمن الشعبُ المختار (9: 1-33).

- إنّ الموقف الذي اتّخذته جماعة إسرائيل تجاه الإنجيل طرح على بولس مشكلةً أحسّ بها في أعماقه وتألَّم لها: فرغم الامتيازات الممنوحة للشعب كلِّه (9: 1-5)، صار قسمٌ بسيطٌ من هذا الشعب أبناءَ الوعد (9: 6-33).

- هذا حصل لا بسبب ظلم الله الذي أظهر رحمته حين دعا الوثنيّين إلى نعمته (9: 14-24)، بل بيّن صدق الكتاب الذي أنبأ أنّ بقيّة تبقى فقط (9: 25-33).

جهِلَ الشعبُ المختارُ برَّ الله فلا عذرَ لهم (10: 1-21).

- طلب اليهود برَّهم الخاصّ فجهلوا برّ الله الذي جعل المسيح غايةَ الشريعة (10: 1-4)، وهذا ما يوافق الكتاب الذي يُعلن خلاص الناس بالإيمان (10: 5-13).

- لم يطلب اليهودُ الربّ، مع أنّ صوتَ المبشِّرين وصل إلى أقاصي الأرض، إذن لا عذرَ لهم لأنّهم شعبٌ عاصٍ وعنيد (10: 14-21).

مخطّط الله ومستقبل شعب إسرائيل (11: 1-36).

- لم يرذل اللهُ شعبَه، ولكنّه اختار له منذ الآن بقيّة وسطَ الجماعة العاصية (11: 1-10). وإذ كان سقوط اليهود سببًا لخلاص الأمم، فأيّة نعمة يجلب رجوعهم؟ (11: 11-15).

- فالأمم أغصانُ زيتون بَرّيَ طُعِّموا على زيتون جوّي هو شعب إسرائيل (11: 16-24). إنَّ دخولهم كمجموعة في طريق الخلاص يدعو إلى الخلاص، إسرائيلَ كلَّه الذي من أجله كان نداءُ الله وعطاياه. وهكذا حُبس جميعُ الناس في الخطيئة لينالوا في النهاية رحمة الله (11: 15-23).

- وينتهي تأمُّل هذا السرّ بنشيد عبادةٍ وشكر (11: 33-36).

هـ) 12: 1-13: 14: تطبيقٌ على الحياة المسيحيّة كلِّها.

ويرتبط القسم الأخلاقيّ (12: 1-15: 13) بالتوسُّع السابق فيُعلن القاعدة الأساسيّة: حين يُتمُّ المؤمنون إرادة الله يحيَون الحرّيّة المسيحيّة فتصبح حياتُهم ذبيحةً حيّة ومقدَّسة لمجد الله (12: 1-2).

قواعد من أجل حياة الجماعة (12: 3-21).

- ويستنتج أوّل قول عن حياة الجماعة حيث يوزّع الله مواهب متنوّعة: فعلى كلِّ واحد أن يستثمرها من أجل بناء جسد المسيح الذي هو الكنيسة (12: 3-13).

- وتتوسَّع هذه النظرة في دعوةٍ إلى البرَكة والفرح ومحبّة الأعداء (12: 14-21).

قواعد تحدِّد موقفنا أمام السلطات المدنيّة (13: 1-7).

- تعيش الجماعة المسيحيّة في عالم وثنيّ، فلا قانونَ أساسيٌّا لها: فيجب أن يتحلّى موقف أعضائها بالصدق نحو السلطات المدنيّة من أجل الضمير.

رجوعٌ إلى قواعد الحياة الجماعيّة (13: 8-14).

- تتضمَّن وصيّةُ المحبّة سائرَ الوصايا (13: 8-10)، وتُمارَس في إطار الرجاء الإسكاتولوجيّ (13: 11-14).

تطبيق على جماعة رومة (14: 1-15: 13).

- عرف بولس أن المجابهة قائمةٌ بين الذين يُسمَّون أقوياء والذين يُسمَّون ضعفاء؛ فيوصي الفريقين بالتقبُّل والاحترام المتبادلَين (14: 1-22). ويشير إلى طرقٍ عديدة تساعد على أن نحيا حياة مسيحيّة حقيقيّة تمجِّد الله (15: 1-6)، فيمجِّد الله معًا المختونون وغيرُ المختونين.

و) 15: 14-16: 27: خاتمة الرسالة

رسالة شخصيّة (15: 4-33)

- ويصل بولس إلى الأخبار الخاصّة: فيذكر أنّه ينوي السفر إلى الغرب مارٌّا برومة. ولقد تجرّأ وكتب إلى أهل رومة حيث لم يبشِّر بعدُ بالإنجيل، لأنَّه دُعي ليكون رسولاً إلى الأمم.

توصيات وسلامات (16: 1-16).

- ويوصي بولس بفيبة التي حملت الرسالة، ويورد لائحة بمن يسلِّم عليهم.

زيادات أخيرة (16: 17-25)

- نقرأ هنا تحذيرًا إلى المتهوِّدين في الجماعة (16: 17-20).

- وترد سلاماتُ رفاقِ بولس ولاسيّما ترسيوس »كاتب هذه الرسالة« (16: 21-23).

- وزيدت أيضًا: نعمةُ ربِّنا يسوع المسيح معكم أجمعين. آمين (16: 24).

- المجدلة الأخيرة (16: 25-27) تستعيد مواضيع إنجيل بولس الرئيسيّة وتذكِّرنا بـ 1: 16-17 فتشكِّل تضمينًا ناجحًا.

5- الفنّ الأدبيّ في الرسالة

تحدَّثنا عن الظروف التي أحاطت بالرسالة إلى أهل رومة ولم نكشف الأسرار كلَّها. إلاّ أنّ طبيعة هذه الرسالة تبقى لُغزًا علينا. هل نحن أمام بحثٍ تعليميّ أو رسالةٍ كُتبت في ظرفٍ من الظروف، أو رسالة تُشبه سائرَ الرسائل البولسيّة؟

نحن أوّلاً أمام بحث لاهوتيّ، وإن كان لا يتضمَّن كلَّ تفكير الرسول اللاهوتيّ. فهذا البحث هو عرضٌ لما يسمّيه بولسُ »إنجيلَه« (2: 16؛ 16: 25) وقلْبَ البُشرى التي يحملها إلى الأمم. من هنا قال البعض إنّ بولس لم يكن يعرف جماعةَ رومة معرفةً دقيقة، لذلك تحاشى المسائلَ العمليّة الملموسة التي تعرفها جماعةٌ خاصة، وتجنَّب الدفاع عن نفسه كما فعل في غل و2كو، فعرض على كنيسة رومة، ومن خلالها على الكنائس كلِّها، المشاكلَ التي تتحدَّى رسالتَه.

وهنا يمكننا أن نقابل بين روم وغل. ففي هاتين الرسالتين نجد المواضيع الرئيسيّة الخاصّة ببولس: التبرُّرَ والخلاص، شريعة موسى والإيمانَ المسيحيّ، شخصيّة إبراهيم... ولكنّ طريقة طرح هذه المواضيع تختلف بين الرسالة وأختها. كتب بولس غل متأثِّرًا بما سمعه عن الغلاطيّين الأغبياء الذين سُحرت عقولُهم بتعليم مغاير للذي سمعوه منه (غل 3: 1). فثار ثائرهُ لأنَّهم تركوا الذي دعاهم بنعمة المسيح واتَّبعوا بشارةً أخرى (غل 1: 6). أمّا في روم فبولس هادئٌ في كلامه، صاحبُ منهجٍ في تعليمه. نظر إلى الأمور من عَلُ فجاء كلامُه متوازنًا: خفض من كبرياء اليهود في البداية ثمّ خفض من كبرياء الوثنيّين الذين نسُوا أنّهم زيتونةٌ برّيّة طُعِّمت على زينوتة جوّيّة (11: 17ي).

لا شكَّ في أنّ أسلوب بولس في روم يعجّ بالحياة. فهو يتوجَّه إلى سامع لا يحدِّده. يسأله، يتعجَّب معه: ماذا نقول إذن...؟ أتجهلون إذن...؟ إنّ هذا الشكل الحواريّ يدلّ على أنّ الشخص الذي يحدِّثه بولسُ يمكن أن يكون أيَّ مؤمن كان في رومة أم في غيرها من الكنائس.

في هذا الإطار نرى الفرق الشاسع بين روم والرسالتين إلى كورنتوس. فهاتان الرسالتان دافعتا عن سلطة بولس الرسوليّة وحاربتا من أجل وحدة كنيسة كورنتوس وبنيانها. أمّا روم فلا تكاد تتحدَّث عن الكنيسة إلاّ في التوصيات العمليّة الأخيرة. ثمّ إنّا لا نجد في روم ما يقابل تعليم 1كو عن الإفخارستيّا (1كو 11: 17-34). و1كو تحدِّثنا عن الروح الذي هو ينبوع المواهب والخدم المنظَّمة، أمّا روم فتحدِّثنا عن الروح الذي هو في أصل الصلاة والحرّيّة الشخصيّة (8: 1ي). وتلتقي روم و1كو في الحديث عن الكنيسة جسد المسيح (12: 4-6؛ 1كو 12: 12-27)، وعن المسيح آدم الثاني (روم 5: 1ي؛ 1كو 15: 1ي).

إذن، هناك مواضيعُ تطرحها روم ومواضيعُ لا تذكرها. هذا ما يدفعنا إلى القول إنّها كُتبت في ظرف من الظروف، فلم تكن بحثًا مجرَّدًا لا يرتبط بمشاكل الكنيسة في بداية القسم الثاني من القرن الأوّل المسيحيّ.

وعى بولسُ الخطرَ الذي يهدِّد الكنيسة في وقت من تاريخها، وخاف أن تنقسم هذه الكنيسة جماعتين: جماعة آتية من العالم اليهوديّ وترتبط بالمجمع، وجماعة آتية من العالم الوثنيّ. ولقد عرف أزمة هزّت كنيسة غلاطية كما عرف انقسامًا في كنيسة كورنتوس، فقال واحد: أنا مع بولس، وقال آخر: أنا مع بطرس (1كو 1: 12). إنّ الوضعَ صعبٌ، فكيف ستتقبَّل كنيسةُ رومة رسالتَه وكيف ستستقبله أورشليم شخصيٌّا؟ إزاء ذلك، شدَّد بولسُ على وحدة الوحي في العهد القديم وفي الإنجيل، وأشار إلى المواعيد لشعب إسرائيل ودوره في تاريخ الخلاص. وستكون اللمّة التي نظّمها في العالم اليونانيّ علامة تضامن الكنيسة الآتية من العالم الوثنيّ مع الكنيسة الآتية من العالم اليهوديّ والعائشة في فلسطين.

ونعود إلى الزمن الذي كُتبت فيه الرسالة، أي 57-58، بعد أن أصدر الامبراطور كلود قراره بطرد اليهود من رومة ولم يستثنِ منه المسيحيّين من أصلٍ يهوديّ. لهذا غادر أكيلا وبرسكلّة رومةَ والتقيا بولس في كورنتوس (أع 18: 2). ولمّا كتب بولسُ روم كانا في رومة من جديد (16: 2). فهذا يعني أنّهما عادا كما عاد غيرُهما من اليهود والمتهوِّدين. وهنا نتساءل: هل اتّخذ المسيحيّون الذين من أصل وثنيّ موقفَ ازدراءٍ وتعالٍ تجاه إخوتهم الذين من أصل يهوديّ العائدين من المنفى؟ هنا نفهم بعض عبارات في روم: »فكيف يا هذا تدين أخاك...؟ وكيف يا هذا تحتقر أخاك...؟ نحن جميعًا سنقف أمام محكمة الله« (14: 10). فإذا كان الوثنيّون شاركوا اليهود في خيراتهم الروحيّة، فمن الطبيعيّ أن يُشركوهم في الخيرات المادّيّة (15: 27). ويجب على الوثنيّين ألاّ ينسَوا أنّهم زيتونٌ برّيّ مطعَّمون على من هم زيتونٌ جوّيّ. وهكذا بدت كنيسة رومة مقسَّمةً على مثال كنيستي كورنتوس وغلاطية. فاندفع بولس يدعو الفئة اليهوديّة والفئة اليونانيّة إلى وعي وحدتهما الأساسيّة متّبعين نصيحة الرسول: »فاقبلوا بعضَكم بعضًا لمجد الله كما قبلكم المسيح« (15: 7). وهكذا تكون روم بحثًا تعليميٌّا عن وحدة الكنيسة كُتب في ظرفٍ خاصٍّ مرّت فيه كنيسةُ رومة وسائر كنائس المسيح. فإن لم يقبل المسيحيّون بعضُهم بعضًا، يتمزَّق جسدُ المسيح وتضيع الشهادةُ المسيحيّة.

6- النقائض في الرسالة إلى رومة

درج القدّيسُ بولس على استعمال أسلوب النقائض في رسالته: الجسد والروح، الجنون والحكمة، الضعف والقوّة، الظلمة والنور، العبد والحرّ، اليهوديّ واليوناني، الأعمال والإيمان، الختان والقلف... ونفسِّر هذا الأسلوب انطلاقًا من حياة بولس: فإنّه اهتدى إلى الديانة المسيحيّة فاتَّخذ موقفًا معاكسًا للذي كان قد أَخذ به سابقًا. كان يقول: حياتي هي الشريعة، فصار يقول: حياتي هي المسيح. تبدَّلت حياتُه ففكَّر في الخليقة الجديدة، غار على شريعة موسى وها هو يحارب هذه الشريعة التي صارت سببًا للخطيئة. وبرزت نقائض: الجسد والروح، الشريعة والنعمة، الحرف والروح، الموت والحياة، الخطيئة والموت، الخسارة والربح.

ونتوقَّف الآن عند نقائض ثلاث نقرأها في ف 1-8، النقيضة الأولى: بين خطيئة الإنسان وبرّ الله؛ النقيضة الثانية بين الموت والحياة؛ النقيضة الثالثة بين الحرف (الشريعة، الوصيّة) والروح.

أ) نقيضة الخطيئة والبرّ

نجد الصفة (البارّ) والاسم (البرّ) والفعل (تبرَّر) في ف 1-4، ولا نعود نجدها إلاّ قليلاً فيما بعد. ثمّ نلاحظ في هذه الفصول الأربعة تعارضًا دائمًا بين خطيئة الناس و»لابرِّهم« مع البرّ الذي يقدِّمه الله مجّانًا بفضل الإيمان. ونلاحظ أيضًا نقيضةً بين وحي غضب الله (1: 18) وظهور برّ الله (3: 21). ونشير هنا إلى أنّ عبارة »غضب الله« ليست صفةً من صفات الله الذي هو بطيء عن الغضب وطويلُ البال (خر 34: 6؛ يون 4: 2؛ نح 9: 17)، بل تعبيرٌ استعاريٌّ وأنثروبومورفيّ عن تنافر مطلق بين قداسة الله وخطيئة الناس.

وإذا أردنا أن نفهم كلام الرسول، نعود إلى العهد القديم حيث نقرأ أنّ الله يبدو بارٌّا حين يمارس دينونته وعقابه على الخطأة. ولكنَّ برَّه يرتبط أيضًا بأمانته للمواعيد المتضمِّنة العهد، وبإرادة رحمته أن يخلِّص شعبه.

برُّ الله هو تدخُّله الخلاصيّ في تاريخ شعبه المختار (قض 5: 11؛ 1صم 12: 7؛ مي 6: 5). وبرُّ الله يدلُّ في أشعيا على الخلاص الذي يحمله الله (أش 45: 8؛ 46: 13؛ 51: 5-8). الكلمة العبريّة التي تقابل »برّ« هي »ص د ق ه« وهي أهمّ كلمة تدلّ على العلاقات الحياتيّة بين الإنسان والإنسان، بين الله والإنسان.

إذن نربط البرّ بالمعنى الخلاصيّ، وإلاّ يصعب علينا فهم مقاطع عديدة من روم. فحين يعلن بولس في 3: 5 أنّ »لابرَّنا« يُبرز »برَّ الله«، فهو لا يعني العدالة التي تحمل العقاب بل أمانة الله لكلمة نعمته، وهذا واضح إذا قابلنا هذه الآية مع 3: 7: »إذا كان كذبي يزيد ظهور صدق الله من أجل مجده، فلماذا يُحكَم عليَّ كما يُحكَم على الخاطئ؟«.

نجد كلمة برّ وبرّر في روم، و1كو، و2كو، وغل، ولكنّا نجد عبارة »برّ الله« في روم ثماني مرّات (1: 17؛ 3: 5، 21، 22، 25، 26؛ 10: 3) ولا نجدها إلاّ مرّة واحدة في 2كو 5: 21. وتساءل الشرّاح عن معنى العبارة. هل تدلّ على البرِّ الذي في الله أو على البرِّ الذي يأتي من الله وينتقل إلى البشر؟ ما الذي يُسند الرأي الأوّل؟ المقابلة بين وحي برّ الله (1: 17) ووحي غضب الله (1: 18)، والعلاقة بين برّ الله (1: 17) وقدرة الله (1: 16)، والتعارض بين برّ الله و»لابرّ« البشر (3: 5).

واعتبر بعضُ الشرّاح أنّ عبارة »برّ الله« تعني في اليهوديّة المتأخِّرة وفي قمران، عملَ الله الخلاصيّ وأمانتَه للعهد ورحمتَه الغافرة ومتطلِّباته في أن نطيعه ونخضع له بكلّيّتنا. وقالوا، بحقٍّ، إنّ هذه العبارة تتعلَّق بحالة برّ الإنسان الآتي من عند الله. ففي 3: 25-26 يعني »برّ الله« البرَّ الذي في الله. وفي 10: 3 »جهلوا برّ الله وسعَوا إلى برِّهم الخاصّ«. نحن أمام برٍّ يُعطيه الله، وهو يقابل ذلك الذي يظنُّ الإنسان أنّه يقدر أن يحصل عليه بقواه الخاصّة (رج فل 3: 9). ونقرأ في 1كو 1: 30: »صار المسيح يسوعُ لنا حكمةً آتيةً من الله وبرٌّا وقداسة وفداء«. فالله يعطينا الحكمةَ ويعطينا البرَّ أيضًا.

من أين جاءت النقيضة خطيئة الإنسان وبرّ الله التي تملأ الفصول الأربعة الأولى من روم؟ نقول أوّلاً إنّ عبارة »برّ الله« واردةٌ في أشعيا وفي المزامير كما ألمحنا إلى ذلك أعلاه. أمّا النقيضة فلا نجدها إلاّ في النشيد الرابع من أناشيد عبد الربّ في أشعيا (52: 13-53: 12). هنا تقف أمام خطيئة البشريّة كلِّها، نعمةُ التبرير التي يقدِّمها اللهُ للخاطئين بذبيحةِ عبد الرب التكفيريّة. وهذا واضحٌ من 2كو 5: 21: »الذي لم يعرف الخطيئة« تقابل »الذي لم يقترف خطيئة« (أش 53: 9)، »جعله الله خطيئةً من أجلنا« تقابل »قدَّم حياته ذبيحةً تكفيريّة« (أش 53: 10)؛ »لنصير فيه برَّ الله« فتعني أن نتبرَّر بالله. هنا نفهم »كفّارة« في روم 3: 25 على أنّها تلميح إلى ذبيحة عبد الربّ التكفيريّة (أش 53: 10). ونقرأ في روم 4: 25 »سُلِّم لأجل ذنوبنا وقام لأجل تبريرنا« (رج أش 53: 4-5).

ب) نقيضة الموت والحياة

خُصِّصت ف 1-4 للبرّ المرتبط بالإيمان، وتُخصَّص ف 5-8 لوعد الحياة.

في 5: 12-21 يدخل مُعطًى جديد: دخولُ الموت إلى العالم. وتحلُّ، محلَّ نقيضة الخطيئة والبرّ، نقيضةُ الموت والحياة التي ستمتدّ حتّى نهاية ف 8. إنطلاقًا من هنا تظهر كلمات: مات، أمات، موت، مائت. وما يقابلها: حيي، أحيا، حيّ، حياة. وما يريد أن يشدِّدَ عليه بولسُ، هو شموليّة الموت قبل شموليّة الخطيئة فيعود إلى تك 3: 1ي في ثلاثة مقاطع: 5: 12-21؛ 7: 7-11؛ 8: 19-21.

عرفنا في الفصول السابقة أنّ موت المسيح كان تكفيرًا عن خطايا البشريّة، أمرَ به حبُّ الله. ونحن نعرف الآن أنّ هذا الموت كان انتصارَ الحياة على موتٍ دخل العالم بواسطة خطيئة آدم. نستطيع أن نلخِّص بهاتين العبارتين صراعَ الحياة وانتصارها ضدَّ الموت: إذا كان سلطانُ الموت دخل البشريّة بخطيئة إنسانٍ واحد، فالناس يثقون أنّهم يملكون في الحياة بواسطة يسوع المسيح وحده. فإذا كانت وصيّةُ الله قتلت كلَّ إنسان خاطئ ومحوَّل إلى قواه الخاصّة، فروح ذلك الذي أقام المسيحَ يسوعَ من بين الأموات، يُحيي كلَ إنسان جعل نفسه في خدمة المسيح.

ونتساءل من أين جاءت نقيضة الموت والحياة؟ قال بعضهم إنّها جاءت من العالم اليونانيّ (هيراكليت وأفلاطون). ولكنَّ التأثيرَ اليونانيّ يُبقينا على هامش فكر بولس. فالرسولُ مقتنعٌ أنَّ موتَ المسيح كان حياةَ العالم وأنّ الناس أفلتوا، بواسطة المسيح، من نير الموت الجسديّ والروحيّ ليدخلوا في دائرة الحياة التي لا سلطة للموت عليها. ثمّ إنَّ الوجودَ المسيحيّ الذي هو مشاركة في موت المسيح وقيامته، يتحدَّد أساسًا في هذه المفارقة: الموتُ الذي هو حياة. وهنا عاد بولس الرسول إلى سفر الحكمة لا إلى فلسفة الرواقيّين كما يظنُّ البعض.

إنّ ما يميِّز الفصول الخمسة الأولى من سفر الحكمة هو تكرار هذه النقيضة (حك 1: 12، 13، 16؛ 2: 1؛ 3: 2، 4؛ 4: 6؛ 5: 4) مع التشديد على أنَّ الخلود (اللاموت) أراده الله منذ البدء وأنّه ثمرة البرّ الطبيعيّة؛ وأنَّ موت الأبرار مظهرٌ خارجيٌّ لأنَّهم يملكون حياةً لا تزول.

ونبرهن بهذا الشكل على ارتباط نقيضة الموت والحياة في روم بسفر الحكمة. فبصورة عامّة تستغلّ روم سفرَ الحكمة دون أن تورد نصوصه حرفيٌّا. وبالأخصّ، حين يكتب الرسول: »كما أنَّه بإنسان واحد دخلت الخطيئة إلى العالم وبالخطيئة الموت« (5: 12) فهو يتذكَّر حك 2: 14: »دخل الموت إلى العالم بحسَد إبليس«. لا يعبّر هذان النصّان فقط وبالطريقة عينها عن دخول الموت إلى العالم على خطى آدم، بل يقدِّمان نظرة لاهوتيّة يبدو فيها الموتُ الجسديّ علامةً لواقع أعمق هو الموت الروحيّ وحرمان الخلاص في نهاية الأزمنة. وحين يعارض الرسول سلطان الموت والخطيئة بالسلطان الذي به ينالون وفرة النعمة وعطيّة البرّ في الحياة، فهو يرجع إلى سفر الحكمة الذي يشيد بمُلك الأبرار، ويعارضه بسلطان الموت.

سبق لبولس واستعمل نقيضة الموت والحياة في 1كو 15: 22: »كما أنَّهم كلَّهم يموتون في آدم، كذلك يحيون في المسيح«. وهكذا عاد إلى سفر الحكمة. ثمّ حين قال: »إذا كان الموتى لا يقومون، لنأكل ونشرب فإنّا غدًا نموت« (1كو 15: 32)، فهو في هذا كلِّه يعود إلى أش 22: 13، ولكنَّه يقرأه على ضوء سفر الحكمة الذي أورد هذا النصّ.

ج) نقيضة الحرف (الوصيّة، الشريعة) والروح

نقرأ في روم 7: 6 »ولكنّا الآن تحرَّرنا من الشريعة لأنّا مُتنا عمّا كان يقيِّدنا، حتّى نعبدَ الله في نظام الروح الجديد، لا في نظام الحرف القديم«. نحن أمام نقيضة جديدة: الحرف والروح. وكانت قد ظهرت أوّلاً في 2كو 3: 6: »الحرفُ يقتل أمّا الروح فيُحيي«، واستعادها بولس في 2: 29 »ختانٌ حسَب الروح لا حسَب الحرف«. أمّا الآن فسَتَرِدُ في 7: 7-8: 39.

تَخصَّص 7: 7-25 للحرف الذي نعبِّر عنه بكلمتَين معادلتَين له: الشريعة (أو الناموس ترد 11 مرّة في 7: 7-25) والوصيّة (ترد 6 مرّات في 7: 7-13). أمّا ف 8 فيتوقَّف عند الروح القدس (ترد كلمة روح 16 مرّة في 8: 2-27).

من 5: 12 إلى 7: 6 صوَّر بولسُ مأساةً شاملةً ممثّلوها هم آدمُ والمسيح، الموتُ والحياة، الشريعةُ والخطيئة (خاصّة في 7: 1-6). بعد 7: 7، يدخل ممثِّلٌ جديدٌ هو »أنا« تجاه »شريعة الله«. جعل مأساةَ الخلاص وكأنّها شخصٌ حيّ، فانطلق انطلاقةً جديدة حتّى 8: 2: »شريعة روح الحياة حرَّرتني« (أو حرَّرتك كما في بعض المخطوطات أو حرَّرتنا، كما في غيرها). فماذا يعني هذا »الأنا«؟

»الأنا« يدلّ على الجماعة كما في المزامير، وهو الإنسان بما أنَّه حرٌّ ومسؤول. وهنا نفصل بين مقطعين 7: 7-13 و7: 14-25 بسبب صيغة الأفعال. فنقدر أن نعطي عنوانًا للمقطع الأوّل: الشريعة والخطيئة. يقول النصُّ إنّ المسيحيّ مات عن الشريعة الموسويّة (7: 4) كما مات عن الخطيئة (6: 2)، فنستنج من هذا أنّ الشريعة سيّئة وليست من عمل الله. أمّا جوابُ بولس فهو أنّ الشريعة تعرِّفنا بالخطيئة، وأنّ الخطيئة كقوّة شخصيّة تفيد من الشريعة لتثيرَ الشهوة وتجرَّ الساقطين إلى الموت فتنتصر انتصارًا أكيدًا.

أيّة شريعة يعني الرسول؟ إنّه لا يعني الشريعة الموسويّة فقط، وإن دخلت الشريعةُ في الحساب. فاستعمال كلمة »وصيّة« قرب كلمة »شريعة« يشير إلى ذلك. والتلميح الواضح إلى قصّة الفردوس الأرضيّ، يشير إلى أنّ الشريعة الموسويّة ليست وحدها الهدف.

في هذا المقطع يتجاوز بولس تاريخ البشريّة كلها، معبِّرًا أنّ ما حدث في البدايات، أو حين أُعطيت الشريعة الموسويّة، يتكرَّر في حياة كلِّ إنسان يقف بحضرة الشريعة الإلهيّة. فكلُّ الوصايا تقتل إن لم تشفِ النعمةُ الإلهيّة ضعف الإنسان الساقط. وحين يقول بولس إنّ الحرفَ يقتل الروحَ يُحيي، فهو يعني أنّ الشريعة الموسويّة وحدها، بمعزل عن عطيّة الروح، تُفرض على الإنسان طاعةً لا يقدر أن يحقِّقها فتقوده إلى الموت. بهذا المعنى نفهم النقيضة بين الحرف والروح في 7: 6: يموت المسيحيّون عن الشريعة التي تقيِّدهم.

وننتقل إلى المقطع الثاني (7: 14-25) الذي يصوِّر الصراعَ الممزِّق، وانقسامَ الإنسان الداخليّ الذي لا يفعل ما يريد بل يفعل ما يُبغض، الذي لا يصنع الخير الذي يريد ويقترف الشرّ الذي لا يريد. فمن هو هذا الإنسان؟ هل هو الإنسان الذي لم تحوِّله النعمة قبل أن يصير مسيحيٌّا؟ هل هو الإنسان الساقط والذي افتُدي؟ يبدو أنّ نظرةَ بولس شاملةٌ وهو يشير إلى كلِّ إنسان سواء كان مسيحيٌّا أم غير مسيحيّ.

تنطبق هذه الصورة أوّلاً على الإنسان الي لم يحوِّله عملُ الروح القدس. فما يعارض الجسَد ليس روحُ الإنسان الذي حوَّله الروحُ القدس، بل العقل. وتدلُّ آ22-23 على أنّ شريعة العقل هي أيضًا شريعة الله، لاسيّما وأنّ روم 2: 13-16 تعلِّمنا أنّ شريعة العقل المكتوبةَ في داخل كلِّ إنسان والمعروفةَ في ضميره، تقابل الشريعة الموسويّة لدى الوثنيّين الذين لم ينعموا بالوحي. وما نقرأه في 7: 23-25 يذكِّرنا بنصوص يونانيّة لأوفيد، ولإبيكتات الذي قال: لا يصنع الخاطئ ما يريد، ويصنع ما لا يريد. ويتكلَّم أفلاطون عن صراع الإنسان الداخليّ ضدّ غرائزه السيّئة.

وتنطبق 7: 14-25 على المسيحيّين الذين يتواصل فيهم الصراعُ الداخليّ. فالإنسانُ الذي يُسَرُّ بشريعة الله، فيريد الخير ويكره الشرّ، ويخدم بعقله شريعة الله، هو أسمى من الوثنيّين الذين تصوِّرهم 2: 18-32 عبيدًا للخطيئة والنجاسة. وهنا نفكِّر أنّ الإنسان الداخليّ (7: 22) هو الإنسان الجديد (2كور 4: 16؛ أف 3: 16). والأفعال المستعملة في هذا المقطع تدلّ على أنّ الصراع الذي يصوِّره الرسول هو واقعٌ حاضرٌ ويدوم حتّى عند الإنسان الذي وُلد بالنعمة. بهذا المعنى نقرأ آ25: »فأنا (الآن) أخضع بالعقل لشريعة الله وبالجسد لشريعة الخطيئة«.

يقدِّم لنا بولس هنا نظرةً إلى الحرّيّة. فحرّيّة الإنسان، ذلك المخلوق المرتبطِ بالله والموجَّه إليه، ليست إمكانيّة صُنع أيّ شيء كان، بل إمكانيّةُ توجيه الذات نحو الخير السامي الذي يريده كيانُه العميق. فالنصّ يقول: الخير الذي أريد... الشرّ الذي لا أريد. يبقى على الإنسان الساقط أن يُدخل إلى أعماقه شريعة الله، وهذه هي ثمرةُ الموهبة المعطاةِ لنا في الروح القدس، وهذا هو المكانُ الذي فيه تسقط النقيضة بين الحرف والروح.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM