قلتُ لكم لا تخطأوا .

 

قلتُ لكم لا تخطأوا

حلّ الجوع في أرض كنعان، فعلم يعقوب أنّ القمح موجود في مصر، فأرسل أولاده لكي يشتروا الطعام لعيالهم. كان بالإمكان لهؤلاء الشباب، والمال في أيديهم، أن يشتروا حاجاتهم. شأنهم شأن الآتين »من جميع أقطار الأرض إلى مصر ليشتروا قمحًا من يوسف، لأنّ الجوع كان شديدًا في كلّ مكان« (تك 41: 57). ولكنّ سفر التكوين، بل الكتاب المقدّس كلّه، هو »للتعليم والتفنيد والتقويم والتأديب في البرّ، ليكون رجلُ الله كاملاً مستعدٌّا لكلّ عمل صالح« (2تم 3: 16). فلو اشترى أولاد يعقوب ومضوا دون أن يسألهم سائل، لضاعت الأمثولة من خبر يوسف. ولولا الجوع لما التقى الإخوة »القتلة« مع الذي أرادوا أن يقتلوه، ثمّ اكتفوا ببيعه عبدًا في أرض مصر. فلا بدّ من وخز الضمير. وهذا أحسّوا به حين حسبهم يوسف »جواسيس« جاؤوا »ليروا مواطن الضعف في البلاد« (تك 42: 9). وكان جوابهم الأوّل جواب الفرّيسيّ: »نحن قوم شرفاء« (آ 11). ولكنّهم تذكّروا ما فعلوا بأخيهم »نحن أخطأنا إلى يوسف أخينا. رأيناه في ضيق، ولما استرحمَنا لم نسمع له. لذلك نزل بنا هذا الضيق« (آ 21). »فأجابهم رأوبين: أما قلت لكم: لا تخطأوا وتسيئوا إلى الولد فلم تسمعوا؟ لذلك نحن الآن مطالبون بدمه« (آ 22).

هذا تمّ في حضرة يوسف الذي اعتبروه لا يفهم لغتهم بعد أن استعان بترجمان (آ 23). أمّا هو »فمال عنهم وبكى«. عاد إليه إخوته لحاجة إلى الطعام. وقد يكون هذا الحدث بداية عودة من نوع آخر: عودة إلى النفس، عودة إلى الربّ في الندامة عمّا فعلوا.

1- ضلوع في الخطيئة

منذ زمن طويل، عاش إخوة يوسف في الخطيئة. وخطيئتهم هي الحسد الذي ولّد البغض واستعدّ للقتل. رأوا أنّ أباهم يحبّ يوسف أكثر منهم. السبب الأوّل: لأنّه ابن شيخوخته. والسبب الثاني الذي لم يُذكر في النصّ هنا، لأنّه ابن راحيل، المرأة المحبوبة. فما أن وَلدت له يوسف في أرض منفاه، حتّى استعدّ للرجوع إلى أرضه (تك 30: 22-24). ودلّ على حبّه له حين اشترى له قميصًا ملوّنًا (تك 37: 3)، قميص الأمراء، تجاه إخوته الذين يذهبون وحدهم لرعاية المواشي ويغيبون أيّامًا عن البيت الوالديّ (آ 12-14).

وتحوّل الحسد إلى بغض لسببين اثنين. الأوّل، »أخبر يوسف أباه عمّا يُشاع عن مساوئهم« (آ 2). بدا يوسف ذلك البارّ وسط إخوته، بدا الرافض لسلوكهم، فأرادوا أن يزيحوه عن طريقهم، »فأبغضوه حتّى لم يقدروا أن يكلّموه بمودّة« (آ 4). فجاء كلامهم بحسب سفر الحكمة: »نتحيّن الفرصة للانقضاض على الأتقياء، لأنّهم يضايقوننا، ويقاومون أعمالنا، ويتّهموننا بمخالفة أحكام الشريعة، ويفضحون خروجنا على الأعراف والتقاليد. يدّعون معرفة الله، ويسمّون أنفسهم أبناء الربّ« (حك 2: 12-13). ويتواصل الكلام: »نمتحنُهم بالإهانة والتعذيب لنعرف مدى وداعتهم ونختبر صبرهم. ونحكمُ عليهم بالموت في العار لنرى إذا كان الله يردّ عنهم« (آ 19-20).

بدا يوسف من »أبناء الربّ«، والربّ كان معه في أقصى الضيقات التي عرفها. جماله الخارجيّ دليل إلى جمال من نوع آخر، فرفض الزنى مع امرأة سيّده (39: 6-9). أجل، »كان الربّ مع يوسف، فكان رجلاً ناجحًا« (آ 2). وهذا ما لاحظه فوطيفار الذي »رأى أنّ الربّ معه (= مع يوسف) ويُنجحه في كلّ ما تعمله يداه« (آ 3). هي شهادة حياة من التقوى بين إخوته وأمام والديه، وفي أرض غريبة. وحين صار في السجن، يقول الكتاب: »كان الربّ مع يوسف فأمدّه برحمته« (آ 21). فوثق به قائدُ »الحصن« وأحبّه رفاقُه.

واختبر الإخوة وداعة يوسف. هو لا يعرف الطريق ولا المنطقة، ولولا ملاك الربّ لكان ضاع. نزعوا عنه القميص الملوّن، فبدا مثل يسوع قبل أن يُصلب: ''كشاة سيق إلى الذبح، وكغنم أمام الذي يجزّه لا يفتح فاه (أش 53: 7). »أخذوه وطرحوه في البئر« (تك 37: 24). فاكتفى بأن يسترحمهم. ثمّ باعوه بيع العبيد. تلك كانت وداعته. أمّا صبره، ففي مصر، في أرض العبوديّة، فتحقّقت فيه، قبل الوقت، كلمة الإنجيل: »من يصبر إلى المنتهى فذاك يخلص« (مت 24: 13). امتحنوه، اختبروه، فلبث محافظًا على تقواه، مستندًا حتّى النهاية إلى حضور الربّ في حياته: »أنتم أردتم لي الشرّ، ولكنّ الله أراد لي الخير كما ترون« (تك 50: 20).

والسبب الثاني الذي جعل الإخوة يحسدون يوسف، أحلامه، التي تدلّ على مخطّط الله بالنسبة إليه. سيكون القائد، الرئيس. وسيأتون هم ويسجدون له. فكان سؤالهم له مليئًا بالغيرة والبغض وربّما بالاحتقار: »أتظنّ أنّك تملك وتتسلّط علينا؟« (37: 8). وأضاف الكاتب الملهم: »وزاد بغضهم له لأجل أحلامه وكلامه«. هم ينزلون في الشرّ وينزلون، ينغمسون في الخطيئة مثل قايين القاتل. »كان من الشرّير فقتل أخاه. ولماذا قتله؟ لأنّ أعماله كانت شرّيرة وأعمال أخيه كانت صالحة« (1 يو 3: 12). ومثل شاول الذي حسد داود وسعى إلى قتله أكثر من مرّة، بل لاحقه في حرب أهليّة أنهكت المملكة فصارت فريسة سائغة في فم العدوّ.

تجاه إخوة لا يعرفون أن يكتشفوا مخطّط الله، بدا الوالد متنبّهًا: »فحفظ هذا الكلام في قلبه« (37: 11). هو كلام آتٍ من عند الربّ، فلا بدّ من الانتظار لكي نرى الله يحقّقه. وهذه العبارة التي قالها يعقوب، جعلها لوقا على شفتي مريم في بيت لحم. »وحفظت مريم هذا كلّه وتأمّلته في قلبها« (لو 2: 19). وتجاه أخ يتّقي الربّ ويعيش في مخافته، راح الإخوة عميقًا في الشرّ وصاروا عبيدًا للخطيئة، بعد أن باعوا أخاهم عبدًا. ولكنّ المحنة آتية. فيا ليتها تنبّههم!

2- من الخوف إلى الندامة

فعل الإخوة ما فعلوا بأخيهم، فما رفّت لهم عين. تدارسوا كلّ الاحتمالات التي فيها يُسكتون هذا الصوت لئلاّ يوبّخهم بعد. والاحتمال الأوّل: »نقتله ونطرحه في بئر ونقول: وحش مفترس أكله« (37: 18). حاول رأوبين، الأخ البكر، أن يردعهم: »لا تسفكوا دمًا«. وعرض عليهم احتمالاً آخر: »اطرحوه في هذه البئر التي في البرّيّة«. بالنسبة إليهم، النتيجة هي هي. يموت من الجوع أو يأتي وحش فيفترسه. وهكذا »نرى ماذا تنفع أحلامه«. قال رأوبين، فنفّذ الإخوة: »أخذوه وطرحوه في البئر، وكانت البئر فارغة لا ماء فيها« (آ 24). ويلاحظ الكاتب اللامبالاة القاسية، الشرسة: »ثمّ جلسوا يأكلون« (آ 25). لا وجود لأخيهم. ما دعوه إلى الطعام، بل ما نظروا إليه. استراحوا من شرّه. وجاء الاحتمال الثالث تجاريٌّا: نبيعه ونقبض ثمنه: باعوه بعشرين من الفضّة. هكذا يُصبح بعيدًا فلا نعود نسمع بخبره، كما لا نسمع كلامه، ولا نرى وجهه لأنّ سلوكه يوبّخنا، كما قال سفر الحكمة.

في هذه الحالة، كان رأوبين البكر محرّكًا لضميرهم، لصوت الله في قلوبهم. ما استطاع أن يواجههم مباشرة وهم عشرة وهو وحده. احتال: نرميه في البئر. »قال هذا لينقذه من أيديهم ويردّه إلى أبيه«. ولكنّ أبناء الظلمة أكثر حيلة من أبناء النور. غافلوا رأوبين وباعوا أخاهم. ورجع رأوبين إلى البئر، فلم يجد يوسف في البئر. فمزّق ثيابه، ورجع إلى إخوته وقال لهم: »الولد غير موجود، وأنا إلى أين أذهب؟« (37: 29-30). ما أثّر في الإخوة موقفُ أخيهم البكر. بل تابعوا مشروعهم بكلّ وقاحة: »فأخذوا قميص يوسف، وذبحوا تيسًا من المعز، وغمّصوا القميص بالدم. وأرسلوا القميص الملوّن إلى أبيهم وقالوا: وجدنا هذا. فتحقّق أقميص ابنك أم لا؟« (آ 31-32). بدأ الكذب والغشّ، وانتهى في الشماتة: ابنك أنت. أمّا نحن فلسنا أبناءك. إذًا، هذا »الابن« ليس أخانا. كم نحن قريبون من الابن الأكبر في مثل الابن الضالّ، كما رواه لوقا. تحدّث عن أخيه، فما قال: أخي، بل »ابنك هذا« (لو 15: 30). فكأنّهم قالوا لأبيهم: أنتَ أحببتَه، فماذا نفع حبّك له؟ فالحسد أقوى والبغض.

وبدأت المحنة التي قد تقودهم من الخوف إلى الندامة. هم ما خافوا صوت الربّ عبر أخيهم. ولا اعتبروا تصرّف والدهم حين سمع الأحلام. ولا مالوا أذنهم إلى الاستغاثة وطلب الرحمة في فم أخيهم وفي عينيه. وفي النهاية، ما أحسّوا بالعار يلحق أخاهم وهم يبيعونه بيع العبيد. ماذا سيكون من أمره؟ هم خطأة ويستحقّون الموت. ولكنّ الله هو الإله الغفور. فهو يُمهل وينتظر عودة أبنائه. ويكلّمهم عبر ظروف الحياة وفي فم الأشخاص الذين حولهم. أصمَّ إخوةُ يوسف آذانهم عن كلام أبيهم وأخيهم البكر. فخسروا مناسبة بها يصل كلامُ الله إلى قلوبهم ويحوّل حياتهم. فبقيت ظروف الحياة.

أجبروا على الذهاب إلى أرض غير أرضهم، إلى أرض لا تتكلّم لغتهم فيحتاجون إلى ترجمان. هذا ما حدث أيضًا للشعب اليهوذاويّ حين مضى إلى المنفى البابليّ. فإن لم يفهم العبدُ العامل في الحقول بالكلمة، يفهم بالعصا. وحين نعرف منطق ذاك الزمان الذي يعتبر الغريب عدوٌّا، نفهم الضيق الذي شعر به الإخوة: ولو لم يكن الجوعُ الضيق الأكبر، لما كانوا ذهبوا إلى مصر التي سيعرفون فيها أرض العبوديّة، أرض الحديد والنار.

وفي مصر، حُسبوا جواسيس. مع أنّ العدد الكبير من الناس أتوا إلى مصر فما اتّهمهم أحد. وحسبوا أنّهم سيكونون في السجن ويتحوّلون عبيدًا. المصير الذي أعدّوه ليوسف، ينتظرهم الآن. وكان كلام يوسف مهدّدًا: »إذا إردتم أن لا تموتوا، فجيئوا بأخيكم الصغير إليّ ليتحقّق كلامكم« (42: 20). ولكنّ الخطر ابتعد عنهم، فافتداهم شمعون. قال الكتاب عن يوسف: »أخذ من بينهم شمعون، وقيّده أمام عيونهم« (آ 24). هل تعلّموا؟ بل ما زالت الأنانيّة عندهم. هم بخير وقد تأمّن لهم الطعام. أمّا أخوهم فأمرٌ آخر. ذاك وضع نجده أكثر من مرّة في الكتاب. فحين وبّخ ناتان داود، قال له: أنت لا تموت (2 صم 12: 13). ارتاح بالُه، وإن مات الولد الذي وُلد له. وسمع سليمان صوت الربّ يقول له: »سآخذ المملكة من يدك وأعطيها لرجل من رجالك« (1 مل 11: 12). ولكنّه ارتاح حين سمع: »لا آخذها في أيّامك، إكرامًا لداود أبيك، بل من يد ابنك«.

وكانت المحنة الثانية، العودة إلى مصر، لا سيّما وأنّ المال وُجد في عدال الإخوة فوق القمح. قال الراوي: »فتح أحدهم عدله ليعطي علفًا لحماره، فرأى فضّته في فم عدله« (تك 42: 27). وجب عليهم أن يتساءلوا: أما تكون يدُ الله معنا. أوّلاً، حصلنا على القمح من أجل عيالنا. ثانيًا، عادت الفضّة إلينا. نسوا عناية الله، وسيطر عليهم الفزع. وسؤالهم: »ماذا فعل الله بنا؟«. كلامٌ يتضمّن اتّهامًا ولومًا. فيا ليتهم قالوا: ماذا يفعل الله لنا من خير. ولكنّ ضميرهم بدأ يؤنّبهم: نحن فعلنا بأخينا. والله يفعل بنا الآن. كلّ هذا على مستوى شريعة المثل »سنّ بسنّ، وعين بعين«. أترى الربّ يعاملنا بهذه الصورة؟ كلاّ ثمّ كلاّ. هو لا يضرب. هو لا يتنقم. هو لا يردّ على الشرّ بالشرّ بعد أن دعانا إلى أن نردّ على الشرّ بالخير. كلّ هذا نداء من الربّ. الحياة كلّها نداء. والمحنة بشكل خاصّ تفهمنا أنّنا بشر ضعفاء، فنرفع عيوننا إلى السماء، ولا نحسب نفوسنا فقط ملتصقين بالأرض، باحثين عن مصلحتنا وراحتنا على الأرض.

أخذوا منهم الهدايا، فما نفعت. فهمُّ يوسف غير همّهم: »هل أبوكم الشيخ الذي ذكرتمون لي في سلام؟ أحيٌّ هو بعد؟«، ثمّ: »أهذا أخوكم الصغير الذي ذكرتموه لي؟«. واستردّوا الفضّة التي كانت في العدال. أدخلهم يوسف إلى بيته، البيت الملكيّ، »فخافوا لمّا دخلوا«. إنّه »ينقضّ علينا ويأخذنا عبيدًا ويأخذ حميرنا« (43: 18). لم يفهموا بعدُ عناية الله بهم بالرغم ممّا فعلوا. هل نسوا أنّ الربّ جعل علامة على قايين لئلاّ يقتله أحد، مع أنّه قتل أخاه؟ والرجل، موفد يوسف الذي كان وثنيٌّا، دعاهم إلى السلام. أزال عنهم الخوف. ورفعهم فوق هموم الأرض ومصاعبها: »إلهكم وإله أبيكم رزقكم كنزًا في عدالكم« (آ 23). مساكين. اكتشفوا وجه الله في ما يحلّ بهم من ضيق، وما اكتشفوه أمام الخير الذي يُغدَق عليهم. وتوالت البركة في بيت يوسف حيث حلّوا ضيوفًا على الرجل الأوّل في مصر بعد فرعون: أعطوهم ماء ليغسلوا أرجلهم. أعطوهم علفًا لحميرهم. وهم ما زالوا ضائعين يهتمّون بتقدمة الهديّة التي تجعل السيّد يرضى عنهم.

وجاء يوسف، فقدّموا الهديّة »وسجدوا له إلى الأرض« (43: 26). ثمّ، لمّا سألهم عن أبيهم »انحنوا له ساجدين« (آ 28). ما زالوا حتّى الآن عبيدًا، خائفين. مع أنّه أجلسهم »كلّ واحد في مرتبته«. ثمّ »أرسل بعض الطعام من مائدته إليهم«. وأخيرًا، »كانت حصّة بنيامين خمسة أضعاف حصّة الواحد منهم، وشربوا معه حتّى سكروا« (آ 33-44). كلّ هذه الإشارات لبثت غريبة عليهم. ما رأوا فيها يد الله، ولا استشفّوا هذا الوجه الذي يتصرّف معهم بهذه الطريقة. وحين عرّفهم بنفسه »لم يقدروا أن يجيبوه لفزعهم منه« (45: 3). أتراهم ندموا على ما فعلوا؟ لا يقول النصّ شيئًا. ولكنّهم ما زالوا فريسة واقعهم. قالوا: »لعلّ يوسف حاقد علينا فيجازينا الآن على الشرّ الذي فعلناه به« (50: 15). ولكنّ يوسف غفر. بل بكى. أمامهم، فما رأينا لهم حزنًا يدلّ على التوبة، كما قال بولس الرسول (2 كور 7: 9. فشابهوا الفرعون بقساوة قلوبهم. واهتمّوا بالطعام والشراب. وما طابت قلوبهم إلاّ حين قال لهم: »أنا أعولكم أنتم وعيالكم« (50: 21).

3- أقوم وأمضي إلى أبي

تلك كانت صرخة الابن الذي ترك البيت الوالديّ. هي تأخّرت ولكنّها في النهاية أطلّت. وفي العمق، ما اختلفت عن موقف إخوة يوسف. قال: »كم أجير عند أبي يفضل عنه الطعام، وأنا هنا أموت من الجوع« (لو 15: 17). وجلّ اهتمام هذا الابن الذي ابتعد عن أبيه وغرقَ في بحر الخطايا، من زنى وعبادة أوثان: »عاملْني كأجير عندك« (آ 19). وما سبب هذه الصرخة؟ المحنة المتزايدة التي مرّت عليه.

هنا نفهم أنّ الضيق والصعوبة والألم تساعد الإنسان على العودة إلى الله. فهذا الغنيّ الذي أغلّت أرضه الكثير، اعتبر نفسه خالدًا: »يا نفسي... كلي واشربي وتنعّمي« (لو 12: 19). يا ليته أُفقر! فقد يكون عاد إلى نفسه وبالتالي إلى ربّه. بدا غبيٌّا، جاهلاً. اعتبر أنّ لا وجود لله (مز 53: 2). وإن كان موجودًا، فهو لا يرى ولا يفعل. والغنيّ الذي جاوره لعازر (لو 16: 19)، فهم وضعه التعيس حين كان »في الجحيم يقاسي العذاب« (آ 22). حينئذ طلب الرحمة ولكنّه تأخّر. أجل، من عانى الشدائد (1 تس 3: 3) تنقّى إيمانه وتضاعف رجاؤه وكثرت محبّته. غير أنّ هذا يفترض أنّنا نكتشف يد الله في كلّ ما يحصل لنا. إنّنا نقرأ، ونسمع ونقبل بذاك الذي يريد أن يؤجّه حياتنا. هو بدأ وهو يتمّم (2 كور 8: 6).

مرّ هذا »الابن الشاطر« في مراحل من الضيق. هو في بلد بعيد. خسر القرب من والده والحنان. أحسّ بالجوع يُطبق عليه. وأخيرًا، انحدر إلى أقصى دركات الذلّ فأُرسل إلى الحقول »ليرعى الخنازير«. ويا ليته بقي على مستوى الخنازير! صار بلا فائدة تجاهم. صار أدنى منهم. »اشتهى أن يملأ بطنه من الخرنوب الذي كانت الخنازير تأكله، فلا يعطيه أحد«.

في هذا الوضع القريب من الموت، رجع إلى نفسه (لو 15: 17). ضلّ الطريق. ضلّ البيت الوالديّ، أتُرى سيَجده. أتُرى يبحث عنه أبوه فيجده؟ فالأب هو كالراعي الذي يمضي في طلب الخروف الضالّ. أيحقّ للابن بعد وبالنور، ساعة يغرق في ظلام الخطيئة؟ كان والده كنور على مكيال. فرآه البعيدون، الذين في الخارج. كان في البيت الوالديّ »سراج« وُضع في »مكان مرتفع، فاستنار به الداخلون« (لو 11: 33). لا بقوّتي، بل بقوّة الله. أقوم من موت الجوع الذي أحاط بي. أقوم من موت الخطيئة بعد أن أكلتُ مال أبي »مع البغايا« (لو 15: 30). قام. رجع. وكان العيدُ والفرح. فالربّ لا يحسب حساب »نداماتنا« التي هي دومًا ناقصة. ما يدفعه هو الحبّ. حين رأى ابنه عائدًا »تحرّكت أحشاؤه« كالأمّ: »أشفق عليه وأسرع إليه يعانقه ويقبّله«. فيا ليت إخوة يوسف استندوا إلى رحمة الله وغفرانه، وما لجأوا إلى التذلّل وتذكُّر أقوال أبيهم قبل أن يموت (تك 50: 16). لو رجعوا كما رجع الابن الضالّ، لكانت حياتهم تبدّلت.

الخاتمة

خطئ إخوة يوسف وغرقوا في الخطايا، من حسد وبغض وقتل. فجاءت المحنة تعيدهم إلى نفوسهم قبل العودة إلى الله. ولكنّهم توقّفوا عند نفوسهم وما قاموا بالخطوة التي قام بها الابن الضالّ. أقول لأبي: »خطئتُ إلى السماء وإليك« (لو 15: 18). والأب هو الآب السماويّ الذي يستعدّ يومًا أن يغفر لنا. وما يحصل لنا من ظروف صعبة، قاسية، هو نداء لنا. فيا ليتنا نكتشف يد الله، ونفتح أذننا لنسمع، ونُدخل ذاك الآتي إلينا، فنتعشّى معه وهو معنا (رؤ 3: 20). عندئذ يزول الخوف بين يوسف وإخوته كما يزول الحذر. وتزول الكبرياء التي بها نحسب نفوسنا أبرارًا، قدّيسين، فنحتقر إخوتنا ونرفض الجلوس معهم ومشاركتهم الوليمة. عندئذ يجلس الأخُ الأكبر بجانب الأخ الأصغر، على ما قال الأب: »نفرح ونمرح، لأنّ أخاك هذا (وابني) كان ميتًا فعاش، وكان ضالاً فوُجد« (لو 15: 32).

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM