صرتم مثالاً للمؤمنين.

 

صرتم مثالاً للمؤمنين

حين نسمع هذا الكلام، نتذكَّر كلام القدّيس يوحنّا في بداية إنجيله عن يسوع المسيح. ذاك الذي هو الكلمة. ذاك الذي هو لدى الله، بل هو الله المساوي للآب في الجوهر. ذاك الذي هو النور الذي أتى لينير كلَّ إنسان في العالم. ذاك الذي هو الحياة وما دونه موت. وهو النور وما دونه ظلمة. ذاك الذي جاء إلى العالم كي يخلِّص العالم. ما عرفه العالم، أو هو ما أراد أن يعرفه. بل هو جاء إلى أهل بيته فما قبلوه. بل فعلوا به كلَّ ما أرادوا فكانت نهايته على الصليب. ولكنَّ الربَّ أقامه. من خلال كلِّ هذا نودُّ أن نقرأ خبر يوسف وإخوته على أن نعود إلى يسوع المسيح الذي كان يوسف في الرفعة والذلّ بانتظار المجد، صورة بعيدة عنه. ونقرأ النصَّ الكتابيّ:

وذهب إخوة يوسف ليرعوا غنم أبيهم عند شكيم. فقال يعقوب ليوسف: »إخوتك يرعون الغنم عند شكيم، فتعال أرسلك إليهم«. قال: »نعم، ها أنا«. فقال له: »اذهب وانظر كيف حال إخوتك وحال الغنم وجئني بالخبر«!

وأرسله من وادي حبرون فجاء إلى شكيم وصادفه رجل وهو تائه في البرّيَّة، فسأله: »ماذا تطلب«. فأجاب: »أطلب إخوتي، أخبِرني أين يرعون«. فقال الرجل: »رحلوا، من هنا، وسمعتهم يقولون: نذهب إلى دوثان«. فسعى يوسف وراء إخوته، فوجدهم في دوثان، فلمّا رأوه عن بعد وهو يقترب منهم تآمروا ليقتلوه« (تك 37: 12-18).

حين اهتدى مسيحيّون في تسالونيكي، المدينة اليونانيَّة الكبيرة، وعاصمة مكدونية، حسِبَ هؤلاء أنَّ الحياة ستكون سهلة بعد أن انتقلوا إلى الإيمان الجديد. ولكن حصل ما لم يكن في الحسبان. أوَّلاً أجبر بولس على الهرب بسرعة تاركًا كنيسة فتيَّة، وما عاد يقدر أن يرجع إليها بسبب الخطر الذي يتهدَّده. ثمَّ إنَّ المسيحيّين عانوا من أهل المدينة، ما عاناه المؤمنون الأوَّلون في فلسطين من جرّاء اليهود الذين قال فيهم الرسول: »قتلوا الربَّ يسوع والأنبياء واضطهدونا. هم لا يُرضون الله ويعادون جميع الناس، فيمنعونا من تبشير سائر الأمم« (1تس 2: 14-16). فما كانت ردَّة فعل هؤلاء المؤمنين الجدد الذين خاف عليهم الرسول لعلَّ المجرِّب يجرِّبهم »فيصير تعبنا باطلاً« (3: 5). لهذا أرسل بولس تيموتاوس »ليشجِّعكم ويقوّي إيمانكم لئلاّ يتزعزع أحد منكم في هذه الشدائد« (آ2-23). ويتابع: »فإنَّكم تعرفون أنَّ هذا نصيبنا«. وهو نصيب المؤمنين بالله أن يعرفوا المحن كما عرفها يوسف بن يعقوب حين أُرسل إلى مصر عبدًا بعد أن اشتراه المديانيّون (أو الإسماعيليّون) من إخوته (تك 37: 38). هل يحافظ على تقواه وعيشه بحسب وصايا الله أم يعتبر نفسه في حلٍّ من كلِّ هذا، بعد أن صار غريبًا، وبعيدًا عن أرض الربّ؟

1- الربُّ يرافق يوسف

منذ ترك يوسف البيت الوالديّ أرسل الربُّ إليه ملاكًا يرافقه، وسيظلُّ يرافقه حتّى النهاية. إنَّه »الرجل« (37: 17) الذي دلَّ يوسف على الموضع الذي فيه يرعى الإخوة أغنامهم. »سمعتهم يقولون: نذهب إلى دوثان« (37: 17)، إلى الشمال من شكيم (نابلس الحاليَّة). وكما في الرؤى التي تتمُّ لرجال الله، بعد حضور ملاك الربّ، غاب هذا الملاك، هذا الرجل، فما عاد النصّ يتكلَّم إلاّ عن الله. لهذا جاءت ردَّة تتردَّد: كان الله معه. وبما أنَّ الله معه، فمن يقدر عليه. لهذا كان ناجحًا حيثما حلُّ فوثق به المسؤول سواء في بيت فوطيفار، أو في قصر فرعون.

نقرأ في 39: 4: »فنال يوسف حظوة عند سيِّده وخَدَمَه. وأوكله فوطيفار على بيته، جعل في عهدته كلَّ ما كان له«. وماذا كانت النتيجة؟ »وكان منذ وكله فوطيفار على بيته، وعلى كلِّ ما هو له، أن بارك الربُّ بيت فوطيفار المصريّ إكرامًا ليوسف، وكانت بركة الربِّ على كلِّ ما هو له في بيته وفي حقوله. فترك كلَّ ما كان له في يد يوسف، وكان لا يعرف شيئًا ممّا عنده إلاّ الخبز الذي كان يأكله« (39: 4-6). وما هو سبب هذه البركة؟ لأنَّ الربَّ معه، وهو مع الربّ. هو صاحب الضمير المستقيم الذي يمكن الركون إليه. هو الواعي لواجباته الصغيرة، بانتظار واجبات تُلقى على عاتقه حين يصير سيِّد مصر والشخص الثاني بعد فرعون.

وانتقل يوسف من خدمة فوطيفار، بعد أن اتَّهمته امرأة سيِّده، إلى خدمة قائد الحصن. وكما رأى فوطيفار، رأى قائدُ الحصن هذا الشابّ يتميَّز بحياته وحركاته، بأقواله وأعماله. هو الشاهد لحضور الله. إنَّه يعيش الإنجيل قبل الإنجيل، فيسمع كلام يسوع لكلِّ واحد منّا: »هكذا، فليضئ نوركم قدّام الناس ليروا أعمالكم الصالحة، ويمجِّدوا أباكم الذي في السماوات« (مت 5: 16). بدا يوسف كالملح في الطعام، وكالنور على المكيال، فأضاء لجميع من في البيت (آ13-15). بل هو أضاء للآتين من الخارج، للداخلين إلى البيت (لو 8: 16). كما بدا مثل »خميرة أخذتها امرأة وخبّأتها في ثلاثة أكيال من الدقيق فاختمر الجميع« (مت 13: 33).

كما كان أهل تسالونيكي »مثالاً لجميع المؤمنين«، صار يوسف مثالاً لجميع الذين وضعهم الله في طريقه، ويكرِّر علينا الكتاب العبارة نفسها التي تؤسِّس حياة هذا الإنسان الورع: »وكان الربُّ مع يوسف، فأمدَّه برحمته وأناله حظوة عند قائد الحصن« (39: 21). فعندما يُعطى الإنسان مثلَ هذه النعمة، فهو لا يقدر إلاَّ أن يتجاوب معها، فيشهد لحضور الربِّ في قلب عالم معتَّم، مظلم، عالم الحسد مع إخوته والبغض، عالم الكذب والفجور في بيت فوطيفار. وكلُّ ما يضمُّ السجن من فساد الأخلاق وممارسة العنف وأمور الترهيب والتعذيب. وقد يكون سمع يوسف صوت الله، في أعماق البؤس البشريّ الذي يحسُّ به: »أنتم شهودي يقول الربّ، ذرِّيَّة عبدي الذي اخترته، لأنَّكم علمتم وآمنتم بي، وفهمتم أنّي أنا هو« (أش 43: 10). ويتابع أشعيا في آ12: »أنتم شهودي يقول الربُّ. أنا الله«. وما الذي يدلُّ على حضور الله في العالم؟ المؤمنون إن هم عاشوا بحسب الوصايا. إن هم عملوا البرَّ وساروا بحسب مشيئة الله، كانت شهادتهم صادقة وجذبوا الناس إلى عبادة الله الواحد. أمّا إن قالوا: لا تسرق، وهم سرقوا، وإن قالوا: لا تزنِ، وهم زنوا، إن علَّموا الآخرين وما علَّموا أنفسهم، استهانت الأمم باسم الله (روم 2: 21-22).

2- في الضيق وفي التجربة

أن يكون الإنسان بخير، وأن تسير الأمور كما يريد، وأن يمتلك الصحَّة والعافية والخيرات الوفيرة، والبنات والبنين، فهو لا يحتاج إلى الكثير لكي يفرح بالربّ. هذا ما قال الشيطان عن أيّوب: »سيَّجتَ (يا ربّ) حوله وحول بيته وحول كلِّ شيء له من كلِّ جهة. باركتَ أعماله فانتشرت مواشيه. ولكن مُدَّ يدك الآن ومُسَّ كلَّ شيء له، فترى كيف يجدِّف عليك في وجهك« (أي 1: 1-11). وخسر أيّوب المال والأولاد. ضاعت صحَّته فصار قريبًا من الموت. »لهاثي صار كريهًا عند زوجتي، وجسمي نتنًا لبني أمّي... عظامي لصقت بجلدي، ونجوت بجلد أسناني« (أي 19: 17، 20). ومع لك، يقول عنه الكتاب: »لم يخطأ أيّوب بكلمة من شفتيه«. ومثل أيّوب كان يوسف. يوم كان في الحضن الوالديّ الابنَ المدلَّل، ما رضي أن يفعل السيّئات مثل إخوته. بل هو رفض تصرُّفاتهم وأعلم أباه بها. وسيشرح الترجوم فيقول عنهم: تعدُّوا على شريعة الله فتنجَّسوا حين أكلوا لحمًا غير طاهر. ويوم باعه إخوته، بدا مثل حمل يُساق إلى الذبح. كلُّ ما يقال عنه هو أنَّه استرحم إخوته. وانتقل من يد إلى يد، قبل أن »يشلِّعه« إخوته ويرموه في الجبّ، من المديانيّين إلى الإسماعيليّين. وأخيرًا إلى فوطيفار، قبل أن تصل به المسيرة إلى السجن، بل أقسى سجن في المملكة.

هل تذمَّر، هل ندب حظَّه؟ بل لبث ينظر إلى الله الذي يرعاه بحضوره. والجميل الجميل أنَّه لم يتَّهم إخوته أنَّهم باعوه. بل اكتفى بأن يقول لرئيس السقاة: »خُطفت من أرض العبرانيّين، وطُرحت هنا في السجن من غير أن أفعل شيئًا« (40: 15). بل هو ما قال شيئًا عن فوطيفار وامرأته. هو شخص مظلوم ولا يعرف إلى من يرفع ظلامته.

كان في خدمة فوطيفار ذاك العائش بحسب وصايا الله، فإذا هو الآن في السجن. ألأنَّه عمل شرٌّا؟ كلاّ. بل لأنَّه رفض الخطيئة، اتُّهم باطلاً. ويروي الترجوم أنَّ السَحرة في مصر بيَّنوا لفوطيفار أنَّ لا شيء يدلُّ على فعلة يوسف. فكانت نتيجة كلامهم أنَّه عفا عن يوسف فما حكم عليه بالإعدام، بل اكتفى بأن يجعله في السجن. أتراه طرح السؤال على نفسه: هل هذا هو جزاء الفضيلة؟ وأين الربُّ لا يدافع عن الذين يبحثون عن شريعته؟ كلُّ هذه الأمور لم يُشر إليها الكتاب: فهذا الشابُّ بدا كلعبة في يد الأقدار. تتناقله الأيدي. هذا ما يمكن أن يراه قارئ قصَّة، يتشوَّق إلى معرفة نهايتها. أمّا المؤمن فيتلمَّس يد الله تُسند هذا »الفقير«. ولولا تلك اليد، لما ظلَّ حيٌّا بعد أن احتمل ما احتمل.

مثله كان طوبيت. عاش حسب وصايا الله وشريعته. كما مارس أعمال الرحمة ليعوِّض بُعده عن الهيكل واستحالة المشاركة في الأعياد الكبرى. ومع ذلك، نقول في لغتنا البشريَّة: »ضربه« الله بالعمى. فتقول له امرأته: »أين صدقاتك وأعمالك الصالحة؟ الآن نرى ما استفدتَ منها« (طو 2: 14). أمّا صلاته هو فكانت: »أنت عادل أيُّها الربّ، وكلُّ أعمالِك وطرقك رحمة وحقّ« (طو 3: 2). كلُّ ما فعله: بكى وصلّى (آ1). وقد يكون هذا ما فعله يوسف، ولاسيَّما في وقت التجربة، على ما نقرأ في فم يسوع: »اسهروا وصلُّوا لئلاّ تقعوا في التجربة« (مت 26: 41).

قال النصُّ الكتابيّ عن يوسف: »كان حسن الهيئة وجميل المنظر« (تك 39: 6). والجمال الخارجيّ، حسب الكتاب، تعبير عن الجمال الداخليّ. أمّا الترجوم فرأى في هذا الجمال تجربة كان يمكن أن يقع فيها يوسف، وهو فتى أعزل ليس له من يدافع عنه. أما هذا الذي يحدث عند الملوك والعظماء والأغنياء؟ يستغلُّون الصغار من أجل شهوتهم. »رأى فوطيفار أنَّ يوسف جميل فأراد أن يتسلّى معه بالفجور«. غير أنَّ الله حفظه كما يقول الترجوم: »اتُّخذ قرارٌ ضدَّه: يبست خصيتاه فصار خصيٌّا«. وما عاد يستطيع أن يقوم بأعمال الفجور.

غير أنَّ الربَّ لا يدافع عن مؤمنيه إن هم أحبُّوا الاستسلام إلى الفجور. والكتاب يروي لنا تجربة تعرَّض لها يوسف. »فحدث بعد ذلك أنَّ امرأة سيِّده رفعت عينيها إليه (إلى يوسف)، قالت له: ''اضطجعْ معي''! فرفض وقال لها: ''سيِّدي لا يعرف شيئًا عمّا في البيت، وكلُّ ما يملكه ائتمنني عليه. لا أحد أعظم منّي إلاَّ سيِّدي. وسيِّدي لم يمنع عنّي شيئًا غيرك. فكيف أفعل هذه السيِّئة العظيمة وأخطأ إلى الله''. و''كلَّمته يومًا بعد يوم أن يضطجع بجانبها ويكون معها، فلم يسمع لها« (39: 7-10).

كان بإمكان يوسف أن يستفيد من الظرف ولا أحد في البيت غيرهما. ولكنَّه لم يفعل. وهو ما خاف أوَّلاً من سيِّده. فسيِّده ائتمنه على كلِّ شيء. ولا هو خاف من نتائج عمله. فالسوء الوحيد الذي تحدَّث عنه: أن يخطأ إلى الله. دعا هذا العمل »السيِّئة العظيمة«. هو ارتفع حالاً إلى مستوى الله. إلى مخافة الله وحفْظ وصاياه. لا. ما سقط في التجربة ولا أراد، كما أنَّه ما دافع عن نفسه. وفي أيِّ حال، ما الفائدة من المدافعة، وامرأة فوطيفار تمسك بثوب يوسف في يدها. ما كان له سوى الصمت والانتظار. فالربُّ هو الذي يعيد الحقَّ إلى نصابه، كما إنَّه يخرج من الشرِّ خيرًا، ويوجِّه كلَّ شيء لخير الذين يحبُّونه (روم 8: 28) حتّى الخطيئة.

خطيئة الإخوة قادت يوسف إلى مصر. فلو لم يصر عبدًا، لما صار سيِّدًا في مصر. وخطيئة امرأة فوطيفار جعلته في السجن. وحين يخرج إلى الحرّيَّة، سيكون الشخص الثاني في مصر. أتراه انتقم من فوطيفار أو من امرأته التي ظلمته؟ لماذا لا نقول إنَّه غفر لكلِّ من قسا عليه منذ إخوته حتّى آخر شخص رافقه في سجنه. ونحن نسمع معه كلام بطرس في رسالته الأولى: »اخضعوا لأسيادكم بكلِّ رهبة، سواء كانوا صالحين أو قساة، فمن النعمة أن تدركوا مشيئة الله فتصبروا على العذاب متحمِّلين الظلم« (1بط 2: 18-19). ويقابل الرسول بين اثنين. »فأيُّ فضل لكم إن أذنبتم وصبرتم على ما تستحقُّونه من عقاب؟« والجواب: لا فضل لكم. والثاني: »ولكن إن عملتم الخير وصبرتم على العذاب (أي وأنتم أبرياء) نلتُم نعمة من عند الله« (آ20).

3- صبرتَ كما أوصيتك

هذا الكلام الذي قاله المسيح، في الروح، إلى أسقف كنيسة فيلدلفية، في تركيا، وبالتالي إلى المؤمنين، يمكن أن يكون شعار كنيسة تسالونيكي التي كتب إليها القدّيس بولس. بل شعار كلِّ كنيسة من كنائسنا، وكلِّ مومن منّا. قال: »أنا أعرف أعمالك، ها أنا فتحتُ لك بابًا لا يقدر أحد أن يغلقه، لأنَّك مع ضعف قوَّتك حفظتَ كلمتي وما أنكرتَ اسمي. سأجعل الذين هم من مجمع الشيطان الذين يزعمون أنَّهم يهود فيكذبون، سأجعلهم يجيئون ويسجدون عند قدميك ويعرفون أنّني أحببتك. ولأنَّك صبرت كما أوصيتك، فسأحميك في ساعة المحنة التي ستنقضُّ على العالم كلِّه لتمتحن سكّان الأرض. سأجيء في القريب العاجل، فاحتفظْ أنت بما عندك لئلاّ يسلب أحد إكليلك« (رؤ 3: 8-11).

مقطع رائع في سفر الرؤيا. الربُّ يعرف لا بفكره فقط، بل بقلبه. يعرف بقلبه. يحبُّ ما يعمل المؤمنون ولاسيَّما الذين هم في المحنة. يعرفهم كما يعرف الرجل امرأته. أي يبقى معهم، متَّحدًا بهم. لأنَّه يعرف أنَّهم بدونه لا يستطيعون شيئًا. وهو يرافق كلَّ واحد كما الأب يرافق أبناءه لكي يفرح بهم وهم يفعلون. هكذا فرح الربُّ بأيّوب. فقال للشيطان بطريقة رمزيَّة: »هل استرعى انتباهك عبدي أيّوب؟ هو لا مثيل له في الأرض كلِّها، لأنَّه رجل نزيه، مستقيم، يخاف الله ويحيد عن الشرّ« (أي 1: 8). والكلمة العبريَّة: هو تامّ، كامل على ما سيسمع المؤمنون من فم يسوع: »كونوا كاملين كما أنَّ أباكم السماويّ كامل هو« (مت 5: 48). وما اكتفى الربُّ بهذا المديح، فبعد أن مرَّ أيُّوب في التجربة، وخرج منها منتصرًا، أعاد الربُّ المديح عينه عن هذا البارّ، وأضاف: لبث كما هو مع »أنَّك دفعتني من دون سبب« (أي 2: 3). سمح الله للشيطان، فخسر أيُّوب كلَّ ما له من مال وأولاد. ولكنَّ كلامه كان: »الربُّ أعطى والربُّ أخذ، فليكن اسم الربِّ مباركًا« (1: 22). وهو الله في النهاية، يأتي إلى أيّوب وبيده إكليل الغار لكي يتوِّج صفيَّه.

هذا ما يمكن أيضًا أن نقول عن يوسف، الذي كلَّله الربُّ بالمجد بعد أن مرَّ في الذلِّ العميق. فرح به حين رآه واقعيًا يتقبَّل وضعه ولا »يجدِّف على الربِّ في وجهه« (أي 1: 11). كما قال الشيطان عن أيُّوب. فرح به حين رآه يقاوم التجربة التي يمكن أن تعطيه بعض ما تجعل الحياة أمامه، وهو لا يعرف شيئًا من مباهج الدنيا، في حياة العبوديَّة التي يعرفها. ومع ذلك أعلن: »كيف أفعل هذه السيِّئة العظيمة وأخطأ إلى الله«! لا، ما أنكر يوسف اسم الله، وكذلك أيُّوب. وهذا ما يُطلب من كلِّ واحد منّا، مهما اشتدَّت المحنة عليه وهاجمته التجربة. نقول في الصلاة الربّيَّة، تلك التي علَّمنا يسوع: لا تسمح أن ندخل في التجربة، فنسقط فيها. لكن نجِّنا من الشرير ومن حيله ومكايده.

وكنيسة تسالونيكي، وكلُّ كنائسنا، تعيش هذا الصبر في المحنة، ولا تتراجع لئلاّ تخسر الإكليل الذي أعدَّه ربُّها لها منذ الآن. فقال بولس لهؤلاء المؤمنين: »نذكر (ونشكر ونصلّي) أمام إلهنا وأبينا ما أنتم عليه بربِّنا يسوع المسيح، من نشاط في الإيمان، وجهاد في المحبّة، وثبات في الرجاء« (1تس 1: 3). هل من مديح بعدُ أجمل من هذا »الكمال« الإنجيليّ الذي يجمع في ذاته الفضائل الإلهيَّة الثلاث. آمن أهل تسالونيكي. سلَّموا حياتهم إلى الربّ. وما كان إيمانهم نائمًا، يقوم بأعمال اعتادوا أن يقوموا بها دون أن يضعوا قلبهم فيها. فإيمانهم ناشط في عيش يكونون فيه مثالاً لإخوتهم المؤمنين، ولغير المؤمنين. وقد وصل صيت هذا الإيمان إلى مكدونية التي عاصمتها تسالونيكي، وإلى آخائية التي عاصمتها كورنتوس، »بل في كلِّ مكان وما بقي من حاجة بنا إلى الكلام عليه« (1تس 1: 8). كيف برز هذا الإيمان؟ »تركتم الأوثان« أصنام الحجر والخشب وما يرتبط بها من ممارسات تربطكم بهذا العالم ولا تسمح لكم برفع عقولكم وقلوبكم إلى العلاء. واهتديتم إلى المسيح »لتعبدوا الله الحيّ الحقّ« (آ9).

بان هذا الإيمانُ في الجهاد اليوميّ الذي دلَّ على محبَّتكم لله، ومحبَّتكم للإخوة، فتماسَكتم حين اضطهدوكم وضيَّقوا عليكم فكانت المحنة قاسية. وكلُّ هذا ارتكز على رجاء وطيد. جاهدتم وثبتمّ. لا لأنَّكم انتظرتم ما في العالم من عطاء فانٍ، بل »مجيء ابن الله من السماوات« (آ10).

الخاتمة

هكذا كان أهل تسالونيكي مثالاً للمؤمنين. كأفراد من المجتمع، وكجماعة وصل خبرها إلى سائر الكنائس، فتشجَّع الجميع. فعندما يضعف مؤمن تضعف الجماعة حوله. وحين تقوى كنيسة تتشجَّع سائر الكنائس. جماعات عديدة أخبرت عن أهل تسالونيكي كيف قبلوا الرسل الآتين إليهم، مع إنجيل يحملونه عن يسوع »الذي أقامه الله من بين الأموات«.

وكان يوسف مثالاً بعيدًا يستطيع كلٌّ منّا أن يقتدي به. تعلَّق بالله فكان الله معه. فأعطاه جمالاً فوق جمال. وما كان يمكن أن يكون سبب خطيئة، كما هو الحال في عالمنا، صار مناسبة لإظهار عطايا الله. استقامة في الحياة زادت جمال الخلق على جمال الجسد. عفَّة في التصرُّف أبعدته عن الخطيئة التي كانت هنا مثل أسد يستعدُّ للوثوب عليه، كما يقول القدّيس بطرس. فكان مثالاً لإخوته، فقادهم، كما سار هو، عبر المحنة، في بَركة عظيمة لم تتوقَّف عند طعام قدَّمه لهم، بل غفران فهم به مخطَّط الله الذي يخرج الخير من الشرّ، وهدفه خلاص الكثيرين، بل خلاص البشريَّة كلِّها!

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM