قايين وهابيل.

 

قايين وهابيل

الفصل 4 /1 وما يلي

وعرف آدم امرأته حوّاء، فحملت وولدت قايين. فقالت رزقني الربّ إبنًا. وعادت فولدت أخاه هابيل. وصار راعي غنم وقايين فلاّحًا يفلح الأرض. ومرّت الأيّام، فقدم قايين من ثمر الأرض وتقدمة الربّ. وقدّم هابيل أيضًا من أبكار غنمه ومن سمانها. فنظر الربّ برضى إلى هابيل وتقدمته. أمّا إلى قايين وتقدمته فما نظر برضى. فغضب قايين جدٌّا وعبس وجهه. فقال الربّ لقايين: لماذا غضبت ولماذا عبس وجهك؟ إذا أحسنت عملاً، رفعتُ شأنك وإذا لم تحسن عملاً فالخطيئة رابضة بالباب وهي تتلهّف إليك وعليك أن تسود عليها.

من بعد المشهد الأوّل، الإنسان الذي خُلق على صورة الله، الإنسان رجل وامرأة الذي جُعل في الجنّة. والجنّة هي جنّة لأنّ الله حاضر فيها وهو عند المساء يتمشّى مع الله، عند البرودة، برودة المساء. ولك هذه الجنّة صارت »جحيمًا« بسبب خطيئة الإنسان أو بالأحرى خُلق الإنسان للّجنة ولكنّه لمّا لبس لباس آدم، لمّا ترك لباس العرس، لباس الله، كما يقول النصّ: »كان آدم وإمرأته عريانين وهما لا يخجلان لأنّهما كانا يلبسان لباس الله«. ولكن بعد الخطيئة صارا يلبسان لباس الشرّ، لباس الخطيئة، لباس إبليس والشيطان. وقدّم الربّ لهما لباسًا بوقت محدّد، ثياب من جلد وكساهما. هذا الإنسان الذي أعطاه الله كلّ شيء، فخسر كلّ شيء حين سقط في الخطيئة، حين أكل من الشجرة، يعني تعدّى على الوصيّة. هل يتركه الربّ؟ هل يوقف مسيرة البشريّة عند الرجل الأوّل والإنسان الأوّل، عند العائلة الأولى؟ كلاّ، فالله طويل البال، طويل الأنات. الله ينظر إلى بشريّة تدوم آلاف وآلاف القرون من السنين، بشريّة بدأت وهي ستمتدّ طويلاً حتّى تجتمع كلّها في شخص يسوع المسيح. نتذكّر هنا مع موسى، مرّة من المرّات، قال الربّ لموسى: سأتوقّف عن مسيرة هذا الشّعب وأهيّء شعبًا آخر. ولكنّ موسى طلب من الربّ إن أراد أن يميت هذا الشعب فليمته هو أيضًا معه. ولهذا تابع الربّ مسيرته مع الشعب العبراني حتّى الوصول إلى الأرض المقدّسة. وهنا الربّ خطيئة الإنسان لا توقفه، خطيئة الإنسان كما قلنا في المرّات السابقة، سيأتي وقت يقيم عداوة بين نسل الشّرّ ونسل الخير. وهذا النسل، نسل الخير هو الذي يدوس الشرّ في شخص يسوع المسيح عندما تأتي حين تحل ملء الأزمنة.

وهكذا تتابع البشريّة مسيرتها وسوف تتابعها رغم الخطيئة الحاضرة. نتذكّر هنا قبل الزؤان: إنسان زرع في الحقل قمحًا وجاء عدّوه، فزرع زؤانًا. هل يقتلع الزؤان؟ كلاّ. فالزؤان هو نبت سيّء، رديء سيبقى مع القمح حتّى نهاية العالم. وفي الشبكة سيكون هناك السّمك الجيّد والسّمك الرديء. والبشريّة مع نعمة الله الحاضرة سيكون معها هذا الشرّ يرافقها حتّى مجيء المسيح ولكن عمليٌّا حتّى نهاية العالم. عندما يقول لنا في سفر الرؤيا: »لم يبقَ للبحر من وجود« والبحر يدلّ على الشرّ إذًا بمجيء المسيح الثاني، لن يبقَ أثر للشرّ ولك حتّى ذلك اليوم سيبقى الشرّ في العالم وسيحارب الإنسان. آدم وحوّاء أوّل عيلة على وجه الأرض أغاظت الله، هو بنفسه، لمّا تركت وصاياه.

ومع الفصل الرابع سنرى كيف أنّ الإنسان سيكون مغيظًا للإنسان أخيه، سيقتل. لا شكّ في النهاية كل وصيّة يسندها الربّ. من يقفل حفظ الوصيّة الله بالذات. ولكن إذا استطعنا أن نقابل الخطيئة الأولى كانت ضدّ الله أو بالأحرى ضدّ الوصايا الأولى من الله: أنا الربّ إلهك. لا تحلف باسم الله بالباطل. قدّس يوم الربّ. أمّا الخطيئة الثانية فتكون ضدّ القريب: لا تقتل - لا تسرق - لا تزن - لا تشهد بالزور إلخ... وهكذا نستطيع أن نقول خطيئة آدم وحوّاء تتوجّه نحو اللّوحة الأولى من الوصايا، الوصايا تجاه الله وخطيئة قايين تتوجّه نحو اللّوحة الثانية: الخطايا ضدّ القريب. هنا انطلق الكاتب من لوحة معروفة جدٌّا. هذه اللّوحة تقسم البشريّة إلى قسمين: الحَضَر والوَبَر. - الحَضَر الذين يعيشون في الحواضر، في المدن أو في القرى. يعيشون من الزراعة، من الفلاحة، من الحصاد إلخ...

- والوَبَر هم الّذين يرعون الغنم أو الجمال أو غيره.

دائمًا هناك فئتان: فئة الحضر وفئة الوبر ومؤخّرًا أصبح عندنا فئتان فئة أرباب العمل وفئة العمّال. على زمن المسيح، كان هناك الأحرار والعبيد. ونستطيع أن نقول أيضًا هناك الأغنياء والفقراء. دائمًا تنقسم البشريّة قسمين، إن لم يكن أكثر من قسمين. هنا لا نطرح أسئلة على نفوسنا: ولد قايين، ولد هابيل. كيف صار عند قايين ولد وعند هابيل ولد. هل تزوّج قايين أخته؟ كلّها أمور لا يطرحها الكاتب الملهم أبدًا. الكاتب الملهم انطلق من التاريخ الذي كان يعيش فيه.

في القرن العاشر ق. م. وليس في بداية البشريّة. هناك أصحاب الغنم والجمال، يعني الرعاة. وهناك الفلاّحين، هل يعيش الرعاة والفلاّحون مثل الأخوة؟ لأنّ الكاتب يقول يجعل قايين أخ هابيل. هنا نفهم أنّ قايين هو شخص تاريخيّ ليس شخص أسطوري. هناك قبيلة القينيّين التي عاشت في جنوب فلسطين وكانوا يشتغلون بالحديد والقصدير وغيره. (مثل أشخاص تعرّفنا عليهم نحن وصغار كانوا يمرّون ويبيّضون الأمور، يبيّضون الطناجر وغيرها). هذا قايين، قايين يرتبط بكلّ أشغال الحديد والقصدير والنحاس وغيرها. أمّا هابيل، هابيل فهو إسم رمزي يدلّ على الضعف، هو كالدخّان، هو كالضباب يزول بسرعة. لكن نلاحظ كلمة مهمّة جدٌّا: »أخاه« يعني قايين هو أخ هابيل. يعني الحضر هم أخوة للبدو. العمّال هم أخوة لأرباب العمل، الأغنياء هم أخوة للفقراء، العبيد هم أخوة للأحرار. هذا مهم جدٌّا. البشريّة كلّها تتحدّر من عائلة واحدة وكلّهم أخوة، سواء أكان الإنسان أسمر اللّون أو أشقر أو أسود أو أصفر. كلّ هذه التبدّلات والإختلافات ترتبط بالطبيعة، ترتبط بالشمس، ترتبط بالجغرافيا ولكنّها لا ترتبط بالأساس، بالأساس البشريّة كلّها بشريّة واحدة. ولقد ولدت من أمّ واحدة هي حوّاء. هنا نتذكّر أنّنا عندما نقول إنسان ذكر، يدل على كل سلالته، عندما نقول آدم يعني كلّ البشريّة، عندما نقول يعقوب يعني كل نسل يعقوب. عندما نقول من ثاني جهّة حوّاء يعني أمّ كلّ حيّ، فهي تمثّل كلّ الأحياء. كأنّ البشريّة كلّها كانت في أحشاء حوّاء، قايين وهابيل وكلّ إنسان. هذه البشريّة الواحدة سوف نرى في الفصل 11 كيف ستتشتّت في كلّ مكان. ويصوّر الكاتب هذه الحرب بين الحضَر والوَبَر، يصوّرها من خلال شخصيّ قايين الذي يمثّل أهل الحضَر. أهل المدن والقرى والزراعة - الفلاّحين وهابيل الذي يمثّل أهل الوبر الرعاة رعاة الغنم، رعاة الجمال وغيرهم. كيف برز هذا الخلاف. ترك الكاتب الأسباب السياسيّة، الأسباب الإجتماعيّة، الأسباب الإقتصاديّة. عادة التاريخ يخبرنا أنّه إذا كان من جفاف، البدو يهجمون على الحضر لكيّ يؤمّنوا طعامهم فلا يموتوا جوعًا. هذا على المستوى الإقتصاديّ. وهناك المستوى السياسيّ، قد يحاول رئيس قبيلة كثر رجالها، قد يحاول أن يحتلّ إحدى المدن. هذا ما سيفعله مثلاً أبناء يعقوب عندما يحتلّون »شكيم« مثلاً، يدخلون إليها. الكاتب هنا يترك الأسباب الإقتصاديّة والسياسيّة ويربط هذه الخطيئة بالله مباشرة. ماذا يقول: »قدّم قايين ثمر الأرض وقدّم هاييل من أبكار الغنم« كيف نعرف إن الله قَبِل تقدمة هابيل ولم يقبل تقدمة قايين. نُذكّر أنّنا نحن هنا أمام قراءة روحيّة. كنوا يعتقدون أنّه إذا حلّت النار على المحرقة، دلّ ا؟ أنّه قبلها. ويمكن أن يكون عرف قايين أنّه لم ينل بركة في الربّ، أنّه لم ينل رضى الربّ، لأنّ الحقل لم يعطه الثمار المرجوّة. لأنّ بركة الربّ تصل ليس فقط إلى الصحّة، تصل إلى العمر الطويل، تصل أيضًا إلى الخير الوفير. عندما يعطي الربّ الإنسان غلّة من الغلاّت هذه علامة بركة. مثلاً من خبز إسحق رغم أنّه كان جفاف يقول الكاتب سفر التكوين: إنّ إسحق لأنّه أرضى الربّ في حياته حصد في تلك السنة مئة ضعف وهذا لا يمكن في أن يكون في أرض صحراويّة، مثل أرض جنوب فلسطين. إذا شعر قايين بأنّ الربّ لم يرضَ عن تقدمته وأنّه رضيَ عن تقدمة أخيه هابيل. هنا نلاحظ بأنّ الربّ يفضّل أو بالأحرى العهد القديم يفضّل ذبيحة الحيوان على التقدمة الآتية من الأرض. مع العلم، أنّ الشعب العبراني احتفظ التقدمتين من جهة هو يقدّم إمّا جدي، إمّا خروف، إمّا عجل ومن جهّة ثانية يقدّموا الزيت والخمر والحنطة وغيرها. ولكن يبدو هنا أنّ هناك تفضيلاً لتقدمة الغنم ومن سمان الغنم. لماذا السّمان لأنّهم كانوا يحرقون شحم الغنم فيرتفع الدخان إلى السّماء.

كلّ هذا أحبّائي هي أمور تتعلّق بحضارة من الحضارات، حضارة الشرق الأوسط وغيرها من الحضارات التي كانت تقدّم للإله حملاً تحرقه فتعيده إلى الربّ وكأنّها تعود هي أيضًا إلى الربّ. لكن مع يسوع المسيح ما عدنا نحتاج إلى غنم وإلى سمان الغنم، ما عدنا نحتاج إلاّ لبعض الحنطة هو الخبز وإلى بعض العنب هو الخمر فيكون الذبيحة الوحيدة، ذبيحة القربان المقدّس، ذبيحة الإفخارستيّا، ذبيحة القدّاس. رأى قايين أو فهم أو ظنّ أنّ تقدمته لم تكن موضوع رضى أمام الله. فماذا يستطيع أن يفعل؟ هو لا يستطيع أن يقتل الله، هو لا يستطيع أن ينتقم من الله، فأراد أن ينتقم من أخيه. أراد أن يشدّه عمل الله، أراد أن يقتل صورة الله ولهذا يقول الكاتب: غضب قايين جدٌّا والغضب أوّل الطريق إلى القتل. نتذكّر يسوع المسيح بعظة الجبل بإنجيل متّى: »قيل لك لا تقتل. أمّا أنا فأقول لك: »من غضب على أخيه، من قال له كلمة قاسية« فيكمل القدّيس يوحنّا بالرسالة الأولى: »من أبغض أخاه فهو قاتل«. إذًا بدأ قايين يقتل أخاه حين غضب، فالغضب أوّل الطريق إلى القتل، إلى الموت، إلى الحقد، إلى البغض. فقال الربّ لقايين لماذا غضبت؟ لماذا تعبّس وجهك؟ صار مذنبًا مكفهرٌّا، هذا الوجه الذي خلقه منيرًا بسبب الغضب ونيّة القتل، صار أسود كالفحم، أسود كالليل. ولا ننسىَ أبدًا أنّ النور يرمز إلى النعمة، أمّا الظلام والليل فيرمزان إلى الموت، إلى الخطيئة، إلى جهنّم. لظلمة البرّانيّة يسمّيها الربّ في الإنجيل.

وكان كلام الربّ، كلام الربّ في الضمير، الضمير هو صوت الله فينا. هذا الربّ يكلّمنا دومًا سواء كنّا مؤمنين أو غير مؤمنين أو غير مؤمنين، من هذا الإيمان او ذاك، مهما كانت ظروفنا، هناك صوت الله، هناك الضمير، صوت الله يتكلّم في أعماقنا وهذا الصوت كلّم قايين. كما قلت وأقول دائمًا عندما نقول: »قال الربّ«. الربّ لا شفة له، الربّ لا فم له ولكنّه يكلّمنا في داخلنا بصوت ضميرنا ومن الخارج بواسطة صديق، بواسطة مرشد، بواسطة أب، بواسطة أمّ. حلّ الغضب على قايين، حلّ عبوس الوجه فكان كلام الربّ: لماذا غضبت؟ ولماذا عبس وجهك؟ لماذا صار وجهك عابسًا؟ إذا كانت أعمالك شرّيرة فأحسن هذه الأعمال، حسّنها. ونبّه الربّ قايين، هذا الذي كان له كلّ شيء، كان له الأرض وما إليها، له الغلال، له الفلاحة، له الثمار. هذا القايين سيصل إلى وقت يصبح فقيرًا جدٌّا. وأوّل فقر عندما يخسر أخاه سيصبح وحده، والإنسان الوحيد هو إنسان تعيس. من لم يكن له أخ هو إنسان تعيس ونبّه الربّ قايين بأنّ الخطيئة رابضة بالباب، يشبّهها القدّيس بطرس بأسد يستعدّ للوثوب. هنا الكاتب جعل الخطيئة وكأنّها شخص حيّ، وكأنّها إنسان، وكأنّها عدوّ يريد أن يوقع الإنسان. هذه الخطيئة تتمنّى أن تتّحد مع قايين. يقول له الرّبّك وعليك أن تسود عليها يعني إن شئت أنتَ فتستطيع أن تسود على الخطيئة. نعم الخطيئة لا يمكنها أبدًا أن تتغلّب علينا. نتذكّر هنا مع أيّوب، لمّا جرّب الشيطان أيّوب: جرّبه بماله، أخذ له أولاده، أخذ له صحّته. لكن أيّوب ظلّ صامدًا: الربّ أعطى، والربّ أخذ فليكن اسم الربّ مباركًا. لم يجدّف الربّ على أيّوب، إنّما عاتبه الربّ عتابًا. عتاب بني الإبن وأبيه. وهذا العتاب سيرضى الربّ عليه ويقول أنّ أيّوب تكلّم حسنًا بالرّبّ، لم يكذب، بل كان صريحًا، صادقًا. أفرغ قلبه من الألم، من الوجع أمام الله. وإن يكن في هذا الإفراغ بعض الثورة، بعض الغضب، بعض الحميّة. ولكنّه لم يخطأ أبدًا. فالخطيئة لا يمكن أن تسيطر علينا، لا يمكن أبدًا أن تسود علينا وقد قال الربّ برسالة القدّيس بولس: إن كان هناك من تجربة، فالرّبّ يجعل مع التجربة مخرجًا لها. يساعدنا على تحمّل المحنة، يساعدنا على التغلّب على التجربة. قايين يعيش الآن فترة من التجربة. كم علينا نحن أيضًا أن نفهم هذه التجارب التي تحيط بنا، التي تهدّدنا، التي تهدّد حياة الصداقة، التي لنا مع الله. قايين هو هنا والخطيئة تنتظر سقوطه مثل حيوان ينتظر أن يبتلع طريدته، فريسته. فهل سيسقط قايين؟ فالنصّ سيقول بأنّه سيسقط مع أنّ الربّ خلقه على صورته ومثاله، مع أنّ الربّ أعطاه، ما أعطاه، مع ذلك سقط قايين. ونحن كلّنا قايين قد نظن أنّ الربّ غير راضٍ علينا. أنّ الربّ رفض تقدمتنا. قد نظنّ أنّ أخانا لا يحبّنا، كلّها ظنون.

ماذا يطلب منّا الربّ؟ أن نحسن العمل، أن نعمل ما هو حسن ونترك الربّ يتابع ومهما عملنا ومهما قدّمنا للرّبّ لن نكون أكثر سخاء من الربّ. فيا ليتنا نسلّمه ذواتنا ونقول له: »لا تدخلنا في التجارب ولكن نجّنا من الشرّير. آمين

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM