سفر التكوين تكملة 2 / 4-17 (3)
1 - تكلّمنا أوّلاً عن الله الذي جبل الإنسان من تراب الأرض ونفخ في أنفه نسمة حياة، وهكذا صار الإنسان شبيهًا بالله. ما أراد الربّ أن يجعل الجنّة، أن يغرس الجنّة إلاّ إذا كان الإنسان معه وهكذا فعل.
2 - رأينا كيف غرس الربّ الجنّة، غرسها في الشرق من موضع البركة ولكنّه طلب من الإنسان أن يحافظ على هذه الحياة التي في الجنّة وكيف يحافظ الإنسان على هذه الحياة عندما يحترم شجرة معرفة الخير والشرّ، يعني عندما يحترم الوصايا، الوصايا التي سيعطيها لموسى في عشر كلمات: أنا هو الربّ إلهك، لا تقتل، لا تسرق، لا تزنِ إلى آخره. وابتعد الكاتب عن هذه الصورة الزراعيّة ليعطينا صورة أخرى عن الوفرِ والغنى في هذه الجنّة فقال هناك نهر يصبح أربعة أنهار وهذه الأنهار تجعل من الصحراء، هذه الصحراء القاحلة الخاوية التي لا شيء فيها تجعلها جنّة غنّاء، تجعل منها فردوسًا. وأراد الكاتب أن يجمع العالم بأنهاره الأربعة إلى أورشليم حيث موضع سكن الله. فحدّثنا عن هذه الأنهار، قال بآية 11 النهر الأوّل إسمه فيشون يحيط بجميع أرض الحويلة حيث الذهب وذهب تلك المنطقة جيّد، هنا نفهم أنّ الأنهار الأربعة تدلّ على الأرض كلّها وتدلّ على قلب الأرض يعني الأرض المقدّسة فلسطين. لمّا نقرأ الكتاب المقدّس ويقول مثلاً الكتاب جميع أمم الأرض فيها معنيان: معنى أوّل الأرض المقدّسة هي أرض الله والمعنى الثاني المسكونة كلّها وهنا نتذكّر مثلاً داود، داود لمّا لاحقه شاول، وأُجبر على الخروج من أرض فلسطين، من أرض الموعد، من أرض الله بكى وقال له: لماذا تحرمني من أرض الربّ، لأنّ هذه الأرض الربّ يرعاها. يعنيه بحضوره إذًا عندنا من جهّة أرض الموعد، ومن جهّة ثانية أرض العالم. عندما يقول الربّ لإبراهيم: »بك تبارَكَ جميع أمم الأرض« أيضًا لها معنين. المعنى الأوّل جميع أمم فلسطين حيث أقام إبراهيم، هو الذي جاء من بلاد الرافدين، من بلاد العراق ولها معنى ثانٍ هو الأرض كلّها بجميع شعوبها من الشرق إلى الغرب، ومن الشمال إلى الجنوب تتبارك بالله ونحن نعرف أن بركة إبراهيم وصلت إلى يسوع الذي جمع في شخصه كلَ ما في السماء وعلى الأرض.
إذًا هناك الأرض الواسعة نسمّيها اليوم القارّات الخمس وفي قلب هذه الأرض عندنا الأرض المقدّسة فلسطين حيث حضر الله في شخصه كما تقول التوراة ولا بل حضر يسوع، صار إنسانًا، سارا على طرقات فلسطين: علّم، أكل، شرب. كان حاضرًا مع الجموع. مات وقام في تلك الأرض، أرض فلسطين التي هو موجز ملخّص للأرض كلّها. وفي قلب فلسطين هناك أورشليم، أورشليم مدينة السلام، أورشليم مدينة الله، أورشليم التي هي منطقة محدّدة، مدينة بأسوار والتي صارت الموضع الذي فيه مات يسوع وقام وصعد وإليها أرسل روحه القدّوس، أورشليم التي ستصير رمزًا إلى الكنيسة، إلى الملكوت. في النهاية، أورشليم التي ستصير رمزًا إلى الكنيسة، إلى الملكوت. في النهاية، أورشليم ستصبح موضع تجمع جميع المخلّصين، جميع المتديّنين بدم يسوع المسيح وهكذا الأنهار الأربعة مثلاً نهر فيشون نستطيع أن يحدّد مكانه لكن في الأصل هو قرب أورشليم، هو سيل صغير وليس نهر، سيل صغير ليس له قيمة أبدًا ولكنّه بقرب أورشليم، تقدّس بأورشليم، تقدّس بالهيكل الذي بنى في قلب أورشليم، تقدّس بأورشليم، تقدّس بالهيكل الذي بني في قلب أورشليم. لهذا تحدّث الكاتب عن الذهب عن اللؤلؤ، عن العقيق. لا ننسى بأنّ الهيكل بناه سليمان، جعل فيه أعظم الحجارة الكريمة، أجمل الذهب، غشاه بالذهب، بخشب الأرز، بأجمل ما في الأرض. وهكذا عندما تحدّث عن فيشون، ذكر أورشليم وذكر هيكلها، وهنا أيضًا سفر الرؤيا حيث يحدّثنا القدّيس يوحنّا عن أورشليم، عن الهيكل المنية بأجمل الحجارة الكريمة. ولماذا الكلام عن هذه الحجارة الكريمة لأنّنا نريد أن نصوّر جمال السماء وليس لنا كلمات سوى كلمات: الأرض - الذهب - العقيق - الفيروز... كلّ الحجارة الكريمة وكلّ جمالات الكون.
واسم النهر الثاني حبجون ويحيط بجميع أرض كوش وهنا أيضًا نحن ما زلنا في نظرة المثناة. من جهة الأرض الكاملة يعني قد يدلّ هذا النهر على النيل الذي يصل إلى كوش يعني جنوبي مصر، يعني السودان أو الحبشة وقد يكون كوش قرب هذا. حبجون قرب أورشليم هنا مهم جدٌّا أن نعرف أن بركة الله ليست فقط للشعب الأبيض هي لجميع الشعوب أجل. وهنا نتذكّر أن هذه البركة تصل إلى جميعَ الشعوب هنا المزمور 89 يعطينا كلامًا جميلاً. هذا المزمور يقول لنا: إنّه يمكن أن تكون ولدت في صور، في صيدا، في فلسطين حتّى في كوش، في جنوب البلاد حيث العبيد والرقيق ولا ننسى على العالم العربي العبد هو الأسود، وهو المستعبد في الوقت نفسه. هؤلاء كلّهم يقول المزمور عنهم يولدن أينما يريدون ولكن أسماءهم مسجّلة كلّها في سجل واحد في أورشليم، كلّهم ولدوا ولادة ثانية في أورشليم، كلّهم ولدوا هنا لأنّهم كلَّهم أبناء الله.
إذًا الشعب المقدّس، أرض الله، أبناء الله لا يُحصر في موضع، في شعب، في أشخاص. كلّنا في النهاية نرتبط بأرض الله. وهنا نتذكّر على مستوى الكنيسة، يمكن أن أكون من فرنسا، من إلمانيا، من الصين من الهند، من اليابان، من أوستراليا، لا يهمّ، كلّنا في النهاية مسجّلون في سجلّ الله، مسجّلون في سجلّ المعموديّة يسميّه سفر الرؤيا »كتاب الحياة« ويتابع النص فيقول »ليفلحها ويحرسها...«.
تأتي هذه الجملة بشكل ردّة، بشكل قرار، قال في آية 8 وأسكن هناك آدم الذي جبله وبآية 15 »وأسكن آدم في جنّة عدن كما في البدء كذلك الآن«. هنا الله غرس وهنا الإنسان عليه أن يعمل ويقول أسكنه في جنّة عدن ليفلحها ويحرسها، أجل الإنسان مسؤول عن الأرض، الإنسان مسؤول عن ثمار الأرض، كما الإنسان عنده جنّة، عنده مزرعة، فيها الكروم من الأثمار والشجار هو يهتمّ بها، يفلحها، يحرسها كأن هناك لصوصًا، كذلك طلب الربّ من الإنسان يطلب من كلّ واحد أن يهتم بقطعة أرض، أن يفلحها، أن يحرسها وسنعرف فيما بعد أن عليه أن يأكل خبزه بعرق جبينه. وهكذا إنطلق الكاتب الملهم، انطلق من الحياة اليوميّة، انطلق ممّا يراه في خبرته اليوميّة من حياة الفلاّح الذي يرافقه وأعطانا جنّة كل قطعة أرض في أرض فلسطين هي جنّة، كل قطعة أرض في كلّ أنحاء الأرض هي جنّة شرط أن يهتمّ بها الإنسان، أن يفلحها، أن يحرسها ببركة الله وبالحياة بحسب وصاياه هذه كما قلنا الوجهة الماديّة. وتبقى الوجهة الروحيّة فنتذكّر بالآية 9 قلنا هناك الوجهة الماديّة والوجهة الروحيّة.
الوجهة الماديّة قلنا أنبت الله في الأرض كلّ شجرة حسنة المنظر طيّبة المأكل. هذه هي الوجهة الماديّة، والإنسان عليه أيضًا على مستوى هذه الوجهة الماديّة أن يعمل مع الله يقول أن يفلح الجنّة وأن يحرسها. وهناك الوجهة الروحيّة بالآية 9 كان لها فرعين أوّلاً: شجرة الحياة، ثانيًا شجرة معرفة الخير والشرّ... شجرة الحياة هي الحياة التي يعطيها الله وشجرة معرفة الخير والشرّ هي الوصايا.
هنا سنفصل شجرة الحياة عن شجرة معرفة الخير والشرّ. هنا تأتي الوصيّة بآية 16 يقول وأوصى الربّ الإله آدم يعني أعطاه الوصايا فالإنسان فآدم لا يستطيع أن يبقى في الجنّة، لا يستطيع أن يبقى في سعادة إلاّ إذا حفظ الوصايا. أوصى الربّ الإله آدم وقال: »من جميع شجر الجنّة تأكل يعني أنت مسموح لك أن تعيش حياتك على الأرض ولكن شرط أن تحفظ الوصايا. أمّا شجرة معرفة الخير والشرّ فلا نأكل منها فيوم تأكل منها موتًا تموت هنا الوصيّة. وعندنا فكرة الطعام كما قلت الطعام يسوع يقول طعامي أن أعمل مشيئة الذي أرسلني. وهنا آدم والإنسان طعامه أن يعمل مشيئة الآب الذي أرسله. مشيئة الله يعني أن يحفظ الوصايا، إذا حفظ الإنسان الوصايا كانت له الحياة ولكن الكاتب لا يقول هنا شيئًا بل يهدّد الإنسان: »يوم تأكل منها موتًا تموت« يعني يوم تتعدّى على الوصايا موتًا تموت يوجد عندنا هالكلمة عرف ما معناها عرف:
عرف: الله وحده يعرف. الإنسان معرفته محدودة، ومعرفته تنبع من معرفة الله، ولكنّها تبقى ضعيفة، تبقى عاجزة عن الإحاطة بكلّ شيء. معرفة الخير والشرّ ليست في يد الإنسان بل في يد الله. وحين يريد الإنسان أن يقول ما هو خير وما هو شرّ أن يقرّر هو ما يجب أن يعمل أو ما لا يعمل فتصبح الأرض خرابًا ودمارًا. عادة ينظر الإنسان إلى الأمور من منطقه الشخصيّ، ينظر إلى الأمور من أنانيّته وكبريائه وسوف نرى ذلك في الخطيئة التي هي أصل من الخطايا. أوّلاً اراد الإنسان أن يصير الله. ثمّ على المستوى البشريّ قتل الإنسان قايين أخاه الإنسان هابيل وقيل في نكتة صغيرة لم تسعه الأرض كلّها لذا أراد أن يقتل أخاه لتكون له الأرض كلّها. سنعود إلى هذه النصوص لكن منذ الآن نعرف أنّ الربّ هو الذي يقول لنا أين هو الخير وأين هو الشرّ، الربّ هو الذي يقول لنا أين تصل حرّيتنا، الربّ هو الذي يقول لنا أنت حارس لأخيك. الربّ هو الذي يقول لنا أنّ الخير الحقيقيّ هو ساعة نعيش بحسب وصايا الله ولكن إن أراد الإنسان أن يتعدّى على وصايا الله، إن أراد الإنسان أن يقرّر بنفسه ما هو خير وما هو شرّ تصبح الأرض كلّها غاية من الوحوش المفترسة. القويّ يأكل الضعيف والغني يظلم الفقير، والكبير يأكل الصغير. وضع الربّ أمام الإنسان الموت. هدّده بالموت لا شك هنا أنّنا أمام مضموين مدلولين للموت. هناك موت الجسد وهناك موت روحي. الكاتب الملهم لم يكن يعرف موت الرّوح. كان يعتبر أن كلّ إنسان في النهاية يموت ويذهب إلى التراب وهناك جميع البشر سواء كانوا أبرارًا أم كانوا أشرارًا يذهبون إلى عالم الموت يسمّونه بالعبراني الشيول يعني مثوى الأموات. كأن بالمقبرة هي باب ومن هناك تذهب جميع الموتى ويكونون أرواحًا ضلالاً، لا حياة لهم، لا سعادة لهم، يقول المزمور عنهم: »ليس الأموات يسبّحون الربّ ولا الهابطون إلى الجحيم كافّة« هؤلاء الموتى يعيشون حياة منقوصة بما إنّهم رفضوا أن يعيشوا بحسب وصايا الله. لن يعيشون حياة منقوصة بما إنّهم رفضوا أن يعيشوا بحسب وصايا الله. لن تكون لهم الحياة بل يكون لهم الموت ولكنّنا نعرف أن هناك أبرارًا تعدّوا على صورة الموت إن كان أخنوخ وإن كان إيليّا ماتوا كما يموت الناس ومات موسى ولكن التقليد يقول أنّ الله أخذهم إليه كما يقول المزمور 73 »تمسكني بيدي اليمنى وإلى المجد تأخذني« إذا جاء التهديد قاسيًا يوم تأكل منها موتًا تموت. تحدّث الكاتب عن الموت الجسديّ، عن الموت الذي نراه بعيوننا الذي نختبره في مجتمعنا. ولكن الكلمة ظلّت مفتموحة. فهناك موت على مستوى الجسد وموت على مستوى الرّوح يسمّيه سفر الرؤيا الموت الثاني. لذلك يسوع بالإنجيل يقول: إذهبوا إلى الظلمة البرّانيّة الظلمة يعني ضدّ النور. الإنسان العائش، النور في عينيه، الإنسان الميت يسيطر عليه الظلام والبرّانيّة يعني خارج هذه الحياة. تحدّث الكاتب عن الموت الجسديّ فتطلّعنا نحن على ضوء العهد الجديد وعلى ضوء أمر الكتب، سفر الرؤيا عن الموت الروحيّ. وهكذا منذ البداية، منذ بداية الخليقة، منذ أوّل عيلة على وجه الأرض، منذ الإنسان أو منذ بداية حياة كلّ إنسان منّا وضع الله أمامنا الوصايا، جعل كلامه في ضميرنا، في قلوبنا. دعانا إلى الحياة وهدّدنا بالموت. إن رفضنا نحن الوصايا، إن نحن أردنا أن ننظّم الكون بحسب أنانيّتنا بحسب كبريائنا. نتذكّر هنا أنّ الحرب العالميّة الثانية تركت 60 مليون قتيل. نحن حين تركنا الربّ وتركنا وصاياه، زرعنا الأرض موتًا لا حياة والربّ لم يكن يومًا إلى الموتى بل إله الأحياء حتّى على المستوى الروحيّ. قال في حزقيال الله لا يريد موت الخاطىء بل أن يعود عن ضلاله ويتوب. وهكذا بعد المواضيع الثلاث في جنّة عدن، تعرّفنا إلى الجنّة والفن الذي فيها تعرّفنا إلى الإنسان الذي جعله الربّ في هذه الجنّة وجعل فيه الحياة، الحياة الجسديّة التي تنمو بالطعام والشراب وجعل فيه الحياة الروحيّة ولكنّه هدّده إن هو لم يعيش بحسب الوصايا ستكون له حياة أخرى أو سيغير تلك الحياة سيكون له الموت بانتظار ذلك تبقى المرأة. لأنّ الخليقة بدأت في العائلة من رجل وامرأة. هذا ما يكون الموضوع في المرّة القادمة. آمين