القسم الثالث والثلاثون:فلس الأرملة

فلس الأرملة 12: 38- 44

هذه الأرملة الفقيرة ألقت أكثر مما ألقاه الآخرون.
يذكر الإنجيل الارملة التي هي ضحيّة الكتبة. فيسوع يتّهم في خطبة عنيفة الكتبة بالرياء الديني والحيلة تجاه الأرامل: تأكلون بيوت الأرامل وأنتم تتظاهرون أنكم تُطيلون الصلاة.
وهنا، يسوع يجد نفسه لليوم الثالث في أورشليم، في قلعة المعارضة للنبي الآتي من الجليل. إنّه في حرم الهيكل. وهو يواجه المرّة بعد المرّة السلطات اليهودية: الفريسيين، الصادوقيين، الهيرودسيين، الكتبة: فالصدام بين يسوع والسلطات الدينية له معناه، خصوصاً انه يحصل خلال الزيارة الأخيرة التي يقوم بها يسوع للهيكل.
تكلّم يسوع فعمّم كلامه على الكتبة، مِع أن بينهم أناساً أتقياء. فقد هنّأ يسوع أحد الكتبة فقال له: "لست بعيداً من الملكوت" (12: 34). لا شكّ في أن مرقس تألّم من العلاقات بين المسيحيّين واليهود في رومة، فاستخلص موقف الكتبة من يسوع يوم كان في أورشليم.
ولكن يبقى أن علينا اليوم أن نسمع اتهام يسوع وتوبيخه. فرجال الدين هم بشر وعليهم أن يحفظوا نفوسهم من الكبرياء، من المجد الباطل، من البخل. وحكم يسوع على صلاتهم المصطنعة يُبرز رياءهم وخبثهم. ومحبّة المال هي الخطر البر الذي يقودهم إلى التهام مال الأرامل. ولكن هذه الأقوال لا تنحصر برجال الدين، بل تصل إلى كل صاحب سلطة: تتربّص به الكبرياء والخبث والرغبة في فَرْض إرادته بالقوة.
وينتقل الإنجيل من "بيوت الأرامل" (12: 40) إلى الأرملة. هنا نجد الرياء الذي يندّد به يسوع. إنه يلاحظ تجاه صندوق التبرّعات موضعاً يضع فيه المؤمنون تقادمهم. رأى أرملة مسكينة تضع درهمين قيمتهما لا شيء. أما بالنسبة اليها، فما أعطته هو كنز كبير لأنها أعطت ما كانت تحتاج إليه من أجل معيشتها.
وترك يسوع الهيكل ولم يعد إليه. إن حضوره المستمرّ في الهيكل خلال هذه الثلاثة أيام يؤكّد أهميّة هذا المكان المقدّس. فالديانة اليهودية مع تقاليدها ونظمها وصلواتها، كانت بالنسبة اليه الموضع الطبيعي الذي فيه كبر وصلّى وعاش.
غير ان علاقاته مع وجهاء اليهود كانت صراعاً وقتالاً. وانتهى اللقاء بأسوأ ما يكون. فنبيّ الجليل هدم مصالحهم وهدّد سلطتهم في تفسير الكتب المقّدسة.
ليس الكتبة وحدهم من يحبّ السلام في الاسواق وأماكن الصدارة. ففي الإنسان ما يدفعه إلى الظهور وإلى من يتزلّف إليه. والبساطة في المعنى الإنجيلي للكلمة، هي ثمرة ارتداد طويل. هي عطية من الله الذي هو البساطة بالذات في كيانه وفي عمله. البساطة تعارض كل التواء واعوجاج.
الإنسان البسيط هو عكس الإنسان بوجهين الذي قلبه مليء بالاعوجاج. البساطة تعارض الازدواجية، تعارض القلب المقسوم بين الحقيقة والكذب، بين ألقول والعمل، بين الشخص كما يكون في المجتمع وكما يكون في حياته الحميمة، بين الخيرات الارضية والخيور السماوية، بين النور والظلمة.
يسوع يعرف أن يلاحظ بدقّةٍ الإنسان ويدخل إلى أخفى خفاياه. حين نظر إلى الطريقة التي بها يعطي مواطنوه المالي لخدمة الهيكل، اكتشف فعلات تعبرّ عن الصدف أو السطحية، اكتشف فعلات مصطنعة، شكليّة، فارغة، خبيثة، تظاهريّة. كما اكتشف فعلات متواضعة وخفيّة تدل على قلوب غنيّة. ونبّه التلاميذ إلى فعلة امرأة مسكينة. لقد عبرّت عن حبها وعطاء ذاتها، فرضي الله عنها أكثر من رضاه على أغنياه يعملون ما في وسعهم لكي يرى الناس "سخاءهم"، مع أنه لا يؤثر على مستوى حياتهم.
وقال يسوع أيضاً: الذي يعمل (لا: الذي يفكّر بالحق) يأتي إلى النور. الخطر يقوم بأن نظن أننا عدنا إلى الربّ لأننا "نقدّم تفكيراً عن الربّ"، لاننا نملك معرفة لاهوتيّة، بينما لم نستعدّ بعد في الممارسة اليومية أن نكون للمسيح، بينما نخنق فينا نداءات الروح ونسكتها.
كم نتلاعب بالكلمات ولا نلزم نفوسنا نفساً وجسداً في خدمة المسيح وعلى خطاه! فالبساطة هي تماسك بين ما نؤمن به وما نعيشه. كم يجب علينا أن نعمل دائماً لنكتشف في داخلنا الخبث والكذب والمساومة. نحن لا نقدر ان نكذب مع الله الذي يعرف ما لا أعماق القلوب (القلوب والكلى).
لنطلب من الرب نعمة البساطة. لنتركه يعيد إلينا البساطة ويزيل منّا كل التواء واعوجاج ولفّ ودوران، ولنترك روح حبّه يوحّدنا. فعلى كل مؤمن أن يكون نداء صامتاً للعودة إلى الجوهر الذي هو بسيط دائماً. لنحبّ بالروح والحق.
نحن أمام مثل ملموس: إمرأة مسكينة تعلّمنا. لقد أعطت آخر شيء تملكه. أفرغت جيبها لله، لا ليراها الناس. أفرغت ذاتها من ذاتها فامتلأت من نعمة الله التي لا يحصل عليها إلاّ المساكين. الأرملة تجاه الكتبة. الملآن صار فارغاً والفارغ امتلأ. عادت الأرملة بقلب ملآن. إنها كالأعمى الذي رأى نور الله، بينما ظلّ الفريسيون على عماهم. ونحن، ما الذي يملأ قلبنا وحياتنا؟

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM