التطلع إلى الله
مزمور61
أحبّائي، المزامير هي مسيرة المؤمن، نحن ندخل الآن في مجموعة (مز 61 - 70) نتطلّع فيها إلى الله الذي هو في الهيكل. ومن هناك ينطلق كي يجدّد الكون. ويعمل معجزاته في التاريخ.
1 - الهيكل مركز البركة على العالم
كلّ شيء ينطلق من عند الله، والهيكل يرمز إلى حضوره. نتذكّر هنا أشعيا (ف 6). في قلب الهيكل رأى أنّ الله حاضر. هو الملك العظيم، الرفيع جدٌّا، الذي هو أرفع من جميع الملوك. أذيالُه تملأ الهيكل. يعني الهيكل كلّه هو في حماية الله.
ومن الهيكل يُنشد الملائكةُ نشيدهم. السرافيم. هذه الكائنات الناريّة، الواقفة أمام الربّ الذي هو نار آكلة. هناك يُنشد السرافيم: قدّوس، قدّوس، السماء والأرض مملوءتان من مجده. إذا كان من مجد في الكون، إذا كان من مجدٍ في العالم، فهو ينطلق من الهيكل. والربّ الذي يجدّد المؤمنين الآتين للصلاة والعبادة هو في الهيكل، فإذا أراد أن يجدّدهم جدّدهم في حضرته، بقربه، وهم ينطلقون معه لكي يجدّدوا الكون.
منذ البدء، خلق الله الإنسان (تك 2) على صورته ومثاله. خلقه قبل كلّ شيء، قبل بقيّة الخلائق. والله خلق الإنسان لكي يفلح معه الأرض، يقدّسها، يكرّسها للربّ، يجدّدها، بانتظار يسوع المسيح الذي يجعل من الأرض أرضًا جديدة، ومن السماء سماءً جديدة.
وهكذا ينطلق المؤمن مع الله، من الهيكل، ليجدّد هذا الكون، ليعمل برفقة الله. فالله يعمل بنا. وكأنّي به لا يريد أن يعمل بدوننا. هو شريك معنا. يتمشّى مع آدم في الجنّة عند المساء. مع آدم، يعني أنا، أنتَ، أنتِ، كلّ واحد منّا. هو مع كلّ إنسان يخطّط: ماذا نفعل لكي نجعل هذا الكون كلّ يوم أجمل، كلّ يوم أجدّ من اليوم الذي سبق؟
وهذا المؤمن الذي أقام في الهيكل (تك 1)، أخذ يُنشد لله من أجل كلّ ما صنع. أنشد النور والشمس والقمر والكواكب. أنشد النبات والحيوان، وفي النهاية الإنسان. أنشد خلق الإنسان على صورة الله ومثاله. هو هنا في حضرة الله. الله هو الذي يجدّد الكون. هو يفعل ويعمل معجزاته في التاريخ. من قلب الهيكل ينطلق عملُ الله، وإلى هذا الهيكل يأتي المؤمن، يأتي الملك، يأتي العظماء ويطلبون اللجوء إلى الله.
2 - في الهيكل نجد الأمان
ما استطاع الملك، ما استطاع العظماء أن يعملوا ما أرادوا، فلجأوا إلى الربّ. ربّما لجأوا خوفًا من العدوّ، خوفًا على حياتهم. وخصوصًا لجأوا إلى الربّ يطلبون منه العون الذي وحده يستطيع أن يعطيه لهم. فهموا أنّ الاتّكال على البشر لا يذهب بنا إلى البعيد، والاتّكال على العظماء لا ينفع كثيرًا. فهم قريبًا يزولون. هم ذاهبون إلى الموت. هم أضعف من أن يخلّصوا أنفسهم، فكيف يستطيعون أن يخلّصوا إنسانًا من الناس، أن يخلّصوني، أن يخلّصوا واحدًا من السامعين؟
عجز الإنسان أن يعمل ما طُلب منه، فالتجأ إلى الربّ. هذا لا يعني أنّ الربّ يحلّ محلّ كلّ من يعجز عن عمل ما. هذه طريقة تجعل الله خادمًا لنا، تجعل الله في خدمتنا وعبدًا لنا. كلاّ ثمّ كلاّ. الإحساس بالفقر، الإحساس بالعجز، الإحساس بالضعف هو من شيمة المؤمن. فهو منذ البداية عرف ما علّمنا يسوع في الإنجيل: بدوني لا تستطيعون شيئًا.
نحن لا نطلب من الربّ المساعدة عندما تنغلق الأبواب من كلّ جهة. كلا. نحن من البداية نطلب من الربّ. نحن لا نخطو خطوة إلاّ وندعو اسم الربّ. منذ البداية نقول: معونتي باسم الربّ. وهذا الربّ هو القدير، هو الذي صنع السماوات والأرض.
منذ البداية ننطلق ويدُنا بيد الربّ. وفي أيّ حال، ما أحسسنا به من عجز أو من ضعف يزول، بحيث نحسّ أنفسنا أقوياء. وكما قال بولس الرسول: أنا قويّ بالربّ الذي يقوّيني. هذه العاطفة مهمّة جدٌّا إذا أردنا أن نتابع عمل ا؟ في الكون، إذا أردنا أن ننمو ونُنمي العالم معنا، إذا أردنا أن نصنع المعجزات. نعم، نحن نصنع المعجزات على مستويات عدّة: فالأهل، الوالدون، يصنعون المعجزات في التربية. والعلماء والأساتذة والمعلّمون وكلّ واحد منّا، والكاهن والراهب والراهبة، وكلّ مؤمن يستطيع أن يعمل المعجزات شرط أن يسلّم أمره للربّ.
3 - ما بقدرتنا نعمل
والويل ثمّ الويل إذا اعتبرنا يومًا من الأيّام أنّنا بقدرتنا، بقوّة يدنا، عملنا ما عملنا. والويل ثمّ الويل إذا انتظرنا من الربّ أن يجازينا خيرًا عن عملنا. أن يردّ معروفنا له: هي أكبر خطيئة يمكن أن نقع فيها. عندئذٍ نشبه ذاك الفرّيسيّ الذي جاء يمنِّن الله بأنّه يصوم كلّ أسبوع مرّتين. بأنّه يعشّر أمواله، ويعمل ويعمل. كأنّي به يقول للربّ: أنتَ مدين لي، فادفع لي دَيني، إذا شئت أو إذا أنت لا تشاء. وهكذا صار العبد سيّدًا على ربّه.
مثل هذا الإنسان لا يمكن أن يحصل على شيء. نحن لا نقول يومًا: نحن عملنا، بل يد ا؟ عملت معنا. ويحسب الملوك (في سفير أشعيا) أنّهم بقدرتهم صنعوا ما صنعوا. كلاّ. قال لهم النبيّ: الفأس لا تستطيع أن تفتخر بما فعلت. فاليد التي أمسكت الفأس هي التي عملت. والمنجل وكلّ الأدوات التي يمكن أن نستعملها، لا تستطيع أن تفتخر بما عملت. بل لتعرف أنّ اليد التي أمسكتها هي التي فعلت. إذا كانت الفأس فهمت، إذا كانت الأدوات المنزليّة فهمت، أتُرى الإنسان لا يفهم؟ إن هو صنع فبقوّة الربّ صنع، وإن هو فهم فبقوّة الربّ فهم. وإن هو صلّى، فبنداء من الروح القدس في قلبه صلّى. عندئذٍ تأتي المعجزات عديدة وتأتي كبيرة جدٌّا.
4 - وجه مريم العذراء
وأمامنا مريم العذراء. عرفت نفسها أنّها تلك الوضيعة. هي من قرية لم تُذكَر مرّة واحدة في الكتاب المقدّس. ربّما آخر قرية في فلسطين. عرفَتْ أنّها فقيرة، بسيطة، تعيش في بيتها. ما كان أحدٌ يعرفها، ولا كانت تلك الشخصيّة المميّزة التي يمرّون أمامها باحترام كبير وإكرام. هي فتاة مثل كلّ الفتيات. هي وضيعة على مستوى الأرض، على مستوى الحياة اليوميّة، وسوف تعلّم ابنها يسوع أن يعيش في الناصرة هذه الحياة البسيطة، كعامل بين العمّال، كشخصٍ في القرية يفعل ما يفعله الآخرون. مريم هذه التي تكلّمت عن وضاعتها، عن تواضعها، قالت: صنعَ الله بي عظائم. ما هي التي صنعت العظائم، بل الله صنع بها العظائم. كلّ ما قالت: ها أنا خادمة للربّ. ها أنا أمة للربّ، في يد الربّ. ليفعلْ بي ما يشاء. وكما يقول المزمور: كما ينظرُ العبدُ إلى يد سيّده، هكذا تنظرُ عيونُنا إليك.
وكما تنظر الأمةُ إلى يد سيّدتها، هكذا ننظر إليك، يا ربّ. ومريم نظرت إلى يد الربّ، إلى إلهام الربّ، إلى كلام الربّ في أعماق قلبها. ومع أنّها لم تفعل، ومع أنّها عرفت الصعوبة والمهمّة الكبيرة، قالت مع ذلك: ها أنا الأمة، ها أنا الخادمة. فليكن لي كما تقول. أنت قلتَ، يا ربّ، وأنا أفعل. وكانت المعجزة الكبرى التي لا تجاريها معجزة في الكون، لا قبل مريم العذراء ولا بعدها. هذه الفتاة البسيطة التي من قرية مغمورة صارت أمّ يسوع المسيح، أمّ ابن ا؟.
حلّ عليها الله بقدرته فتكوّن جسدُ المسيح من جسدها. وهكذا عملت مريم المعجزات. وعملت المعجزة الكبرى حين صارت أمَّ يسوع المسيح الذي يحمل إلى العالم كلّه، الخلاص من الألم، من الموت، من الشرّ، من الخطيئة، الذي يحمل إلى العالم القيامة. تلك هي عظمة مريم: سلّمت أمرها إلى الربّ.
5 - سلّم أمرك إلى الربّ
من أجل هذا نسمع دائمًا كلام المزامير: سلّمْ أمرك إلى الربّ. لماذا لا نكون مثل أطفال بين يدي الله؟ الولد ينام في حضن أمّه، في حضن أبيه. لا همّ عنده ولا قلق ولا اضطراب. لماذا لا نتعلّم نحن أن نعمل مثله؟ لماذا لا نعيش هذه الطفولة الروحيّة؟ نقول للربّ: أبَّا، أيّها الآب. هذا ما يقوله الطفلُ لوالده. ويمكن أن يقول ؟ كما يقول لأمّه: ماما. هو هنا بدون أيّ همّ، بدون أيّ قلق. هل أبوانا هما أكثر حنانًا، أكثر انحناءً من ا؟، تجاه كلّ واحد منّا؟ كلاّ. فالنبيّ إشعيا يقول: وإن نسيَتْ أمّ ابنها فأنا لا أنساكم، يقول الربّ. وهو يدعونا. تعالَ يا بولس، تعالَي يا أمال. اسكن في جواري. اسكني في جواري، بقربي. وهكذا تحسّون كلّكم بالحنان والمحبّة والرحمة والغفران والعطاء والتضحية، بعد أن أحبّنا ا؟ وأرسل ابنه إلينا لكي يكفّر عن خطايانا.
سلّمْ أمرك إلى الربّ. نعم، سلّم أمرك إلى الربّ. أترك حياتك في يد الربّ وهو الذي يفعل. وهنيئًا لنا إن تجاوبنا معه كما تجاوبت مريم العذراء. يكفي الربّ أن يقول حتّى تقول مريم: ها أنا خادمة. ويكفي الربّ أن يقول حتّى يقول كلّ واحد منّا: ها أنا يا ربّ. مرّات عديدة في الكتاب المقدّس، نسمع هذه العبارة. أبرام. ها أنا. يعقوب. ها أنا. إشعيا. ها أنا. ويأتي الربّ فيحدِّث كلّ واحد. وهنيئًا لنا إن قلنا: ها أنا. أنتظر منه كلمة يا ربّ، أنتظر إشارة منه لكي أفعلَ أنا ما يشاء. نسلّم أمرنا إلى الربّ وهو يعطي أحبّاءه، يعطيهم الراحة بعد التعب، والفرح بعد الحزن. يعطيهم كلّ ما يحتاجون إليه. وفي أيّ حال، نحن نحتاج إلى كلّ شيء.
6 - وليكن في قلبك ملء الثقة
ماذا تستطيع أن تفعل الساقية، الجدول، النهر، إذا هي انقطعت عن النبع؟ هي لا تعتّم أن تصبح ناشفة. تصبح مياهها آسنة مثل المستنقعات. رائحة نتنة. الربّ هو النبع ونحن نستقي منه. وهنا الربّ يعطي الراحة، الربّ يدافع عنّا، الربّ يرافع عنّا كما في المحكمة. هو المحامي الذي يقف بجانبنا، بجانب الشخص المتّهم. إذا كان هناك من كلام، يُسكت الربّ هذا الكلام. وإذا كان هناك من عمل، يضع الربّ حدٌّا لهذا العمل. يكفي أن ننظر إلى الربّ، أن نطلب منه. فهو قال لنا: اطلبوا تجدوا، اقرعوا يُفتَح لكم.
لا شكّ، نحن نطلب. ولكنّه قال لنا: قبل أن تطلبوا أنا أعطيكم. ا؟ أبونا (أمّنا). وهو يعرف حاجاتنا قبل أن نسأله. تخيّلوا أمٌّا أو أبًا لا يعرفان حاجات أولادهما، الأب يفعل. الأمّ تفعل. ربّما لا يستطيعان، لا يفعلان لأنّهما ضعيفان. لا شكّ. ولكنّ الربّ الإله هو يعرفني أكثر ممّا أعرف نفسي. هو الحنان كما لا أجد حنانًا مثله. وخصوصًا هو كلّيّ القدرة. إن هو رأى يفعل. إن هو سمع الصراخ يسمع ويتحرّك. وإن هو أحسّ بطلب النجدة أتى وهو الحنان وأسرع إلى النجدة، نجدة أحبّائه. يكفي أن نرفع أيدينا إليه. يكفي أن نتّكل عليه. لماذا ننتظر من البشر العزاء؟ لماذا ننتظر من عند البشر الفرح؟ فرحُ البشر يدوم بدوام البشر، ويتحوّل بين يوم وآخر. أمّا الفرح الذي يعطيه الربّ فوحده يدوم.
وكما يقول الربّ في إنجيل يوحنّا: لا يستطيع أحدٌ أن يأخذ منّا هذا الفرح. وحين يمتلئ قلبنا بحضور الربّ، عندها يمتلئ قلبنا بالعزاء بعد الشدّة، بعد الصعوبة. عندما يمتلئ قلبنا بالفرح، الفرح الحقيقيّ، نستطيع أن نفعل الكثير، نستطيع أن نفعل كلّ شيء جديدًا. وأوّل جديد هو نحن. فالربّ أراد أن يجدّدنا. مات لكي يجدّدنا. قام لكي يجدّدنا. وهو يطلب منّا أن نسير معه وأن نتابع عمل التجديد الذي بدأ هو به. فا؟ يحترمنا. يحترم عملنا. وإن كان ضعيفًا يمنحه القوّة. إن كان ناقصًا يمنحه الكمال. إن كان خاطئًا يمنحه الغفران. فما أعظم عمل الربّ فينا. هو لا يرفض شيئًا من عند أبنائه وبناته. لا يرفض شيئًا أبدًا. يأخذ مالنا، بل يأخذ خطايانا، يأخذ الشرّ الذي فينا لكي يحوّله إلى خير.
هذا هو الربّ الذي يودّ المؤمن أن يتعرّف عليه عندما يتلو هذه المزامير، عندما يصلّي مثل هذه المزامير. ونحن! إذ بدأنا نتأمّل في المزامير 61 - 70، توقّفنا خصوصًا عند هذا السكن في جوار الربّ. هذا السكن، كما يقول مز 84: ساعة عند الربّ تساوي ألف يوم في أيّ مكان آخر. فنحن يا ربّ جئنا نسكن في ديارك، نسكن معك، نمتلئ من حضورك. اجعلنا نحسّ بهذا الحضور. نفتح قلوبنا فنكتشف حينئذٍ ما هو العزاء الحقيقيّ والراحة الحقيقيّة والفرح الذي ما بعده فرح. آمين.