إسمع يا ألله صيحتي مزمور:61

 

إسمع يا ألله صيحتي

مزمور:61

اسمع يا الله صيحتي وأنصت إلى صلاتي، من أقاصي الارض أدعوك. إذا انكسر قلبي، اهدني إلى صخرة عالية لأنّك أنت حماي وحصن منيع في وجه العدوّ، أسكنّي بجوارك طول الحياة فأحتمي بستر جناحيك.

قبلتَ، يا الله نذوري، وأعطيتني ميراث من يخاف اسمك. أطلْ أيّام الملك، يا ربّ، واجعل سنيه مدى الأجيال. يجلس مدى الدهر أمام الله، والرحمة والحقّ ينصرانه. فأرتّل لاسمك طول الحياة، يومًا فيومًا أوفي نذوري.

1 - اسمع يا الله

المقدّمة آية 2: اسمع، يا الله، صيحتي، وأنصت إلى صلاتي. منذ الآية الثانية نتوجّه إلى الله ونصيح ونصرخ. سُئل أحد المغنّين: »لماذا تصرخ؟« كان مريضًا بالسرطان. لماذا تصيح، لماذا تصرخ؟ قال: »لأنّي أتألّم والمتألّم وحده يصيح، يصرخ، يطلب النجدة، لكي تسمع أمّه، لكي يسمع والده«. اسمع يا الله، أتُرى الله لا يسمع؟ بل هو يسمع. وإلاّ شابه الأصنام التي لها أذان ولا تسمع. وفي أيّ حال، بداية خبرة رفاق موسى الذين سيصيرون نواة شعب الله. النواة بدأت بالصراخ، هم يعيشون في العبوديّة. صرخوا للربّ فسمع الربّ صوتهم، وحين يسمع الربّ فهو يفعل. فهو لا محال يفعل.

اسمع، يا الله، صيحتي. الله يسمع، لكنّنا بعض المرّات نشعر، نظنّ أنّه لا يريد أن يسمع. هذا مستحيل. بل عندما نقول له: اسمع، يا الله، نريد أن نجدّد اتّكالنا عليه وثقتنا به. يمكن أن نقول: أنت، يا الله، يا من تسمع دومًا صلاتي، أنا متأكّد أنّك تسمع. أنصت إلى صلاتي. اسمع بانتباه، واستمع إلى كلّ أنّة من أنّاتي. يقال إنّ في عالم العصافير كلّ صوت له معناه. أما يكون للإنسان لكلّ صوت من أصواته معنًى. ومن أدرى من الله لكي يكتشف المعنى الدقيق العميق لصراخي، لصلاتي، لصوتي، لصيحتي. أنصت إلى صلاتي. يعني يا ربّ أنت تنصت إلى صلاتي، أنت تعرف حاجات قلبي قبل أن أسألك، لا حاجة أن أتكلّم لأنّك سبقت وأعطيتني قبل أن أطلب. لا حاجة أن أبدأ الحوار فأنت بدأته وامتلأ قلبي من حضورك وكلامك، وذلك قبل أن أبدأ أنا بالصلاة. اسمع يا الله صيحتي وأنصت إلى صلاتي.

2 - أدعوك من بعيد

القسم الأوّل آية 3 - 4: من أقاصي الأرض. هناك البعيد وهناك القريب. البعيد يعني هو بعيد عن أرض فلسطين، عن أرض الربّ. هي أرضه منذ البداية لأنّ هناك تُهيّأ الأرض وتَستقبل الربّ يسوع الذي أقام، عاش هناك، مات هناك، قام هناك. ومن أقاصي الأرض. والملك أو المؤمن الذي هو في أقاصي الأرض هو في البعيد البعيد. يرفع صوته إلى الله، ولا شكّ بأنّ الله يسمع له. ظنّ يونان النبيّ في فترة من الفترات أنّه إن مضى إلى البحار، وإلى الجزر، وإلى أقصى الغرب، لن تستطيع يد أن تصل إليه، ولا أن تفعل شيئًا. مسكين الإنسان. هو بعيد مع أنّه قريب، قريب جدٌّا من الله. الله لا يتركنا دقيقة واحدة نغيب عن عينيه.

من أقاصي الأرض أدعوك أنا. في الأرض الوثنيّة لا يعرفون الربّ الواحد. الإله الواحد. من هناك أدعوك وحضوري هناك، يا ربّ، كأنّي أنا هيكل صغير يشهد على وجودك بعيدًا عن الهيكل، عن أورشليم، عن الأرض المقدّسة. من هناك أدعوك إذا انكسر قلبي. القلب ينكسر من الضيق، من الحزن، من الشدّة. من أقاصي الأرض أدعوك. إذا انكسر قلبي، إذا أحاطت بي المخاطر من كلّ جهة.

اهدني إلى صخرة عالية. هكذا كانت تُبنَى المدن في الماضي، على الصخر العالي ولا يستطيع أحد أن يأخذها. وهذا ما يطلبه المؤمن، يطلب المؤمن صخرة عالية، صخرة منيعة لا يصل إليها العدوّ، صخرة تمنح الأمان للقائم عليها. ولكنّ هذه الصخرة هي أكثر من صخرة عاديّة. هذه الصخرة هي تلّة أورشليم، تلّة صهيون حيث يُبنى الهيكل. اهدني إلى صخرة عالية، وهذه الصخرة لا توجد إلاّ في أورشليم. أنت كُن لي الهادي الذي يوجّه الطريق. فلا أبحث عن صخرة أخرى ولا عن ملجإ آخر.

ولماذا تهديني، ألأنّني أستحقّ؟ كلاّ. ألأنّني بارّ؟ كلاّ. أنت حماي، كما الوالد يحمي ابنه والوالدة تحمي ابنتها. أنت حماي وأنا لا أطلب حماية إلاّ عندك، إلاّ تحت جناحيك. أنت حماي وحصن منيع في وجه العدوّ. ما الحاجة إلى الحصون؟ وما الحاجة إلى الأسوار بمناعتها في وجه العدوّ؟ هي لا تنفع. فكلّ الدول القديمة لم تقم أمام العدوّ. فالمنجنيق وآلات الحرب هدّمت كلّ الحصون حتّى باب المدينة العظيمة، وأشور ونينوى ورومة والإسكندريّة. وكلّ هذه المدن التي عُرفت بعظمتها وأنطاكية والقسطنطينيّة وغيرها سقطت.

3 - لا تخف

ما يعتبره الناس الحصن المنيع هو منيع إلى حدّ ما. لكن إذا كان الربّ هو الحصن المنيع، عندئذ أعرف الحماية التامّة، والأمن التامّ. ونتذكّر هنا إرميا الذي تكاثر عليه الأعداء وطلب منه الربّ (إرميا الفصل الأوّل): لا تخف من أن تقف وجهًا إلى وجهٍ أمامهم. لا تخف من مواجهتهم، أنا جعلتك سورًا من نحاس، بابًا من حديد، من يستطيع أن يقهر مثل هذه الأسوار؟ ووجب على إرميا ألاَّ يخاف. هو في حمى الربّ، فمن يتجرّأ ويقترب منه. هو في حصن الربّ، وهذا الحصن منيع لا تطاله يد الأعداء، هو في العلوّ، في الارتفاع، والشعب على مستوى الأرض، والمهاجمون على مستوى الأرض. حصن منيع في وجه العدوّ.

والجميل الجميل أنّه في ملكوت الربّ لم يعد هناك من أعداء، لم يعد هناك من شرّ، لم يعد هناك من حرب. زالت أسلحة العدوّ، ونعال العدوّ وثياب العدوّ أحرقت. السيف صار منجلاً، والرمح صار سكّة للفلاحة، الذئب تحوّل عن طبيعته وصار يعيش مع الحمل، والدبّ يعيش مع الثور، والولد يلعب على وكر أفعى. في أورشليم الجديدة لن يكون هناك من أبواب، المدينة مفتوحة لا لفئة من الفئات ولا لبعض القبائل المتزمّة، المدينة مفتوحة لجميع البشر وهي تعيش في النور ليلاً نهارًا، بل لم يعد فيها ليل، صارت أيّامها كلّها نهارًا.

لهذا يطلب المرتّل في آية 5 و6: اسكنّي في جواركَ طول الحياة فأحتمي بستر جناحيك. قبلتَ، يا الله، نذوري، وأعطيتني ميراث من يخاف اسمك. أسكنّي في جوارِك. إذا كانت هذه أورشليم، إذا كان هنا الهيكل، إذا كان الله، كما يقول الكتاب، يقيم في وسطِهم، فماذا يطلب المؤمن بعد ذلك؟ لا يطلب سوى السكن في جوار الربّ طول الحياة بل في ما بعد هذه الحياة في الآخرة.

4 - السكن مع الربّ

السكن. من يسكن في البيت؟ يسكن في البيت الأبناء، البنات، الأولاد هم الذين يسكنون في البيت. من هم خارج البيت، يقول الإنجيل، هم في الظلمة الخارجيّة هناك البكاء وصرير الأسنان، وإذا كنت أنا في جوار الربّ، إذا كنت أنا جار الربّ، فأنا في سعادة ما بعدها سعادة. ويطلب المؤمن أكثر من حوار عابر، يطلب حوارًا طول الحياة، حياته يريدها أن تكون بقرب الله، فمن اعتاد أن يعيش هذه السعادة مع الله لا يمكن أن يتخلّى عنها إلاّ إذا مال بقلبه، إذا بحث عن سعادة بشريّة قد تقوده إلى الموت، لا موت الجسد وحسب، بل الموت الأبديّ، الموت الثاني بعيدًا عن الله.

هذا الذي يعيش في أقاصي الأرض، يودّ أن يكون قرب الهيكل. هو الذي عاش قرب الهيكل في جوار الربّ أيبحث ليذهب إلى البعيد البعيد، وإن ذهب فهو يرجع كما فعل الابن الضالّ في المثل الانجيليّ؟ (لو 15). هذا الذي ذاق طعم الحياة مع الربّ. أمّا الأخ الأكبر في هذا المثل، فهو الذي قال لأبيه: أنا ما تركتك أبدًا. وقال له أبوه: أنت معي دائمًا أبدًا. ومع ذلك فالإنسان بضعفِه، في خطيئته، في ضعف التجربة يطلب أن يترك المنزل الوالديّ، يطلب أن يترك الهيكل، أن يترك جوار الربّ.

لا، يا ربّ، لا تسمح، اجعلني أسكن في جوارك لا يومًا واحدًا بل طول الحياة، وما بعد هذه الحياة، على الأرض، في الأبد، في السماء، في النعيم معك. أسكنّي في جوارك طول الحياة فأحتمي بستر جناحيكَ. هذه هي طلبة المؤمن وهذا هو طلب الربّ. هو الذي يحمينا، هو الذي يسترنا بانتظار أن نكون معه إلى الأبد. كلّ واحد منّا يحتاج إلى الحماية، كلّ واحد منّا يحتاج إلى الهروب من التجربة، أقصد أن أهرب من كلّ أسباب الخطيئة، أخاف العواصف، أخاف المطر. اجعلني تحت جناحيك كصغار الطيور، تحت جناح أمّاتهم. وما اكتفى المؤمن بصلاة، بل حمل تقدمته، حمل ذبيحته. لهذا يقول في الآية 6: قبلتَ، يا الله، نذوري. وسيقول أيضًا في آية 9: ويومًا فيومًا أوفي نذوري.

5 - الصلاة والنذور

النذر، أحبّائي، هو عطيّة منّا تدلّ، ترمز إلى عطيّة ذواتنا للربّ، فكأنّنا نقول للربّ: أنا أعطيك ذاتي وأعبّر عن هذا العطاء بتقدمة من التقدمات البشريّة، وإذ يقدّم المؤمن الذبيحة والنذور ينال البركة من الهيكل. أعطيتني الميراث، من يخاف اسمك؟ أنا أعيش في خوف اسمك، في خوف شخصِك، في الخوف من إغاظتك، وأنت أعطيتني هذا الميراث.

نتذكّر هنا اللاويّين الذين لم يكن لهم ميراث في أرض الربّ. لماذا؟ لأنّ الربّ هو ميراثهم. لهذا قلنا في حلقة سابقة: صلاة اللاويّين الذين لا حصّة لهم، حصّتهم من الله أو حصّتهم هي الله، وهم أيضًا حصّة الله، هم لا ينتظرون ميراثًا من البشر، ميراثهم هو الربّ بالذات، وهكذا قال القدّيس بولس في الخطّ عينه: من خدم المذبح أكل من المذبح. ما ينال الربّ في هيكله، في كنائسه من تقادم المؤمنين، هو ميراث الذين يخدمونه، الذين يخافون اسمه.

والخوف هنا يذكّرنا بإشعيا النبيّ لمّا كان في الهيكل. قال: هلكتُ لأنّي دنس الشفتين، وأقيم وسط شعب دنس الشفاه. واللاويّون يخافون دومًا، يخافون اسم الربّ، يخافون أن لا يكونوا أطهارًا، أنقياء، أتقياء، لكي يقتربوا من الله ويحملوا إليه ذبائح المؤمنين. وإذا لم يكونوا من الذين يعيشون بقرب الربّ، وإن لم يكونوا حصّة الربّ، فلا يحقّ لهم أن يقولوا للملك: تعال. لا يحقّ لهم أن يصلّوا لهذا الملك، فصلاته كما قال مرّات عديدة الأعمى (يو 9): نحن نعرف أنّ الله لا يسمع للأشرار بل للّذين يحبّونه. فهؤلاء اللاويّون يصلّون من أجل الملك. إذا كان هو في سلام فشعبه في سلام، وإذا كان هو في أمان فشعبه في أمان. وإذا كانت عطايا الله تدوم مدى الحياة، طول الحياة، فالشكر يكون طوال الحياة.

أرتّل لاسمك طول الحياة، ويومًا فيومًا أوفي نذوري. هذا لا يعني أنّنا نأخذ كلّ يوم النذر، ولكن نعيد ما قلنا: النذر هو تعبير عن عطيّة الذات للربّ، وأنا لا أتراجع في عطائي. قدّمت ذاتي وقدّمت النذر رمزًا إلى تقدمتي ذاتي وأنا كلّ يوم أُعيد تقدمة ذاتي، أترى الله لم يقبلها؟ بلى قبلها الربّ. ولكنّ الخوف كلّ الخوف أن أتراجع، أن أستعيد شيئًا فشيئًا ما قدّمت للربّ دفعة واحدة.

ونتذكّر الربّ حين يقول لمؤمنيه: أذكر من أين سقطت. أين هي محبّتك الأولى؟ أين هو عطاؤك الأوّل وما فيه من بذل وعطاء وتضحية؟ عادة تستعيدونه شيئًا فشيئًا. لا يا ربّ. نذرت نفسي، نذرت حياتي، نذرت ما عندي لكي أكون لك، فأعطني أن أفي نذري يومًا بعد يوم. أنا قدّمت حياتي ولا أتراجع. أنت تعلّمنا دومًا أنّك الإله الأمين. علّمنا هذه الأمانة، علّمنا كلّ يوم أن نعيد تقدمتنا، تقدمة حياتنا. وهكذا إذ نحن نقدّم نرتّل لاسمك طول الحياة، نطلب منك الحياة في الفرح لأنّ معك الحياة الأبديّة. آمين.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM