قراءة الآباء للمزامير
مزمور:52
1 – باسم المسيح نصلّي المزامير
أحبّائي، اليوم لن نقرأ مزمورًا خاصٌّا، ولكن نودّ أن نتعرّف إلى الطريقة التي فيها قرأ الآباء المزامير. لا شكّ، هناك قراءة أولى، قراءة حرفيّة. يمكن أن نفهم المزمور كما نفهم أيّ نصّ قديم من الأدب القديم اليونانيّ، العبرانيّ، الآراميّ، كما تشاؤون.
وهناك طريقة لفهم المزامير على المستوى اليهوديّ انطلاقًا من تاريخ الشعب. مثلاً المزمور 52 الذي قرأناه فيما سبق، يربط أوّلاً هذا المزمور بحدث من تاريخ داود في صراعه مع شاول. أو مزمور 51 الذي يرتبط بحدث من تاريخ داود لمّا زنى مع بتشابع، وقتل لها زوجها لتكون زوجة له. وهناك القراءة التكراريّة التي تكتفي بترداد المزمور ولا تكتشف الغنى الذي فيه. هناك غنًى على مستوى التقليد العامّ. وهناك غنًى على مستوى التقليد البشريّ.
ولكنّ الآباء لم ينسوا كلّ هذا فأضافوا شيئًا مهمٌّا، وهذا يجب أن يكون المبدأ في حياتنا. المزامير تقال باسم المسيح وتتوجّه إلى المسيح. لماذا باسم المسيح؟ لأنّنا لا نستطيع أن نصلّي إلاّ باسم المسيح. هو الوسيط الوحيد بين الله والإنسان. باسمه خُلقنا، باسمه نتكلّم، باسمه نعيش، باسمه نعمل. ونحن عندما نصلّي المزامير فإنّما نريد أن نعبّر عن صلاة يسوع. كأنّ يسوع قال لنا: أنا في السماء وأنتظر منكم أن تصلّوا على الأرض. والصلاة التي أحبّها هي كلمة الكتاب المقدّس وخاصّة المزامير. أنا صلّيتها قبلكم وأنتم تصلّونها. وهكذا نفهم أنّ المزامير تعيش في الكتاب المقدّس، تأخذ كلّ غناها من الكتاب المقدّس.
ونبدأ هنا فنقول: الكتاب المقدّس يشرح نفسه بنفسه. وسائر النصوص، إمّا التاريخيّة، إمّا النبويّة، تشرح سفر المزامير. ثمّ إنّ هذه المزامير تحمل إلينا كلّ حالات الإنسان: النجاح، الفشل، الفرح، الحزن، الشجاعة، اليقظة، الطموح. وكلّ الرغبات نجدها في المزامير. وعندما نقرأ المزامير نتذكّر أنّها تُقال باسم المسيح وتتوجّه إلى المسيح.
يعني في النهاية أنّ المسيح يعطي المزامير كامل معناها. فهي إن لم تصل إلى المسيح، تبقى مبتورة وكأنّها لم تكن.
2 - التفسير الرمزيّ والخطّيّ
ونصل إلى ما يُسمّى التفسير وما استعمله الآباء من تفسير رمزيّ أو تفسير نمطيّ: فالشيء الخارجيّ يرمز إلى شيء داخليّ. يمكن أن أعطي إشارة بعينيّ إلى شخص أعرفه ويعرفني. ربّما لا يفهمها أحد ولكن أنا وهو نستطيع أن نفهمها. إذًا من خلال كلمات معروفة، من خلال ترتيبات عاديّة، يمكن أن نفهم إلى ماذا ترمز هذه العبارة، هذا الشكر أو أيّ عمل آخر.
3 - التفسير النمطيّ
التفسير النمطيّ. يعني هناك صورة أولى، لكنّ هذه الصورة الأولى لا نستطيع أن نتوقّف عندها، بل يجب أن نتعدّاها. هذه الصورة نسمّيها صورة نمطيّة، مثلاً ننظر إلى الراعي وأمامه الخراف: هي الصورة الأولى الصورة الحرفيّة. لكن إذا رحنا أبعد، صار الراعي النمط ليسوع المسيح الراعي الذي قال: أنا هو الراعي الصالح.
وعندما ننتقل من المعنى الرمزيّ إلى المعنى النمطيّ، نفهم عمق كلمة الله. هذا لا يعني أنّنا عندما نبحث عن المعنى الرمزيّ أو المعنى النمطيّ، نترك المعنى الحرفيّ. كلاّ. فقبل كلّ شيء، علينا أن نفهم كلمات المزمور كلمة كلمة.
والأخصائيّون يجب أن يعرفوا اللغات القديمة لكي يلجوا إلى المعنى الحرفيّ لكلّ مقطع من المقاطع. بعد ذلك ينتقلون إلى المعنى النمطيّ فيُعلنون أنّ الله يحقّق مخطّطه الخلاصيّ بتدخّلاته في التاريخ. من التهيئة مع الآباء والشعب العبرانيّ، إلى الكمال في المسيح قلب الزمن، إلى التأوين: يعني نقرأ الكتاب الآن، نقرأه في الزمان الذي نعيش فيه، وفي المكان الذي نعيش فيه.
إذًا، التهيئة تبدأ بالقراءة. والكمال يصل إلى قمّة القراءة. فعلى مستوى الكتاب المقدّس، نستطيع أن نتحدّث عن الرمزيّة، عن النمطيّة. بالإضافة إلى ذلك يُطرح سؤال مهمّ جدٌّا في المزامير.
4 - الأشخاص والأحداث
من هم الأشخاص »الذين على المسرح«؟ من يتكلّم؟ يمكن صاحب المزمور أن يتكلّم. أو هو يتكلّم باسم آخرين اكتشفوا عمق الخبرة مع الله من يدري؟ فقد يكون المزموران 51 (50: ارحمني يا الله) قيل لدى شاعر من الشعراء، وجُعل في فم داود. أو في المزمور 52 هو شاعر لا يتكلّم عن نفسه بل يتكلّم عن الشرّير. وإلى من يتكلّم مزمور 52؟ يتكلّم إلى أشخاص كادوا ييأسون، لأنّ الشرّ يحيط بهم من كلّ جانب.
لا شكّ هناك تشديد على الوعد والكمال مؤسَّسٌ على التاريخ، وتلك مقولة أساسيّة في المسيحيّة. يعني لمّا تكلّم المزمور عن البارّ أو الصدّيق، ففي النهاية يجب أن نصل إلى يسوع المسيح.
كلّ هذا الشيء، هذه المقولة الأساسيّة في المسيحيّة، هذه الأسماء، يمكن أن تزول من رأسنا لكن يبقى الشخص الذي يتكلّم. هناك علاقة بين الكاتب والمتكلّم. بين الذي قال المزمور للمرّة الأولى والذي كتبه والذي دوّنه، كما بين المتكلّم والجماعة التي باسمها يتكلّم.
فآباء الكنيسة انطلقوا من التاريخ ليشرحوا سفر المزامير. وانطلقوا أيضًا من البُعد الشخصيّ ليفهموا نصوصه. ففي المزمور 52، هذا الشخص المسكين المتعلّق با؟ يرى تجاهه الشرّير الخاطئ متكبّرًا، ويمكن أن يطرح سؤالاً على نفسه: لماذا الأمور هي هكذا؟ ولماذا لا ينجح الأبرار في هذا العالم؟ فأبناءُ هذا العالم هم أكثر فطنة من أبناء الملكوت. ويتساءل الآباء: هل تعلن مزامير التوسّل صلاة شخص فرد، أو هل هي صلاة يعتبر من يصلّيها أنّه يصلّيها باسم الجماعة؟ فنقول: هو أحد الكهنة، قورح أو ناثان أو آساف أو غيرهم.
5 - من فيلون إلى أوريجان
يقول الآباء: هذا الكلام قيل باسم المسيح، باسم البارّ، باسم المسيحيّ، الشهيد المسيحيّ، الكنيسة والرسل. كما قلت، يمكن أن تبقى هذه »الأنا« داخل العهد القديم. لكن في النهاية، المؤمن لا يتكلّم إلاّ باسم يسوع المسيح، باسم البارّ المسيحيّ.
وفي هذا البحث عن الأسماء نرافق فيلون الإسكندرانيّ ويوستين الشهيد. من جهة، فيلون الإسكندرانيّ بحث عن المعنى الروحيّ. نتذكّر أنّ فيلون هو مفكّر يهوديّ عاش في القرن الأوّل بعد المسيح في الإسكندريّة. أمّا يوستين فهو من نابلس في فلسطين قرب جبل جرزيم أو السامرة. ويوستين هذا انطلق من آيات كتابيّة، فأعلن أنّها تعني المسيح.
وإذا عدنا وقرأنا أوريجان الذي كان أوّل من شرح المزامير كلّها شرحًا منظّمًا، نرى أنّ المعنى اليهوديّ انتقل إلى المسيح إلى الكنيسة. فالعهد الجديد يضع في فم المسيح آيات من المزامير. مثلاً مزمور 22: »إلهي إلهي لماذا تركتني وابتعدت عن صراخي وسماع أنيني«؟.
إذًا، أمور عديدة تعني المسيح مع العهد القديم. أمّا أوريجان فكان أوّل من شرح المزامير شرحًا منظّمًا. وأمّا يوستين ابن نابلس فرتّب هذه القراءة للمزامير وقال إنّها تعني المسيح. أمّا أوريجان ابن الإسكندريّة وعكّا والذي مات في النهاية في صور ودفن في صور في لبنان فهو أوّل من شرح المزامير كلّها شرحًا منظّمًا.
6 - يكتشف الآباء شخص يسوع
انتقل المعنى اليهوديّ إلى المسيح ثمّ إلى الكنيسة. فالعهد الجديد يضع في فم المسيح آيات من المزامير. ماذا يعمل المفسّر؟ ينطلق من هذا الواقع فينسب كلّ المزامير إلى المسيح ولا سيّما مزامير البارّ المتألّم. المتكلّم يبسط ضيقه أمام الله، ويدعوه لمساعدته، ويرفع آيات الشكر للخلاص الذي تمّ. وينطلق المفسّر من هذا الكلام البشريّ، فيميّز ما يقوله المسيح كإنسان ويحلّل عناصر شخصيّته، الضعف، العجز، سرعة العطب أمام الألم.
يستعمل هذا ضدّ الأريوسيّة التي اعتبرت أنّ يسوع هو إنسان وحسب. ثمّ هناك وعي الذات عند يسوع، حرّيّة الاختيار، الحنان. وهذا كلّه يدلّ على أنّه كان ليسوع نفسٌ حيّة كما لكلّ إنسان. لم يكن يسوع ذاك الخيال أو الروح كما ظنّه التلاميذ في إنجيل لوقا. كلاّ ثمّ كلاّ.
هو إنسان مثل كلّ إنسان. عنده الضعف، عنده العجز، سرعة العطب أمام الألم، أمام العذاب. ثمّ هو عرف ذاته، اختار، تعامل مع الناس بحنان. هذا يعني أنّه كان لديه نفس مثل نفوسنا تحسّ مع الآخرين، تتألّم مع الآخرين. وفي النهاية هذا المسيح يحرّرنا من الموت. سلطته مطلقة على كلّ شيء، كلّ حالات البشر صارت حالاته، كلّ خطايا البشر أخذها على عاتقه، كلّ آلام البشر حملها في شخصه فصار باسم شعبه الضحيّة المتشفّعة. صار الرأس المتضامن مع أعضائه، صار العضو الذي يشعر بآلام سائر الأعضاء، صار الممثّل للبشريّة كلّها.
هنا نفهم أنّه حين أنشد الآباء هذه المزامير، أعطوها معنًى جديدًا. أخرجوها من عالم العهد القديم، حيث حاول اليهود أن يحصروها وكأنّ هذه الكلمات متوجّهة إليهم وحدهم دون الآخرين وأوصلوها إلى العهد الجديد. فإن حُصرت لا نكون أمام قراءة صحيحة، قراءة حقيقيّة، للعهد القديم بل قراءة ناقصة مبتورة.
حين قال لنا الآباء إنّ المزامير تنطلق من المسيح وتنتهي في المسيح كما النهر ينطلق من الينبوع ويصل إلى البحر، عند ذاك نعرف كيف تكون القراءة الحقيقيّة للمزامير. فكلمات النبيّ هي كلماتي، ونشيد الكهنة هو نشيدي، وحرقة المؤمن هي حرقتي، والرحمة التي يطلبها الخاطئ هي تلك أطلبها أنا.
فيا ربّ، أنت هنا في كلّ كلمة من كلمات المزامير. اجعلني أكتشفك، أكتشف صوتك، فأسمعه في أعماق قلبي وهو يكون لي النور والحياة. آمين.