القسم الرابع والعشرون: مشهد التجلي

مشهد التجلّي  9: 2- 10

هذا هو ابني الحبيب، فله اسمعوا.
من يستطيع أن يسكت عما رآه؟ من يستطيع أن يحتفظ لنفسه بخبرة إيمان بهذا العمق؟ ولكن الأمور لا تنتهي هنا. فالأجمل هو في النهاية. الأجمل هو القيامة. إذن، حين نرى ما لا نستطيع اليوم أن نعبرّ عنه، حينئذ نستطيع أن نتكلّم. إن التجلي هو صورة مسبّقة عن القيامة. هو خبرة مسيرة تفلت من أيدينا. هو بالمعنى الحرفي "تحوّل من حالة إلى حالة". وهو لا يصل إلا إلى الظواهر، إلى الثياب. عند متى ولوقا، تغيّر وجه يسوع. أما عند مرقس، فلم يعد ليسوع وجه. إنه الله شخصياً. وفي بياضه شيء من السماء، لا يضاهيه شيء. لم نعد أمام لون طبيعي. إنه يمتزج مع نقاوة نور الله. إنه الصورة الكاملة للسعادة.
وهذا ما عبرّ عنه بطرس. وإذ أراد أن تمتد هذه السعادة ولا تنتهي، إقترح أنَ يبني ثلاث خيم، ثلاثة أكواخ بأغصان الشجر. واحدة لكل واحد من هؤلاء الأنبياء العظام الذين طبعوا التاريخ بصعودهم الساطع. سمح له الظرف بأن يجمع في لحظة واحدة التاريخ كله فيراه جميع الناس، فأراد أن يستفيد من المناسبة. يجب أن نعيّد عيد المظال (أو: الأكواخ) الذي يذكّرنا بحفلات القطاف (خصوصاً قطاف العنب) وما فيها من أفراح. إنّه يذكّرنا بمسيرة الشعب في البرية خلال زمن الخروج. ثمّ باللقاء بين الطبيعة والتاريخ. ويقول لنا لوقا إن الرجال الثلاثة تكلّموا عن الخروج. أجل، لا موضوع غيره. غير أننا الآن أمام مسيرة تحريرية نحو أورشليم. ولكنه تحرير من نوع غريب يقود إلى الحكم بالموت. يجب أن نتنبّه إلى هذا الأمر (لا خروج مجيد) لئلا نخطىء الهدف ونضيّع المعنى.
أما الآن، فقد وصلوا إلى القمم. ولكن حين نصل إلى القمم تفاجئنا الغيوم والبرد، فلا نعود نرى شيئاً من بهاء المنظر العابر. وفي رأس بطرس يسيطر الضباب. هو لا يعرف ما يقول ليملأ هذا الصمت المسيطر. ما الذي جعله يضطرب؟ الرؤيا كما يقول مرقس أم الظل (سحابة ظللتهم)؟ هذا السماط من الضباب يدلّ على الله الخفي. هو لا يشعّ عادة ولا يُرى. إنّه كالشمس خلف الغيوم.
وجاء صوت مزّق هذا الصمت. حن لا نعود نرى شيئاً، تبقى الأذن، وتبقى كلمة الكتب المقدسة. حينئذ نُسلَّم إلى الأمانة في الزمن الذي يطول. وهذه الكلمة تحمل وحياً. إنها تحدّثنا بوضوح عن هوّية يسوع مع سرّه الرهيب. إنه الابن الحبيب. يجب أن نسمع له (تث 18: 15).
يبقى أن نسمع ليسوع وخصوصاً حين يكون "وحده". مع أنه ترك هالة المجد، فله ما يقوله لنا. حين سينطلق إلى أورشليم، يجب أن يكون إيمانهم متيناً ليؤمنوا به أيضاً. وحين يتأملّون بصمت في مصير الأنبياء، سيرون من جديد هذه الأويقات الحلوة. فإن ظلّوا متعلّقين بالتعليمة حول الصمت، فهذا يعني أن الأمانة تحلّ محل الرؤية. الهدف هو أن نتعمّق في مصير ابن قدّمه الآب. وهذا الآب الخفي يحفظ كلمته فيقود مخطّطه إلى المنتهى، أي بالإنتصار على الموت.
نحن بحاجة إلى يسوع هذا المتجلّي. إنه يقود أخصّاءه على إنفراد. وهناك تحدث أمور لم يُسمع بها. وفجأة يجدون يسوع الذي اعتادوا على رؤيته. ما هو خارق إنتزعهم ممّا هو عادي، وسيعودون إلى ما هو عادي. كم نحن بحاجة إلى هذا الإنسلاخ.
إن حياة هادئة وجدّ هادئة مع يسوع تقودنا إلى النوم، إلى الكسل. فإن أطلّت الصعوبات قلنا: لماذا يجب أن نؤمن بيسوع ونتبعه؟ فمن هو يسوع؟
إنه ذاك المتجلّي. ويوقظنا موسى وإيليا: إنه المسيح حقاً. نحوه يتوجّه التاريخ كلّه. وانتظار البشرية الطويل ينتهي هنا حيث رمزت ثياب إنسان لمّاعة إلى بشرية إرتفعت إلى أقصى مداها.
وهناك أكثر من هذا. من ظنّ أن الآب سيقول عن هذا الرجل: "هذا هو ابني"! تخيّل اليهود كل شيء عن المسيح إلا سماع العبارة: "هذا هو ابني". ولن يستطيعوا أبداً أن يصعدوا هذا الجبل الذي سيسمّونه "تجديفاً".
انطلقنا من الإنجيل إلى كتب اللاهوت، ومن المواعظ إلى التأملات، فاعتدنا على وحي التجلّي. نحن نعرف أن الله الواحد هو عالم حب: آب وابن وروح قدس. وجاء الابن ليدلّنا على أننا محبوبون كثيراً. هناك أكثر من شخص تجلّى: فحياتنا هي مسيرة إلى اليوم الذي سيقول لنا الآب فيه: "أنت ابني".
أمور من عالم الخيال صارت واقعاً. نسمع صوتين يرهباننا. يسوع هو ابن الله. جاء ليعلّمنا أننا ابناء. ولكي يشرف هذا الواقع على حياتنا، لكي تصبح بنوتنا أسمى طموح لنا، نحتاج من وقت إلى وقت إلى صوت الله ونوره. هذا ما حدث ليعقوب ويوحنا. هذا ما حدث لبطرس الذي لن ينسى أبداً (2 بط 1: 17).
إن الثياب المضيئة والصوت والتاريخ كله وسر الثالوث، كل هذا يقول لنا من هو يسوع، ومن نحن.
لا نستطيع أن نسير في طريق العهد دون أن نبدّل تصرّفنا. ولكن لا تصرّف جديداً من دون سماع كلمة الله. "إسمعوا له. إسمعوا". كل شيء ينطلق من هذا الينبوع الفريد، من كلمة الله التي تستطيع أن تحوّلنا وتحوّل العالم. ولكن كيف نتقبلّها؟ كيف نتركها تصل إلينا وإلى العالم؟ كيف نزيل الحواجز التي تمنعها من أن تعمل عمل التجلي في كل مكان؟ ونرجو نحن لا نضع لا الحواجز أمامها...

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM