يوم الدينونة.

 

يوم الدينونة

آ31. إذا جاء ابنُ الإنسانِ في مجدِه وجميعُ ملائكتِه القدّيسين معه يَجلسُ حينئذٍ على كرسيّ مجدِه ليدين جميع الناس. فالمخلِّص هنا يرسم هيئة الدينونة الأخيرة ليطبعها جميع الناس على قلوبهم ويتذكَّروها بتواتر، ليجهدوا نفوسهم على الأعمال الصالحة. ومجد المسيح يظهر بهتاف الصافور العظيم الذي يُسمع في المسكونة كلِّها، وبالبروق والرعود والزلازل التي تتقدَّم مجيئه، وبظهور المسيح بجسد أكثر بهاء من الشمس، وبإتيانه مع السحب وجلوسه للدينونة على سحابة، وبحفيف أجناد الملائكة له وقيام جميع السلاطين والملوك والأحبار والرؤساء والفلاسفة والخطباء وجميع القبائل والأمم أمامه ليدينهم، وبأنَّه يدينهم لا بمنزلة مسودين أجانب، بل بمنزلة عبيد أخصّاء، فإنَّ جميع الملائكة والبشر عبيد للمسيح. ومن المحتمَل أنَّ الملائكة يأخذون حينئذٍ أجسادًا بهيَّة جدًّا من هواء متكاثف. ويَقرُبُ من التصديق كثيرًا أنَّ الشياطين يظهرون أيضًا بأجسام لكنَّها أرضيَّة ومرعبة، وإلاّ فلا يمكن أن يراهم المرذولون.

آ32. وتَجتمعُ أمامَه جميعُ الأمم. ويكون جمعهم بواسطة الملائكة وإلى أمام منبر الديّان في وادي يوشافاط. وقوله "جميع الأمم" يُراد به جميع الناس من آدم إلى آخر المولودين من ذرِّيَّته، من كلِّ قبيلة وجيل وحال وجنس وعمر، والأطفال يظهرون أيضًا يوم الدين وإن أنكر ذلك دوراندوس*، أوَّلاً، لأنَّ المسيح ديّان جميع الناس، فإذًا ديّان الأطفال أيضًا. ثانيًا، لأنَّ الأطفال يقومون كالبالغين، ويكون كلٌّ منهم رجلاً كاملاً كما يقول الرسول في أف 4: 13. ثالثًا، لأنَّ كثيرين من الأطفال أضحوا بالمعموديَّة والاستشهاد كأطفال بيت لحم قدّيسين وشهداء. ومن ماتوا منهم في الخطيئة الأصليَّة هم عدد وفير، وهؤلاء يحكم عليهم حكمًا متوسِّطًا بين حكمَي الأبرار والأشرا،ر فلا يَحكم عليهم بالنار المؤبَّدة كالبالغين المرذولين، إذ لا خطيئة شخصيَّة لهم. ولا يَحكم لهم بالسعادة الأبديَّة مع التمتُّع برؤية الله كالبالغين المختارين، لعدم صنعهم أعمالاً صالحة فائقة الطبيعة تستحقُّ ذلك. ويميِّز المسيح حينئذٍ واحدًا مِن آخرَ كما يُميِّزُ الخرافَ من الجداء. أي كما أنَّ الراعي يدع القطيع يرتعي نهارًا معًا وعند المساء يميِّز كلَّ سرب إلى حظيرته، هكذا يصنع المسيح بالناس في مساء هذا العالم أي نهايته. ويشبِّه المخلِّص المختارين بالخراف لوداعتها وطهارتها وطاعتها واحتمالها، ويشبِّه المرذولين بالجداء لنجاستها وفظِّ أخلاقها وسرعة تهوُّرها واهتياجها بالشهوات وحبِّها الخصام.

آ33. فيقيمُ الخرافَ مِن عن يمينِه، لأنَّ اليمين هي المحلُّ الأكثر اعتبارًا وشرفًا، ويكون ذلك في الهواء أمام منبر الديّان وحوله،كما قال مار توما*، والجداءَ من عن شمالِه، لأنَّها المحلُّ الأدنى اعتبارًا ويُترَكون على الأرض لينحدروا منها إلى أسفلها.

آ34. ويقولُ الملكُ، أي المسيح، حينئذٍ لأولئك آل اليمين. إنَّ المسيح يُثيب الأبرار قبل أن يعاقب الأشرار، لأنَّ الثواب أخصُّ به من العقاب. وليحزنَ الأشرار إذ يرون مجد الأبرار. هلمَّ يا مباركي أبي. أي الذين يحبُّهم أبي منذ الأزل، والذين شرَّفهم بنعم وافرة ويكلِّلهم الآن بمجد سام، فإنَّ قول الله نفس فعله. فرثوا المُلك، أي املكوا في السماء بحقِّ الإرث. فإنَّ المجد السماويّ يعطى للقدّيسين بصفتين: الأولى صفة الإرث بما أنَّهم أبناء، والثانية صفة الأجرة لأنَّهم استحقُّوا ذلك بأعمالهم الصالحة. فإنَّ الله لا يريد أن يصنع نظير البشر الذين يتركون الإرث لأولادهم بعين كفيفة، سواء استحقُّوه وكانوا أهلاً له أو لا، بل يريد تركَه لمستحقِّيه ولمن هم أهل له بمنزلة أجرة. ولذا لا اعتبار البتَّة لقول المحدثين إنَّ الملكوت السماويّ يُنال بالإرث فليس بأجرة، ولا يُستحقُّ بالأعمال الصالحة، لأنَّ الكتاب المقدَّس يسمّيه في محلاّت عديدة أجرًا وأجرة. منها قول الرسول في 1 كو 3. 8: وكلٌّ يأخذ أجرته على قدر تعبه. ولأنَّ المسيح يورد سبب نوال الملكوت بقوله "لأنّي جعت فأطعمتموني ألخ". المُعَدَّ لكم. مع سبق النظر إلى فضيلتكم وثباتكم. من قَبْلِ إنشاء العالم، بل من الأزليَّة كلِّها. فيهتف فم الذهب* هنا قائلاً: يا لشرفنا إذا كنّا محبوبين ومنتخَبين إلى المُلك، لا حديثًا بل من قبل إنشاء العالم ومنذ الأزليَّة! ويا لتعسنا إن كنّا نخسر هذا المُلك المعدَّ لنا بمنزلة ميراث لأجل أمور أرضيّة زائلة. واعلم أنَّ الدينونة الأخيرة لا تصير بدقيقة كما تصير قيامة الموتى، بل تدوم زمنًا وإن يسيرًا، إذ يحصل فحص كلٍّ وكشف الضمائر فتظهر لكلٍّ آثامه وأثام غيره بواسطة التنوير الداخل، ويُبرز الحكم على كلِّ واحد ويرى إنصافه وعدم إمكان ردِّه. ثمَّ يُبرز الحكم لجميع القدّيسين بصوت محسوس على ما يظهر. وبعد ذلك تنقضُّ صواعق الحكم على الأشرار بالهلاك المؤبَّد.

آ35. لأنّي جعتُ فأطعمتُموني وعطشتُ فأسقيتموني وغريبًا كنتُ فآويتموني.

آ36. وعريانًا كنتُ فكسوتُموني ومريضًا كنتُ فعهدتُموني ومحبوسًا فزرتُموني. هذا الجوع والعطش ألخ، يكون للمسيح بأعضائه وإخوته، وهم ذوو الفاقة والاحتياج. وبنوع واحد من الأعمال الصالحة الذي هو الرحمة الجسديَّة، يفهم المخلِّص باقي أنواع الفضائل الأخر كافَّة. فيورد على سبيل المثل أفعال نوع واحد من الأعمال الصالحة. وخصَّ أفعال الرحمة بالذكْر دون غيرها، لأنَّها أوفر سهولة وأكثر وضوحًا للجميع، ولا يمكن أحدًا أن يعتذر عن صنعها ولو بالمشورة والإشفاق، ثمَّ ليمدحها ويوصي بها تعمُّدًا، وأخيرًا ليبيِّن أنَّه إذا كان يجازي أفعال الرحمة بملكوت السماء، فكم من الثواب العظيم يكون للأعمال الأكثر سموًّا منها. ومن هنا تؤخذ أفعال الرحمة الجسديَّة الستَّة وهي أَطعِمِ الجياع، أسقِ العطاش، آوِ الغرباء، اكسِ العراة، افتقدِ المرضى، افتدِ المأسورين، والسابع وهو دفن الموتى، يؤخذ من سفر طوبيّا. وأفعال الرحمة الروحيَّة سبعة أيضًا وقد أضمرها المخلِّص بذكره أفعال الرحمة الجسديَّة، وهي: أَصلحِ الخطأة، علِّمِ الجهلة، أَشِرْ بالخير على المرتابين، صلِّ لأجل خلاص القريب، عزِّ المحزونين، اصبِرْ على الإهانات، اغفِرِ الإساءات.

آ37. فيقولُ له حينئذٍ أولئك الصدّيقون: متّى رأيناك يا ربُّ جائعًا فقتناك ومتى رأيناك عطشان فسقيناك؟

آ38. ومتى رأيناك غريبًا فآويناك أو عريانًا فكسوناك.

آ39. ومتى رأيناك مريضًا أو محبوسًا وأتينا إليك. فلفظة "متى" في كلِّ ذلك تشير إلى اتِّضاع القدّيسين العميق وتعجُّبهم وابتهاجهم، إذ يرون المسيح يعظِّم أفعالهم الدنيئة حتّى يعتبر ما صنعوه مع الفقراء موجَّهًا إليه.

آ40. فيجيبُ المَلكُ قائلاً لهم: الحقَّ أقول لكم إنَّ الذي فعلتُموه مع أحدِ إخوتي هؤلاء الصغارِ فبي فعلتُموه. يريد بإخوته بالحصر الرسل ومن أشبههم من رجال الديانة الذين يجلسون مع المسيح الديّان وكانوا يُعتَبرون في هذا العالم صغارًا، ويريد بذلك بالتبعيَّة جميعَ الفقراء المسيحيّين، الذين لولادتهم ثانية بالمعموديَّة يصيرون بنعمة الله أبناء له وإخوة للمسيح. واعلمْ أنَّ الكفرة والمرذولين لم يرَهم المسيح أهلاً ليسمِّيهم إخوته، لكنَّه لا ينهى عن التصدُّق عليهم.

آ41. حينئذٍ يقولُ المَلكُ أيضًا لأولئك أهلِ الشمال: امضُوا عنّي يا ملاعين. ها هوذا عذاب الخسران الذي هو فقدان مشاهدة الله والمجد السماويّ. إلى نارِ الأبد. وهذا هو عذاب الحسِّ لأنَّ نار جهنَّم لا تحرق حينئذٍ أجساد الهالكين فقط بل نفوسهم أيضًا، ومع ذلك لا تُفنيها. ومن ذِكْره النار هنا وفي محلاّت عديدة، ينتج أنَّ في جهنَّم نارًا حقيقيَّة وإن كان ذلك ليس من قضايا الإيمان. وهذه النار أحدُّ من نارنا وتختلف عنها مادَّة وحالاً. ومن قوله "الأبد" ينتج أنَّ هذه النار أبديَّة لا نهاية لها، خلافًا لضلال أوريجانوس* الذي زعم أنَّ عذابات جهنَّم سوف تنتهي، وأنَّ الهالكين سوف يخرجون منها بعد مدّات من الزمان. وهذا العذاب يكون فادحًا شديدًا جدًّا حتّى يَضطَرَّ الهالكين إلى اليأس والتجديف على الله والوالدين والرفقاء والأصحاب وكلِّ الخلائق. فافتكرْ بهذا العذاب، إذ تغريك الشهوة أو الطمع أو الكبرياء إلى الخطيئة، وقل: أنا لا اريد أن أشتري ندامة هذا عظم مقدارها بشيء عابر زائل، ولا أشاء أن أبتاع بلذَّة قليلة نارًا مؤبَّدة. المُعدَّةِ للثلاّبِ وجنودِه، أي الشيطان وأعوانه. فنار الجحيم أُعدَّت أوَّلاً لإبليس وجنوده، ثمَّ للإنسان المقتدي بعصاوة الشيطان، وكان إعدادها منذ الأزل بعد العلم السابق بإثم الشياطين وأُعدَّت في الزمان في اليوم الأوَّل من العالم إذ أخطأ الشياطين قبل أن يُخلق الإنسان. وكيف تعذِّب نار جهنَّم الهيوليَّة الشياطين الذين هم أرواح بسيطة؟ ففي ذلك جدال بين الجدليّين، وقد شرحوا ذلك بطرق مختلفة، والأصوب أنَّ نار جهنَّم لا تعذِّب بتصوّر المخيِّلة فقط ،بل بفاعليَّة حقيقيَّة يمنحها الله إيّاها. وهل المسيح يُبرز هذه الأحكام بألفاظ محسوسة؟ فمن المحقَّق أنَّ بعض الأحكام العامَّة تَبرُز بلفظ محسوس على كلٍّ من صفيّ القدّيسين والهالكين، ولكنَّ فحص كلٍّ على حدته وإبراز الحكم عليه يتمُّ بالكلام الروحيّ والداخل، كما علَّم مار أغوسطينوس*.

آ42. لأنّي جُعتُ ولم تطعموني وعطشتُ ولم تسقوني.

آ43. وغريبًا كنتُ ولم تأووني، وعريانًا كنتُ ولم تكسوني، وكنتُ مريضًا ومحبوسًا ولم تفتقدوني. يورد هنا سبب هلاكهم في أنَّهم أهملوا أفعال الرحمة. فإنَّ كلاًّ يلتزم بها متى كان القريب في الضرورة القصوى أو الثقيلة. وإذا كان من أهملوا أفعال الرحمة يُشجَبون هذا الشجب، فماذا يحلُّ بالظلاّم والزناة والمجدِّفين وباقي أصحاب الكبائر.

آ44. حينئذٍ يجيبُ أولئك قائلين: يا ربُّ، متى رأيناك جائعًا أو عطشان أو غريبًا أو عريانًا أو مريضًا أو محبوسًا ولم نخدمْك. يقول المرذولون هذا بأفكارهم لا بكلامهم، إذ لا يسمح المسيح لهم بالاعتراض لحكمه، وضميرهم نفسه يشجبهم، لكنَّهم يقولون ذلك بجسارة ويأس.

آ45. فيجيبُهم حينئذٍ قائلاً: الحقَّ أقولُ لكم إنَّ الذي لم تفعلوه مع أحدِ هؤلاء الصغار فإنَّكم لم تفعلوه معي. راجع ما ذكر في آ40 هنا، وتأمَّل كم يجب أن نعتبر هؤلاء الفقراء لاسيَّما أصحاب التقى.

آ46. فيذهبُ هؤلاء، أي الأشرار، إلى العذابِ الأبديّ في جهنَّم. والله يحفظ أجسادهم في النار لئلاّ تبيدها. والصدّيقون إلى حياةِ الأبد. مجموع كلِّ خير ولذَّة وراحة فما أمرَّ وأرهب حال الهالكين، وما أحسن وأسعد حال الطوباويّين!

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM