الفصل الثامن عشر: الأعظم في الملكوت.

 

الفصل الثامن عشر

فحواه تعليم المخلِّص بأنَّ من شاء الدخول إلى ملكوت السماء فليصر مثل الأطفال وليحذر من أن يشكِّك مثل هؤلاء ثمَّ كيفيَّة النصح الأخويّ. وإنَّ من لا يسمع للكنيسة يلزم اعتباره بمنزلة وثنيّ وعشّار. ومنح الرسل أجمع سلطان الحلِّ والربط. ومديحه صلاة الكثيرين المتَّفقين على أمر واحد. ووجوب الصفح عن الإهانات ولو تعدَّدت كثيرًا ومثل السيِّد الذي حاسب عبيده.

الأعظم في الملكوت

آ1. في تلك الساعةِ جاء التلاميذُ إلى يسوع. وروى مرقس أنَّ يسوع دعاهم إليه. فالتلاميذ كانوا يتحاورون مرارًا على من هو العظيم بينهم، وخاصَّة في الطريق، إذ كانوا ذاهبين إلى كفرناحوم، والسبب القريب لذلك هو أداء يسوع الدرهمين عنه وعن بطرس وحده. وإذ علم يسوع أفكارهم وعلموا هم أنَّه اطَّلع عليها تقدَّموا إليه يسألونه، قائلين: مَنْ تُراهُ العظيم في ملكوت السماء. يعني من هو الأعظم والأقرب إلى المسيح رتبة وشرفًا وسلطة في ملكوت السماء، أي في الكنيسة المحاربة والمنتصرة، لأنَّهم كانوا يفكِّرون أنَّ المسيح سيقيم بلا بدٍّ، له ولأخصّائه، مُلكًا بهيًّا مجيدًا في الأرض، ولو بعد قيامته. وارتأى ملدوناتوس* أنَّه يريد بملكوت السماء الكنيسة في الأرض فقط، لأنَّ المسيح يؤنِّبهم على خصامهم لأنَّه يحوي طمعًا، والطمع يكون في الرغبة في التقدُّم في الأرض لا في السماء، ورأيه محتمَل. والأظهر أنَّه يراد بملكوت السماء هنا، ما يُراد به بقوله: إن لم ترجعوا فتصيروا مثل طفل لا تدخلوا ملكوت السماء. فالمسيح يؤنِّب الرسل على الطمع*، لتوهُّمهم أنَّ ملكوت السماء كالمُلك الأرضيّ يُنال بالطمع والكبرياء.

آ2. فدعا يسوعُ طفلاً وأقامَه بينهم. وزاد مرقس (9: 36:  على ذراعيه. وذلك ليعلِّمهم يسوع السذاجة والاتِّضاع، لا بالقول فقط، بل بأمور محسوسة أيضًا. قال يانسينيوس*: يُظنُّ أنَّ هذا الطفل كان القدّيس مرسيال* الذي تتلمذ بعد ذلك للقدّيس بطرس، وأرسله للإنذار بالإنجيل في فرنسه. ولكن من حيث إنَّ البعض يجعلون القدّيس مرسيال من الاثنين والسبعين مبشِّرًا، ولذا لم يكن حينئذٍ طفلاً بل شابًّا، فلا يكون هذا التقليد على ذلك أكيدًا.

آ3. وقال: الحقَّ أقولُ لكم إنْ لم تَرجِعوا فتصيروا مثلَ طفلٍ لا تَدخلوا ملكوتَ السماء. أي إن لم ترعووا عن هذه الغيرة والطمع، الذي هو إثم عرضيّ على الأقلّ، ويمنع من الدخول إلى السماء، إذ يلزم التطهير منه أوَّلاً في المطهر، وتصيروا بالفرادة كالأطفال بالسنّ، أي متواضعين سذَّجًا خالين من التكبُّر والحسد، ومتنازلين للجميع، وغير مفضِّلين نفوسكم على أحد، فلا تدخلون ملكوت السماء، لأنَّ هذه الرغبة في الرئاسة، وإن لم تكن إثمًا مميتًا، فكانت تنهج السبيل إليه وتمنع من انفتاح باب المدخل إلى السماء، التي لا يدخلها نجس. ولا ينتج من ذلك أنَّ الرسل كانوا حينئذٍ في إثم مميت، بل هذا على سبيل الإنذار. فالمخلِّص هنا يعالج غيرة الرسل بالاتِّضاع، ويُقنع به بثلاثة براهين: الأوَّل، مأخوذ من عذاب المتكبِّرين ونفيهم من الملكوت، وهو الذي ذكره هنا. والثاني، من ثواب المتواضعين كما في الآية التالية. والثالث، من مشابهة المتَّضع للمسيح، كما في آ5 هنا.

آ4. والآن مَن واضعَ نفسَه كهذا الطفل. وروى لوقا (9: 48): فالذي هو صغير فيكم. يعني الأكثر تواضعًا من الجميع بينكم، فهو يكونُ العظيمَ في ملكوت السماء، حيث ينال السموَّ السعيد والشرف الحقيقيّ والثابت. فيأمر المسيح أن يكون تلميذه متَّضعًا صغيرًا نفسًا كصغر الطفل جسمًا، أي لا يأمر بالتشبُّه بالأطفال بالجهل وقلَّة المعرفة، بل بالسذاجة والبرارة والاتِّضاع.

آ5. ومَن قبِل صبيًّا كهذا باسمي. يعني من قبل بالضيافة أو أبدى إحسانًا آخر إلى صبي كهذا، أو إلى إنسان متَّصف بالسذاجة والبرارة والاتِّضاع، كما هو هذا الصبيّ لصغر سنِّه، وكان عمله هذا لأجل اسمي ولأجل خدامتي به، فقد قبِلَني. وبقبولي يستحقُّ الأجر والثواب. وزاد مرقس ولوقا: ومن يقبلني يقبل الذي أرسلني. وكلامه هنا ليس في الأطفال سنًّا فقط، بل في الأطفال مجازًا أيضًا، بسبب الاتِّصاف بالمزايا السابق ذكرها، كما يظهر من المقابلة مع لفظة الصغار في الآية التالية، إذ ليس معناها الصغار سنًّا فقط، بل الصغار عند نفوسهم أيضًا، نظرًا إلى الاتِّضاع.

آ6. ومَن يشكِّكُ واحدًا من هؤلاء الصغار. قد فسَّر بعضهم قوله: يشكِّك، بمعنى يُهين أو يحتقر، مقابلة لقوله: من قبل صبيًّا، في الآية السابقة. كذا ارتأى ملدوناتوس*. والأحسن تفسير، التشكيك بمعناه المعتاد، أي من يعطي أحد هؤلاء سببًا للعثر في طريق البرِّ والخلاص، أو يهتمُّ بجذبه عن الرغبة في الفضيلة بواسطة التعليم المضلِّ أو السخرية والاحتقار أو الإقناع والمثل الرديء أو الإجبار، فخيرٌ له أن يُعلَّقَ في عنقِه، لا حجر صغير وخفيف بل رحى الحمار. وهو حجر الطحن الذي يديره الحمار بحسب عادة أهل فلسطين لطحن الحنطة. ويُغرَّقَ في عمقِ البحر. يعني أنَّ إثمه يستوجب أن يعاقب في هذه الحياة عقابًا شديدًا، فضلاً عن عذاباته المؤبَّدة في الحياة الأخرى في جهنَّم. ولكن كيف يلتحم هذا العدد مع الذي تقدِّمه، وهذا الشكِّ ماذا يعني الرسل. أجيب أنَّ هذا القول، وإن كان عامًّا، فيخصُّ الرسل أيضًا، إذ بمحاورتهم على من هو الأكبر بينهم يمكن أن يشكِّكوا المرتدِّين إلى الإيمان. كذا قال مار إيرونيموس*. فلينتبه هنا أولئك الإكليريكيّون والرهبان الذين يخاصمون على التقدُّم والرئاسة، فذلك يشكِّك العالميّين، وهو عار على الإكليروس، وخير لهؤلاء أن يعلَّق في عنقهم حجر الرحى ويغرَّقوا في البحر، من أن يُبدوا خصامًا كذا مع شكٍّ للشعب، كما قال المخلِّص هنا.

آ7. الويلُ للعالمِ من الشكوكِ، ومِن الضرورة أنْ تكونَ الشكوك. لا من الضرورة المطلقة، بل من المفترض ضعفُ البشر وإنفسادُهم وخبثُهم وكبرياؤُهم. والويل للإنسان الذي تأتي الشكوك على يده. فالضرورة المارُّ ذكرها لا تُجبِر هذا الفردَ أو ذاك على إعطاء الشكِّ، بل يصرِّح بها بأنَّه سوف يوجد الشكُّ من البعض دون تعيين، ومع بقاء الحرِّيَّة الكاملة لكلِّ فرد في محاذرة إصدار الشكّ. ولذا من استعمل حرِّيَّته سوء الاستعمال وأعطى شكًّا، يعاقب بكلِّ استحقاق. فالمسيح يعلِّم هنا بشأن خطيئة الشكّ ثلاثة أمور: الأوَّل جسامتها وثقلها، الثاني كمِّيَّتها وضرورة وجودها، والثالث وجوب الجدِّ في محاذرتها وإزالتها. وفي ذلك قال:

آ8. إن شكَّكتْكَ يدُك أو رجلُك فاقطعْها وألقِها عنك فخيرٌ لك أن تَدخلَ الحياة وأنتَ أعرجُ أو أعسم من أن يكونَ لك يدان أو رجلان وتُلقى في نار الأبد.

آ9. وإن شككَّتْكَ عينُكَ اقلعْها وألقِها عنك فخيرٌ لكَ أن تَدخلَ الحياةَ بعينٍ واحدة من أن يكونَ لك عينان وتُلقى في جهنَّم النار. وقد مرَّ تفسير هاتين الآيتين في 5: 29ي.

آ10. انظروا لا تحقِروا أحدًا من هؤلاء الصغار فإنَّني أقولُ لكم إنَّ ملائكتَهم، أي الملائكة الحارسين لهم، وزادت اللاتينيَّة هنا: في السماء، يشاهدون كلَّ وقتٍ وجهَ أبي الذي في السماء. أي إنَّهم متَّحدون بالله ومحبُّون له في كلِّ وقت، كمن يسمح لهم دائمًا من أعوان الملك أن يروا وجهه، ولهذا هم مستعدُّون أن يعرضوا الإهانات المنزلة بمن يحرسونهم على الله القاضي والمنتقم. وهؤلاء الملائكة، ولو خرجوا من السماء، فيبقَون دائمًا مشاهدين وجه الله. فالله موجود في كلِّ مكان، وهم سعداء أينما وُجدوا، ولهذا يقال إنَّهم دائمًا في السماء. ومن هذه الآية وغيرها، مثلاً في تك 48: 16 ومز 3: 8 ومز 90: 11 وأع 12: 15، ومن تقليد الآباء العامّ، قد نتج العلماء أنَّ الله يعيِّن لجميع المسيحيّين منذ مولدهم لكلٍّ ملاكًا حارسًا. ولا ريب بأنَّ هذا الإحسان يعمُّ الوثنيّين أيضًا، وذلك لحفظ الأطفال من الأذايا، وتحريك البالغين إلى ما يلاحظ خلاصهم، وقد علَّم مار توما* قسم 1 بحث 113 جزء 4 والسواري* رأس 18: 7: أنَّ الدجّال نفسه سوف يكون له ملاك حارس.، وإن ارتأى أوريجانوس*، وصاحب التأليف الناقص، أنَّ الملائكة الحرّاس للمعمَّدين وحدهم.

آ11. إنَّما جاء ابن الإنسان ليُحيي ما كان هالكًا. يريد بما كان هالكًا، عموم الجنس البشريّ الذي يهلك بخطيئة آدم. وهذا برهان آخر على عدم الإهانة للصغار وتشكيكهم، كأنَّه يقول: إنَّ من يحتقرهم ويشكِّكهم لا يُهين ملائكتهم فقط، بل يُهينني أيضًا، إذ نزلت من السماء، وسوف أتألَّم وأموت لأجل جميع الناس وخاصَّة لأجل هؤلاء. فإذًا، بكم من الصرامة أدين من يشكِّك هؤلاء الصغار ويقتادهم إلى الهلاك ثانية، بعد أن أصرفت لخلاصهم تعبًا وثمنًا هذا عظم مقدارهما.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM