الفصل الخامس عشر: جدال حول التقليد.

 

الفصل الخامس عشر

فحواه ذمُّ تقليدات الكتبة والفرّيسيّين من المخلِّص آخذًا السبب من اعتراضهم بعدم غسل تلاميذه أيديهم. وتعليمه ما هي الأمور التي تنجِّس النفس. وشفاؤه ابنة الكنعانيَّة وكثيرين غيرها من أمراض مختلفة. وإشباعه أربعة آلاف رجل بسبع خبزات وقليل من السمك.

جدال حول التقليد

آ1. حينئذٍ جاء إلى يسوعَ الكتبةُ والفرّيسيّون من أورشليم. فهؤلاء لاسيَّما الأورشليميّين منهم، الذين كانوا يدَّعون أنَّهم في مركز الإيمان والدين، إذ لم يجدوا على يسوع ما يعيبونه به ممّا يضادُّ الشريعة الإلهيَّة ،يشكونه بمخالفة التقليد البشريّ. ولذا نوَّه. يقولون:

آ2. لماذا تتعدّى تلاميذُك تقليداتِ المشايخ ولا يغسلونَ أيديهم عند أكلِهم الخبز. يراد بالخبز هنا كلُّ طعام. ولا يجب أن يُظَنَّ أنَّ الرسل كانوا يتَّكئون على الموائد وأيديهم غير نظيفة، بل كانوا يمتنعون عن غسل الأيدي والكؤوس بتواتر، عن غسل الموائد وفرشها بحسب عادة الفرّيسيّين من تقليداتهم دون وصيَّة من الله، حتّى كانوا يأمرون أن توضع دائمًا أجاجين مملوءة ماء، حتّى إذا سقط أحدهم في عجز لمس جثَّةٍ أو شيء آخر نجس، يتطهَّر حالاً منه بحسب رسم الشريعة. وتُغسل الأواني لئلاّ تتنجَّس الأطعمة. ولذا كان على أفواههم دائمًا ما ورد في كو 2: 21، وهو: لا تدنوا ولا تذوقوا ولا تجسُّوا، غير مهتمّين بشيء من تطهير النفس. وأمّا المخلِّص، فكان يريد توجيه كلَّ الاهتمام إلى تطهير النفس، محتقِرًا تلك الغسلات الزائدة التي لا طائل لها، إذ لا عبادة بها ولا فائدة منها. وما أبطل اعتراض بعض الأراطقة للكاثوليكيّين بهذه الآية ضدّ التقليدات الرسوليَّة والكنائسيَّة، فإنَّ هذه التقليدات مفيدة جدًّا وضروريَّة، وتقليدات الفرّيسيّين كانت باطلة ومضادَّة لسنَّة الله، بل كان الكتبة يقدِّمونها على شريعة الله، كما سيجيء.

آ3. فأجابهم يسوع قائلاً: لماذا تتعدَّون أنتم وصيَّة الله، الطبيعيَّة والوضعيَّة، من أجل تسليماتكم؟ كأنَّه يقول: إنَّ تقليداتكم تحتقر وتَنقض وصايا الله، فهي إذًا مضلَّة ومضادَّة سنّة الله ولا يلزم حفظُها. وقال "تسليماتكم" بالإضافة إلى ضميرهم، ليشير إلى أنَّها ليست مرسومة من الله ولا من القدّيسين والأنبياء والآباء الأوَّلين، بل من الكتبة والفرّيسيّين. ويورد برهانًا على تعدّيهم هذا بقوله.

آ4. لأنَّ اللهَ قالَ: أكرِمْ أباك وأمَّك. ومَن يَشتُمْ أباه وأمَّه موتًا يموت. يستشهد المسيح هنا أح 20: 9. والإكرام هنا وفي محلاّت أخرى من الكتاب المقدَّس لا يُفهَم به الاحترامُ فقط، بل المساعدة والقيام بالأوَد أيضًا لدى الاحتياج. فالمخلِّص كأنَّه يقول: إنَّكم تتعدَّون وصيَّة الله لأجل التقليدات. مثلاً الله يأمر بتكريم الوالدَين ومساعدتهما في احتياجهما، وعلى الأقلّ بعدم الشتم والاحتقار لهما، وبعدم إنكار ما هو ضروريّ للقيام بأوَدهما، وأنتم إذ يريد الأولاد أن يُغيثوا والديهم فتصدُّونهم عن ذلك، ملحِّين عليهم أن يُنفقوا أموالهم على تقدمات الهيكل وذبائحه لتتقدَّس، إذ تَعلق بأكياسكم (لأنَّ كثيرين من الفرّيسيّين كانوا كهنة أو لاويّين على الأقلّ). وزاد مر 7: 10:  ولا تمكِّنوه أن يصنع شيئًا لأبيه أو لأمِّه، وإن كانا محتاجَين وملتمسَين غوثَ أولادهما. فإذا كان من يهين والديه بالكلام فقط تحكم عليه شريعة الله بالموت، فكم بالأحرى من يُنكر عليهما القوت الضروريّ، أو يمنع غيره من ذلك، معلِّمًا من فوق كرسيِّه، كما تعلِّمون أنتم أيُّها الكتبة.

آ5. وأنتم تقولون: مَن يقولُ لأبيه، وإن كان بأقصى الاحتياج، أو لأمِّه، وإن كانت متضوِّرة جوعًا: إنَّ قرباني هو شيءٌ ينفعُك منّي. أي إنَّ القربان الذي أقدِّمه لله لا يفيدني أنا فقط، بل يفيدك أنت أيضًا، ولو نظرًا إلى النفس.

آ6. ولا يكرمُ أباه وأمَّه. فهذا يكمِّل الوصيَّة الآمرة بتكريم الوالدَين، ويكون بريئًا من الذهب. فجواب الشرط هذا مُضمَر في كلام المسيح. فالفرّيسيّون كانوا يعلِّمونهم ذلك لربحهم من ذبائح الهيكل، إذ كان بعضهم كهنة كما تقدَّم. ويكون قوله "إنَّ قرباني شيء ينفعك منّي، بمعنى ما يقال في هذه الأيّام للفقراء، وهو "الله يرزقك". أو أنَّ المعنى أنَّ كلَّ ما أقرِّبه أنا لله ينفعك وتكون لي فيه شريكًا فسبيلك أن تقنع بهذا. إلاّ أنَّ المسيح يقول لهم: قد ضللتم كثيرًا، وأبطلتم وصيَّة الله من أجل سننكم. لأنَّ رباط التقوى والالتزام للوالدَين المحتاجَين هو من ناموس الطبيعة، ويتقدَّم ضرورة على كلِّ ذبيحة ونذر، وعلى كلِّ إلزام من الناموس البشريّ أو الإلهيّ الوضعيّ. كذا فسَّر ينسانيوس. وغيره.

آ7. يا مرائين حسنًا تنبَّأ عليكم أشعيا النبيّ القائل (29: 13):

آ8. إنَّ هذا الشعبَ يُكرِمُني بشفتيه، أي بعبادة خارجيَّة، وقلبُهم بعيدٌ عنّي جدًّا، أي مخالف ومبتعد عن الإرادة الإلهيَّة. إذ يفتكرون ويرغبون في نفوسهم ويفعلون خلاف ما يقولونه في شفاههم.

آ9. وباطلاً يخشَونني إذ يعلِّمون تعاليم وصايا الناس. وقرأت العربيَّة القديمة: باطلاً يعبدونني، واللاتينيَّة: دون سبب يعبدونني معلِّمين تعليم الناس ووصاياهم، أي باطلاً يظنُّون أنَّهم يعبدونني، إذ يهملون وصايا الله ليمتثلوا وصايا البشر. فإذًا لا يذمُّ المخلِّص هنا وصايا الكنيسة والتقليدات الرسوليَّة، كما وَهَمَ الأراطقة، فإنَّ هذه كما هو واضح لا تضادُّ الناموس الإلهيّ، بل تفيد لإثباته وتأييده، وقد أوصى الرسول بحفظها في 2 تس 2: 15 وفي محلاّت أخرى. وليست وصايا الناس لكن وصايا الله مقلَّدة لكم*** بواسطة نوّابه وقصّاده. بل يذمّ المسيحُ وصايا الناس فقط، التي يخترعها البشر بمجرَّد عقلهم واختيارهم دون إلهام الله وضدَّ إرادته، كالوصايا التي يفنِّدها المذكور في آ11 الآتية، أو المضادَّة جليًّا الشريعة الإلهيَّة والطبيعيَّة كمخادعة الوالدين المذكورة في آ6.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM