شفاء امرأة وإقامة فتاة.

 

شفاء امرأة وإقامة فتاة

آ18. وفيما هو يتكلَّمُ بهذه تقدَّم إليه رئيس، أي أحد رؤساء المجمع أو الجماعة كما روى لو 8: 41 ومر 5: 22 اللذان رويا أيضًا أنَّ اسمه يائيروس. وسجدَ له، أي خرَّ على قدمي يسوع قائلاً: إنَّ ابنتي ماتت الآن. ورى مرقس ولوقا أنَّها كانت وحيدة وعمرها اثنتي عشرة سنة، وأنَّ أباها كان تركها في حال النزاع، وبعد أن جاء المسيح معه أتاه رسول يخبره بموتها، فقوله: ماتت، هو على ما ذكره فم الذهب* وتاوافيلكتوس* بمعنى أنَّها مدنفة قريبة من الموت. فمن عادة المصابين أن يعظِّموا مصابهم طلبًا لمزيد الإشفاق عليهم. ولكن هلمَّ فضعْ يدَك عليها، إذ كان رأى أو سمع أنَّ المسيح أبرأ غيرها بوضع يده، الذي كان دليلاً على تمام السلطة والولاية، فتحيى، أي تعود إلى صحَّتها الأولى. وإذ أخبره الرسول في الطريق أنَّها ماتت وأن لا يُعنّي المعلِّم فضعف رجاؤه، فقال له: لا تخفْ، آمن فقط فتحيى. كما روى لوقا. فطلب حينئذٍ أن يردَّها إلى الحياة فتسهل له نوال مطلوبه باستحقاق شفقته الوافرة كما سيجيء.

آ19. فنهض يسوعُ وتلاميذُه واتَّبعوه، أي اتَّبعوا يائيرس. قال فم الذهب*: إنَّ يسوع إذ دعاه يائيرس مشى معه بطيئًا، وأطال الحديث مع النازفة لتموت الابنة، ويكون بإقامتها من الموت برهان على القيامة.

آ20. وإذا امرأةٌ بها نزيفُ دمٍ منذُ اثنتي عشرة سنة، وقد كانت أنفقت كلَّ ما تقتنيه على الأطبّاء فلم تستفد شيئًا كما روى مر 5: 26 ولو 8: 23. وكلُّ ذلك لتعظيم الأعجوبة وللتعبير عن أنَّ المرض كان مزمنًا وغير قابل البرء. وهذا المرض دنس يُستحى به وكان يمنع المصاب به من مشاركة الناس بموجب رسم الشريعة في أح 15: 24. ولذا لم تجسر هذه المرأة أن تتقدَّم أو تطلب الشفاء من المسيح علانية، بل جاءت من وراءه ومسَّت طرَفَ ثوبِه. أو إنَّها فعلت ذلك اتِّضاعًا كما ارتأى بعضهم. وطرف ثوب يسوع يراد به الأهداب التي كان يعلِّقها اليهود بأطراف أثوابهم بموجب رسم السنَّة في أع 15: 38.

آ21. قائلةً في ذاتِها إنَّها إن لمسَتْ ثوبَه فقط خلُصَت. وروى مرقس أنَّه انقطع حالاً جري دمها.

آ22. فالتفتَ يسوعُ فرآها. كأنَّه يجهل ويسأل مَن لمسه كما روى مرقس ولوقا. وصنع ذلك لترى المرأة أنَّه لا يمكنها أن تختفي، وتلتزم بأن تعترف بالأعجوبة، فتظهر لمجد الله وتقوية إيمان رئيس المجمع الذي كان مرافقًا له. وقال يسوع لها: ثقي يا ابنتي. يظهر أنَّ المرأة لمّا رأته يسأل من لمسه خافت كثيرًا وظنَّت أنَّها ارتكبت نفاقًا بلمسها طرف ثوبه وسرِقتها الشفاء، وأنَّ المخلِّص سيعاقبهاز وروى ذلك مرقس ولوقا بقولهما: فجزعت حينئذٍ المرأة إذ عرفت بما صار لها، وأتت ساجدة أمامه وأخبرته بالحقِّ كلِّه، وقالت علانية أمام الشعب كلِّه لأيَّة علَّة دنت فلمسته وكيف برأت حالاً. ولهذا قال لها: ثقي أي لا تخافي وطيبي نفسًا، إيمانُك خلَّصَك. كأنَّه يقول: تشجَّعي ولا تخافي أنَّك أغظتِني بلمسك، فقد سرَّني إيمانك وثقتك جدًّا. فهذا الإيمان كان لك أحسن استعداد لنوالك الشفاء، وبمنزلة استحقاق من اللياقة كما يتكلَّم اللاهوتيّون. وزاد مرقس ولوقا: اذهبي بسلام. فبرئتِ المرأةُ من تلك الساعة. وهذا مثال وبرهان على إثبات قوَّة الذخائر واستعمالها. فإنَّ أهداب ثوب المسيح التي شفت النازفة هي بصفة ذخيرة، فجيب كالفن أنَّ هذه المرأة فعلت ذلك دون صواب، وكان فيه رائحة الاعتقاد الباطل، وهو حادث فرديّ لا يُقتدى به. ولكن يكذِّبه الإنجيليّون الذين ذكروا ظروف عملها مديحًا لها، والمخلِّص نفسه الذي أثبت ومدح عملها، لا بنوالها الشفاء فقط بل بقوله أيضًا: إيمانك خلَّصك. واعلم أنَّ هذه المرأة لم تكن مرتا أخت لعازر، كما قال مار أمبروسيوس*، بل هي امرأة أخرى من قيساريَّة فيلبّوس التي كان اسمها أوَّلاً دان، ثمَّ بانياس، ثمَّ قيساريَّة فيلبُّوس، إذ وسَّع بناءها فيلبُّوس بن هيرودس إكرامًا لطيباريوس قيصر. وقد أقامت هذه المرأة بعد ذلك تمثالاً للمسيح تذكرة لهذا الإحسان، وكان كلُّ من أخذ من العشب النابت تحت التمثال أو لمس طرفه يبرأ من كلِّ مرض، على ما روى أوسابيوس* في ك 7 من تاريخه رأس 14 وزوزومانوس* في ك 5 رأس 21، إلى أن رفع يوليانوس* العاصي هذا التمثال، وأقام مكانه تمثاله، فضُرب حالاً بصاعقة محَّقته. روى ذلك زوزومانوس* ك 6 رأس 19 وتاوافيلكتوس*.

آ23. ثمَّ جاء يسوعُ إلى بيتِ الأركون، أي الرئيس المذكور آنفًا، فأبصرَ الزمرَ والجمعَ مضطربين. إنَّ اليهود يستخدمون نساء يزمِّرن بالزمر حين وفاة الصبيان والصبيّات.، ويستخدمون رجالاً يبوّقون بالبوق وقت وفاة الرجال، والأمم كانوا يستخدمون أناسًا رجالاً ونساء كما روى لاكنتييوس بلاشيدوس*، فكانوا يستأجرون نائحين ونائحات مشهورين ينظِّمون حكايات ويرتِّلون أشعارًا محزنة مهيِّجة إلى الترثّي. والنساء كنَّ يقرعن صدورهنَّ ويدرين شعورهنَّ متفجِّعات نادبات مهيِّجات الأصدقاء والأقارب إلى الحزن، وقد ذكر الإنجيليّ ذلك تأكيدًا لموت الصبيَّة.

آ24. فقال لهم: اخرجوا. والأطبق للسريانيَّة وغيرها: انفصلوا وابتعدوا، أي من البكاء والنوح. إنَّ الصبيَّةَ لم تمُتْ، نظرًا إليّ أنا الذي يحيى الجميعُ عندي، كما فسَّر إيرونيموس* وفم الذهب* وتاوافيلكتوس*. أو المعنى أنَّها لم تمت بالنوع الذي تظنُّونه أي لتبقى ميتة، بل إنَّها ستعود إلى الحياة كما فسَّر يانسانيوس* وفرنسيس لوقا* وغيرهما. بل هي نائمة، منتظرة أن أقيمها، وقيامها من الموت أسهل لديَّ من إيقاظ الناس من الرقاد، وقد دعا الكتاب المقدَّس متواترًا الموتى نيامًا. ثمَّ إنَّ نفس هذه الصبيَّة وباقي من أقامهم المخلِّص والقدّيسون من الموت لم يكن حُكم عليها ولا وقعت في عذاب جهنَّم أو المطهر، بل وقّف الله الحكم عليها لإرادته بأن تقوم. فضحكوا عليه، لأنَّهم لم يعرفوا قدرة الله، وقد سمح المسيح بذلك لزيادة توكيد موت الصبيَّة والتعجُّب من إقامتها.

آ25. فلمّا أخرجَ الجمعَ دخلَ مع والدَي الصبيَّة وبطرس ويعقوب ويوحنّا، كما روى مرقس، فأراد أن يكون هؤلاء الرسل شهودًا لهذه الأعجوبة كما شهدوا لتجلِّيه وآلامه وموته وقيامته، وإخراجه الجمع، لأنَّه لم يكن أهلاً أن يرى ما لم يؤمن به. وأمسكَ بيدِها وقال لها بالسريانيَّة: طليتا قومي، أي قومي يا صبيَّة، كما روى مرقس. فقامتِ الصبيَّة. وقرأت اليونانيَّة: واستيقظت الصبيَّة. فكأنَّه يقول إنَّ المسيح أقامها بسهولة كما لو أيقظها وهي نائمة. وزاد مرقس ولوقا أنَّه أمرهم بأن يناولوها لتأكل (فذلك توكيد لقيامها)، وأنَّ أبويها اندهشا، وأمرهما أن لا يخبرا أحدًا بما صار، فذلك رغبة في الحشمة والاتِّضاع، ولكي يعلِّمنا ألاّ نتفاخر بالأعمال المستوجبة المديح.

آ26. وخرجَ هذا الخبرُ في تلك الأرضِ كلِّها، أي في الجليل كلِّه، وكأنَّه يقول: أشاع الجميع خبر هذه الأعجوبة. وبالمعنى الأدبيّ، النازفة وابنة يائيرس، كناية عن الناس الخاطئة التي يعبر بها المسيح ويقيمها من موت الخطيئة إلى حياة النعمة، ولكن يجب أوَّلاً طرد الأصدقاء والمزمِّرين أي الرفقاء الأردياء والابتعاد عن أسباب الخطيئة.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM