الفصل الرابع:تجارب يسوع.

 

الفصل الرابع

فحواه ذكر صوم المسيح أربعين يومًا وتجريب إبليس له وانتصاره على التجارب. وإنذاره بعد القبض على يوحنّا. ودعوته بعض تلاميذ وشفائه المرضى وطرده الشياطين. وتقاطر الشعوب إليه من كلِّ فجّ.

* * *

آ1. حينئذٍ، أي حين إذٍ رجع السيِّد من عند يوحنّا. أُخرجَ يسوعُ إلى البرِّيَّة، القريبة من هناك لا قسرًا ولا في الهواء كما حمل الملاك حبقوق، بل طوعًا وماشيًا وكان إخراجه من روحِ القدس. كما قرأت النسخة السريانيَّة وقرأت اللاتنيَّة: الروح فقط. والمفهوم به عند المفسِّرين الروح القدس الذي حلَّ على رأسه بشكل حمامة قبل ساعات قليلة. ليجرَّبَ من الثلاَّب. أركون الأبالس جميعهم هو لوسيفوروس* وقد سمح الله بذلك أوَّلاً ليُظهِر ظفرَ المسيح المجيد بالشيطان. ثانيًا ليعلِّمنا بمثال المسيح إفادة الحرب مع إبليس والجسد والعالم. ثالثًا لينهج المسيح السبيل إلى الانتصار على التجارب بواسطة الصلوات والسهر والصوم والتأمُّل بوصايا الكتاب المقدَّس ومواعيد الله والثقة بعناية الله واحتقار وَثَبات الأعداء.

آ2. وصام أربعين يومًا وأربعين ليلة متَّصلة، كما صنع موسى وإيليّا، عائشًا دون أكل أو شرب. ولم يكن ذلك ممكنًا بالقوى الطبيعيَّة كما علَّم الأطبّاء والاختبار. فإنَّ الإنسان لا يمكنه أن يعيش مدَّة طويلة كهذه ولا أقلَّ منها، دون أكل لأنَّه إذا نقص القوت طفيَت الحرارة الطبيعيَّة وخارت القوى ومات الصائم. نعم إنَّ شدَّة إشغال النفس بالتأمُّل وإمعان النظر تعيق الهضم ويمكن الإنسان أن يعيش دون أكل مدَّة ولكن لا أربعين يومًا. فإذًا المسيح وكلُّ من صاموا مدَّات طويلة كهذه، لم يصوموا بقوَّة طبيعيَّة بل بقوَّة فائقة الطبيعة. وقد صام المسيح أوَّلاً ليُعدَّ نفسه بالصوم والصلاة إلى الإنذار ووظيفة التعليم، مع أنَّه ليس محتاجًا إلى هذا الاستعداد، بل ليعلِّمنا أن نصنع كذلك. ثانيًا ليسمح بوقوع سبب لإبليس ليجرِّبه ويسلِّح نفسه ضدَّ التجارب ليعلِّمنا أن نتسلَّح ضدَّها. ثالثًا ليعلِّمنا احتقار شهوات العالم حبًّا بالملذّات الروحيَّة. رابعًا، ليبتدئ الصوم المفروض على النصارى حفظه بالتقليد الرسوليّ ويرسمه بمثاله ويقدِّسه. وأمّا الكلفينيّون فيبذلون جهدهم ليبرهنوا إمّا أنَّ المسيح صام أربعين يومًا وإمّا أنَّ فرض الكنيسة الصوم على المسيحيّين كلَّ سنة أربعين يومًا، هو تحفُّظ باطل، لأنَّ المسيح صام مرَّة واحدة. ويزعمون أنَّ التشبُّه بالمسيح جسارة عظمى، وإدراجُه بالصوم معنا إهانةٌ لا تقدَّر له. فيا لهم من أناس يهتمُّون بشرف المسيح اهتمام يهوذا بإعالة الفقراء لأنَّه كان سارقًا والصندوق عنده. فإن كان صوم الأربعين يومًا تحفُّظًا باطلاً، فليصوموا خمسين يومًا. وإن كان ما عمله المسيح مرَّة لا يجب أن نكرِّره كلَّ سنة، فلماذا يعيِّدون أحد القيامة كلَّ سنة؟ فالمسيح قام مرَّة واحدة. وإن كان الاقتداء بالمسيح جسارة فمار بولس يسمّي نفسه مقتديًا بالمسيح ويقول إنَّه يتمِّم نقص آلام المسيح بجسده، هو أكثر جسارة. ولماذا أمرنا المخلِّص أن نقتدي به ونكون كاملين كما أنَّ أباه السماويّ كامل؟ وهل نصنع له إهانة إذ لا نجعل نفوسنا رفقاء له بل نجعله قائدنا ومتقدِّمنا ونقتفي آثاره بقدر استطاعتنا. وأخيرًا جاع جدًّا، لأنَّ اللاهوت الذي أوقف إلى ذلك الوقت فعل الحرارة الطبيعيَّة قد ترك الطبيعة البشريَّة على ضعفها الطبيعيّ، فجاعت كما يجوع باقي الصوّام، وابتدأت المعدة تعذِّبه. وارتأى فرنسيس لوقا* أنَّه شعر بجوع مدَّة الأربعين يومًا لزيادة استحقاق الصوم، ولكن لم يجُعْ بمقدار جوعه بعد انقضاء الأربعين يومًا إذ اتَّخذ إبليس فرصة ليجرِّبه آخذًا صورة بشريَّة، ولعلَّها هيئة سائح وتقدَّم إليه كما قال.

آ3. فجاءه المجرِّبُ قائلاً له: إنْ كنتَ أنتَ ابنَ الله فقلْ، أي مرَّ بنا أنَّك قادر على كلِّ شيء. أن تصيرَ هذه الحجارة، المطروحة في البرِّيَّة خبزًا، أي تستحيل إلى قوت. واعلم أنَّ الشيطان كان يعرف معرفة مبرقعة أنَّ يسوع هو المسيح، وذلك من نبوءات الأنبياء ومن الآيات الكثيرة التي كان رأى بعضها في ميلاد المسيح وبعضها عند اعتماده. وكان سمع صوت الآب السماويّ وشهادة يوحنّا بأنَّه ابن الله. ولكنَّه كان متردِّدًا: هل هو ابن طبيعيّ لله أو ابن بالذخيرة؟ ولذا جرَّبه بأنواع مختلفة ليتأكَّد أحد الأمرين من صنع الإعجوبة أو من عجزه عن اجتراحها. ثمَّ قد قصد الشيطان أن يطرح المسيح من حال البرِّ إن كان إنسانًا محضًا أو بواسطة الحنجرة كما صنع بالأبوين الأوَّلين: إمّا بعدم الثقة بالعناية الإلهيَّة كما صنع بموسى وهارون، وإمّا بالافتخار الباطل كما صنع بداود، وإمّا بالطمع كما صنع بكثيرين وذلك يَظهر من تجاربه للمخلِّص. ويقرب من التصديق أنَّ الشيطان لم يخاطب المسيح حال ظهوره له بقوله إن كنت ابن الله إلخ، بل حيّاه أوَّلاً بالسلام بأنس وخاطبه بكلام رقيق مثلاً: ماذا تفعل هنا يا سيِّدي وحدك؟ فقد رأيتُك اعتمدتَ من يوحنّا في الأردنِّ وسمعتُ صوتًا يقول نحوك: هذا هو ابني. فأودُّ أن أعرف هل أنت ابن الله حقيقة أو بالذخيرة؛ وأراك جائعًا من الصوم فعُلْ نفسَك بإحالة هذه الحجارة خبزًا، فإن كنت ابن الله فذلك سهل عليك جدًّا. ثمَّ إنَّ المسيح لم يحتمل التجارب الثلاث فقط التي ذكرها متّى، بل احتمل قبلها تجارب أخرى كثيرة كما يظهر من قول لو 4: 2 عن الأربعين يومًا دون تمييز أنَّ المسيح تجرَّب فيها، وكما علَّم صريحًا أوريجانوس* وأغوسطينوس* وأوسابيوس* وينسانيوس* وغيرهم.

آ4. فأجابَه هو، أي يسوع، قائلاً قد كُتبَ: ليس بالخبزِ وحدَه يحيى الإنسان، بل بكلِّ كلمةٍ تَخرجُ من فمِ الله. قد كُتب ذلك في تث 8: 3. وقيل هناك عن المنِّ الذي عال الله به شعب إسرائيل أربعين سنة. والمعنى أنَّ الله يمكنه أن يقيت أخصّاءه بغير الخبز كما صنع مع كثيرين. فالمسيح ردَّ بهذه الآية تجربة الشيطان، ولم يمكّنه من نوال مقصده بأن يعرف هل هو ابن الله حقيقة أو لا.

آ5. حينئذٍ. أي حين إذٍ انتصر المسيح عليه بتجربة الحنجرة. ذهبَ به الثلاّبُ إلى مدينةِ القدس، مجرِّبًا إيّاه تجربة ثانية، وذكر لو 4 أنَّها التجربة الثالثة وذلك لأنَّ لوقا في هذا المحلِّ وغيره لم يحفظ نظامًا مدقَّقًا في التقديم والتأخير بالوضع. وذهابه به إلى أورشليم كان حقيقة وبنوع جسديّ خاطفًا إيّاه بالهواء، كما يُنقَل السحراء إلى أمكنة شاسعة (كذا علَّم القدّيسون إيرونيموس* وغريغوريوس* وتوما* قسم 3 جزء 4)، وكما حمل الملك الصالح حبقوق من اليهوديَّة إلى بابل. هذا وإن ارتأى كبريانوس* أنَّ نقل المسيح هذا لم يكن حقيقةً، بل تخيُّلاً كالمشاهد التي كان حزقيال يراها. وإن ارتأى أوتيميوس* وملدوناتوس* أنَّه ذهب به ماشيًا على رجليه. فالصحيح ما تقدَّم، وهو أنَّه حمله بالهواء، ولا عجب من سماح المسيح له بذلك، إذ سمح لليهود أن يصلبوه أيضًا، كما قال القدّيس غريغوريوس في ميمر 16، وقال صاحب التأليف الناقص وعنه مار توما* إنَّ المسيح حجب نفسه بنوع خفيّ عن الشيطان حتّى لا يراه أحد محمولاً على الشيطان ويظنُّه ساحرًا. فإبليس كان أضمر أنَّ المسيح إذا سمح له أن يحمله فلا يكون ابن الله حقيقة، وبذلك يعرفه. وأمّا المسيح فسمح له أن يحمله ولم ينوِّله مأربه من معرفته. وأقامه فوق جناح الهيكل. يعني على المحلِّ المشرف على رواق الهيكل، من حيث لو طَرح المسيحُ نفسَه لسقط في دار الكهنة المحلِّ الذي تتَّجه إليه أعين جميع الحاضرين في الهيكل،- وشرفات البناء تسمّى في اليونانيَّة والعبرانيَّة أيضًا جناحًا- وقال له.

آ6. إنْ كنتَ أنت ابنَ الله فألقِ نفسَك إلى أسفل لأنَّه قد كُتب. في مز 90: 17: إنَّه يوصي ملائكتَه بك لتَحفظَكَ في سائرِ طرقِكَ وعلى أيديهم يرفعونك لئلاّ تعثُرَ بحجرٍ رجلُك. فكأنَّه يقول له: ألقِ نفسك من أعلى لتبلغ إلى أسفل سالمًا ويراك الكهنة والشعب ويعلموا أنَّك المسيح الذي تنبّأ عليه النبيّ. ويراد بالملائكة من آية الزبور الملائكة الحرّاس لكلِّ إنسان. ويمكن أن يُفهَم بذلك غيرهم من الملائكة. وارتأى فم الذهب* وإيرونيموس* وغيرهما أنَّ الشيطان لم يحسن استشهاد هذه الآية، لأنَّ كلام المرتِّل فيها على الناس لا على المسيح الذي هو إله وإنسان. وكان لاهوته مغنيًا ناسوته عن ملاك حارس. ولكن ارتأى أمبروسيوس* وريميجيوس* وغيرهما أنَّ الشيطان أحسن استشهاد الآية، لأنَّ المسيح، وإن يكن له ملاك حارس خاصّ، فكانت الملائكة معدَّة لخدمته.

آ7. فقال له يسوعُ أنْ قد كُتبَ أيضًا: لا تُجرِّبِ الربَّ إلهَك (تث 6: 16). فيجرِّبُ الله من يطلب أعجوبة غير مضطرٍّ إليها، كالفًا نفسه من أعلى لتوقّيه الملائكة، مع أنَّه يمكن النزول بطريقة أخرى، وبذلك ترك يسوع الشيطان أيضًا غير عالم بكونه ابن الله حقيقة أو لا.

آ8. فأخذَهُ الثلاّبُ أيضًا إلى جبلٍ عالٍ جدًّا، وأراه كلَّ ممالك العالمِ ومجدَها. وزاد لوقا: في دقيقة واحدة. ولم يذكر الإنجيليّ اسم هذا الجبل ولا محلَّه، ولكنَّ الذين كتبوا عن الأرض المقدَّسة يجعلونه بالقرب من برِّيَّة الأربعين حيث صام المسيح وجُرِّب، وروَوا أنَّه يسمّى جبل الشيطان. وكيف أراه الشيطان كلَّ ممالك العالم ومجدها في وقت واحد، ففي ذلك اختلاف أقوال. فذهب أوريجانوس* ورابانوس* أنَّه يفهم بذلك ممالك سرِّيَّة للشيطان، أي من يملك عليهم بالغضب، ومن يملك عليهم بالكبرياء أو بالملذّات، وما أشبه. وذهب كبريانوس* إلى أنَّ ذلك لم يحصل بنوع محسوس، بل بنوع تصوُّريّ فقط، أي أنَّ الشيطان صوَّر ذلك تجاه مخيِّلة المسيح. وذهب غيرهم غير مذاهب أحسنُها ما ارتآه صاحب التأليف الناقص وأوتيموس* وغيرهما مع مار توما*، وهو أنَّ الشيطان أشار أمام المخلِّص إلى ممالك العالم عن بعد قائلاً: هذه آسيا وهناك أفريقيا وهناك أوروبّا إلخ. وحين أنَّ الإنجيليّ يقول: أراه مجدها أيضًا، فزاد تاوافيلكتوس* وينسانيوس* وغيرهما أنَّ الشيطان صوَّر للمسيح في الهواء صور جميع الممالك، وشخّص له كلَّ ما هو شهيٌّ وبهيٌّ فيها. وقال له. آ9: إنَّني أعطيك هذه كلَّها. وزاد لو 4: 6 : لأنَّ مجدها دُفع إليَّ وأنا أعطيه لمن أريد. إن خررت لي ساجدًا. إنَّ الحيَّة الخبيثة أي إبليس كان منتظرًا ليرى هل يجيبه المسيح بغضب قائلاً: ليس لك مُلك الكون، بل هو لي لكوني ابن الله الطبيعيّ، فينال الشيطان مقصده من معرفته. إلاّ أنَّ المخلِّص أبطل حيلته بنوع إنَّه لم يسلِّم لإبليس بشيء، ولم يُظهر له أنَّه الإله كما كان يرغب.

آ10. حينئذٍ قال له يسوعُ: اغرُبْ يا شيطان، أي ابتعد أيُّها المحتال، وقرأت اليونانيَّة: اذهب ورائي يا شيطان، لأنَّه مكتوب (تث 6: 13): للربِّ إلهك وحده تسجد بالسجود والإكرام والعبادة الواجبة لسيِّد جميع الأشياء السامي، وأنت يلزمك الخضوع له لأنَّك خليقته، والخوف منه لأنَّه القاضي والمنتقم. وله وحدَه تعبُدُ بالعبادة والخضوع الواجبين له بمفرده، كما طلب الشيطان قبلاً لنفسه. وهذه العبادة تدعوها الأسفار المقدَّسة والآباء القدّيسون بلفظة يونانيَّة لا ترتإي العبادة السامية والعظمى وتختصّ بالله وحده. ولذا لا تُضادُّ العبادةُ المقدَّمة للقدِّيسين التي تسمّى دوليا وهي عبادة أدنى رتبة. وفي النسخة العبرانيَّة يقال في التثنية: تخاف، عوضًا عن :تسجد. فالعبرانيّون كانوا يعبِّرون بالخوف عن الاحترام والسجود وكلّ عبادة لله. ولفظة "وحده" لا وجود لها بالعبرانيَّة في المحلِّ المذكور من التثنية، لكنَّها محصَّلة من قوَّة الكلام، ولذلك وضعها مترجمو السبعينيَّة والمترجم اللاتينيّ في التثنية.

آ11. فتركَه حينئذٍ الثلاّب مقرًّا بانغلابه، لكنَّه لم يبتعد عنه إلاّ إلى زمان، كما قال مار توما* لأنَّ الحرب تكرَّرت مرارًا خاصَّة في اليوم الأخير من حياته. وجاءتِ الملائكةُ وكانَتْ تَخدمُه. إنَّ المسيح بعد أن انتصر على الشيطان، عاد من الجبل الذي أصعده عليه إلى البرِّيَّة التي كان فيها، لا ماشيًا بل مختطَفًا بقوَّة لاهوته وبصفة الخفَّة، أو محمولاً من الملائكة بواسطة اتِّخاذهم جسدًا بشريًّا كما فعل إبليس نفسه. وأمّا مجيء الملائكة لديه، فكان لتهنئته بظفره وتقديم واجبات الخدمة له.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM