الفصل الثامن والأربعون
الدَين والكفالة (29: 1 - 20)
في معرض الكلام عن علاقة المؤمن مع قريبه، على مستوى التجارة وما يمكن الواحدُ أن يسرق الآخر، وعلى مستوى البغض والخصومات، جاء هذا الكلام عن الدَين والربا. لا كلام هنا عن الربا الذي عُمل به في بابلونية، منذ زمن بعيد، والذي شجبه أرسطو بعنف، بل عن الدين كدين. فالمال يُنتج المال، لهذا يتجنّب المؤمن أن يعطي قريبه فيمارس المحبّة الأخويّة. أين الرحمة في القلب، وأين دور الصدقة التي تسترُ جمٌّا من الخطايا؟ فالإنسان الذي يرفض أن يُعطي قريبه دينًا، يدلّ على أنانيّته. وكذا نقول عمّا يتعلّق بالكفالة. القويّ يكفل الضعيف، والغنيّ الفقير. وإن كان هناك من خطر، هل نتهرّب ونترك البائس على بابنا، كما ترك الغنيّ، في إنجيل لوقا، لعازر على بابه، فبدت الكلاب أرحم من الإنسان؟ فالصدقة في هذا المجال هي أحسن استثمار لمالنا. وإن كان هناك من واجب على الغنيّ الذي يُقرض ماله، فواجبُ الذي ينال الدَين، الصدقُ والأمانة، بحيث لا يسبِّب الأتعاب لمن أعاره مالاً.
ونقرأ النصّ:
1 من أعار قريبه مالاً كان رؤوفًا به،
ومن مدّه بالعون، حفظ الوصايا.
2 أعِرْ قريبك في وقت حاجته،
وأوفِهِ ما له عليك، ولا تتأخّر.
3 كن صادقًا وأمينًا معه،
فتنال في كلّ حين حاجتك.
4 هناك من يحسب الدين لُقيةً،
فيسبّب المتاعب لمن يساعده.
5 قبل أن يحصل يقبّل يدَ الدائن،
ويتحدّث بخنوع عن غنى القريب.
لكن متى حان وقت الردّ يماطل،
ويُعرب عن أساه ويَشكو الدهر.
6 إن أجبره الدائنُ ما نال حتّى النصف،
ويحسب ما ناله لقيةً.
وإلاّ فيخسر ماله،
وبلا سبب يربّي عدوٌّا.
فيلعنه المديونُ ويشتمه،
وبدل الإكرام يكافئه بالإهانة.
7 فكثيرون يرفضون أن يُعيروا المال، لا خبثًا،
بل مخافة أن يخسروه بغير سبب.
8 مع ذلك، اصبرْ على البائسين،
تصدّقْ عليهم ولا تماطل.
9 عملاً بالوصيّة، أعنِ المساكين،
وفي فقرهم لا تردَّهم خائبين.
10 فأحسن أن تنفق مالك على أخٍ أو صديق،
من أن يصدأ تحت الحجر ويتلف.
11 أنفقْ مالك مثلما أوصى العليّ،
فينفعك أكثر من احتفاظك به.
12 الصدقة كنزٌ في خزينتك،
تُنقذُك من كلّ شرّ.
13 تساعدك في مقاتلة العدو،
أكثر من ترس قويّ ورمح البطل.
14 الرجلُ الصالح يكفل قريبه،
والرجل القليل الحياء يخذله.
15 لا تنسَ فضل الذي يكفلك،
لأنّه خاطر بنفسه لأجلك.
16 الخاطئ يهدم مكانة الكفيل،
17 وناكرُ الجميل يخذلُ مُنقذَه.
18 الكفالة حطّمت مكانة الكثيرين،
وهزّتهم كأمواج البحر.
هجّرت العظماء من بيوتهم،
فتاهوا بين الأمم الغريبة.
19 الشرّير الذي يكفل الآخرين،
طمعًا بالربح، يَقع في يدِ القضاء.
20 أعن قريبك قدرَ طاقتك،
لكن احذر السقوط في مثل حاجته.
1 - سياق النصّ
عرف المؤمن في أرض إسرائيل، ثلاث طرق بها يُعين المحتاجَ في ماله. إمّا يقرضه المال ويستردُّه بعد فترة. وإمّا يعطيه المال بشكل صدقة ولا يستردّ على مثال ما قال الإنجيل (لو 6: 34). وإمّا يكون كفيلاً للمحتاج تجاه من يُعيرُه المال.
فإعارةُ المال منعتْ المعطي أن يأخذ أيّة فائدة لماله. وبالأحرى مُنع الربى منعًا قاسيًا. نقرأ في سفر الخروج: »وإن أقرضت مالاً لمسكين من شعبي، فلا تعاملْه كالمرابي، ولا تفرضْ عليه ربًى« (خر 22: 24). وقال سفر اللاويّين في الخطّ عينه، إلاَّ أنّ هذه الفريضة لم يُعمل بها، فوجب تذكير المؤمنين: »وإذا افتقر إسرائيليّ... لا تأخذ منه ربًى ولا ربحًا، بل اتّقِ إلهك فيعيش معك. لا تقرضه مالك بربىً، ولا تُطعمه بربح« (لا 25: 35 - 37). وامتدح حزقيال ذاك الذي »ما أعطى بالربى ولا أخذ ربحًا وكفّ يده عن الإثم« (حز 18: 8). واعتبر أنّ من »يقرض ماله بالربى، لا يحيا، بل يموت« (آ 13؛ رج آ 17). وقال أم 28: 8: »من يجمع ماله بالربى الزائد، فلمن يمنّ على الفقراء جمَعَه«. إمتدح مز 112: 5 من يعير المال ويكون صادقًا، وقال مز 37: 21: »الشرّير يستقرض ولا يفي، أمّا الصدّيق فيتحنّن ويعطي«.
والصدقة (ص د ق هـ، في العبريّة) لفظٌ يعني أيضًا البرارة، والعمل الذي يقوم به الإنسان الصدّيق. في الصدقة، تعطي ولا تسترجع. هو رأس مالٍ ضاع، بالنظر إلى من يريد أن يستثمر ماله. يمتدح الكتابُ الصدقة ويمتدح من يقوم بها. قال سفر التثنية: »لا تصرفوا نظركم عن إخوتكم، بل أعطوهم. ولا تتورّع قلوبُكم إذا أعطيتموهم، وبذلك يبارككم الربّ إلهكم... فالأرض لا تخلو من محتاج، ولذلك آمرُكم اليوم أن تفتحوا أيديكم لإخوتكم المساكين المحتاجين« (تث 15: 9 - 11). وقال أم 19: 17: »من يتحنّن على الفقير، يُحسن إلى الربّ، والربّ على إحسانه يكافئه«. وتوسّع سفر طوبيّا بشكل خاصّ في موضوع الصدقة. فقال الأب لابنه: »تصدَّق من مالك ولا تحسد أحدًا، ولا تحوِّل وجهك عن فقير، فلا يحوّل الربّ وجهه. إن كان لديك الكثير، فتصدّق منه بالكثير. إن كان لديكَ القليل، فلا تخجل أن تتصدّق بالقليل. بهذا تدَّخر لك كنزًا إلى زمن الضيق، لأنّ الصدقة تنجّي من الموت قبل الأوان، ومن الظلمة. وهي عملٌ صالح يُرضي ا؟ العليّ« (طو 4: 7 - 11). وجعل طوبيت الصدقة والإحسان على مستوى الصلاة والصوم. وقال لطوبيا ابنه: »الصدقة خير من تكديس الذهب، لأنّ الصدقة تنجّي من الموت، وتمحو الخطايا، وتطيل حياة فاعليها« (طو 12: 8 - 9).
والكفالة معقّدة. فإن اقترض أحدٌ مالاً، فرض عليه الدائنُ من يكفله لكي يقدر أن يستعيد المال. فإن عجز المديون عن دفع الدين، عاد الدائن إلى الكافل الذي التزم بأن يدفع إن عجز المديون عن الدفع. كان الحكماء في الكتاب المقدّس حذرين من هذا العمل الذي يتضمّن المخاطر للكافل. قال أم 22: 26 - 27:
لا تكن ممّن يعقدون الصفقات (يضربون الكفّ على الكفّ علامة الاتّفاق).
ولا ممّن يكفلون الديون.
فإن كنتَ لا تملك ما تفي،
يُؤخذ فراشُك من تحتك.
وقال سفر الأمثال (6: 1 - 5) في المعنى ذاته:
إن كفلتَ، يا ابني، أحدًا،
وعقدتَ صفقة مع آخر،
وعلقتَ بما نطقت شفتاك،
وأخذتَ بأقوال فمك،
بحيث وقعتَ في يده،
فافعل هذا، يا ابني:
تذلَّلْ وتوسَّل إليه،
قبل أن تُغمض عينيك،
ويَدبّ في جفنك النعاس،
فتنجو كالظبي من الشرك،
وكالعصفور من قبضة الصيّاد.
2 - الإعارة والإيفاء (29: 1 - 7)
ذكّر الحكيمُ الغنيّ بأن يعير الفقير المحتاج مالاً ليتخلّص من صعوبة يتخبّط فيها. ولكنّه يشدّد بالأحرى على واجب الذي أخذ المال، بأن يفي ما عليه، بأنّ يردّه بعاطفة عرفان الجميل كما أعطي له بعاطفة المحبّة.
تبدو آ 1 - 3 فريضة. من أعار المال دلّ على الصلاح والرحمة، ومارس ممارسة أمينة ما تفرضه عليه الشريعة الموسويّة. ولكنّ الذي نال القرض، يُطلبُ منه أن يردّه في الوقت المحدّد. ليكن أمينًا. قال كلمته فلا يتراجع. إلتزم فلا يكذبْ تجاه من أقرضه مالاً. وليكن صادقًا بحيث لا يحتال، ولا يماطل. وإلاّ لن يجد هذا الرجل من يعيرُه مالاً إن هو كان في عوز. لم تقل شريعةُ موسى شيئًا عن واجب المديون. فرسمَ ابن سيراخ بصور »ساخرة«، ولكن واقعيّة، تصرّف المديون: اعتبر نفسه وجد لقيةً. إذن يستطيع أن يتصرّف كما يشاء بما لاقاه من مال. متى احتاج يخضع، وبعد ذلك يلعن من أعاره المال ويشتمه لأنّه يطالب بماله.
ذاك وضعُ عدد من الناس: يجدون المال لدى جارهم، ولكن بعد ذلك يسبّبون المتاعب. إستفادوا ممّا أُعطوا، ولكنّهم نسوا واجب الردّ، فتصرّفوا بالمال في غير محلّه. قال سي 18: 33 اليونانيّ.
لا تستدِنْ، وعلى الولائم لا تُنفقْ من الدين.
فتفتقر ولا يكون في جيبك شيء.
وفي 21: 8 قال الحكيم:
من بنى بيته بأموال غيره،
فهو كمن يجمع حجارة لقبره.
في آ 5، حدّد ابن سيراخ موقفَين لدى المديون الذي لا يعرف الصدق. إن احتاج إلى المال وطلبه، يكون الموقفُ موقفَ الخنوع، يدلّ علىالتواضع، على الاحترام العميق، لا للدائن فقط، بل لماله. ولكن ساعة الإيفاء، تأتي الأعذارُ الذرائع. هو لا يقدر، أو هو لا يريد أن يفي ما عليه من مال.
عندئذٍ يُلحّ الدائن. ولكنّه سيدفع الثمن. في آ 6، يصبح ابن سيراخ قاسيًا جدٌّا. صار عدوَّ من أعاره المال، فاستحقّ السبّ والشتيمة. إعتبر المديون أنّه وجد »لقية« حين استدان المال، والآن يعتبر الدائن أنّه وجد »لقية« إن حصل على نصف المال الذي أعاره. فكأنّه لم يعد ينتظر شيئًا. أعطى فسُلب. أراد أن يتصدّق، أن يكون صديقًا، فإذا هو عدوّ. وبدل الإكرام لدائن خلّص مديونًا في وقت الحاجة، نال اللعنة. لهذا صار الدائنون قلّة، لا عن خبث، بل خوفًا من أن يُسلبون ويربحون العداوة، لا الصداقة (آ 7).
لوحة لافتة تفهمنا الكثير من الواقع. ولكنّ هناك مديونين ولا ذنب من قبلهم. وهذه أمور نراها في أيّامنا. أترى يَحكم عليهم ابن سيراخ؟ بل هو يتطلّع إلى شبّان يعيشون في عائلات مرتاحة: قد يُوجد بينهم من يكون يومًا في حاجة. لهذا، عندما يفون الدَين يدلّون على صدقهم. عليهم أن يكونوا مثالاً طيّبًا بعد أن كثرُ المديونون الكاذبون بحيث قلَّ الدائنون المستعدّون. فإذا أراد المجتمع أن تمارَس شريعة موسى، وجب على المديون أن يدفع في الوقت المحدَّد. وإلاّ، من يتجرّأ بعد ذلك أن يُعير مالاً لأحد. ذاك هو تعليم لأناس »مهذّبين« يعيشون في عالم متجانس. أمّا اليوم، فالوضع هو مختلف جدٌّا.
3 - الصدقة عطاء لا خطر فيه (29: 8 - 13)
وجاء كلام ابن سيراخ على الصدقة في شكل آخر. بل ليست المرّة الأولى يتحدّث فيها عن هذا الموضوع. مثلاً نقرأ في 4: 1 - 6:
1 لا تحرم الفقيرَ يا ابني من عيشه،
ولا تجعل البائسَ طويلاً ينتظر.
2 لا تزد في آلام الجائع،
ولا تُغضب أحدًا في ضيقه.
3 لا تزد الغاضب غضبًا،
وفي إحسانك إلى المحتاج لا تتأخّر.
4 لا تخيّب مطلب البائسين،
وعن الفقراء لا تَمِلْ بوجهك.
5 لا تحوّل نظرك عن المحتاج،
ولا تعطه سببًا لأن يلعنك.
6 فلعنتُه يستجيب لها خالقُه،
إذا كانت بمرارة نفس.
من طلب قرضًا يكون في صعوبة موقّتة. ولكن وضع الفقير مستمرّ، جذريّ. فعلى تلاميذ ابن سيراخ الذين يملكون الخير، أن يدلّوا على سخاء، على صدق كما في العبريّة (ص د ق هـ). في آ 8 - 10، نجد ثلاثة نداءات ملحّة. يأتي الشطرُ الأوّل بشكل إيجابيّ. ماذا تفعل؟ دُلّ على قلبك الكبير. قدّمْ مساعدة. أعطِ مالك ولا تخف أن تخسره. فالرابح هو الفقير. ولكن هذا الفقير هو أخ وصديق. أمّا الشطر الثاني فيأتي بشكل سلبيّ. فالقضيّة لا تنتظر، والفقير يموت جوعًا: لا تماطل، لا تردّ أحدًا خائبًا، لا يصدأ مالك تحت حجر. لماذا يفعل المؤمن ما يفعل؟ طاعة لوصيّة الربّ: »آمركم أن تفتحوا أيديكم لإخوتكم« (تث 15: 11). وهو يقوم بهذا الإحسان على قدر ضيق الفقير.
يستطيع الإنسان أن يقرض، ولكنّ هناك خطرًا بأن لا يعود إليه ماله. ويستطيع أيضًا أن يجمع كنزه ويخفيه، فلا يستفيد منه أحد. ويستطيع أن يوزّعه على الفقراء دون أيّ أمل بأن يستعيده. الصدقة لا تنتظر مالاً تجاه مالٍ أعطيناه. بل تنتظر شيئًا آخر. هذا ما يقوله ابن سيراخ في آ 11 - 13: عطاء المال، والعطاء وصيّة من العليّ، يجعله أكثر فائدة من الذهب، حتّى بالنسبة إلى المحسن الذي يتخلّص منه. في آ 12، دعا ابن سيراخ تلميذه لأن »يخزِّن« ما سيعطيه للفقراء. يضعه في مكان حريز بحيث لا يصرفه، ويكون حصّة الفقير. ولكنّ اللاتيني قرأ: »خبِّئ صدقتك في قلب الفقير«. عندئذٍ يكون لك الصديقَ الحقيقيّ. وما يبرهن عن ذلك هو الخبرة إن طرأ عليك طارئ.
إلى هنا أراد الحكيم أن يصل (آ 13). بالمال يستطيع الغنيّ أن يدافع عن نفسه، أن يردّ على هجوم شخصيّ يكون هو ضحيتَه. مالهم يكون الترس والرمح. ولكنّ الفقير الذي أحسنوا إليه يكون مدافعًا أفعل ويهرع إلى مساعدتهم. وهكذا، لا تحفّظ في الصدقة. فلا خطر حين نعطي الفقير، بل هناك أكثر من خير لم يكن الدائن يحسب له حسابًا.
4 - والكفالة (آ 14 - 20)
الكلام عن الكفالة يعود بنا إلى القرض، ونضيف عليه الضمانة. من يكفل يكون ضامنًا، فيحسّ الدائن أنّه يستطيع أن يستعيد ماله. تحدّث ابن سيراخ عن العلاقة بين القرض والكفالة، فقال في 8: 12 - 13:
12 لا تُقرض من هو أقوى منك.
وإن أقرضتَه شيئًا فكأنّك أضعته.
13 لا تكفل أحدًا فوق قدرتك،
وإلاّ فكن مستعدٌّا أن تفي.
أمّا في آ 14 - 20، فتطلّع ابن سيراخ إلى وضع مختلف. فكّر أوّلاً بطالب قرضٍ (آ 14 - 17) يحصل على كفالة. والكافل هو إنسان خيِّر يحبّ الخدمة، فيخاطر ليخلّص طالب القرض من صعوبة كبيرة. ولكنّ القرض الذي حصل عليه الإنسان بفضل هذا الكافل، قد لا يُردّ في الوقت المحدّد، فعلى الكافل أن يدفع من جيبه. بدا هذا المقترض كاذبًا، ناكرَ الجميل، فيذكِّره المعلّم: »لا تنسَ فضل الذي كفلك« (آ 15أ). أي: لا تحسبْ نفسك معفيٌّا من ردّ المال في وَقته. فإن لم تفعل، تحمل الخراب لمن أحسن إليك. فالخبرة تعلّم أنّ أناسًا مرتاحين خسروا كلّ شيء، فهجروا بيوتهم، بل بلدهم، لأنّهم أرادوا أن يضحّوا من أجل قريب أو صديق.
مقابل هذا، هناك أناس لا ضمير لهم يكفلون القريب فيجعلون طالب القرض يدفع مالاً فوق المال. فكأنّهم يمارسون الدين بالربا. أو يأخذون رهنًا. هذا الكافل الكاذب الذي يبتغي الربح، قد يجد نفسه أمام المحكمة، لأنّ الشريعة تمنع مثل هذه الممارسة: »إن كان المقترض رجلاً مسكينًا، فلا تَنَمِ الليل والرهن عندك. بل عند مغيب الشمس تعيده إليه حتّى ينام في ثوبه ويباركك، فيُحسب لك هذا صدقة لدى إلهك« (تث 24: 12 - 13). واستخلص ابن سيراخ: إذن، أعن قريبك (آ 20) كما يقول اليونانيّ. أو: كن كافلاً له، كما يقول السريانيّ. »حسب إمكانيّاتك، بقدر طاقتك. ولكن احذر من السقوط. فإن كفلت أكثر من قدرتك، تسقط في العوز. وإن مارست الكفالة طمعًا بالمال، تسقط في الخطيئة وتستحقّ عقاب الله بعد عقاب البشر. إذن، يكون المقترض صادقًا تجاه كافله، وكافلُه يكون فطنًا دون أن يحاول المتاجرة بمن وقع في صعوبة.
الخاتمة
تفوّق ابن سيراخ على الذين سبقوه، فانفتح على ممارسات ماليّة صارت عاديّة في أيّامه. ولكنّه كان فطنًا، فوعى المخاطر التي تتضمّنها مثلُ هذه الممارسات. هو الدين والكفالة. أمّا في ما يخصّ الصدقة، فلا تحفّظ عنده. فالذي يستقرض يبحث عن كافل: فعليه واجبُ الصدق والأمانة لكلمة وعد بها. ولكن لا نصيحة له يعطيها لفقير ينال صدقة. وفي نظر هذا الحكيم، أفضل لك أن تعطي من أن تكون كافلاً.
كان ابن سيراخ في كلامه، ممثّلاً للطبقة البورجوازيّة بنظرتها الفرديّة إلى الأمور. أنا أتدبّر أمري بأفضل ما يكون، ولا أخاطر بمالي. على هذا المستوى يحفظ تعليمُه قيمتَه. ولكنّه لم يعالج وضع المديون الذي لا يستطيع أن يردّ بسبب الفقر، وبدون ذنبٍ منه. وهو ما فكَّر أيضًا بالبُعد الاجتماعيّ لهذا الواقع. أمّا نحميا، فقد وجد نفسه، في القرن الخامس، أمام مثل هذا الواقع، فدعا الوجهاء إلى إلغاء ديون تُثقل كاهل الشعب (نح 5: 1 - 13).
غير أنّ ابن سيراخ تطلّع إلى الفقير كشخصٍ فرد، كي يتكلّم عن العطاء، لا عن القرض ولا عن الكفالة. أما نكون أمام عدالة يجب أن تمارَس فتصل إلى الرحمة والمقاسمة، لا على مستوى الأفراد فقط، بل على مستوى المجتمعات والدول؟ إلى هنا يمكن أن يصل تعليم الإنجيل حيث العطاء يتفوّق على الأخذ، على مثال ما فعله الله حين أعطانا ابنه، وما ترك لنفسه شيئًا. لهذا قال يسوع: »أحسنوا وأقرضوا غير راجين شيئًا، فيكون أجركم عظيمًا، وتكونوا أبناء الله العليّ« (لو 6: 35). هكذا تدلّون على رحمة عندكم تنبع من رحمة الله أبيكم.