الفصل السادس والأربعون: امتحان الإنسان كلامهُ.

الفصل السادس والأربعون

امتحان الإنسان كلامهُ (26: 8 - 27: 7)

ماذا يُحزن قلبَ الحكيم؟ حين تتحوّل حالةُ الإنسان سواء في نظر الذين ينظرون إليه، أو حين يبدّل هو حياته، فينتقل من الحياة إلى الموت، ومن السعادة إلى الشقاء. وأكثر ما يُحزنه عملُ التاجر. فأخطار التجارة عديدة. أوّلاً، تُبعد الإنسان على الأرض وتتركه بدون سند. الفلاّح يشبع، أمّا التاجر فقد يقع في البطالة فيشبع فقرًا (أم 28: 19). لا شكّ في أنّ التاجر يربح أموالاً شرعيّة، إن هو كان دقيقًا في الميزان والمعيار (42: 24). ولكن إن هو »صغّر القفّة، وكبَّر المثقال، واستعان بموازين الغشّ، وباع نفاية الحنطة« (عا 8: 5 - 6)، تحوّل العيد عنده إلى نواح والأغاني إلى مراثٍ وبكاء. وقد قالت فصول الآباء (2: 4) في ذلك فجاء كلامُها قاسيًا: »من تاجر كثيرًا لا يقدر أن يكون حكيمًا«. وقال تلمود بابل (عروبيم 55ب): »لا تُوجَد التوراة عند التجّار ولا عند البائسين«.

في هذا الإطار نقرأ ابن سيراخ:

26: 28 أمران يُحزنان قلبي،

والثالثُ يُثير غضبي:

محاربٌ يفتقر فيحتاج،

وعاقلٌ يُرذَل فيُهان،

رجلٌ يترك الفضيلة إلى الرذيلة،

فيعّدُه الربّ للسيف.

29 قلّما يتجنّب التاجرُ الغشّ،

ويخلو البائعُ من الخطيئة.

27: 1 كثيرون خطئوا لأجل الربح،

ومن يطلب الغنى يتعامى عن الحقّ.

2 كما ينغرزُ الوتدُ بين حجرين،

كذلك تدخلُ الخطيئة بين البيعِ والشراء.

3 من لا يتمسَّك بمخافة الربّ،

سريعًا يحلّ ببيته الخراب.

4 في الغربلة تبقى النفاية،

وفي الحديث تنكشف النواقص.

5 آنية الخزّاف يمتحنها الأتّون،

والإنسان يكشفه حديثه.

6 الشجرةُ تُعْرَف من ثمارها.

وخواطر الإنسان من كلامه،

7 لا تمدَحْ أحدًا قبل أن يتكلّم،

فبهذا ينكشف الإنسان.

1 - سياق النصّ

في ف 26 - 28، نقرأ مثلاً يُميِّز كرازة لاهوتيّة وخلقيّة في العالم اليهوديّ، في بداية القرن الثاني ق.م. فنجد، في شكل يخلو من بعض الترتيب، سلسلة فرائض وإرشادات تتوجّه إلى الشابّ العبرانيّ، بعد المنفى (538 ق.م.). لسنا هنا أمام نظرة شاملة، منطقيّة، بل أمام سمات عديدة تستبق خلقيّة العهد الجديد. والطابع العامّ لهذه الأقوال، يجعلها ذات قيمة بالنسبة إلى المسيحيّ اليوم.

فإذا أردنا أن نُدرك التعليم الذي تتضمّنه هذه الآيات، يجب أن نتذكّر بإيجاز، مسيرةَ هذه الكرازة الغريبة. فبعد أن تحدّث ابن سيراخ عن الخلقيّة العائليّة (25: 1 - 26: 18) في هذا القسم من كتابه، تطلَّع إلى الحياة الخلقيّة في المجتمع. وتجذّر تأمّلُه المطبوع بالحزن والمرارة، في خبرته الشخصيّة، وتغذّى من قراءة الشريعة والتقاليد الكبرى عند الأنبياء. نظر على التوالي، إلى الخطايا التي تعارض العدالة الواجبة تجاه القريب، ومحبّته، ولا سيّما في ممارسة التجارة، وإلى إذاعة الأسرار والكلام الخبيث، وإلى الحقد والخلافات والتشهير بالناس. ثمّ راح كلامُه لاذعًا على ممارسة الدَين بالربا، وعلى الكفالة، وتضامنٍ قد يقود إلى الخراب، وعلى حياة مترفّهة، متنعّمة، تطلبُ الراحة المادّيّة، ولا تتطلّعْ أبدًا إلى نظام سامٍ.

أمّا الآيات التي توقّف عندها، فهي تنتمي إلى مجموعة اعتبارات مُرّة حول نشاط العبرانيّين الاجتماعيّ في أيّام الكاتب. وتوقّف بشكل خاصّ عند واحد من هذه النشاطات، التجارة. وعى ابن سيراخ هذا التحوّل الجذريّ الذي تمّ، بعد المنفى، في شعب انتقل من الزراعة إلى التجارة، بتأثير من خبرة عاشها الشعب في بابلونية. ولكنّ هذا الكاتب يحذر، في قرارة نفسه، من مثل هذا النشاط الذي يرافقه الكذبُ والغشّ، ويُعلن عن فكره ولا يُخفيه. قبل ذلك، كان قد ندَّد بأشياء يراها فتحزنه. ثمّ أتبع »هجاءه« ببعض الأقوال حول قيمة الكلمة، التي تلعب دورًا كبيرًا في نشاط التجّار، سواء في البيع أو في الشراء.

2 - أمران يُحزنان (26: 28)

ندَّد ابن سيراخ، في ثلاث آيات دوّنها بحسب النهج الأدبيّ المعروف بالمثل العدديّ والمأخوذ من الأدب النبويّ والحكميّ. ندّد بشرور عصره، التي تجعله يرتاب بعمل الله في الكون. إنّ تجاهل الفضيلة التي تستحقّ الاكرام، لدى رؤساء الشعب والمجتمع، أمرٌ يتألّم منه البشر. وهذا ما يؤول إلى نظرة خاطئة إلى الحياة وإلى القيم الإنسانيّة. وأورد ابن سيراخ ثلاثًا من هذه الحالات: الأولى، محارب يشيخ ويعيش في الفاقة. قد يفكّر الكاتب بشمشون في نهاية حياته، كما في قض 16: 21، 25: »جعلوه يطحن في السجن«. أو بالبطالسة الذين نسوا الرجال الذين حاربوا معهم، وتفرّغوا للأعمال الإداريّة وجمع الضرائب. الثانية، حكيم خدم بلده، وفي النهاية ظُلم وأهين ونُسيَ فضلُه. اللفظ اليونانيّ (سكوبالستوسين) يدلّ على رذل إنسان باحتقار كبير (سكيبالون: النفاية، الفُتات الذي يُترك على الأرض). قد يفكّر الكاتب بأيّوب الذي دُوِّن خبره منذ وقت قليل (أي 29: 31) أو بأحيقار، أو بأحد الأبطال في عصره، لا نعرف اسمه. هنا نقرأ سفر الجامعة:

ورأيتُ أيضًا تحت الشمس،

أنّ السبق لا يكون للسبّاقين،

ولا النصر في القتال للأقوياء،

ولا الخبز للحكماء،

ولا الغنى للفهماء،

ولا الحظوة للعلماء،

فهم جميعًا تحت رحمة الزمان والقدر...

وكان رجلٌ مسكين حكيم،

أنقذ المدينة بحكمته،

فما تذكّر أحدٌ هذا المسكين (جا 9: 11، 5).

والحالة الثالثة التي تقزِّز قلب الكاتب، إنسان ينتقل من البرّ إلى الخطيئة. قد يلمِّح الكاتبُ إلى القاضي الظالم في سفر دانيال (13: 12). في هذا المجال نقرأ ما في سفر الجامعة:

ورأيت أيضًا تحت الشمس،

أنّ في موضع الحقّ والعدل شرٌّا

فقلتُ في قلبي:

الله يدين الصدِّيق والشرّير معًا

فهنا زمن لكلّ شيء ولكلّ عمل (جا 3: 16).

هذا الذي يتحوّل من الخير إلى الشرّ، كما قال حزقيال النبيّ، يستحقّ دينونة ا؟: »يا ليت الربَّ يتركه يهلك بالسيف«!

3 - خطر التجارة (26: 29 - 27: 3)

سارت كرازةُ ابن سيراخ في خطّ التقليد النبويّ، فتحدّثت عن التجاوزات ضدّ العدالة ومحبّة القريب. إنطلق من نشاط التجارة الذي لا يهدأ، وتوقّف عند التاجر العبرانيّ الذي يعرفه. فالتجارةُ مناسبة دائمة للخطيئة ضدّ العدالة والجور على القريب. هذا يصحُّ لدى التاجر القريب (إمبوروس)، كما لدى صاحب محلّ صغير، ولدى بائع بسيط (كابيلوس، رج إش 1: 22: »فضّتك صارت زغلاً، وخمرُك مغشوشة بماء«). كلّهم يطالبون بأكثر من قيمة الغرض، ويغشّون الشاري. ميَّز النصّ هنا بين »بليمالايا« الذي يدلّ على خطأ تمّ سهوًا. و »هامرتيا« الذي هو خطأ اقترفه الإنسان وهو عارف أنّه شرّ.

من السهل أن نفهم هذا الرأي المرّ لدى ابن سيراخ. فالعبرانيّ، في أيّامه، يتاجر مع الأمم في بابل والإسكندريّة وأنطاكية وأفسس ورومة. وتزايدت تجربةُ الخطيئة، لأنّ التعامل يتمّ مع غير اليهود بحيث تكون المعاملات معارضة للإيمان بالربّ ولشريعته. في هذا الأسلوب قابل أنبياء مثل أشعيا (23: 16 - 17)، أو ناحوم (3: 4)، أو حزقيال 27: 1ي، المدنَ التجاريّة الكبرى في عصرهم، مثل صيدون وصور ونينوى وشوش، قابلوها بزانية تبيع نفسها وجسدها للعابرين من أين أتوا. وفي القرن الأوّل ق.م.، منع الأسيانيّون تلاميذهم من التعاطي بالتجارة، لئلاّ يتنجّس إيمانُهم وتتدنّس ديانتُهم (يع 4: 13 - 14؛ رؤ 18: 11 - 12). وهكذا رأى ابن سيراخ في الفضّة، وفي عبادة الامتلاك، وفي رغبة الربح المتزايد، عصبَ التجارة وأصل الخطيئة. وفي الواقع، حبُّ الذهب هو ما يمنع الناس عادة من أن يفتحوا عيونَهم على متطلّبات العدالة والمحبّة.

4 - الكلام يكشف القلب (27: 4 - 7)

نحن نشرح هذه الآيات في النشاط التجاريّ الذي أشرنا إليه في المقطع السابق. كيف نقيِّم تقييمًا صحيحًا خلقيّة تاجر من التجّار؟ بوجهه الصادق أم بكلماته المقنعة؟ لا شكّ في الجواب: تمرّ كلماتُه في الغربال فتكشف حقيقتَه.

تستعيد آ 4 - 7 تعليمًا اهتمَّ به ابن سيراخ اهتمامًا كبيرًا. فهو يعرف كلّ المعرفة خطايا اللسان: الخصومات (28: 8 - 12). قسَمٌ نتلفّظ به متسرِّعين (23: 7 - 15). كذب ونميمة (9: 4 - 12). الغشّ والدجل (28: 13 - 16). وإذ أراد الكاتب أن يُعبِّر عن فكرة لجأ إلى ثلاث مقابلات تستحقّ أن نتوقّف على كلّ صورة بما فيها من انجذاب.

l الغربال (آ 4)

أداة (كوسكينون) تساعد على فصل الحبّ عن التبّن وعن سائر النفايات (كوبريا). إستعادت الصورة فكرةً عرفها الأدبُ الخلقيّ والحكميّ في كلّ زمان، فالتقتْ بخبرة عرفها البشر. فإن أراد الإنسان (هنا التاجر) أن يتفحَّص نفسه بهدوء، بدت كذباتُه مثل قشّ لا ينزل مع الحبّ، بل يبقى في الغربال.

l الأتّون (آ 5)

هذه الآية (والتي تليها) تُقابَل مع نصّ عبريّ لابن سيراخ: »الأتّون (ك ب ش ن، كامينوس) يُخضع الإناء الفخّاريّ (ي ص ر. كارامايوس) لمحنة النار (ب ع ر. دوكيمازاي). هكذا الإنسانُ في جدالاته. تُبرز الصورةُ فكرةً أخرى من الأدب الحكميّ: يُمتَحن الإنسان إن هو خضع بعض الشيء لسلسلة من الأسئلة، فتفعل فيه فعل النار في المعدن. وأجوبتُه تكشف نواياه الصالحة أو الرديئة، وتقيِّمهُ التقييم الدقيق.

l الشجرة وثمارها (آ 6)

يُحكم على الشجرة من ثمارها. وكذلك »كلمة الإنسان تعرّفنا إلى عواطفه«. إختلف النصّ العبريّ بعض الشيء فقال: »مثل عمل الشجرة (ع ل. ع ب و د ت. ع ص) هكذا تكون الثمرة: وكذلك يكون الكلام »مثل طبع (ي ص ر) الإنسان«. سوف يستعمل يسوعُ هذه الصورة في إطار شبيه بعض الشيء في مت 12:33 - 37 (الشجرة الجيّدة ثمر جيّد. الشجرة الرديئة ثمر رديء) وفي إطار مختلف قليلاً في مت 7:16 - 29 ولو 6:39 - 45. أراد الكاتب هنا أن يُفهمنا أنّ الكلمة تكشف طبيعة الإنسان الحميمة. فإن تكلّم وأجاب على أسئلة طُرحتْ عليه، ما استطاع طويلاً أن يُخفي سرّ فكره وحياته.

وعرضت آ 7، بشكل عامّ، أهمّ وسيلة لكي نعرف إن كان الإنسان أهلاً للمديح أم لا، إن كان يساوي شيئًا أم لا: يكفي أن نتركه يتكلّم ويطيل الكلام. قالت الحكمة اليونانيّة: لا نستطيع أن نمتدح إنسانًا ولا أن نعتبره سعيدًا، قبل أن يعبر بابَ الموت الذي لا يمكن أن يُفتح بعد (سوفوكليس، أوديب الملك، 1528 - 1530). أمّا ابن سيراخ فرأى أنّ في متناول يدنا وسيلة حاسمة تساعدُنا على فهم الآخر. فالإنسان لا يقدر أن يُخفي فكرَه إلى ما لا نهاية. فهو لا يمتلك بما يكفي من القوّة ليقاوم قوّة الكلمة التي تفرض عليه أن يكشف القناع.

الخاتمة

هذا الموضوع الذي طرحه ابن سيراخ بشكل سريع حول أخطار الغنى، يجد امتدادًا له في العهد الجديد (لو 6: 39 - 45 الذي يرتبط بما في مت 7: 15، الأنبياء الكذبة، و 12:33، الشجرة الجيّدة). فالكلام الذي يخرج من فم تلاميذ يسوع، لا يكشف فقط كيانهم الخلقيّ، بل طريقة جديدة في الوجود والحياة، تدلّ على المسيحيّ وتميِّزه عن الفريسيّ. فعند الفريسيّ نوع من انفصام وطلاق بين ما يقولون وما يفعلون.

فالمسيحيّ يبيّن، بكلامه، أنّه ينتمي إلى جنس جديد من الأشجار (27: 6) تعطي ثمارًا يُخرجُها منهم المسيحُ القائم من الموت، الذي اتّحدوا به في الإيمان (1 كور 15: 54 - 58). هم ينتمون إلى بشر تكون عندهم الكلمة والحياة، الكلام والعمل، شيئًا واحدًا.

حين أنشد سوفوكليس الإنسان، أُعجب بسلطة هذا الإنسان على كلامه وفكره وثقافته. واعتبر أنّ الإنسان يحصل على كلّ هذا بقواه الخاصّة، ويقدر أن يستعمله، كما يشاء، للخير كما للشرّ (أنطيغون، 332 - 375). أمّا المسيحيّ فيعرف من أين أتى كلامه. أو بالأحرى من هو الكلمة الكلمة (يسوع المسيح) وكيف يتّحد به فيجعل كيانه يوافق كيان يسوع، وحياته حياة يسوع. وقال القدّيس يعقوب كلّ هذا في قرائن عماديّة رائعة: »فانبذوا كلَّ دنس وكلّ بقيّة من شرّ. وتقبَّلوا بوداعة ما يَغرسُ الله فيكم من الكلام القادر أن يخلِّص نفوسكم« (1: 21). فالكلمة، في المعنى المطلق، هي يسوع المسيح.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM