الفصل الرابع والأربعون: الإنسانُ ومصيره.

 

الفصل الرابع والأربعون

الإنسانُ ومصيره (15: 14 - 20)

 

يُقدِّم هذا المقطع محطّة لاهوتيّة هامّة في حكمة ابن سيراخ حول الحرّيّة البشريّة. تجاه مختلف وصايا الله، يستطيع الإنسانُ أن يختار الأمانة أو الرفض، الحياة أو الموت. حكمةُ ا؟ أعطت الإنسان هذه الحرّيّة. ويجب أن لا تؤول إلاّ إلى خيار الأمانة. فهنا نجد الإنسانَ كلّه كما قال سفر الجامعة (12: 13). وإذا كانت الأمانة هي ما يحرّكنا، كانت لنا الحياة. وإن كان قد قيل، في عالم الفلسفة، أنّ الإنسان حُكم عليه أن يكون حرٌّا، يقول ابن سيراخ: حُكم على الإنسان أن يسير في طريق القداسة.

ونقرأ النصّ:

14 الربّ خلق الإنسان في البدء،

وتركه حرٌّا في اختياره.

15 إن شئتَ حفظتَ وصاياه،

واخترتَ بها العمل بأمانة.

16 وضعَ النارَ أمامك والماء،

فإلى ما تختار تمدّ يدَك.

17 أمام الإنسان الحياةُ والموت،

وأيّهما يختار يُعطى له.

18 فحكمةُ الربّ عظيمة،

وهو قديرٌ ويرى كلَّ شيء.

19 عيناهُ تراقبان الذين يخافونه،

ويَعلَم كلَّ أعمال الإنسان.

20 لم يأمر أحدًا بفعلِ الشرّ،

ولا أذِنَ لأحد أن يخطأ.

1 - سياق النصّ

في سياق المسؤوليّة الفرديّة والمجازاة الإلهيّة، بدا 14: 20 - 16: 20، بشكل خاتمة تامّة للقسم الأوّل في حكمة ابن سيراخ. فتوخّى أن يحثّ التلميذ على حفظ الوصايا التي سبق وتحدّث عنها: انتبه، كن على حذر، لا تقرَبْ... فالحكمة ينبوع السعادة. ووحده الإنسان الذي يمتلك الحرّيّة يستطيع أن يفعل الخير ويتَجنّب الشرّ. وا؟ هو الذي يعاقب الخاطئ: »في مجمع الخاطئين تشتعل نارُ الله، وفي الأمّة العاصية يشتعلُ غضبُه« (16: 6). هذا ما حدث لبني إسرائيل في أيّام موسى، وما يمكن أن يحدث لكلّ جماعة في أيّامنا.

يطلب الإنسان حقٌّا سعادة ثابتة وحقيقيّة. يطلبها في الغنى فلا يجدها هناك، فهو لا يجدها إلاّ في ممارسة الحكمة. لهذا جاءت النصيحة:

هنيئًا لمن يهتمّ بالحكمة،

وبعقلِهِ يفكّر فيها.

هنيئًا لمن يراعي طرقها،

ويكشفُ أسرارها،

يسعى وراءها كالصيّاد،

وبانتظارها يكمن في الطريق (13: 20 - 22).

إن طلبنا الحكمة بثبات، غمرتْنا بجميع خيراتها، بالكرامةِ والفرح، شرط أن تكون مخافة ا؟ في قلوبنا فنحفظ وصاياه. فالحكمة ترفضُ أن تقيم مع الخطأة.

لكنّ الجهّال لا يدركونها،

والخاطئون لا يرون لها وجهًا.

فالحكمة بعيدة عن الكبرياء،

والكذابون لا يذكرونها (15: 7 - 8).

وهكذا نصل إلى الحرّيّة التي يتمتّع بها الإنسان. والمسؤوليّة التي تنبعُ من هذه الحرّيّة. إذا كان الخطأة لا ينالون الحكمة التي لا تتوافقُ مع تجاوز الشريعة، فهم وحدهم المسؤولون. فكلّ إنسان يقدر أن يفعل الخير ويتجنّب الشرّ. لهذا، لا يحقّ له أن يتهرّب من هذه المسؤوليّة، فيتشبّه بآدم ويلقي بالخطيئة على الله. ماذا فعلتَ يا آدم؟ المرأة أغوتني. وهذه المرأة أنت أعطيتني إيّاها. ماذا فعلتِ يا حوّاء؟ الحيّة أغوتني، وهذه الحيّة أنت خلقتها. الإنسان قال هنا مثل هذا القول، فردّ ابن سيراخ:

لا تقل من الربّ خطيئتي،

فالربّ لا يعملُ ما يُبغضه.

ولا تقُلْ هو الذي أضلّني،

لأنّ الربّ لا يُعوزُه الخاطئ.

الربُّ يبغض كلّ رذيلة،

والذين يخافونه لا يحبّونها (15: 11 - 13).

2 - حرّيّة الاختيار (آ 14)

في معرض الكلام عن رجل يزوّج ابنته أو لا يزوّجها، قدّم بولسُ الرسول وصفًا للحرّيّة لدى الإنسان: »من اقتنع في قلبه كلَّ الاقتناع، وكان غيرَ مضطرّ، حرٌّا في اختياره، وعزم في قلبه...« (1 كور 7: 37).

حرّيّةُ القرار هذه التي تتطلّبُ رؤية واضحة للمتطلّبات أو الخيارات التي يقدّمها الحكيمُ للمؤمن، تقولُ إنّ الإنسان يمتلكها، وهو الذي يوجِّه مصيرَه الخاصّ. ولكنّ أصل هذه الحرّيّة البشريّة يعودُ إلى الله. فالله هو من أعطاه إيّاها يوم أعطاه الحياة، وهذا منذ أن وُجدت الأرض، »في البدء«. يستطيع الإنسان أن يستشير نفسه، يسأل وجدانه، يفكِّر، يعمل.

»إن شئتَ«. »في مقدورك« أن تكون أمينًا. ثمّ »حسب رغبتك«. طوعًا لا إكراهًا. هي كلّها تعابير عن الحرّيّة. فحرّيّة الإنسان وإمكانيّة الاختيار عنده، نجدها عند عدد من الكتّاب اليهود في زمن ابن سيراخ. مثلاً نقرأ في »مزامير سليمان« (9:4) كلامًا شبيهًا بكلام ابن سيراخ:

أعمالُنا تدلّ على حرّيّة توجِّه أنفسنا،

فنجعل أيدينا في خدمة البرّ أو الإثم.

فالحرّيّة الحقيقيّة هي في الوقت نفسه سلطة اتّخاذ القرار وإمكانيّة تنفيذه. وما قاله ابن سيراخ »إن شئتَ حفظتَ الوصايا« هو صدًى لما قاله سفر التثنية (30: 11، 14):

هذه الوصيّة التي أنا آمُرك بها اليوم،

لا تصعبُ عليك،

ولا هي بعيدة عنك...

فالكلمة قريبة منك جدٌّا،

هي في فمك وفي قلبك،

لكي تعمل بها.

3 - الوصايا (آ 15)

فما هي »هذه الشريعة التي آمرك بها«الله وما هي »هذه الوصايا التي تحفظها«؟ نجد الجواب في الإنجيل. يقدّم لنا يسوع في مت 5:17 - 37 بعض الأمثلة حول القتل والزنى والطلاق والحلف والانتقام، ويذكّرنا خاصّة بمحبّة القريب. ويقول لنا إنّه ما جاء ينقض هذه الشريعة، بل يوصلها إلى كمالها. فالفرائض التي تسلّمها الناسُ من الآباء، تبقى ناقصة إن لم يطبعها يسوعُ بطابعه، بحيث لا نكتفي بأن لا نقتل، بل لا نسيء إلى القريب بكلمة جارحة، ولا نبغضه. ففي مثل هذه الحالات نكون قاتلين.

لا شكّ في أنّ هناك فرائض بسيطة في الشريعة الموسويّة مثل دفع العُشر على البقول (مت 22: 23). ولكنّ هناك الفرائض الخطيرة مثل العدالة والرحمة والاستقامة: هذه يجب أن نمارسها دون أن نهمل تلك. هي الأمانة في الأمور الصغيرة (مت 5: 19؛ لو 16: 10؛ 19: 27: الأمين في القليل). وخصوصًا في احترام أعظم الوصايا (مت 22:36 - 40). هناك الطريق السامية التي تتجاوز كلَّ طريق (1 كور 12: 31). هناك الطريق الملكيّة (يع 2: 8).

»إن شئتَ«. هذا ما يقودُنا أيضًا إلى » المشورات الإنجيليّة«. هذه المشورات هي في الواقع »نداءات« لكمال كبير، ومتطلّبات خدمة أكبر، بل يجب أن نقول: هي شكل خاصّ من الكمال والخدمة. تتجاوب معها النفسُ، ولا يفهمها إلاّ الذين أعطيَ لهم أن يفهموا (مت 19: 11). وحين دعا يسوع الشابّ الغنيّ، مشى في مرحلتين. في الأولى، قال له: »إن شئتَ أن تدخلَ الحياة، فاحفظ الوصايا«. هذه الخطوة قد قام بها الشابّ. فيبقى عليه أن يواصل السير في طريق تبعها دومًا. ولهذا أضاف يسوع في مرحلة ثانية: »إن شئتَ أن تكون كاملاً، امضِ، بعْ، أعطِ، اتبعْني«. وحين أحسَّ هذا الشابّ أنّه حرّ حقٌّا، رفض أن يلتزم ويكمّل ما بدأ به (مت 19: 16 - 22).

في هذا المعنى من نداء يراعي الحرّيّة، نفسِّر بعض أقوال يسوع، حيث يمكن أن نقرأ تهديدًا أو توبيخًا: »ليفهم من يستطيع أن يفهم« (مت 19: 12)! ذاك كان قول أطلقه يسوع حين دعا إلى عفّة يأخذ بها الإنسان طوعًا.

4 - الموت أو الحياة (آ 16 - 17)

الشريعة، الأحكام، الفرائض، القواعد، كلّ هذا يلعبُ دورَ المربّي (غل 3: 24). فوظيفة كلّ هذه الوصايا والأوامر أن تنظّم مسيرة الإنسان وسلوكه. وفي النهاية مصيره، لأنّ ما نزرعُه نحصده (غل 6: 7). فالإنسان يموت أو يحيا. يموتُ إن هو اختار النار التي هي رمز الدمار والموت، ويحيا إن هو اختار الماء الذي هو رمزُ الخصب والحياة. قد يختار الشرّ أو يختار الخير (37: 18). ويختار اللعنة أو البركة. الشقاء أو السعادة. ذاك هو الخيار الأساسيّ. لأنّ الإنسان لا يقدر أن يتّخذ سوى واحدة من طريقين، كما قال المزمور الأوّل: طريق الأبرار التي يصونها الربّ، يعرفها. وطريق الأشرار التي تُبيدُ حياته وتقوده إلى الهلاك. كان قد قال ابن سيراخ:

جماعة الأشرار كحبال مجدولة،

وآخرتها الاحتراق بالنار.

طريق الخاطئين سهلة ومريحة،

لكنّ نهايتها هاوية القبر (21: 9 - 10).

أمّا طريق الأبرار التي تقوم في اتّباع الربّ، فرسمَها الآباء ليعلّموا الأبناء »كم هو حسن أن يطيع الإنسانُ الربّ« (46: 10). وحين نختار الطريق، فهذا يعني أنّنا اخترنا الهدف. قال أم 12: 28:

سبيلُ الأبرار حياة،

وطريقُ الأشرار تقودُ إلى الموت.

إستلهم ابنُ سيراخ مقطعين قرأهما في سفر التثنية. الأوّل نقرأه في 11: 26 - 28.

ها أنا أقدّمُ لكم اليوم،

البركة واللعنة:

البركة إن سمعتم لوصايا الربّ،

واللعنة إن لم تسمعوا لوصايا الربِّ إلهكم.

والمقطع الثاني نقرأه في تث 30: 15 - 20:

ها أنا أقدّم لك اليوم،

الحياة والسعادة، الموت والشقاء.

إن سمعتَ لوصايا الربّ تحيا وتكثر.

وإن زاغت قلوبُكم عنّي،

تبيدون ولا تطولُ أيّامُكم في الأرض.

أنا أقدّم لك

الحياة أو الموت، البركة أو اللعنة.

لماذا لا تختار الحياة؟

في هذا الخطّ نقرأ ما قاله يشوع بن نون لبني إسرائيل، فقادنا إلى الوصيّة الكبرى في الشريعة: »فاحرصوا بأن تحبّوا الربّ إلهكم« (يش 23: 11). وحين تأمّل الكاتب الكهنوتيّ في تاريخ شعبه، أوجز تقلّبات إسرائيل، فذكرَ هذا المبدأ الأساسيّ الذي قرأه في سفر التثنية، »هم تجبّروا ولم يسمعوا لوصاياك، وخطئوا في أحكامك التي إذا عمل بها الإنسان يحيا« (نح 9: 29؛ رج حز 33: 15).

وبعد جميع الأنبياء (عب 1:1) تكلّم الابنُ نفسُه، وهو الذي جاء »لتكون للخراف الحياةُ، وتكون وافرة« (يو 10:10)، فكان كلامه امتدادًا تجاوز كلّ التجاوز، الوعدَ القديم بحياة تدوم في أرضٍ أعطيت للآباء: »من يسمع كلامي له الحياة الأبديّة، انتقل من الموت إلى الحياة« (يو 5: 24).

5 - حكمة الله (آ 18 - 19)

في الواقع، حرّيّةُ الإنسان هي مشاركة في حكمة الله: »عظيمةٌ حكمة الله«. أمّا قول حك 1: 26 - 27 »خلق الله الإنسان على صورته«، فيشير أيضًا إلى ملكات الفهم والحكمة والحرّيّة. الله مستقيمٌ هو، وقد صنع الإنسان مستقيمًا (جا 7: 29). غير أنّ سفر الجامعة يضيف حالاً: »ولكنّ الإنسان يُكثر الظنّ«. يقوم بحسابات وحسابات تسيطر فيها محبّة الذات على محبّة الله. فيضلُّ في طريقه، وفي النهاية يجعل من حرّيّته »حجابًا يرميه على شرّه« (1 بط 2: 16). ولكن إن كان ا؟ حكيمًا، إن كان يرى كلَّ شيء. إن عرف في ذاته كلَّ أعمال البشر، فهو لا ينظر إلى خلائقه نظرة اللامبالاة، وكأنّه بعدَ أن خلقهم، تركهم يُفرطون في ممارسة هذه الحرّيّة بحيث يهلكون. إنّ دينونة الله لا تتدخّل إلاَّ حين يكون الإنسانُ حدَّد مصيرَه بملء إرادته: غير أنّ الإنسان يستطيع في كلّ وقت من أوقات حياته، أن يتبدّل: نحو الخير أو نحو الشرّ. نحو الهداية أو نحو الفساد، وذلك إلى نهاية حياته، كما قال حزقيال النبيّ (14: 12ي؛ 18: 1ي؛ 33: 10 - 20): لا يرتبط الإنسان، في عمق ذاته، بماضيه ولا بسلوك آبائه أو عشيرته أو بيته.

»أعمالنا تتبعنا«. كذا قال سفرُ الرؤيا (14: 13). وأعمالُنا أيضًا تبدّلنا: ما من حتميّة تسيطر على وجدان الإنسان. والله الذي هو حكيم وحده (روم 16: 27)، يستطيع دومًا أن يعين الإنسان لكي يتحرّر ويواصل تحرّره. هو يستنبط، يعرض »الإصلاحات« على الدوام. هو يدعو ويدعو. والإنسان يقدر دومًا أن يُجيب. الله يعرف أعمال البشر، »يفحص القلوب والكلى«، أي المشاعر والأفكار (إر 11: 20). هي معرفة حميمة عرفنا بها يسوع (يو 2: 25). وهذه المعرفة العميقة التي بها يعرفنا ا؟، تعيد الثقة إلى ضميرنا إن هو وبّخنا. فالله أكبر من قلوبنا. هو يحبّ، وحبُّه يرحم حين يرى ويراقب. وعظمتُه تُتيح له أن يكون رؤوفًا بنا رأفة لا يعرفها وجدانُنا (1 يو 3: 19 - 20). ونحن أيضًا نعرفه يومًا كما هو يعرفنا (12 كور 13: 12). ونعرف الحقيقة كلّها (يو 16: 13) التي »تحرّرنا« (يو 8: 23) في النهاية.

6 - الدعوة إلى القداسة (آ 20)

ما طلب ا؟ من أحد لكي يكون شرّيرًا. ولا هو تسامحَ مع الإنسان لكي يسقط في الخطيئة. إن كانت هناك طريقان تنفتحان أمام الإنسان، فقرارُه الحرّ يجب أن لا يقوده أبدًا في طريق الشرّ: الموت والحياة. نهاية طريقين. ولكنّهما ليسا مصيرين مفروضين على الإنسان، ولا يمكن أن يكونا متوازيين. فهناك مصيرٌ واحد حقيقيّ، هدف واحد يجب البلوغ إليه: هو الحياة. أمّا الموت الذي يقع في نهاية طريق من الهلاك، فهو الفشل: نكون قد أخطأنا الهدف.

فالله الذي »عيناه أطهر من أن تطيق النظر إلى الشرّ« (حب 1: 13)، »الذي لم يصنع الموت« (حك 1: 13)، لا يريد الشرّ، ولا هو أعدّ الإنسان إلاّ إلى الحياة. فمصيرُ الإنسانِ الوحيد هو الخلاص، كما قال بولس الرسول: »الله مخلّصنا يريد للبشر أنّ يخلصوا جميعًا ويبلغوا إلى معرفة الحقّ« (1 تم 2: 3).

غير أنّ هذا الخلاص الذي يهبه الله مجّانًا، يتقبّله الإنسانُ بملء حرّيّته، هو لا يُفرض عليه رُغمًا عنه. هذا يعني أنّ على الإنسان أن يبحث بحثًا واعيًا وإراديٌّا عن الوسائل التي توصلُه إلى الخلاص. لهذا نستطيع القول إنّ كلّ إنسان قد »حُكم« عليه أن يجعل إرادتَه تتوافق مع إرادة الله. لقد »حُكم« عليه بأن يكون قدّيسًا. هنا نتذكّرُ أيضًا ما قاله الرسول: »إرادة الله هي خلاصكم... لأنّ الله لم يَدْعُنا إلى النجاسة، بل إلى القداسة« (1 تس 4:3ي).

دُعيَ البشرُ ليكونوا قدّيسين (روم 1: 7)، لأنّهم أعدّوا لكي يرسموا صورة الله وابنه على مثال ما قال سفر اللاويّين: »كونوا قدّيسين لأنّي أنا قدّوس« (لا 11: 44). ودُعيَ البشرُ »ليطلبوا القداسة التي لا يستطيع أحدٌ بدونها أن يرى الربّ« (عب 12: 14). لا يستطيع »أن ينال الحياة الأبديّة التي دُعيَ إليها« (1 ثمّ 6: 12).

فالذي يسيرُ في طريق الحياة، يعرف أنّه اختار الطريق الصعبة، الضيّقة (مت 7:13)، لأنّ الحرّيّة الباطنيّة الحقيقيّة تحتاج إلى صراع مرير. وسبقَ لسفر التكوين فأشار إلى هذا الصراع:

إذا كنتَ مستعدٌّا، رفعتَ رأسَك.

وإذا لم تكن مستعدٌّا،

فالخطيئةُ رابضة عند بابك،

مثل حيوان يتلهّف إليك.

فعليك أن تسودَ عليها (تك 4: 7).

وصوّر الرسول في روم 7: 14 - 20 هذا الصراع الداخليّ الذي عرفه معرفة شخصيّة:

ما أفعله لا أفهمه

فأنا لا أفعل ما أريد

بل أفعل ما لا أريد.

لا أفعل الخير الذي أريد،

بل أفعل الشرّ الذي لا أريد.

غير أنّ بولس يعلن أنّه يستطيع كلَّ شيء في الذي يقوّيه (فل 4: 13). وأنّ قدرة ا؟ تظهر في الضعف (2 كور 12: 9). وكتب أيضًا: »بنعمة الله أنا ما أنا عليه« (1 كور 15: 10). بما أنّ الله أمين ولا يَسمح أن نجرَّب فوق طاقتنا (1 كور 10: 12)، فالإنسانُ أكيدٌ بأنّه سينتصر في قتالٍ يتحدّدُ فيه مصيره.

خاتمة

تحدّث ابن سيراخ عن حرّيّة الإنسان التي تختار بحسب ما يشير إليها الوجدانُ البشريّ. هي تختار الخير أو الشرّ. ولكن جاء من يقول: »خلقتُ حسّ الإنسان شرّيرًا، وخلقتُ الشريعة لكي تشفيه، فإن تعمّقتم في دراسة الشريعة لن تسقطوا تحت سلطانه« (تلمود بابل، قدرشيم 30ب). وقالت رسالة يعقوب: »إذا وقع إنسانٌ في محنة، فلا يقل، هذه محنة من الله! لأنّ الله لا يمتحنُهُ الشرُّ ولا يمتحن أحدًا بالشرّ« (يع 1: 13).

ما كان بإمكان هذا الحكيم أن يُدرك فيعلِّم كلّ الغنى الذي تضمَّنه كلامه حول الحرّيّة البشريّة، والوحيُ اللاحق لم يُعطِ الحلّ الكامل لتعارضٍ ظاهر بين سلطة الله السامية وحرّيّة الإنسان. بل هو علّمنا في النهاية، أنّ خلاص الإنسان يرتبط، في الوقت نفسه، بإرادة الله وكلمته، وبحرّيّة الإنسان. فالله الذي يعرفنا أكثر ممّا نعرف نفوسنا، يعرف أيضًا الوسائل التي تُعيننا لكي نجعل إرادتنا العاصية خاضعةً له.

فإله يسوع المسيح ليس أبًا يريد أن يسيطر على أولاده ليبقيهم أطفالاً ويمنعهم من النموّ. لا يريد أن يصنع سعادتنا رغمًا عنّا، ولا أن يفرض عالمًا كاملاً يبقى غريبًا علينا. فالإله الذي حدّثنا عنه يسوع المسيح هو الأب الذي ترك ابنه الضالّ يمضي. ما عاتبه حين مضى ولا حين عاد، بل استقبله استقبال العيد. إلهنا إله يراعي حرّيّتنا كلّ المراعاة. هو إله يبدو وكأنّه انسحب من الخليقة وتركها تسير وحدها. كأنّه تخلّى عن دوره في إكمالها بيده، ليتيح لحرّيّة الإنسان أن تعمل وتواصل العمل. أن لا يكون الكون كاملاً، يسبِّب لنا الألم العميق. ولكن من هذا الوضع يستخرج الإنسانُ كلَّ كرامته.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM