الفصل الثالث والأربعون: التواضع وثماره.

الفصل الثالث والأربعون

التواضع وثماره (3:17 - 29)

دخل عددٌ من التلاميذ في مدرسة ابن سيراخ. أقواله المأثورة التي جاءت متراخية في بُنيتها، جُمعت بعد أن قيلت مرّات عديدة. كأنّي بهذا الحكيم فكّر فيها أكثر من مرّة. وربّما كتبها إذا كان »الورق« في متناول يده. هي خبرة نقطف ثمارها. ويوميّات روحيّة تضمّنت تأمّلات في الأسفار المقدّسة، وابن سيراخ آخرها تقريبًا. هذا الكتاب الذي ارتبط بشخص أعلِن عن اسمه، تركه اليهود يموتُ. فضاع في اللغة العبريّة. وما وُجد منه يبقى ناقصًا. أمّا الكنيسة فأخذته وأعطته اسمًا يدلّ على أنّه كتابها الخاصّ الذي تقرأه على موعوظين يستعدّون لقبول العماد. ونحن نسمعه اليوم فنأخذ مع تلاميذه درسًا في التواضع، ونفهم أنّ »علّة المتكبّر لا دواء لها«.

ونبدأ فنقرأ النصّ:

17 كن وديعًا، يا ابني، في كلّ أعمالك،

فيُحبَّك الذين يرتضيهم الربّ.

18 تواضعْ كلّما ازددتَ عظمة،

فتنال حظوةً عند الربّ.

19 (كثيرون هم المتكبّرون المتشامخون،

وتنكشف للمتواضعين أسرار الربّ).

20 قدرةُ الربّ عظيمة جدٌّا،

وهو بالمتواضعين يتمجّد.

21 لا تطلبْ ما يصعبُ عليك فهمُه،

وعمّا يتجاوز قدرتَك لا تبحث.

22 تأمَّلْ في ما أمرك الربّ،

فتستغنيَ عن الأمور الخفيّة.

23 لا تهتمّ بما فوق طاقتك،

فما تعرفُه يفوقُ إدراك البشر.

24 كثيرون أضلّهم بطلانُ آرائهم،

وعلى عقولهم سيطرَ الوهم.

25 (أنت لا ترى النور بدون العين،

وبدون العقل لا تحاولْ أن تُقنع).

26 نهايةُ العنيد وخيمة،

ومن يعشق الخطر يهلكُ فيه.

27 العنيدُ تثقلُه الأحزان،

والخاطئ يكوِّم خطيئة على خطيئة.

28 علّة المتكبّر لا دواء لها،

لأنّ جرثومة الشرّ تأصّلت فيه.

29 قلبُ العاقل يتأمّلُ الأمثال،

وأمنية الحكيم أذنٌ صاغية.

1 - سياق النصوص

نبدأ فنقول إنّ آ 19، 25 غابتا من الأصل، فوُجدتا فقط في السريانيّة وفي بعض المخطوطات. لهذا جعلناهما بين قوسين. وردت آ 25 في العبريّة كما يلي: »حيث لا حدقة عين ينقصُ النور، وحيث لا علمَ تنقص الحكمة«.

بدا ابن سيراخ هنا مربّيًا ينطلق من الواقع. وإذ أراد أن يصل إلى الهدف الذي وضعه نصبَ عينيه، اهتمّ أوّل ما اهتمّ بأن يجعل تلميذه في مدرسة الواقع حيث تربّى هو نفسه. لن ننتظر منه تحليلات حول أفكار مجرّدة، ولا تحديدات نظريّة للتواضع والتكبّر. فمعرفةُ الحكيم معرفة عمليّة. لا شكّ في أنّ مثل هذه المعرفة تتّخذ أشكالاً عديدة: نعرف أن ننظر. نعرف أن نتكلّم، نعرف أن نفعل... وفي كلّ هذا نبقى عند الأمور العمليّة، فالحكيم يبقى على اتّصال بالواقع ولا يكتفي بالكلام. وحين يريد أن يُفهم تلميذه التواضع، يقوده إلى ممارستها، ويدلّه على خصبٍ تحمله في الحياة اليوميّة.

تحدّث عن التواضع ومنافعه. ثمّ عن الكبرياء أنّها طريق تقود إلى عاقبة وخيمة. وفي النهاية، رسم لنا وجه الحكيم، هذا الوجه الذي هو نداء غير مباشر إلى التواضع. فالتواضعُ شرطٌ ضروريّ لاقتناء الحكمة.

قبل أن نسمع الحكيم يتوسّع في هذه النقاط الثلاث التي ذكرنا، نسوق ملاحظتين أوليين. الأولى، جعل ابن سيراخ عرضه في بداية كتابه، في ف 3. في ف 1، أنشد الحكمة وكشف الأشخاص الذين تهب ذاتها لهم: الذين يخافون الله. الذين يعبدونه العبادة الحقّة. في ف 2، يدعو هؤلاء العابدين إلى ثقة متواصلة بالله، طوال حياة يعرفون فيها المحن والتجارب. وذكّرهم في 3: 1 - 16 احترام الوالدين وواجب المحبّة تجاههم. عندئذٍ يأتي مديحُ التواضع (3: 17 - 29). فالأقوال التي توحي بإعانة المساكين ومساعدة المظلومين، تأتي فيما بعد. إذن، هذا الموضع الذي أعطيَ للتواضع، يعلنُ أنّ هذه الفضيلة هي أحد المواقف الأساسيّة لدى الإنسان الحكيم الذي علّمته الخبرةُ ما تعلّم.

والملاحظة الثانية تشير إلى كثافة هذه الأفكار وعمقها، بحيث لن يعود ابن سيراخ ليتكلّم عن التواضع في ما بعد، سوى في 10: 14 - 15 حيث يقابَلُ مصير المتواضع ومصير المتكبّر:

13 فالكبرياء مصدرُها الخطيئة،

والمتمسّك بها يفيض رجسًا.

14 الربّ يهدمُ عروش الحكّام،

ومكانَهم يُجلس الودعاء.

15 الربّ يقتلعُ الأمم المتعجرفة،

ومكانها يغرس الأمم المتواضعة.

وذُكرت صلاةُ المتواضع في 35: 21، فصعدتْ إلى السماء باندفاع لا يُقاوَم:

صلاةُ المتواضع تخترقُ الغيوم،

ولا يتعزّى إلى أن تبلغ غايتها.

ولا يستريح حتّى يراه العليّ.

2 - سعادة المتواضعين (3: 17 - 20)

نلاحظ الكلمة الأولى: ابني. ورد هذا اللفظ قرابة عشرين مرّة في سي، فحدّد مناخَ الحوار الذي يُقيمه الحكيم مع تلميذه. لهذا يُطلَب من القارئ أن يتّخذ هو أيضًا موقف الانتباه والطواعيّة، موقف التلميذ تجاه من هو أكثر من معلّم. تجاه أبيه. فإن كان أبوه الجسديّ أعطاه حياة الجسد، فالمعلّم يعطيه ما هو أسمى: يخلقه إنسانًا حكيمًا، يجعل من حياته سعادة متواصلة في مخافة الربّ والتعامل مع القريب، كما مع ظروف الحياة وصعوباتها. لهذا، لا يكتفي التلميذ بأن يحترم معلّمه، كرجل اختبر الحياة، بل يثق به كما الابن بأبيه، كما يثق بنصائحه التي تلهمها عنايةٌ أبويّة.

وأوّل هذه النصائح: نتصرّف بوداعة وتواضع. وجد ابن سيراخ هذين اللفظين عند النبيّ صفنيا (3:12). تحدّث الربّ إلى أورشليم التي وعدها بالفداء، فقال:

وأبقي فيك شعبًا وديعًا متواضعًا،

يعتصمون باسم الربّ.

جاء تعليم صفنيا قبل تعليم إرميا، فأعلن أنّ التواضع والوداعة سمة تدلّ على شعب إسرائيل، حين يعود إلى الربّ، ويتحوّل إلى ما يريده الله. فلا كبرياء بعدُ ولا تشامخ. المتكبّرون يزولون (صف 3: 11) ولا يبقى فاعلو الإثم، ولا الناطقون بالكذب (آ 13). لفت هذا الكلامُ النبويّ نظر الحكيم، ففهم أهمّيّة الدرس الذي يتضمّن. ونحن نجد في كتابه جمعًا متوازيٌّا بين هاتين المزيّتين، بين التواضع والوداعة.

l إجعل نفسك محبوبًا من الجميع،

واحترم أصحاب المناصب.

إستمع إلى كلّ مسكين،

وأجِبْه بمنتهى الرفق والوداعة (4:7 - 8). رج 10:14 - 15.

هذا التوازي يدلّ على أنّ هذين الموقفين يتّحدان اتّحادًا حميمًا. لا تحلّ مزيّةٌ محلّ أختها، ولكنّهما تبدوان وجهين لموقفٍ أساسيّ واحد، موقف أساسيّ رسم فيه يسوع المسيح سمة جوهريّة عنده. بهذه السمة يستطيع أن يجتذب إليه البائسين الذين يجدون المخلّص في ذاك المعلّم الذي قال لهم: »تعلَّموا مني، أنا وديع ومتواضع القلب« (مت 11: 28 - 30).

لا نحتاج أن نفسِّر هذه الوداعة وهذا التواضع. نعرف بما تقوم كلُّ مزيّة. ونعرف أيضًا صعوبة ممارستها. ما هو مفيد، هو أن نُبرز خصبها لكي نحثّ الإرادات الحسنة على عيشها. فالوداعة عند رجل العمل، تؤثِّر تأثيرًا سريٌّا على الذين يحيطون به. هذا ما علّمته الخبرةُ للحكيم. لا شكّ في أنّه يجب علينا أن نواصل ما بدأنا به، ولكنّ هناك طريقة وطريقة للوصول إلى مبتغانا. فحين نعمل بوداعة، نختار طريقًا فيها نحسب حساب الأشخاص، فنعاملهم باحترام، ونتصرّف معهم باعتدال وصبر. فالذي يعمل بهذه الروح، يُحتَرم أيّ احترام. يحبّونه، لا لأنّه رجلٌ قديرٌ يجتذب علمُه التقدير وحسب، بل لأنّه يتعامل من القلب إلى القلب فتأتي إليه صداقة الذين حوله.

والتواضع يفتح الإنسان على عطايا الله. هو لا يمنع الإنسان أن يكون عظيمًا ويعرف ذلك، بل يجعله يقف أمام الله، أمام عظمة قدرته. ومن وقف أمام الله، قبِلَ أن يعرف أنّه صغير مهما اعتبره الناسُ كبيرًا. قبلَ أن يمجِّد الله ويقرّ أنّ كلّ ما فيه هو من عنده تعالى: فإن كان كبيرًا، فهوَ يدين للربّ الذي يَمنح عطاياه ويُغدق. وإذ يجعل التواضعُ الإنسانَ في موقعه الحقيقيّ، يجعل منه شاهدًا لله ولنعمته، ويفتحه على عمل جديد من عند هذا الحبّ القدير الذي خلقه. كما يفتحه على عطايا جديدة تصله من هذا الحبُّ المجّانيّ الذي لا يطلب إلاّ أن يُعطي، والذي يتمجّد حين يعطي المتواضعين. فطوباها الوداعة المتواضعة التي تجتذب الحبَّ، حبّ الله وحبَّ البشر. طوبى للمتواضع الذي ينفتح على حبّ الله المجّانيّ، والذي يخبر البشر، بوداعة، بحبٍّ فاضَ عليه وحوّله على صورته.

3 - شقاء المتكبّرين (3: 28)

بيّنت آيات ثلاث (آ 17 - 20) أنّ التواضع يقود إلى السعادة. وكفتْ آيةٌ واحدة لتبيّن إلى أين تقود الكبرياء. إلى الشقاء. لا شفاء للمتكبّر. الشرّ متأصّل فيه، متجذّر. فمتى يقتلعه؟

عاد ابن سيراخ إلى التكبّر لكي يشرحه أمام تلميذه. وجاء النصّ في 10: 7 - 18 قويٌّا جدٌّا، فاستعمل صورًا مختلفة ليدلّ على واقع مرعب.

الكبرياء مكروهة عند الربّ والناس...

لماذا الكبرياء والإنسانُ تراب ورماد؟

مصدرُ الكبرياء الابتعاد عن الله...

الصورة الأولى التي استعملها ابن سيراخ ليدلّ على الشقاء الذي تسبّبُه الكبرياء، هو شقاء مرض لا شفاء منه: لا يستطيع المتكبّر أن يتخلّص منه. والصورة الثانية التي استُعملت لتدلّ على الشرّ الذي تُنتجُه الكبرياء، هو شرّ أرضٍ غُرست فيها شجرةٌ أثمرت ثمارًا رديئة، ثمارَ سُمٍّ. فلا يقدر المتكبّر أن يصنع شيئًا فيه صلاح. فتكبّرُه يشوِّه جميع أعماله.

إلى هناك تقودُ الطريقِ التي تعارض التواضع. تُدخل الإنسانَ في حلقة جهنميّة لا يستطيع أحدٌ ولا شيء أن يخرجه منه، نحن أمام قول ناجع يجعلنا نختار الطريق الذي يوجّهنا في الخطّ المعاكس. فلماذا نتردّد بعد؟

4 - الحكيم إنسان يصغي (3: 29)

مع آ 29، ننتقل إلى موضوع آخر. بل ما زلنا في كلام عن المتكبّر الذي يترفّع على الناس فيرفض أن يسمع لهم. وإن أعطوه نصيحة، رفض أن يسمع لهؤلاء الجهّال الذين لا يحقّ لهم التكلّم في حضرته، بل السماع إلى ما يقوله من كلام. ما هكذا يكون المتواضع: هو الحكيم الذي يتأمّل في الأمور، يبحث، ينظر، يسمع.

هي صورة سريعة، ولكنّها تكفي لكي تقدِّم لنا الحكيمَ في موقفٍ يدلّنا على الطريق التي اختارها: هو مثال حيّ لتلميذ قِبَلَ أن يسير في خطاه. وهكذا ندخل في حميميّة الحكيم، في ينبوع حياته الداخليّة، التي يدعوها الكتابُ: قلبه. أين همُّه؟ في دراسة الأمثال. هناك مثل يتذكّره دائمًا، يتأمّل فيه، يدخل في عمقه ليصل إلى الحقيقة السرّيّة التي يُشير إليها، لكي يكتشف معنى الحياة، ولكي يسمع لغةَ ذاك الذي يتكلّم عبر واقع الكون وأحداث التاريخ.

كيف يبدو المثل؟ هو يقدِّم واقعًا ملموسًا، يقدِّم شخصًا، حدثًا، وضعًا يكون رمزًا يدلّ على أبعد منه. المثل سهمٌ يُطلق الإنسانَ ليبحث عن معنى الوجود. المثلُ علامةٌ تدعو قلبَ الإنسان ليأتي إلى مدرسة الواقع الذي يحيط به. وهذا الواقع يتكلّم، وإن هو ظلَّ صامتًا، فلأن الإنسان لا يعير لما يُقال انتباهًا، ولأنّ أذنه لا تسمع، لا تصغي.

فما يميّز الحكيمُ هو طواعيّته أمام الواقع. فإن كان منشغلاً في تأمّل الأمثال، فلأنّ كلّ شيء حوله مَثل، كلّ شيء له معنًى، كلّ شيء يتكلّم، يسأل. الحكيم هو دومًا في المدرسة، ولا يني يتعلّم. أمّا نحن هنا فأمام شكلٍ من أشكال التواضع.

ونستطيع أن نفهم القسم الثاني من الآية بطريقتين. الأولى: »أذنٌ تسمعُ هي أمنية الحكيم«. هذا يعني أنّ الرغبة في نقل الحكمة التي استقاها الحكيم من تأمُّله في الأمثال، تعمل في داخله ولا تتوقّف. وهو يبحث عن أذانٍ سامعة. نحن أمام تفسير يُوافق الواقع، ولكنّه يحصر معنى هذه الآية.

الطريقة الثانية: ما يهمّ الحكيمَ ليس نفسه، بل الغير. هو لا يطلب أذنًا تسمع له. ما يرغب فيه هو أن يكون هو وجميع تلاميذه أذنًا منفتحة تسمع صوت الواقع، أذنًا تخضع للحكمة التي يحملها الواقع، أذنًا تتقبّل تفسير الواقع كما اكتشفه الحكماء ونقلوه في أقوال مأثورة.

الخاتمة

حدّثنا ابن سيراخ عن المتواضع والمتكبّر، فاهتمّ بأن يكون تلاميذه قد تحلّوا بالتواضع. فعلّمهم ماذا تكون رغبتُهم الأولى إن أرادوا أن يكونوا حكماء. تكون لهم أذن سامعة. يكونون تلاميذ ينظرون إلى الواقع بتواضع، وقلوبًا تتأمّل وجهات الخليقة، تسمع تعليم الخالق الذي هو تعليم عن الحبّ والخلاص المجّانيّ. في هذا الإطار، نسمع كلام يسوع في نهاية الأمثال: »من له أذنان سامعتان فليسمع« (مر 7: 9؛ مت 11: 15؛ 13: 43؛ لا 14: 35). لنا آذان، ولكن يمكن أن لا تسمع إن نقصتنا هذه الطواعيّةُ المتواضعة التي تفتحنا على الحكمة وتقودنا إلى السعادة.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM